اجتماعالتنويريسلايدر

دبلوماسية فخ الديون: هل يبتلع التنين الأصفر السيادة الأفريقية؟

“العلاقات التاريخية للصين مع أفريقيا؛ من دولة تُعْطِي سلاح التحرر بلا ثمن، إلى تنين يهدد السيادة بثمن الديون”

المقدمة:

ظلت العلاقات بين أفريقيا والصين حالة موضوعية، مع غير قليل من الأيديولوجيا الثورية، منذ العام 1949، ميزتها حروب التحرر من الاستعمار، وما انعقد إبان سنواتها من حضور صيني فاعل في مسارح المقاومة الأفريقية. وقد لا يسعفنا الزمن ولا المساحة لاستعراض تفاصيل ما جرى من مشاركات في النضال، أو تقدير حجم الدعم، الذي وجده الأفارقة، وهم ينهضون بمهمة المقاومة الضروس ضد كل أشكال الاستعمار، والذي استعبد الشعوب ونهب خيراتها. فنهج العلاقات أبلغ تاريخياً عند الرؤية المعاصرة، رغم عدم وضوح التفاصيل، التي لا يتيحها تعثر الحصول على منظور أفضل حول الطريق، الذي سلكته الصين في أفريقيا، وموقف النظام العالمي الحديث منها، فضلاً عن تنامي العلاقات بين الصين وأفريقيا ما بعد الاستعمار. فقد قرأنا عن نهج الصين في مساعدة قوى التحرر، وتابعنا سياسة “مجانية السلاح” لكل من يسعون لنيل استقلالهم من نير الاستعمار. ومرة أخرى، هبت رياح جديدة من الشرق عبر أفريقيا، تهب التنمية من مدخل الصداقة، وهي تجتذب اهتماماً غير مسبوق بعلاقات التنين الأصفر بالقارة السمراء. وبينما يرجع البعض ذلك جزئياً إلى ظهور الصين على نطاق واسع في الشؤون العالمية، إلا أن الكثيرون يعزون ذلك كنتيجة للظهور والاهتمام الغربي القَلِق بالوجود والأدوار والتأثيرات المتزايدة للجهات الفاعلة الصينية في جميع أنحاء القارة الأفريقية.

لقد سعت الصين إلى فهم أفريقيا عبر المعرفة العلمية، فتأسس، في يوليو 1961، معهد الدراسات الآسيوية – الأفريقية في الصين، بعد ملاحظة الرئيس ماو تسي تونغ بأن “ليس لدينا فهم واضح للتاريخ الأفريقي والجغرافيا والوضع الحالي”. الأمر وضع نقطة الانطلاق، التي تأثرت بها الأبحاث اللاحقة بالسياسة داخل الصين وخارجها، وذلك بعد أن كانت الدراسات الأفريقية في الصين لغزاً إلى حد ما بالنسبة للأفارقة في أجزاء أخرى من العالم. ويمكن أن يُعزى ذلك إلى الانخراط الصيني الطموح والبارز أيديولوجياً في أفريقيا في فترة ما بعد الاستعمار، والذي كان من الناحية العملية محدوداً، وغالباً ما تم التغلب عليه من قبل العوامل الرئيسية للتغييرات الاستعمارية، وما بعد الاستعمار، ومنافسة الحرب الباردة. وفي عام 1968، كتب جورج يو، أحد المساهمين البارزين في أبحاث الصين وأفريقيا، أن “دراسة الصين لأفريقيا تشبه إلى حد كبير مطاردة تنين في الأدغال؛ فالتنين يفرض وجوده، رغم أن الأدغال كثيفة. من  هنا، فإن فكرة “التنين” الصيني، الذي يعمل في “الأدغال” الأفريقية، وأفعاله ظلت مقيدة برؤية انتقائية ضد “التضاريس غير المألوفة”، التي لا تزال قائمة في كثير من اللغة والافتراضات المستخدمة لوصف العلاقات بين الصين وأفريقيا اليوم. وهذا هو الحال بشكل خاص في التغطية الغربية، التي غالباً ما يكون التأثير فيها مفعماً بالعاطفة لوصف صعود الصين في أفريقيا من منظور تنين صيني مرابط في شجيرة أفريقية، أو بيئة غير ملائمة جردت من المحتوى التاريخي والسياسي لوجودهما العضوي.

