حنة آرندت: أزمة اليسار الصهيوني أم أزمة انتماء؟

image_pdf

ليس من الهيّن على جماعة لغوية أن تستضيف فيلسوفا وتترجم فلسفته إليها فذلك يضعها أمام محنة حقيقية، فلكل فلسفة ولكل فكر سياقه الخاص الذي فيه نما وبه تأثر وفيه أثّر إذ الفلاسفة لا ينبتون في الأرض كالفطر، ولا يعني ذلك أنهم مجرّد انعكاس لعصرهم بل بكونهم منغمسون حد الأخمص في ذلك العصر يتفكّرون قضاياه وينطقون لغته ومورّطون في مشاكله، يفعلون فيه وينفعلون به. وبسب ذلك تُحْرِج فلسفة الضيف لغة المستضيف إذ تختبر قدراتها على قول فكره ونقل ما أراده، فلا وجود للغة مضيافة بالمطلق فهي لا تستضيف إلا ما تتسع إليه. إلى جانب ذلك فالفكر المًتَرْجَم يحرج المستضيف عندما يجبره إما على التغافل عن السياق الذي نما فيه ذلك الفكر وتفكّر مشكلاته أو على تأويل ذلك السياق تأويلا يسمح للمستضيف في الأخير بتمثل قضايا الضيف لا كما يراها المستضيف بل كما يراها الضيف ذاته فتتسع ذاته لقبول الآخر وينتقل من زاويته التي يحتلها إلى زاوية الآخر وذلك امتحان يعسر تحمّله.

في هذا الإطار المتشعّب يأتي تفكّرنا لاستضافة فلسفة حنة آرندت في لغتنا العربية فهل أحسنّا استضافتها؟ وماذا نعني بحسن الاستضافة؟ إن ترجمة حنّة آرندت تتحوّل إلى محنة حقيقية من جهات عدّة أولها أنها لم تفكّر ولم تتبنّى موقفا منذ انخراطها في الفكر والممارسة السياسيين إلا “كامرأة يهودية” فهي تقول في لغة واضحة لا رمرمة فيها “أنا واحدة منهم هذا كل شيء، وهذا ينبع من البداهة ولا يمكن أن يوضع موضع نقاش.”[1] لكونها تفكّر من خلال هذا السياق وفكّرت فيه فإن انتزاعها منه يشوّهها أو على الأقل يجعل الفكر مشوّشا وغائما في بعض تفاصيله، هذا ما يقع فيه من ينقل الفكر بدعوى الانتصار للفلسفة وتخليصها من الأيديولوجي بالاتكاء على مقولة الموضوعية بصفتها شرط العلم حينا وبالاعتقاد أن الفلسفي يجب أن ينحّي عنه درن الأيديولوجي إعلانا لهلول عصر موت الأيديلوجيا كما ادعى  فوكوياما. إن هذه التراجم تحاول عمدا أو عن غير قصد ترجمة آرندت دون سياقها.

إن ترجمتها مرهقة بقدر ما كانت أفكارها مرهقة وبقدر ما كانت هي ذاتها مُرْهَقة بقضايا الانتماء ولا مندوحة والحال تلك أن نترجمها من هذه الزاوية بالذات، فقدرنا اليوم نحن قاطنو العالم الحديث أن نتفكّر أنفسنا والعالم والآخرين من حولنا من زاوية الانتماء. وإذ نُتَرْجِم آرندت علينا أن ندرك أولا الحياة المتقلّبة لهذه المفكّرة التي رفضت بالقطع لقب الفيلسوفة واستبدلتها بلقب المنظّرة السياسية، والتي لم يكن لها أي اهتمام بالفكر السياسي إلى حين التعرّف على كورت بلومنفيلد Kurt Blumenfeld العضو في المنظمة الصهيونية الألمانية حيث سنشهد انقلابا في فكرها إلى الحد الذي يمكننا أن ندّعي معه أن آرندت لم تتفكّر المشكلات ولم تثر الإشكاليات ولم تصغ الحلول إلا بوصفها “امرأة يهودية.”

