الحوار بين الشرق والغرب في الجدل الثالث

image_pdf

قدم الأستاذ مهنا الحبيل مبادرة فكرية جديدة لتعزيز الحوار بين الشرق والغرب، وذلك من خلال كتابه الصادر في عام 2020 من المؤسسة العربية للأبحاث والنشر تحت عنوان: وائل حلاق وإدوارد سعيد: جدل ثالث.

يتميز الكتاب برشاقة في التحليل والاستنباط حيث يضع الحبيل المفكرَين الكبيرَين إدوارد سعيد ووائل حلاق في حوار فكري يقع في حوالي المئتي صفحة، يناقش فيها الحبيل نظرة كل منهما للحداثة ونتائجها الأخلاقية. يبدأ الكتاب بتلخيص عام للأفكار الرئيسية. فأما سعيد، فيؤكد في أطروحته أن الغرب قد اكتسب هويته وقوته ومكانته المعاصرة من هيمنته المستمرة على الشرق. وأما حلاق، فتشير أطروحته إلى أن هناك تناقضاً جوهرياً بين القيم الأخلاقية الإسلامية وبين الدولة الحديثة، مما يعني استحالة الجمع بينهما على صورة دولةٍ إسلامية حديثة.  يؤكد الحبيل على المكانة العلمية لكلا المفكرين وعلى تأثير أطروحتيهما في الرأي العام وفي الأكاديمية الغربية، كما يتفق معهما في المأزق الأخلاقي الذي تعاني منه الحداثة والذي يمكن رؤيته بوضوح -على سبيل المثال- في الآثار الكارثية للفلسفة المادية الحداثية على الفرد والمجتمع. يسلط الحبيل الضوء على المنهج الذي استخدمه كلا المفكرين في صياغة أطروحتيهما. فيشير إلى اعتماد سعيد في نقده للاستشراق على النظرية الفوكولية في المعرفة والسلطة، كما يتفق الحبيل مع حلاق في المأخذ الذي أخذه على منهجية سعيد التي اكتفت بنقد الاستشراق ولم تتعدى هذا إلى نقد وتحليل الفلسفة التأسيسية التي قام عليها الاستشراق والتي أنتجته ابتداء.

من المهم التأكيد أن الحبيل لا يهدف في كتابه إلى عقد مقارنات شكلية بين أطروحة حلاق وأطروحة سعيد، وإنما يحاول الحبيل جاهداً أن ينقل النقاش بين سعيد وحلاق إلى مستوى آخر أكثر عمقا وذلك من خلال اقتراحه لمسار ثالث للأزمة الحديثة. ينطلق هذا المسار من القيم الأخلاقية العالمية المشتركة، ويصر على ضرورة تعريف المشترك والانطلاق منه في فهم العالم من ثم إعادة فهم القضايا المختلفة وفقًا لذلك. والجدل الثالث ليس بأي حال من الأحوال دعوة لحل فوري سريع الأثر، حيث لا يزعم الحبيل بطبيعة الحال امتلاك الترياق السحري الذي يخرج الحداثة من مأزقها الأخلاقي في خطوة واحدة. لكنه يعتقد أن العناصر الأولى لهذا الترياق موجودة في الأسس الأخلاقية للإسلام، وبالتالي، فإن الحبيل يقدم كتابه كدعوة للاستيقاظ أو محاولة مستقلة لتصور حداثة جديدة على أساس القيم الأخلاقية العالمية المشتركة.

في القسم الأول من الكتاب، يشدد الحبيل على نقطتين أساسيتين. الأولى في أهمية حضور البعد الأخلاقي للمناقشات الفلسفية. وبهذا يؤكد الحبيل مراراً وتكراراً أن كل ما يـُـكتب في الساحة الأكاديمية الغربية لا يعول عليه ما لم يحمل قيمة أخلاقية أو يمس الواقع العملي من قريب أو بعيد. أما الأعمال الأكاديمية التي تخلو من قيمة أخلاقية فليست في نظر الحبيل إلا ترفاً زائداً لا يعول عليه. وبناءً على هذا، فإن الحبيل يرفض النزعة العلمانية التي تصر على فصل النقاشات الفكرية عن دلالاتها الحية الحقيقية وعن إسقاطاتها الأخلاقية على الواقع. وفي النقطة الثانية يؤكد الحبيل أن ميدان البحث والنقد الفلسفي يجب ألا يكون حكراً على المؤسسات الأكاديمية والمحسوبين عليها من طلاب وباحثين، بل ينبغي أن يترك المجال مـفتوحاً لكل من يملك أدوات النقد والتحليل، وذلك لأن حصر البحث في الأوساط الأكاديمية الغربية يعزز سلطة الغرب على المعرفة والعقل. ولذا، يقدم الحبيل مساهمته الفكرية ومنظوره الجديد للمادية والحداثة وعواقبها الأخلاقية في الحياة اليومية بصفته مفكراً عربياً مستقلاً.