إن الوقت قد حان، مع ذلك، لتجاوز هذا الإطار المفاهيمي الضيق ولتقديم المزيد من التفكير في المستويات والديناميكيات المختلفة للعلاقات الصينية الناشئة مع 54 دولة أفريقية. ففي أعقاب عام الصين الأفريقي، في عام 2006، أصبحت العلاقات الصينية الأفريقية موضع اهتمام غير مسبوق. ومع ذلك، وعلى الرغم من تغطية هذه العلاقات على نطاق واسع، إلا أنها لا تزال تحت الأضواء، وينقصها البحث المعمق. وما هذا المقال إلا مقدمة عامة عن هذه العلاقات، يحاول أن يغطي خلفية تاريخ وسياسة المشاركة الصينية في القارة السمراء، ويؤشر على مجالات البحث الإضافي المطلوب النظر فيها. ومن ثم الدعوة إلى دراسة تحديات العلاقات المستقبلية بين الصين وأفريقيا لتطوير ثقافة البحث الجاد بما يتجاوز الانشغالات الحالية بسرديات “التنين في الأدغال”، وبالتالي إشراك القارئ في موضوع معقد على وشك أن يصبح قضية رئيسة في السياسة الأفريقية، وربما العالمية.

 

منطق التاريخ:

كثيراً ما يتم التذرع بالتاريخ كنقطة مرجعية مشتركة في الخطاب الرسمي للعلاقات الصينية الأفريقية المعاصرة. رغم أن التقدير الحالي لمشاركة الصين التاريخية في العالم، بما في ذلك أفريقيا، يتناقض مع المفاهيم السابقة حول موقعها المعزول المفترض في مركز نظام الروافد الهرمي العالمي. والاعتراف بأن العلاقات الخارجية الصينية اتسمت بمرور الوقت بمقاربات متعددة، بدلاً من تقليد واحد مهيمن ودائم، وبالتالي يوفر إطاراً مناسباً للنظر في علاقاتها الحالية. في هذا الإطار، تظهر أفريقيا في إعادة التقييم المعاصرة لمشاركة الصين السابقة في العالم. إذ يوفر افتقار أسرة مينج (1368–1644) لمشروع استعمار دائم في شرق أفريقيا فصلاً مختلفاً في تاريخ الاستعمار العالمي المقارن. ومع ذلك، فإن الطريقة، التي يلعب بها التاريخ في الحاضر، تكشف عن أبعاد مستجدة لعلاقات متغيرة. وتُعد الاستخدامات الرمزية هي الأكثر فائدة لفهم الماضي المشترك، والمفسر لأحد الجوانب البارزة للنسخة الصينية المُعبَّأة رسمياً عن روابطها التاريخية مع أفريقيا اليوم، التي غالباً ما يأتي الوجه الآخر منها في شكل التزامات حميدة ضد أي دور مهيمن في المستقبل.