من هنا تكون محنة ترجمة آرندت للعربية وهذه المحنة تختلف من جهة الطبيعة والرهانات عما عاشه الفرنسيون في ترجمتها فرغم أن ريمون آرون قد أعلن منذ 1954 أن “كتاب حنة آرندت جد هام، فعلى الرغم من بعض العيوب المزعجة أحيانا فإن القارئ وعن غير قصد يجد نفسه مفتونا بقوة بعض التحليلات ودقتها.”[2] وذكّر في دروسه التي ستؤلّف محاضراتها كتاب الديمقراطية والكليانية[3] بإسهاماتها الجليلة في تعرية جذور النظم الكليانية ونتائجها فإن ترجمتها للفرنسية لم تكن ميسّرة إذ لن يُكتَب لها الحضور الذي تستحق إلا في الثمانينات حيث ستُعقَد لها ندوات وتنشر ترجمات عديدة وتُحْضى بما تستأهله كمفكرة. غير أن استضافتها في لغتنا وتقليب فكرها بمعنيين من جهة نقل مؤلفاتها وآثارها إلى العربية ومن جهة الاعتناء بها لكتابة كتب حولها وإلقاء محاضرات لتأويل فكرها وإنجاز دراسات جامعية حولها ليس بالعهد البعيد، بل نحن مقصّرون فعلا في ذلك والحال أن فلاسفة من جيلها بل وعاقبين لها استطاعوا أن ينفذوا إلينا وأن تحل فلسفتهم بيننا.

فهل أن تفكّر أسباب استقبالها المتأخر هينة، هل تعود فقط إلى كوننا لم نكتشفها إلا مؤخّرا؟ أم لكوننا كنا نتحوّط من ترجمتها؟ هل أن ما نقوم به الآن يمكننا فعلا من تأويل فكرها أحسن تأويل وتحصيل فلسفتها كأفضل ما يكون فنحن نخفي حقيقة أنها لم تفكّر إلا كامرأة يهودية ونبتر علاقتها بالسياق الذي فكرت فيه ومن خلاله. إن أهم كتابها وعصارة فكرها قد تجلى في مؤلفها الجلل “أصول الكليانية” الذي أسست فيه نقدها للدولة-الأمة وتتبّعت منابت هذه النظم الشمولية التي جعلت “كل شيء ممكنا” وأطلقت العنان “للشر المطلق” فأمكننا بذلك أن نصوغ السؤال الذي أزعج آرندت: هل الشر كامن في طبيعتنا البشرية أم هو نتاج لتفسّخ تلك الطبيعة وفسادها؟ ولا إمكان لتلافي الوضع الذي تردّت فيه البشرية إلا بتحرير الفعل ذلك أن أزمة الحداثة بحق هي أزمة جذرية ما دامت الأشياء أصبحت أكثر دواما من الجهد الذي خلقها.

إن أهم الموضوعات التي شغلت فكرها وأقحمتها في عالم الفلسفة السياسية هي دراستها للكليانية، حيث صبّت جام نقدها على تشكّل الدولة-الأمة ولم يكن ذلك النقد بحسب ما نعتقد في منأى عن انتمائها، لقد نقدت هذا النظام السياسي لما شكّله من خطر على اليهود بل ونبّهت الصهاينة إلى أن سعيهم لبناء دولة-أمة سيكون كارثيا على اليهود أنفسهم. إن أهم ما قامت عليه الدولة-الأمة كجسم سياسي تم في غضونه تزاوج غريب بين الأمة والدولة هو كسر البناء الاجتماعي القديم القائم على التراتبية حيث يحتل كل شخص مكانه في سلم المجتمع بناء على ما يتمتع به من حظوة وما يتمتع به من خصال شخصية، لإقامة بناء اجتماعي جديد يقوم على المساواة القانونية بين الأفراد التي لم تمنع من وضع كل فرد في طبقة بناء على الانتماء الاقتصادي فـ”في نظام طبقي كان قد وصل إلى هذه المرحلة من النضج، فإن هيئة كل فرد قد تحدّدت بانتمائه لطبقة خاصة وفي علاقة بطبقة أخرى وليس بوضعه الشخصي في الدولة أو جهاز الدولة.”[4] هذا التراتب جعل كل طبقة تبحث عن الدفاع عن مصالحها من خلال الحزب الذي أقامته. وهو ما حوّل الدولة إلى جهاز مستهدف بالصراعات السياسية من ناحية لكنه حظي باحترام الجميع لأنه نأى بنفسه عن تلك الصراعات وذلك بفضل الطبقة البيروقراطية المستقلة ولكن أيضا بسبب جهازي الجيش والبوليس اللذين حازا على احترام الجميع لما تمتع به من حياد ومهنية.