 

يستند الحبيل على مشاهدات سعيد وحلاق ويبني عليها لتوضيح طبيعة الهيمنة الغربية على الشرق ومؤسساته. مثلاً، يؤكد سعيد أن أحد أهداف الاستشراق تكمن في تقييد الشرق فكرياً من خلال فرض قوالب ثابتة من التصورات عن الحياة والفكر والإنسان. حيث يتم فرض هذه التصورات من خلال ما يتم تجاهله أو الاحتفاء به من قبل المؤسسات الغربية. ينطلق الحبيل من هذه النقطة لعقد مقارنة بين الاهتمام الفكري المعطى لميشيل فوكو وبين الاهتمام الموجه إلى رينيه غينون. وبالرغم من تكافؤ الوزن العلمي لكلا المفكرين، إلا أن الاحتفاء بفوكو يفوق بمراحل كثيرة الاحتفاء بنظيره غينون. يؤكد الحبيل أن هذا التحيز الفكري ضد غينون ستتضح أسبابه حينما يؤخذ بالحسبان اعتناق غينون للإسلام ومحاولته بناء فلسفة قائمة على الأخلاق الإسلامية بينما ظل فوكو منغمسًا في الملذات متمحوراً حولها في أفكاره وفلسفته. يطرح الحبيل هذا التحيز في الأوساط الأكاديمية كمثال على فقدان البوصلة الأخلاقية في الحداثة الغربية، وإلا فلماذا تحظى الفلسفة المتمحورة حول المتعة باهتمام مبالغ به مقارنة بالفلسفة المستمدة من القيم الأخلاقية الأصيلة؟

يتفق الحبيل مع سعيد في كثير من استنتاجاته حول الهيمنة الغربية وأثرها على الشرق. لكنه يؤكد بأن سعيد لم ير في الاستشراق إلا وسيلة أو أداة، وهكذا يتفق الحبيل مع حلاق في أن سعيد لم يتعمق في انتقاد الفلسفة الأصلية التي أنتجت الاستشراق وساهمت في تبريره. ويضيف الحبيل أن الاستشراق والمادية والرأسمالية وغيرها من الظواهر الحديثة هي وليدة السردية الغربية التي تفصل الروح عن المادة والتي تصر على استبعاد الروح من تصوراتها عن العالم والتي تقتصر تفسيراتها للظواهر على المادة والاحتمال والصدفة. فالتفسير المادي المختزل للعالم هو المسؤول عن اختلال ميزان القيم والاحتفاء بالقوة والمكانة والمتعة الجسدية وإعطائها الأولوية على حساب القيم الأخلاقية كالعدل والأخوة والمساواة، مما أفرز بالتالي حضارة ً لا تخدم الإنسان ولا يهمها أن تخدمه بصفته غاية، بل تستخدمه كوسيلة لتحقيق مقاصدها المادية حسب تعبير الحبيل. وبهذا، يفشل التنوير الغربي دائماً في الالتزام بأي معيار أخلاقي على المدى البعيد: فهو لا يستطيع ولن يستطيع الاتصال بالقيم العالمية، أو إحلال السلام، أو جعل العالم مكانًا أفضل.

يناقش الحبيل بعض الآثار التي خلفتها هيمنة الغرب على الشرق، ومنها ظهور ثلاث شرائح مجتمعية متناقضة في الشرق: مجموعة فقدت الثقة في قدرتها على منافسة الغرب فغرقت في الإحباط وجلد الذات، ومجموعة قررت قبول الأفكار الغربية دون التشكيك فيها وذلك بحجة التنوير والتقدم، ومجموعة فقدت تمامًا كل أشكال الثقة في الغرب فانكمشت على نفسها ورفضت الانخراط أو حتى المشاركة في المؤسسات والبرامج ذات الطابع الغربي. يؤكد الحبيل أن هذه المجموعات هي أشبه ما تكون بردود نفسية مبعثرة وهي بالتالي لا تمتلك الرؤية ولا الأدوات اللازمة لتقديم بديل فكري يقوم بسد الفجوات الأخلاقية الموجودة في الحداثة. ولهذا، فإن أحد الواجبات الفكرية والأخلاقية للشرق، وفقاً للحبيل، هو فهم الهيمنة الغربية، وإدراك بواعثها وأهدافها ومن ثم نقدها على مختلف الأصعدة، خاصة في الأوساط الأكاديمية. ويوضح الحبيل أن فهم بواعث الهيمنة الغربية على الشرق وتحليلها ومن ثم نقدها وتحديها لا يهدف إلى استبعاد الغرب من المشاركة في مشروع الشراكة العالمية في القيم الإنسانية. بل هي خطوة مهمة لصد الهيمنة الفكرية أولاً ومن ثم دمج الغرب كطرف مشارك لا كطرف مهيمن. يؤكد الحبيل أن هذا المشروع سيفتح أعيننا على العواقب الكارثية للمادية في الحياة اليومية وسيعيد لنا الروح القيمية التي طالما استبعدت من المؤسسات الأكاديمية الغربية.

وختاماً، يؤمن الحبيل أن الشرق والغرب يتفقان على مجموعة واسعة من القيم بصفتهما جزءاً من مجتمع الإنسانية العالمي. وبالتالي، فإن هدف الحبيل ليس المفاضلة بين حلاق وسعيد في تحليلهما ونقدهما للاستشراق والحداثة. بل إن الهدف هو بدء محادثة مطلوبة تشمل جميع أعضاء المجتمع الإنساني لتأسيس ومن ثم الانطلاق من أرضية مشتركة من القيم. يؤكد الحبيل المأزق الأخلاقي للحداثة سيجد علاجه في الإسلام، ليس فقط كدين سماوي ولكن أيضاً كمجموعة متكاملة من القيم التي نحتاجها جدًا والتي تم استبعادها من الميدان الفكري والأكاديمي لفترة ليست بالقصيرة.
___________
* قراءة وتلخيص: شهدة محوك

 طالبة دكتوراه في الفلسفة

جديدنا