لهذا، فإن فهم نوازع اهتماماتنا اليوم يؤرخ بشكل بناء للمناقشات الناشئة حول مختلف القضايا في العلاقات الصينية الأفريقية. رغم أن الكثير من هذه المناقشات تنحرف في الفترة الحالية؛ بشكل كبير، عن سلائفها في العلاقات التاريخية للصين مع أفريقيا؛ من دولة تُعْطِي سلاح التحرر بلا ثمن، إلى تنين يهدد السيادة بثمن الديون. ومع ذلك، فإن القلق بشأن الأبعاد السلبية لإعادة مشاركة الصين في أفريقيا يردد صدى نقاش مماثل في الغرب خلال الستينيات. وتوفر أدبيات الحرب الباردة نقطة إرشادية للمقارنة مع التغطية الأخيرة، وقد أعاد الكثير منها صياغة الاهتمامات، وكذلك الموضوعات؛ وحتى العناوين، في الستينيات. أحد هذه النصوص المأخوذة من حرارة نقاشات الستينيات، هي ما جاء في كتاب جون ك. كولي: “رياح الشرق على أفريقيا: هجوم الصين الأحمر”، الذي يتيح الوصول إلى حقائق ذلك الوقت العصيب من المؤامرات الأيديولوجية. وتقارن هذه الأدبيات السابقة أيضاً بشكل مثير للاهتمام مع بعض التغطية الإعلامية اليوم: جمهورية الصين الشعبية كعامل ثوري مزعزع عمداً للاستقرار في أفريقيا، مقابل ميل الصين الحالي لدعم الوضع الراهن والحكومات الأفريقية القائمة؛ جمهورية الصين الشعبية كتهديد أيديولوجي للدول الأفريقية المستقلة حديثاً، مقابل الصين كتهديد مدفوع بالمصالح لـ”الحكم الرشيد”، أو “الدمقرطة” اليوم. قد تكون اللغة تغيرت منذ نهاية فترة الحرب الباردة؛ “تشغيل السلاح”، أو “الدعاية”، أو “التلقين”، مقابل “مبيعات الأسلحة” الحديثة، أو “القوة الناعمة”، لكن المخاوف بشأن التأثير الصيني على السياسة الأفريقية عادت للظهور، وتكثف في أوساط معينة.

لهذا،ىتعد مشاركة الصين المتزايدة بشكل كبير في أفريقيا، خلال العقدين الماضيين، واحدة من أهم التطورات الأخيرة في المنطقة. ويبدو أنها تتعارض مع فكرة التهميش الدولي لأفريقيا، رغم ما قد يترتب عليها من عواقب اقتصادية وسياسية كبيرة. إذ إن اهتمام الصين بأفريقيا يُعَدُّ جزءاً من استراتيجية دولية أكثر نشاطاً، يُشَارُ إيها مؤخراً على أساس أنها أحد مظاهر التعددية القطبية وعدم التدخل. وأثبتت المساعدات المتزايدة، ومحاولات إلغاء الديون، والازدهار في التجارة الصينية الأفريقية، مع التركيز الاستراتيجي الصيني على النفط، أنها مفيدة للطرفين؛ للنخب الصينية والدول الأفريقية. فمن خلال المساعدة دون شروط سياسة مسبقة، قدمت الصين بديلاً جذاباً للمساعدات الغربية المشروطة، وحصلت على دعم دبلوماسي قيم للدفاع عن مصالحها الدولية. ومع ذلك، امتدت مشاركة الصين مع الدول الأفريقية، باعتبارها أحد أهم الشركاء الاقتصاديين، واجتازت ذلك بالتجارة والاستثمار وتمويل البنية التحتية والمساعدات. وخلال هذه الفترة، قفزت الصين من كونها مستثمر صغير نسبياً إلى أعلى دائن في أفريقيا جنوب الصحراء. ووفقاً لتقرير صدر مؤخراً عن مؤسسة ماكينزي Mckinsey، نمت التجارة بين أفريقيا والصين بمعدل 20٪ تقريباً كل عام، منذ عام 2000. ومع ذلك، كانت هذه الارتباطات معقدة، وأثارت التكهنات حول ما قد تكون عليه دوافع الصين قصيرة وطويلة المدى. على الرغم من أن هذه الدوافع لا تزال تتسم بالريبة والسخرية، إلا أنه من الصعب التغاضي عن النفوذ الكبير للصين، نتيجة لأنه غالباً ما تكون طبيعة هذه القروض، وكذلك عمليات الحصول عليها، غامضة وسرية ومحفوفة بمخاطر الرشوة والفساد.