إن هذا البناء السياسي بحسب آرندت قد احتوى على عوامل تدميره الذاتي إذ بانهيار الطبقات الاجتماعية بسبب الأزمات الاقتصادية المتتالية وانحراف الفعل السياسي إلى تهريج وتحوّل الجماهير إلى حشود وصعود حركات قومية متطرّفة استطاعت في آن أن توظّف ميراث الدولة الأمة في مشاريع شوفينية أطلقت العنان للشر المطلق حيث “أصبح كل شيء ممكنا” وهذا ما كذّب تخمينات آرندت لننصت إليها في حوار مع زوجها تقول “في البداية لم نكن نعلم أنا وزوجي أن هؤلاء المجرمين باستطاعتهم القيام بكل شيء ولكن هذا ما لم نتصوّره (…) فزوجي الذي كان مؤرّخا عسكريا أعلمني قائلا: لا تستسلمي لهذه الحكايات، لا يستطيعون الذهاب إلى هذا الحد.”[5] لقد تحوّلت المعسكرات والسجون التي ورثتها الأنظمة الكليانية من الدولة-الأمة إلى “مخابر لتجربة الهيمنة المطلقة”[6] حيث وجدت الأقليات نفسها في العراء لا بسبب المعارضة السياسية ولا بسبب جريمة إقترفوها بل لكونهم فقط مختلفون ويتم التعامل معهم بوصفهم “غير طبيعيين” وذلك لكونهم لا ينتمون للأغلبية. إن تبدّلا هائلا يقع في الجسم السياسي ذلك أن الدولة في تحالفها مع الأمة قد جعلت من الأغيار كأقليات خطر داهم وعدو محتمل وخائن، في هذا المناخ وبحسب اعتقاد آرندت سيكون اليهود هم المثال الساطع للمنبوذين لكونهم الجماعة الوحيدة التي لم يكن لها وطن على مرّ التاريخ، ذلك أن الأقليات الأخرى ستحميها المعاهدات الدولية والمصالح المشتركة وسيشعر أفرادها بالفخر لكونهم ينتمون إلى أمة أما اليهود فسيتحوّلون إلى منبوذين “في العراء”[7] لكونهم “ومنذ هدم الهيكل لم يمتلك اليهود أبدا أرضهم الخاصة ولا دولتهم الخاصة، فوجودهم الفيزيائي كان مرتبط دوما بحماية سلطات ليست يهودية.”[8]