 

مساومة الديون:

مع ركود السياسة الخارجية للولايات المتحدة مع أفريقيا واقتصارها على الحرب على الإرهاب، ملأت الصين الفجوة من خلال شراء إمدادات المواد الخام في أفريقيا لتأمين مستقبلها الاقتصادي والعسكري بالنفط والماس والمعادن المستخدمة في الإلكترونيات. وفي عام 2018، إبان انعقاد منتدى التعاون الصيني الأفريقي في بكين، تعهد الرئيس الصيني شي جين بينغ بتقديم 60 مليار دولار إضافية لتمويل المشاريع في أفريقيا، بما في ذلك 15 مليار دولار من المنح والقروض، و20 مليار دولار في شكل ائتمان، و10 مليارات دولار في “تمويل التنمية” و5 مليار لشراء الواردات الأفريقية. بالإضافة إلى ذلك، ستشجع الصين الشركات على استثمار 10 مليارات دولار على مدى السنوات الثلاث المقبلة. ويعتبر هذا الإعلان مثال على تواصل الصين لزيادة التجارة والاستثمار والعلاقات السياسية مع القارة. ومع ذلك، لم يتطرق الزعيم الصيني إلى قضية المديونية، وهي الفكرة القائلة بأن الدول الأفريقية تُترك كثيراً من الناحية الاقتصادية مديناً بالفضل للبنوك الصينية. وقال شي “استثمارات الصين في أفريقيا تأتي دون قيود سياسية”، لا تتدخل الصين في الشؤون الداخلية لأفريقيا ولا تفرض إرادتها على أفريقيا. ثماني مبادرات جديدة  تشمل الترويج الصناعي وتطوير البنية التحتية والرعاية الصحية ومسائل أخرى.

ومع تعهد الـ60 مليار دولار لأفريقيا، يمثل عام 2018 عاماً محورياً للصين، إذ استثمر العملاق الآسيوي بالفعل 124 مليار دولار في أفريقيا منذ عام 2000، مما أثار مخاوف من أن الدول الأفريقية مثقلة بمستويات الديون غير المستدامة، وإجبارها على رهن مواردها النفطية والمعدنية كضمان، أو تسليم أصول وموارد أخرى عندما تكون غير قادرة على السداد. دعم القوة الآسيوية.  قد تفتقر هذه الاتفاقيات الموقعة بين الصين وأفريقيا ودول أخرى، التي تم تصنيفها على أنها “تمويل البنية التحتية المفترسة” ، إلى المساءلة والشفافية، مع احتفاظ الصين بزمام الأمور في التفاوض على العقود. وقد اتهمت بعض الأصوات داخل أفريقيا الشركات الصينية بالقدوم إلى أفريقيا لاستغلال الناس ومواردهم الهائلة، حتى أكثر من المستعمرين الأوروبيين، بهدف جعل أفريقيا قارة الصين الثانية.

قبل أن يصبح رئيساً لزامبيا، كتب مايكل ساتا في عام 2007 أن “الاستغلال الاستعماري الأوروبي مقارنة بالاستغلال الصيني يبدو حميداً، لأنه على الرغم من أن الاستغلال التجاري كان بنفس السوء، فقد استثمر العملاء الاستعماريون أيضاً في خدمات البنية التحتية الاجتماعية والاقتصادية. من ناحية أخرى، فإن الاستثمار الصيني في أفريقيا يمكن وصفه، وفقاً للبروفيسور أليمايهو ج. مريم، الذي يدرس العلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا – سان برناردينو، بـ”الاستعمار الجديد”، وبأنه “التنين يأكل الأسد والفهد”، إنه يعارض الفكرة الشائعة القائلة بأن الصين تطور البنية التحتية الأفريقية في سيناريو “الفوز”. وكتب أليمايهو: “لقد غزت الصين أفريقيا حرفياً بمستثمريها، وتجارها، ومقرضيها، وبنائها، ومطوّريها، وعمالها، ومن يدري ماذا أيضاً”، مضيفاً أن الصين تواصل إيقاع أفريقيا في شرك “فخ الاستعمار الجديد” من خلال قروض بمليارات الدولارات، وباستخدام “الإعفاء من الديون للحصول على الحقوق الحصرية للموارد الطبيعية للأمة وبناء القواعد العسكرية”. ويزعم أليمايهو أن الوجود الصيني في أفريقيا كان هدية للديكتاتوريين الأفارقة، وأثار الاستياء المعادي للصين بين عامة الناس في أفريقيا.

 

السيادة على المحك:

في أعقاب الانكماش الاقتصادي الناجم عن جاحة كورونا، تسارعت الانتقادات الموجهة لجهود التنمية الدولية، التي تقودها الصين في أفريقيا، مما دفع إلى مراجعة الظروف، التي بموجبها تقدم الصين المساعدة لتطوير البنية التحتية والاقتصادات الأفريقية. احتدم الجدل حول ما إذا كانت القروض الصينية صفقة عادلة للدول الأفريقية وما إذا كانت الأوراق المالية المرتبطة بهذه الاتفاقيات تنتهك المصالح الأساسية للدول، حيث ادعى النقاد أن شروط الصين تضر بالسيادة الوطنية. ونظراً لحساسية الموضوع، فليس من المستغرب أن يُصبح الحديث عنها مسيساً بشدة في العديد من الدول الأفريقية. ومع ذلك، لا تستند جميع الحجج إلى الحقائق، على وجه الخصوص، تجنب النقاش الصحي حول مزايا العقود، التي تعرضها الصين، وما يُثار حولها من التباس بسبب سوء فهم الشروط القانونية في هذه الاتفاقيات. فقد سرعت بداية أزمة Covid-19 التغيير في التمويل الصيني حيث عانى المزيد من المقترضين من مشاكل الديون وطلبوا إعادة هيكلة هذه الديون. وتعد زامبيا وكينيا من بين البلدان، التي طلبت إعادة هيكلة الديون بموجب مبادرة تعليق خدمة الديون لمجموعة العشرين، وهي تأجيل مؤقت بسبب الجائحة.

إن السياسة المالية للصين، بهذا الزعم، تهدد سيادة العديد من الدول الأفريقية، لأنها تستحوذ على مواردها لتغطية الديون. فالتقارير، التي تفيد بأن دولةً فقيرةً مثل زامبيا ستتخلى عن السيطرة على مطارها الدولي، ومرفق الطاقة الكهربائية، وشركة البث الوطنية، إلى الصين للوفاء بالتزامات ديونها تثير تساؤلات حول الاستعمار الصيني الجديد، وسيطرة التنين الأصفر على الأصول السيادية في القارة الأفريقية. ولا يخفى على أحد أن الصين عززت من وجودها في القارة الأفريقية بتأثير متزايد وترتيبات اقتصادية وتجارية وأمنية مع مختلف الدول الأفريقية. على الجانب الإيجابي، تم وصف هذه العلاقة الجديدة بين العملاق الآسيوي والبلدان الأفريقية على أنها ترتيب متبادل لمنفعة الطرفين، وخروجاً عن الاستغلال الإمبريالي، الذي مارسته أوروبا والولايات المتحدة، على موارد القارة السمراء. ومع ذلك، في بعض الحالات، قد يتخذ التعاون الصيني الأفريقي شكل ومضمون صفقة غير متوازنة، التي قد يعتبرها البعض استعماراً جديداً قائماً على التزامات الديون، التي لا تستطيع الدول الأفريقية سدادها، بدلاً من شراكة اقتصادية بين أنداد.