لا غرابة أن آرندت بقدر براعتها في التحليل فإنها تحلل دوما بروح الانتماء وبوصفها كما تقول “واحدة من هؤلاء” بل هي تعتقد أن الحركة الصهيونية بوصفها نتاج للغرب ذاته فهي “الهدية التي قدمها الأوربيون لليهود.”[9] ذلك أن معاداة السامية والتي بدأت منذ نهاية القرن التاسع عشر قد سمحت بولادة “الصهيونية والتي هي على الأقل في شكلها الأيديولوجي الغربي تقوم أساسا كأيديولوجيا مضادة، كجواب على معاداة السامية.”[10] لذلك فإن انتماءها لهذه الحركة ونشاطها في صلبها لم يكن بحسب اعتقادنا إلا تعبيرا عن انسجامها مع مبادئها. بل لعلّها قد تحوّلت من الاقتناع إلى الفعل السياسي ذلك أنها وإلى جانب كونها عملت على تهجير اليهود من أوربا إبان انتصاب النازية فإنها عملت صلب جمعية لتهجير الأطفال والنساء بفلسطين لاعتقادها “أن فلسطين ستكون قلعة متقدّمة للتحضّر والتمدّن الأوربي” وفي ذلك تتقاطع مع هرتزل في مبدأين مبدأ الاعتقاد أن فلسطين يهودية ومبدأ الاعتقاد أن الصهيونية مواصلة للحركات القومية الأوربية القائمة على التوسّع والاستعمار. إن ما يهب مشروعية الانتماء هنا هو الاعتقاد أن العالم فضاء جغرافي لاشعوب فيه ولا قاطنة تأهله لذلك فمن حق أوربا التوسّع فيه ونشر “رسالة الرجل الأبيض”  وكذا اعتقد الصهاينة أن فلسطين أرض بلا شعب وهو ما يؤكده شايم واسمان “كأن الله غطّى أرض فلسطين بحجارة ورمل وحصى، لكي يتم اكتشافها من قبل أولئك الذين يحبونها ويكرّسون وجودهم لتضميد جراحها”[11] إن ما يهب الشرعية ليس الحق بل الفعل تقول آرندت “إذا كان يهود فلسطين يعيشون بفضل القانون وليس التسامح سيكون ذلك بفضل القانون الذي وهبهم إياه عملهم هناك وذلك يوما بعد يوم.”[12]

إن النفس الصهيوني واضح في كل كتابات صاحبة “أصول الكليانية” وليس ذلك بغريب مادمت ظلت تفكّر دوما كامرأة يهودية وتعتقد بتسليح الشعب اليهودي ذلك أن “الحرية ليست هدية كما يقول مثل يهودي له دوما راهنيته، الحرية ليست دوما مجازاة عن الآلام التي عانوها.” فـ”الدفاع عن فلسطين جزء من الحرب لتحرير الشعب اليهودي، وهذا لا يكون إلا متى كان الشعب اليهودي مستعد للانصراف إلى هذه الحرب عندها يكون الدفاع عن فلسطين ممكنا.”[13]

إن آرندت تؤمن إيمانا قطعيّا بأن فلسطين أرض قفر لم تنم فوقها أي حضارة ومادامت كذلك فمن حق اليهود إقامة دولتهم فوقها. كما أنها تؤمن بذات القدر أن الشرعيّة لا تُقَامُ دوما على الحق بل يمكن أن تُقَام على الفعل فتتقاطع بذلك تقاطعا واضحا مع جوهر الفكر الصهيوني غير أن توجّسها من الدولة-الأمة لمآلاتها المريعة إذ هي تقتل في الإنسان الشخص القانوني[14] جعلها تتسافى عن هرتزل بعد أن رأت فيه شخصيّة فذّة لإيمانها وإيمانه أنه “عندما يتم تهديدهم كيهود يجب أن يدافعوا عن أنفسهم كيهود لا كمواطنين أو كمواطنين من العالم ولا حتى باسم حقوق الإنسان.” هذا ما جمعها بالحركة الصهيونية، غير أن تسافيها عن الصهيونية التي يتزعّمها التيار القومي والمتأثر أيما تأثر بالفكر الشوفيني الأوروبي وسعى لبناء دولة يهودية فقد دفعها عدم التزامها دينيا إلى التسافي أيضا عن التيار الأورثودكسي الذي أقامه الحاخامات وبذلك انقادت في مسار مختلف جعلها تتقاطع مع الصهيونية الثقافية التيار  الذي آمن بفكرة الدولتين بزعامة كل من رابان سكهولام ومانياز الذي ربطته علاقة صداقة وطيدة بآرندت. يرى مانياز أن حل الصراع العربي الصهيوني لا يكون إلا على قاعدة المواطنة والحوار، فالدولة-الأمة “حل انتحاري” يفضي إلى “الاندماج أو الذوبان الكلي أو الهجرة”[15]. وفكرة الاندماج فكرة تمجّها آرندت وتلفظها معقوليتها بالنظر إلى أنها تفصل الكائن الإنساني عن حاضنته الثقافية وهو ما يجعلها بحق وفيّة لنقدها للتيار يهودي ظل يؤكد على ضرورة اندماج اليهود في المجتمعات التي أقاموا فيها.