ويثير حجم ونطاق وسعر برامج البنية التحتية الصينية في أفريقيا تساؤلات حول كيفية تمكن هذه الدول من الحفاظ عليها. على سبيل المثال، وافقت حكومة زامبيا على 8 مليارات دولار في تمويل البنية التحتية الصينية، في بلد يبلغ ناتجها المحلي الإجمالي أقل من 26 مليار دولار، وحيث الدين الحكومي 55.6 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، والميزانية السنوية ربع الناتج المحلي الإجمالي. تبلغ تكلفة سكة حديد أديس أبابا وجيبوتي 4 مليارات دولار، أو ما يقرب من ربع ميزانية الحكومة الإثيوبية لعام 2016. في مواجهة الديون المتزايدة، لن تتمكن العديد من الدول الأفريقية من الاعتماد على ميزانياتها لتسديد مدفوعاتها للصين، وسيتعين عليها اللجوء إلى المدفوعات “العينية” لبكين.

لقد أفادت نشرة “أفريكا كونفيدنشيال” أن شركة الكهرباء الحكومية الزامبية، أجرت محادثات مع شركة صينية بشأن استحواذ الأخيرة على كامل المرفق، مما أثار مخاوف بشأن السيادة الوطنية والملكية الصينية للمكونات الرئيسية للبنية التحتية للبلاد. جاء ذلك وسط تقارير تفيد بأن الصين ستستحوذ على مطار كينيث كاوندا الدولي في زامبيا لتسوية التخلف عن سداد ديون الدولة الأفريقية، ومحطة الإذاعة والتلفزيون المملوكة للدولة. وتمتلك الصين 60 بالمائة من شركة الاتصالات زيسكو، وهي مشروع مشترك أنشأته حكومة زامبيا لرقمنة بنيتها التحتية للبث، بينما تمتلك محطة الإذاعة التلفزيون 40 بالمائة. ودحضت الحكومة الزامبية المزاعم بأنها تتنازل عن أي من أصولها العامة، أو أن الصين لديها مثل هذه النوايا، مشيرة إلى أن زيسكو هي شركة استراتيجية لا يمكن بيعها لشركة أجنبية، وأن بعض المشاريع الممولة من الصين لم تكتمل بعد.

 

تحديات ماثلة:

إن الصين تواجه، بشكل غير مسبوق، تحديات الاستمرار في علاقاتها المتصاعدة مع أفريقيا، فهناك من يعارض وجهة النظر القائلة بأن قصة الإقراض، أو “فخ الديون” ، هو استراتيجية محددة مسبقاً ومنسقة جيداً من قبل الصين، ويصفها المنتقدون بأنها إقراض مفترس، ويصرون على أن الحكومة في بكين تعمد إلى فورة إقراض عالمية، حيث تغمر البلدان الأفريقية بمليارات الدولارات مقابل الموارد الطبيعية والتنازلات طويلة الأجل بالإضافة إلى النفوذ الاقتصادي والسياسي. وتدريجياً، يراكمون بشكل منهجي عبء الديون على البلدان الأفريقية لدرجة أنهم سيكافحون من أجل سداد الأموال. ويقال إنهم يصرون على الأصول الوطنية المثيرة كضمان لمثل هذه القروض. ومع ذلك، يقال إن الصين مترددة في منح إعفاء من الديون إلى أفريقيا لتمكين هذه البلدان الأفقر من التعامل مع الخراب الاقتصادي، الذي أحدثه وباء كورونا.