سيظل تردد الانتماء والتعبير عنه نظريا توتر لا يشق المتن الآرندتي فقط بل ويشق حياتها ذاتها. إنها لحياة متقلّبة تلك التي تكشف عن نوسان الكائن بين ما يكون وعسر ما يريد أن يكونه لكأن إنجاز ما نريده لنا كينونة يرفض أن ينبجس مما نحن عليه، هذا هو امتحان تجربة آرندت بل لعلنا ندّعي أنها ما يميّز اليهود منذ أن وجدوا أنفسهم في “العراء” فبإقامة الدول-الأمم في أوربا لم يعد ثمة فضاء بمستطاعه استقبالهم ذلك أن هذا الشكل السياسي قد أفضى إلى ” أن الجنس البشري ومنذ زمن بعيد عُرِفَ كأسرة من الأمم فقد وصل إلى المرحلة التي يكون فيها أي فرد قد أُقْصِيَ من أحد التجمعات المغلقة والمنظمة صار مقصيا من أسرة الأمم.”[16] هذا الواقع الهش جعل تتبع الجرائم المرتكبة بحقّهم والتي تجاوزت حدود ما يمكن توقّعه متعذّرة لكونهم لم يعاملوا كمواطنين بل كفائض عددي يتم التخلص منه تماما كما يتم التخلّص من التزايد العددي للقطيع الحيواني بالقتل، ولا وجود لقانون يحميهم لأن القوانين وجدت لحماية المواطنين. هذا ما أفضى إلى كون عمليات التهجير والتقتيل والإبادة والتنكيل والتعذيب لم يتم التعامل معها كجرائم وهو ما جعل آرندت تؤكد على “الحق في أن يكون للإنسان حق.”

لقد عاينت آرندت أثناء تحليلها لأصول الكليانية العيب الهيكلي الذي عانته مواثيق حقوق الإنسان، ذلك أن هذه الأخيرة تتحدّث عن إنسان منبت ومفصول كليا عن الجماعة الإنسانية التي يجب أن ينتمي إليها، ولا سبيل لإكساب هذه الحقوق معناها ومتانتها وأيضا تجذّرها في الواقع إلا إن أسندنا للجماعة السياسية قيمة وأكدنا أن الفرد بصفته تلك ينتمي إلى تلك الجماعة. إن حقه في الحماية لكونه إنسانا هو ما يجب أن يوفّر له حماية من عمليات الانتهاك التي تُمَارَس ضدّه ويكون هذا الحق مسندا ومنبعا في آن لبقية الحقوق.

لنلاحظ أنه كلما تقدّمت آرندت في بنائها السياسي الذي يجد منطلقه في نقد الدولة-الأمة كلما ازداد ابتعادها عن اليمين الصهيوني ممثّلا في الصهيونية القومية الداعية لتأسيس دولة لليهود ولعل وعيها بالنتائج الكارثية لهذا التصور على اليهود أنفسهم هو ما دعاها للحذر منه وتوجّس المخاوف ذلك أن إقامة دولة في وسط معادي حسب ما تعتقده سيمنع هذا الجسم السياسي من التحول إلى جسم طبيعي ذلك أنه سيخصص كل إمكاناته “للحرب” فـ”حتى إن تمكن اليهود من ربح الحرب فإن نهاية الصراع ستقود إلى تحطيم كل الإمكانات الموحّدة للصهيونية ولانتصاراتها البلد الذي سيظل سيكون مختلفا عن كل أحلام يهود العالم بأسره الصهاينة وغير الصهاينة، اليهود المنتصرين سيبقون محاطين بشعوب عربية معادية ومعزولين في حدود مهددة سيشغلهم الدفاع الذاتي بحيث يفقدون كل اهتماماتهم الأخرى ونشاطاتهم الأخرى.”[17]

هذا النقد الجذري لليمين سيجعلها تقترب وكما أشرنا إلى ذلك سابقا تقترب فكريا وفي لحظة أولى من الصهيونية الثقافية ومن مانياز على وجه التحديد الذي أسس “رابطة من أجل السلام” والتي تعمل على حل الصراع على قاعدة الحوار والمواطنة غير أن ضعف الحركة من ناحية بموجب ضعف فعلها السياسي بموجب شيوع التطرّف بين اليهود ومن جهة ثانية الانقسام المتواصل للحركة والانشقاقات التي أنهكتها مما عمّق أزمتها الهيكليّة خاصة بقبول مؤسسها رئاسة الجامعة العبرية التي تدعو لإقصاء العرب مما كشف عن حقيقة الحركة فخلف يدها الحريرية الممدودة للسلام تُخْفي جوهرها القائم على فكر صهيوني لا يختلف جوهريا عن اليمين بل وتضيف آرندت عاملا تعتقد أنه حاسم ويدخل حسب اعتقادنا في تبرئة “الضمير الأخلاقي” الذي طالما تغنّى به الصهاينة حيث ظلت الصهيونية تدّعي في عدم وجود “قوة سياسية في المعسكر العربي مستعدّة للتعاون على قاعدة شروط دنيا حددها مانياز ورفاقه.”[18]

إن الحل الذي تنتهي إليه حنة هو الحل الفيدرالي والذي يؤكّد حسب شارحيها أنه مستلف من النموذج الأمريكي ويؤكد من ناحية انبهارها كأغلب المهاجرين الألمان بهذا المثال الجديد الذي لم يعهدوه في أوروبا القارية وثانيا التحوير الذي ستقود إليه الهجرة على الوافدين الجدد على القارة الجديد في مستوى تمثّل المشكلات وتصوّر الحلول وهذا يخرج عن بحثنا. بالعود إلى ما نحن بصدد التفكير فيه نتبيّن أن ما أبهر آرندت بحق “كيهودية” تبحث عن حل لجماعتها البشرية وتعي وعيا واضحا مخاطر الدولة-الأمة وما يمكن أن تؤدي إليه من نتائج مروّعة على اليهود أنفسهم وهم مندفعون لبناء دولتهم في فضاء معادي وربما يتوق هو نفسه لاستلاف نفس البناء السياسي في هذا الإطار الذي تفكّرت فيه آرندت مشكل اليهود وجدت الحل في النموذج الأمريكي لكونه يقوم على أساس أمرين متلازمين حق الأفراد كمواطنين في الاختلاف الثقافي والعرقي والعقدي واللغوي والاقتصادي من جهة والمساواة القانونية بينهم من جهة ثانية وهو ما يقطع كليا مع السيادة المطلقة القائمة على الاستبعاد والقاتلة للاختلاف. إن هذا الفضاء السياسي بحسب اعتقادها سيضمن للعرب ولليهود أيضا الإبقاء على خصوصياتهم وتنوّعهم ضمن فضاء مواطنيّ تحدده القوانين مع ضمان وحدة المجموعتين البشريتين في العلاقات الخارجية والمصالح المشتركة، وهو ما يعني أن آرندت أصبحت تؤمن أكثر من أي وقت مضى بأن “صداقة عربية يهودية تبدو فاشلة (للأسباب التي ذكرناها)، لكن فشلها لا يمكن أن يغيّر الفعل الجوهري لمعرفة أنه شرط إمكان وجود اليهود في فلسطين.”[19]