ويتمثل التحدي الرئيس في تعميق البحث والتحليل للمجالات الرئيسية الحالية للمشاركة الصينية في أفريقيا. وهذا يشمل الاقتصاد السياسي “العالمي” لاستخراج الموارد، ولكن، والأهم من ذلك، يجب أن يستلزم توسيع نطاق البحث إلى ما وراء المخاوف، التي تهيمن على العناوين الرئيسية ومعالجة مجموعة أوسع من القضايا. باتباع هذا الهدف، فإن من الواضح أن هناك مجموعة من المجالات، التي لا يزال يتعين البحث فيها بعمق، ولا شك في أنه سيتم تعبئة عدد من وجهات النظر التخصصية حيث تشارك مجالات العلوم الاجتماعية المختلفة اهتمامات مناسبة ومناقشات نظرية. إن الاهتمام المتزايد بالبحوث ذات الصلة بالسياسات والطلب عليها من وكالات التنمية بشأن مسائل “إشراك الصين” في تسيير علاقاتها مع أفريقيا يشير إلى التأثير التحفيزي الأوسع، الذي من المرجح أن تحدثه العلاقات الأفريقية الجديدة للصين ضمن دراسات التنمية. يبدو أن القلق بشأن مسائل الحوكمة وعواقب “التثليث” الجديد في خيارات السياسة الخارجية الأفريقية، والذي يعيد مخاوف مماثلة في سياق مختلف تماماً عن تلك، التي أثيرت حول تأثير الصين الشيوعية في أفريقيا، التي تم إنهاء استعمارها، يبدو أنه سيعيد تنشيط عدد من المناقشات.

وبالقطع، هناك حاجة واضحة لتعميق فهم الصين وجلب وجهات النظر الصينية حول هذا الموضوع، وما يرتبط به من مجالات، التي قد تكون الإجابة عليها بالمزيد من الأبحاث، التي تستكشف فيها الجانب الصيني منتجة طبيعة صنع السياسة الصينية بشأن أفريقيا، في ما يُعد حالياً مشاركة تشمل هيئات بيروقراطية حكومية متعددة يمكنها العمل بأجندات متضاربة بشأن السياسة الأفريقية. كيف تتابع الهياكل السياسية في الصين بخلاف الدولة المركزية – حكومات المقاطعات والبلديات على وجه الخصوص – العلاقات في أفريقيا، وكيف يعمل الاستثمار التجاري الصيني المتشابك في أفريقيا، هي مجالات إضافية تطرح أسئلة متصلة فيما يتعلق بمسألة “الوكيل الرئيسي” معضلات على مستويات مختلفة من بيروقراطيات الصين المتعددة، التي تسعى إلى تعزيز المشاركة الاقتصادية. وعلى الرغم من مزايا “إزالة التصريحات” من التغطية على هذا المنوال، لا ينبغي أن يتم ذلك على حساب سوء فهم أهمية الدولة الصينية وطبيعتها الخاصة، ومكانتها ودورها المتنامي في الاقتصاد العالمي. يُضاف إلى كل ذلك، موضوع الأنشطة التجارية الأفريقية المتنامية، والروابط التجارية، والوجود الاجتماعي الأفريقي في الصين.

ويتمثل التحدي المهم الآخر في تجاوز التغطية الصينية الإعلامية لأفريقيا، التي تدور حول نخب الدولة بشكل شبه حصري، وتفصيل عدد من المجالات، التي يتم تقديمها بشكل شائع كهيئات موحدة. فمن شأن ربط وتوسيع تحليل النخب في سياقات اجتماعية أوسع أن يساهم في فتح العمليات عبر الوطنية الرئيسة لتطوير التفاعلات بشكل أعمق. وتعتبر الديناميكيات الجزئية لعلاقات الصين الحالية والمتطورة مع أفريقيا أحد المجالات، التي قد يكون فيها العمل الإثنوغرافي، الذي يعتمد على اللغات المناسبة، مجزياً. ويمكن أن تؤدي التفاصيل الغنية للروابط الصينية بأفريقيا، التي ينتجها هذا النهج إلى استنتاجات أكثر عمومية، فضلاً عن التقاط الموضوعات الأقل وضوحاً ولكنها مهمة، مثل العرق والثقافة ومسائل الدبلوماسية الناعمة، والتي تم إضعافها إلى حد كبير حتى الآن. وهذا من شأنه أن يفتح نقاطاً مثيرة للاهتمام للمقارنة مع قوة الانخراط التاريخي، بما في ذلك نقاط الدخول المتناقضة للجهات الفاعلة الخارجية إلى أفريقيا وتلك المناطق، التي تم تأييدها وتحديدها كمناطق صينية مميزة؛ مثل “وجود الجيوب”، التي تتجاوز الإطار المحدود للدولة لتحليل العلاقات الاقتصادية، الذي من شأنه أن يتجاوز الفكرة المضطربة للاقتصاد “الصيني” المحدود بدقة ليعكس الواقع المترابط لنظام التصنيع والتجارة العالمي الموجود في الصين، ويساهم جزئياً في روابطه الأفريقية.