إن هذا الحل الذي تنتهي إليه المفكّرة الألمانية من أصول يهودية بعد تجربة سياسية طويلة ومعقّدة وتجربة فكرية ثرية إنتهت بها لتناول مسائل سياسية شائكة تميّز التجربتين وعيها بمرارة الانتماء لمجموعة بشرية لم تمتلك في تاريخها الطويل أرضا، بل أن فريقا دينيا يهوديا قد جعل من عدم الانتماء أسطورة تنافح الصهيونية فاليهود وفقا لأساطيرهم ذاتها ينبغي أن يسيحوا في الأرض تكفيرا عن خطاياهم وهذا ما جعل عددا من اليهود يرفضون الاعتراف بالكيان السياسي كدولة ويقدّمون المؤيدات الدينية لدحض فكرة الصهاينة القائمة على أرض الميعاد بل وناضلوا مع الفلسطينيين جنبا لجنب ضد الاستيطان والاعتداءات البربرية المتواصلة. إن انتماء آرندت ووعيها “أنها واحدة منهم” كما ظلت تؤكد جعلها تبحث عن حل لليهود وهوة حل قد يقنع غير العرب من غير المطّلعين على تاريخ مأساة فلسطين والمتغافلين عمدا عن حقيقة التاريخ رغم معرفتهم به والمرتبطين بدوائر صهيونية. إنه حل يدخل في باب إراحة الضمير لكنه يطرح لتوّه مشكلات معقّدة على العرب خاصة، فالحل يبدأ بتخفيف التناقض لتسيير القفز عليه وهو ما لا يؤدي لحل بل يزيد المشكل تعقيدا. إن هذا التفكير يتعامى أولا عن كمون الحركة الصهيونية حركة استيطانية توسعية تسعى لفرض الواقع ديموغرافيا عبر التهجير والاستيطان وعسكريا عبر تملك شروط القتل والهيمنة وإدامة تفوّقها واجتثاث كل حركة مقاومة وطنية تتبني سياسة التحرير أما سياسيا فإن الصهيونية تعمل في اتجاه إلغاء مقومات دولة فلسطينية طبيعية. إن فرض الأمر الواقع صهيونيا لا يمكن أن تتم مواجهته إلا بفرض أمر واقع يقوم على الحق في المقاومة والتي لا يمكن اختزالها في طلقات البندقيوة بل أيضا في الكشف عن الوجه الصهيوني لكل فكر يحاول أن يتفكّر القضية الفلسطينية لا على قاعدة الحق بل على قاعدة الفعل والأمر الواقع. إننا نُجْرِمُ في حق الإنسان عندما نجزم كما جزمت آرندت أن الفعل قاعدة للحق.

الهوامش

 [1] Judith Butler : à propos de H. Arendt the Jewish writing. www.Irb.co.uk         .

 2 R. Aron : « l’essence du totalitarisme. » . Critique, vol 10 n° 80 janvier 1954.

3 R. Aron : Démocratie et totulitarisme. Ed Gallimard, 1965.

4 H. Arendt : Les origines du totalitarisme. Trad sous direction Pierre Bouretz. Gallimard 2002. P 231.

5 Mréjen : Aurore : H. Arendt et les droits de l’homme. Droits-fondamentaux, n°8 Janvier 2010 – Décembre 2010. www.droits-fondamentaux.org.

6 H. Arendt : Eichmann à Jérusaleme. Trad. Anne Guérin 1966. Gallimard 2002. P 212.

7 Martin leibovici : Le paria chez H. Arendt p 120 in « Ontologie et politique. » Actes du colloque.

8 H. Arendt : Penser l’évenement. Belin 1989. P 12.

9 H. Arendt : : Eichmann à Jérusaleme. P28.

10 H. Arendt : Les origines du totalitarisme. P185.

11 Chaim Weismann : Trial and error: the autobiography of Chaim Weismann. P371.

12 H. Arendt : : Eichmann à Jérusaleme.p 30.

13 H. Arendt : : Eichmann à Jérusaleme.p 23.

14 Mréjen : Aurrore : H. Arendt et les droits de l’Homme. Droits-fondamentaux, n°8 Janvier 2010- décembre 2010. P 5.  www.droits-fondamentaux.org.

15 H. Arendt : : Eichmann à Jérusaleme.p 108.

16 H. Arendt : Les origines du totalitarisme.p 542.

17 H. Arendt : Penser l’événement p134.

18 Walter Laqueur : Histoire du SionismeVol I, Gallimard 1994. P 373

19 H. Arendt : Penser l’événement p. 148.

 __________
*وحيد الهنودي/ باحث وأستاذ فلسفة تونسي. 

جديدنا