 

الختام:

ربما تكون هناك أسئلة مهمة لم تتم معالجتها في هذا المقال، من قَبِيل: هل هناك تراجع هيكلي، أو إعادة موازنة دورية للإقراض الصيني لأفريقيا؟ وقد تتحقق الإجابة بِتَفَحُّص أن التراجع في التمويل الصيني للدول الأفريقية يشبه إعادة التوازن، أو هكذا يبدو لمن يبحث عن تفسير سهل. فقد يستجيب صناع السياسة الصينيون للضغوط، بما في ذلك من داخل الصين، لجعل استثمارات الصين في أفريقيا أكثر شفافية واستدامة. إذ تم تقديم مثل هذا الالتزام؛ على وجه التحديد، في منتدى الحزام والطريق في عام 2019، عندما تعهد الرئيس الصيني شي جين بينغ بزيادة الشفافية والاستدامة المالية لمشاريع مبادرة الحزام والطريق . وقد يُترجم هذا إلى إقراض أقل في الولايات القضائية عالية المخاطر حيث يكون تعرضها للتخلف عن السداد، والمخاطر الأخرى، مرتفعاً بالفعل؛ مثل، أنغولا، أو زامبيا، لصالح البلدان المتوسطة الدخل، التي يمكن التنبؤ بها؛ مثل، غانا، ونيجيريا، وجنوب أفريقيا.

ولإدراك ذلك، علينا أن نتذكر تذبذب الاهتمام بالعلاقات الصينية الأفريقية في فترة ما بعد الاستعمار في خضم الحرب الباردة والتدخل الصيني العرضي. ومع ذلك، يوجد اليوم سبب أكبر من ذي قبل للقول إن إعادة انخراط الصين في أفريقيا سيستمر ويتعمق ويترتب على ذلك. تم التعبير عن وجهات نظر مماثلة من قبل المعلقين من الستينيات، ولا ينبغي التقليل من التعقيدات والطوارئ في العلاقات الحالية، ولكن يبدو أن الكثير من مشاركة الصين حالياً يعتمد على أهداف متوسطة، أو طويلة الأجل، ويحدث على أنه اقتصادي وأصبح الاعتماد المتبادل على الموارد في الاقتصاد العالمي حقيقة واقعة أكثر من ذي قبل. بدلاً من ذلك بشكل مختلف عن فكرة “التنين”، الذي يعمل بشكل واضح على “أرض غير مألوفة”.

إن المشاركة الصينية في جميع أنحاء أفريقيا والمشاركة الأفريقية مع الصين مجالان عريضان يجتذبان اهتماماً متزايداً على عدد من المستويات. لقد بدأت هذه المقالة للتو في إشراك مجال ديناميكي من المقرر أن تزداد أدبياته الأكاديمية أضعافا مضاعفة. ومع ذلك، فإن الموضوع والبناء التحليلي لـ “الصين في أفريقيا” يجب أن يتحدى بالإضافة إلى ذلك الطريقة، التي تم بها تطوير النهج السائد لدراسة الصين وأفريقيا وعلاقاتهما المتبادلة المتزايدة. كما هو متبع في الأكاديميا الغربية، على الأقل، فإن الموضوع ينبغي أن يكون جاهزاً للتفكير فيه، وطرح كل الأسئلة ذات الصلة.

_________

* الدكتور الصادق الفقيه/ دبلوماسي سوداني، الأمين العام السابق لمنتدى الفكر العربي، الأردن.

الخميس 18 أغسطس 2021، صقاريا، تركيا


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة