د. محمود حيدر [*][1]
تسعى هذه الدراسة إلى إجراء متاخمةٍ معرفيّةٍ للآثار المترتّبة على نقل القرآن الكريم من العربية إلى اللّغات الأخرى. ينطلق الباحث من فَرَضيّة كون الترجمة عمومًا، وترجمة النّص المقدّس على وجه الخصوص، تنطوي على آليات تبيين مغايرة لألفاظ الآيات وفي أحيان كثيرة تكون أيضًا غير مطابقةٍ للمقصد منها. الأمر الذي يؤدّي إلى نشوء حقل آخر من الفهم يفارق الأفهام الناشئة من علوم التفسير والتأويل التي زخرت بها المكتبة العربية والإسلامية قديمًا وحديثًا.
ومع تأكيد البحث على أهميّة الترجمة في هذا المقام، إلا أنّ الدراسة تتطرّق إلى طائفة من الإشكاليات التي تواجه ترجمة الكلام الإلهي، وخصوصًا لجهة السّجال العقدي والمعرفي الدائر حول جواز أو بطلان الترجمة؛ لكونها تأتي بنصٍّ جديدٍ لا يراعي روح الآيات وألفاظها. مع ملاحظة أهمية الترجمة لضرورات إنسانيّة وحضاريّة.
المحرر
__________________
مسعانا في هذا البحث الاقتراب من النصّ الوحياني من زاويتين: النقل الترجمي والشغل التفسيري. وهاتان الزاويتان تتّصلان معًا أو تنفصلان، تبعًا لحدود الوظيفة المعطاة لكلٍّ منهما في حقل التعامل مع الخطاب الإلهي. وذاك بيِّن من كون الترجمة في الزاوية الأولى تمارس عملاً تأوّليًّا ـ وهي تبحث عن معنى الكلمات في الآيات وتحويلها إلى غير المتكلّمين بلسان العرب. وأمّا الثانية فتمضي إلى تأويل اللّفظ والمعنى حين تتعامل مع النّص القدسي بما هو وحدة قوليّة ذات منازل متكثّرة من الفهم، وكذلك بوصفه نصًّا منفتحًا على التأويل، حيث يُقبلُ المتأوِّلُ نحو الآيات من أجل التعرُّف إلى مقاصدها التنزيليّة وأبعادها التأويليّة.
هذا المسعى المركَّب والمتداخل بين النقل الترجمي كطور ابتدائيّ في العملية التأويليّة، والاستقراء المتدبِّر كتأويل متعالٍ، يوجب تظهير هندسة فهم تلتقي فيها قراءتان متوازيتان حول موضوع واحد، إلا أنّهما تعملان بمنهجين مختلفين، ولو أسفرا في الغالب عن نتائج غير متكافئة.
القراءة الأولى، تتحرّى إمكان ترجمة القرآن مع مراعاة ما تظهره الآيات من تلازمٍ وثيقٍ وقطعيٍّ بين ظاهر القول وما هو مستبطن فيه من مقاصد. فإذا كانت غاية الترجمة إيصال الكلام الإلهي إلى أفهام المتكلّمين بغير لسان العرب، فذلك يعني أنّ المترجم سيجد نفسه بإزاء أحد أمرين: إما التزام نقل الحرف واللّفظ وحصر اشتغاله ضمن هذه الدائرة، وإما أن يمضي إلى نقل المعنى، والاكتفاء بما انتهى إليه من فهم شخصي للكلمات المشكّلة للآيات. وحالئذٍ يصير الفعل الترجمي أدنى إلى إجراء متعثِّر لا تجد معه سبيلاً إلى التمييز بين خصوصية الكلام الإلهي وعموميّة الكلام البشري. الأمر الذي يفضي إلى استيلاد نصٍّ مستحدثٍ يفارق النصّ الأوّل لفظًا ومعنًى وغايةً. وفي الحالين يشكّل المنقول من الآيات، مرتبةً لاحقة على النصّ الأصلي. وحال الترجمة في هذه المنزلة، أشبه بتقرير عن الأصل، أو صورة محوّرة تترجم ظاهر الآيات وتنقلها إلى لغة أخرى لها منطقها وتركيبها الخاصَّين. بذلك لا يعود النصّ القدسيّ هو نفسه، حيث لا يستطيع الناقل الإحاطة بمنازله ودلالاته وطبقاته المعرفيّة المتعدّدة…. وهكذا يقرِّر أصحاب القراءة الأولى أنّ الخطاب لا يصير بيانًا واضحًا ما لم يردِ بلسان المخاطب نفسه. وعلى نحو يكون فيه استعمال لسان المتلقّي شرطًا في حصول البيانية. أي أنّه لا بيانيّة ولا إفصاح ولا وضوح بالنسبة إلى المتلقّي ما يجيئه من خارج لسانه. أي من خارج منطقه الداخلي ولغته التي بها يتمكّن من الفهم.
وهذه القاعدة كما يبيِّن الهرمنيوطيقيون تسري أيضاً على كلّ نصٍّ وخطاب ينطوي على غير وجه من الفهم. ففي النصوص الشعرية والفلسفية على سبيل المثال، تبرز مشكلة التمييز بين اللّفظ والمعنى في حالة نقلها إلى لغة غير اللّغة الأصلية التي وضعت فيها. ومن النظّار من يرى أنّ المعنى يتقرّر أولاً في العقل، ثم يوضع بإزائه اللّفظ، على أن يكون أشدّ الألفاظ قربًا وشبهًا به؛ وتترتّب على هذا نتائج ثلاث، أولاها أنّ للمعاني وجوداً في العقل تستغني فيه عن كلّ تشكيل لفظي، بحيث يكون لها وجود خالص؛ والنتيجة الثانية، أنّ الشكل اللفظي قد يقوم مقامه شكل آخر، ما دام أمرًا يعرض للمعنى من خارج ولا يتقوّم به من الداخل؛ وأمّا الثالثة فمُفادها، أنّ لهذه المعاني الخالصة رتبةً في الوجود تعلو على رتبة الألفاظ. ذاك أنّ العقل الذي توجد فيه هو أخصّ ما يميّز الإنسان، وبه يشرَّفُ على غيره من الموجودات ومَثَلُ التقابل بين المعنى واللفظ عند المتفلسف العربي كمَثلِ التقابل بين الروح والجسم: فكما أنّ الروح يوجد في عالم الغيب، فكذلك المعنى يوجد في عالم المعقول، وكما أنّ الجسم يقيم في عالم الظاهر، فكذلك اللفظ يقيم في عالم المحسوس؛ فدلّ ذلك على أنّ استقلال المعنى عن اللفظ أشبه باستقلال الروح عن الجسم[2].
أما القراءة الثانية، أي قراءة المتدبِّر، ففيها يمضي القارئ في سفر مديد طلبًا للتعلُّم والفهم. إلا أنّه في سفره هذا يؤثِرُ التعرُّفَ على كلمات الوحي بإحالة ما استغلق عليه من فهم إلى المُوحِي نفسه. ذلك بأنّ قراءة المتدبِّر تصدر عن معرفة شخصية يَهَبُها المتكلّم تعالى للخاصّة من قرّائه. وهذان مصدران للوهب يتلازمان تلازمًا ذاتيًّا ولا يصحّ إدراك الفهم لو توفّر أحدهما دون الآخر. فالمعرفة الوهبيّة معرفتان: معرفة تعرُّفٍ ومعرفة تعريفٍ. الأولى أن يعرِّفَ اللّه تعالى نفسه خواصَّ أوليائه بأسرار الأسماء والصفات والأفعال. وأمّا معرفة التعريف، فهي أن يكشف اللّه للناس عن آثار قدرته في الآفاق وفي الأنفس. ذاك يدلّ على أنّ كلا المعرفتين تُنجزان معًا بالمعيّة الإلهيّة واللّطف الرحماني. بهذا يتلقّى القارئ المتدبِّر معرفته من الفيض الإلهي علمًا وتعريفًا بحسب سعته وقدرته واستعداده. فكلّما اتّسعت آفاقه ازداد تعرّفًا حتى إذا بلغ حدّ العجز عن الفهم نبَّهه الحقّ من كتابه العزيز ما يسدّده وما تأمن إليه نفسه، كما في قوله تعالى: (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا)[3]. في هذه الآية حثٌّ على الأخذ بسبيل الفهم المسدَّد بالصبر والدعاء. كأن يمضي القارئ إلى تأوُّل الآيات ما وسِعَتْهُ قدرته على فهمها، فإذا بلغ سعيه منتهاه ووقع في الحيرة، دعاه الله إلى الدعاء بزيادة علمه بحقائق آياته وألطاف كلماته.
الترجمة بما هي ضربٌ من التفسير
يعرِّف اللغويون الترجمة بأنّها «نقل الكلام من لغة إلى أخرى»[4].وهناك من العلماء من يرى بأنّها النقل عن القاموس فقط؛ لأنّ الأخير هو الترجمان المفسّر للسان. ومن ثمّ فالترجمة: نقل الكلام من لغةٍ إلى أخرى[5]. ثمّ يوضح هؤلاء مشكلة نقل المعنى من العربية إلى سواها من الألسنة بالقول: … إذا جاء النقل بمعنى واحد في عبارتين متتاليتين [في لغةٍ واحدة]، حيث تكون العبارة الثانية توضيحًا للأولى، لم يكن ذلك من الترجمة، بل هو من الشرح والإيضاح.
حيث تكون الترجمة تعاطياً واعياً بين لغتين وَجَبَ على المترجِم أن تكون له يدٌ في اللغة المنقول منها من ناحيةٍ، ويدٌ في اللغة المنقول إليها من ناحيةٍ أخرى؛ ذلك ليقيم بينهما جسراً للتواصل والعبور من المخاطِب (بالكسر) إلى المخاطَب (بالفتح). ومن هنا يكون في اضطراب وقلق دائم تجاه ما إذا كان قد نجح في إيصال مراد صاحب النصّ إلى المخاطَب أم لا؟ وقيل، في تحليل هذا الهاجس والقلق، سواء من قبل المترجِم أو من قبل الآخرين: «يذكر المتخصِّصون هذه الظاهرة تندرج في إطار ما يسمى «الترجمة الارتباطيّة»، حيث يصبّ المترجم جلّ اهتمامه على مخاطَبه في اللغة المنقول إليها، ويسعى إلى اجتذاب مخاطَبه، ويربطه بمفهوم الخطاب والمفاهيم المترجمة، وبذلك يبتعد عن الترجمة المعنوية، ويحجم عن نقل التركيبة ذات القواعد النحوية والمعنوية المفروضة على اللغة المنقول منها، والتي لا يأنس بها المخاطَب، ولا يعرف خلفيّاتها أبداً. وأمّا في الترجمة المعنوية فإنّ اهتمام المترجِم يصبّ في اللغة المنقول منها، ولذلك يتمّ السعي في هذا النوع من الترجمة إلى نقل البنية الصورية والنحوية والمعنوية للغة المنقول منها إلى اللغة المنقول إليها.[6]
ويبدو أنّ الاهتمام بواحدٍ من الأهداف الهامّة للترجمة، والتي تكمن في إيصال الخطاب إلى المخاطَب والتأثير عليه، أدّى إلى النظر إلى أسلوب «الترجمة الارتباطيّة» في سياق الاهتمام الجديد؛ لاجتذاب المزيد من المؤيِّدين. من فقهاء التفسير من يذهب إلى وصف الترجمة المعنوية بـ «الترجمة المواكبة» أو «الترجمة الحرفية» أو «الترجمة اللفظية»، حيث يذكر لبيان آفات هذه الترجمة مثالاً ظريفاً من القرآن الكريم؛ في قوله تعالى:(وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُورا)[7]. جاء «غلّ اليد إلى العنق، وبسطها كلّ البسط» كناية عن القبض والبسط الفاحش، أي التقتير والإسراف في المعيشة وفي الإنفاق، وهي كنايةٌ معروفة عند العرب، ومأنوسة الاستعمال لديهم. فلو أريد الترجمة بالتعبير نفسه من لغةٍ أخرى كان ذلك غريباً عليهم، حيث لم يألفوه، فربّما استبشعوه وأنكروا مثل هذا التعبير غير المفْهِم؛ لأنّهم يتصوَّرون من مثل هذا التعبير النهي عن أن يربط إنسان يدَيْه إلى عنقه برباطٍ من سلاسل وأغلال، أو يحاول بسط يديه يميناً وشمالاً بَسْطاً مبالغاً فيه، ولا شَكَّ أنّ مثل هذا الإنسان إنّما يحاول عَبَثًا، ويعمل سَفَهًا؛ لأنّه يبالغ في إجهاد نفسه وإتعابها من غير غرضٍ معقول، الأمر الذي لا ينبغي التعرُّض له في مثل كتاب اللّه العزيز الحميد»[8]. يُضاف إلى ذلك أنّ هذا النوع من الترجمة يقلِّل من شأن الكلام الربّاني وقداسته ، ويحطّ من قيمته لدى المخاطَب؛ لأنّ هذه الترجمة لا تنطوي على أيِّ خطاب. وعليه سيقول المخاطَب لنفسه: مَنْ هو العاقل، أو حتّى الشخص العادي، الذي يربط يده إلى رقبته، أو يمدّها إلى الأمام عندما يمشي، حتّى يتكلَّف القرآن بنهيه عن المشي بهذه الطريقة؟! وفي بيانه لمختلف أساليب الترجمة (الترجمة الحرفية، والترجمة الحرّة، والترجمة التفسيرية) يذهب الشيخ محمد هادي معرفت إلى تفضيل الترجمة الحرّة، وهي الترجمة ذاتها التي يصطلح عليها الخبراء في فنّ الترجمة بـ «الترجمة الارتباطيّة»؛ وإنْ كان سماحته ـ بطبيعة الحال ـ يطلق على الترجمة الحرّة أحيانًا مصطلح «الترجمة المعنويّة»[9]، ولكنْ يبدو من خلال توضيحاته أنّه يعني أسلوب «الترجمة الارتباطيّة» ذاته.
أمّا في بيان مزايا «الترجمة الحرّة» (أو الترجمة الارتباطيّة): تبيِّن هذه الرؤية أنّ المترجم يحاول إفراغ المعنى في قالبٍ آخر من غير تقيُّد بنظم الأصل وأسلوبه البياني، وإنّما الملحوظ هو إيفاء تمام المعنى وكماله، بحيث يؤدّي إفادة مقصود المتكلِّم بغير لغته، بشرط أن لا يزيد في البَسْط بما يُخْرجه عن إطار الترجمة إلى التفسير الَمحْض. إنّ هكذا «ترجمة معنوية» قد تفوِّت مزايا الكلام الأصل اللفظية، وهذا لا يضرّ ما دامت سلامة المعنى محفوظة. وهذا النمط من الترجمة هو النمط الأوفى والمنهج الصحيح الذي اعتمده أرباب الفنّ.
الهرمنيوطيقا الفلسفيّة للترجمة
لتأصيل المهمّة الترجمية نجد ضرورة للتمييز بين الترجمة لغةً واصطلاحاً وبين نقل النصّ كما ورد عند النّحات. فالترجمة تعادل تفسير الكلام بلغته التي جاء فيها. ومنه قيل في ابن عباس: إنّه ترجمان القرآن، أي مفسِّره. والزمخشري في كتابه «أساس البلاغة» رمى إلى هذا المعنى لمَّا قال: «كلّ ما تُرجم عن حال شيء فهو تفسرته» والترجمان هو المفسّر للكلام. وجاء في تفسير ابن كثير أنّ كلمة ترجمة تستعمل في لغة العرب بمعنى التبيين مطلقاً سواء اتَّحدت اللغة، أم اختلفت[10].. أمّا معنى النقل فهو التعبير من معنى كلام في لغة ما، بكلام آخر من لغة أخرى، مع الوفاء بجميع معانيه ومقاصده…، وفي السياق يورد أهل الاختصاص وجهتين للمهمة الترجمية: وجهة حرفية ووجهة تفسيرية[11].
– الوجهة الحرفية: هي التي تُراعى فيها محاكاة الأصل في نظمه وتركيبه، فهي تشبه وضع المرادف مكان مرادفه. ويذهب البعض إلى تسمية هذه الترجمة باللفظية وبعضهم إلى تسميتها بالترجمة المساوية.
– أما الوجهة التفسيرية: فهي التي لا تُراعىَ فيها تلك المحاكاة، أي محاكاة الأصل في نظمه وترتيبه؛ المهمّ فيها هو حُسن تصوير المعاني والأغراض كاملة، ولهذا تسمّى أيضاً بالترجمة المعنوية. وسمّيت تفسيرية؛ لأنّها بحسب تصوير المعاني والأغراض فيها، جعلها تشبه التفسير وما هي بتفسير. وهنا لا بدّ من الإشارة استطراداً إلى أنّ ما يسمّى خفاء المعنى هي من الإشكاليات المحورية في حقل الترجمة. فحقيقة المعنى ليست وقفاً على لغة واحدة تنقل عقلاً واحداً وتجمع بين أفراد مجتمع واحد، بل هي صارت ملكاً مشاعاً بين لغات متباينة تحمل مدارك متفاوتة وتتكلّمها مجتمعات متباعدة. ولذا فحيثما تقرّرت المباينة، تعثَّرت الإبانة. فاللّسان الذي يختلف عن غيره من الألسنة من وجوه مخصوصة، يُخفي عليها من هذه الوجوه، فيكون الاختلاف اللغوي بذلك سبباً في الخفاء المعنوي[12].
في مقام الترجمة التفسيرية، نجد أنّ المترجم يعمد إلى المعنى الذي يدلّ عليه تركيب الأصل فيفهمه، ثم يصبَّه في قالب يؤيّده من اللّغة الأخرى، موافقاً لمراد صاحب الأصل، ذلك من غير أن يكلّف نفسه عناء الوقوف عند كلّ مفردة، ولا استبدال غيره به في موضعه[13]. سوى أنّ الترجمة الحرفية على التعيين، ونظراً إلى المشكلات التي كثيرًا ما تُواجه المترجم في هذا الحقل.. تفترض الأخذ بشرطين إضافيين:
أحدهما: وجود مفردات في لغة الترجمة مساوية للمفردات التي تألَّف منها الأصل، وذلك حتى يمكن أن يحلّ كلّ مفرد من الترجمة محال نظيره من الأصل، كما هو ملحوظ في معنى الترجمة الحرفية.
ثانيهما: تشابه اللغتين في الضمائر المستترة، والروابط التي تربط المفردات لتأليف التراكيب، ولذا فإنّ من النظّار من لا يرى مشقّة بيَّنة في إيجاد مفردات ضمن لغة الترجمة مساوية لجميع مفردات الأصل.. أو أن يظفروا بالتشابه بين اللغتين، المنقول منها والمنقول إليها في الضمائر المستترة، وفي دوام الروابط بين المفردات لتأليف المركَّبات[14]. ومن البيِّن أنّ هؤلاء لا يعتنون بهذه المشكلة إّلا لأنّها تتصل اتصالاً موثوقاً ببيان أربعة فروق وجدوها ضروريّة لرفع اللَّبس الحاصل بين الترجمة والتفسير. إذ مهما تكن الترجمة حرفيّة أو تفسيريّة فإنّها غير التفسير مطلقاً، سواء أكان تفسيراً بلغة الأصل، أو هي ترجمة تفسير الأصل. ولذا عمدوا إلى تبيين الفروق الأربعة التالية:
الأول: أنّ صيغة الترجمة هي صيغة استقلاليّة يُراعى فيها الاستغناء بها عن أصلها وحلولها محلّه. أما التفسير فليس كذلك؛ لأنّه قائم أبداً على الارتباط بأصله (….)
الثاني: أنّ الاستطراد غير جائز في الترجمة. أما في التفسير فيجوز، بل قد يجب فيه الاستطراد؛ ذلك لأنّ الترجمة مفروض فيها أنّها صورة مطابقة لأصلها حاكية له. ولذا فمن الأمانة أن تساويه بدقّة من دون زيادة أو نقص. وحتى لو كان في الأصل خطأ لَوَجَب أن يكون الخطأ عينه في الترجمة. وهذا بخلاف التفسير، فإن المفروض فيه أنّه بيان لأصله وتوضيح له.
الثالث: أنّ الترجمة تتضمّن عرفاً، دعوى الوفاء بجميع معاني الأصل ومقاصده. وأما التفسير فهو ليس كذلك؛ لأنّه قائم على كمال الإيضاح ـ كما مرّت الإشارة ـ سواء أكان هذا الإيضاح بطريق إجمالي أو تفصيلي. أي متناولاً كافة المعاني والمقاصد، ومقتصراً على بعضها دون بعض طوعاً للظروف التي يخضع لها المفسّر ومن يفسَّر لهم….
الرابع: وأمّا الفارق الرابع، فمؤدّاه أنّ الترجمة عرفاً، هي دعوى الاطمئنان إلى أنّ جميع المعاني والمقاصد التي نقلها المترجم هي مدلول كلام الأصل، وأنّها مرادة لصاحب الأصل منه. وليس الأمر كذلك بالنسبة إلى التفسير. بل إنّ المفسّر تارة يدّعي الاطمئنان إذا توفرت لديه أدلّته، وتارة لا يدَّعيه عندما تعوزه تلك الأدلّة. ثم هو طوراً يصرّح بالاحتمال ويذكر وجوهاً محتملة مرجَّحاً بعضها على بعض، وطوراً يسكت عن التصريح أو عن الترجيح. وفي أحوال أخرى قد يبلغ به الأمر إلى أن يعلن عجزه عن فهم كلمة أو جملة ويقول: ربُّ الكلام أعلم بمراده. ذلك على نحو ما نحفظه لكثير من المفسِّرين إذا عرضوا لمتشابهات القرآن أو لفواتح السور المعروفة[15].
الخلاصة التي ينتهي إليها أصحاب الرأي المارّ ذكره، هي أنّه لا فرق بين الترجمة الحرفية والتفسيرية من حيث الحقيقة. فكلتاهما ـ حسب تحليلهم ـ تعبير عن معنى كلام، في لغة معيّنة، بكلام آخر من لغة أخرى، مع الوفاء بجميع معاني الأصل ومقاصده. والفرق بينهما شكلي، وهو أنه يحلّ كلّ مفرد في الترجمة الحرفية محلّ مقابله من الأصل. فضلاً عن ذلك فإنّ تفسير الأصل بلغته، يساوي تفسيره بغير لغته فيما عدا القشرة اللفظية[16]…
أمّا النتيجة التي ينهض عليها أصل الإشكال في الهرمنيوطيقا الترجمية، هي التي تدور مدار الأثر المترتّب على النقل لجهة انزياح الكلام الإلهي عن مقصوده حتى ليوشك في المطاف الأخير ألاّ يكون للكلام الإلهي صلة وصلٍ بمقصود المتكلّم.
مع هذه القراءة التي تجد في التراث العربي الإسلامي ما يبرِّرُها، سنلاحظ أنّ الترجمة تمرّ بمراحل متداخلة ومتناسجة فيما بينها. فهي كما يقال، نَسْخٌ وإلغاءٌ واستمرار. بمعنى أنّها نقلٌ للنصوص، وتحويل لها، وهي أيضاً تحويل للغتين معاً: اللغة الناقلة واللغة المنقول منها. ولعلّ هذا ما قصده الجاحظ في قوله: «متى وجدنا الترجمان قد تكلّم بلسانين علمنا أنّه قد أدخل الضَّيْمَ عليهما؛ لأنّ كلّ واحدة من اللغتين تجذب الأخرى، وتأخذ منها وتعترض عليها»[17]. وثمّة من مضى ليؤكّد الضيم الذي أشارت إليه مقالة الجاحظ، ليلاحظ أنّ اللّغة المترجمَةَ لا تخون اللّغة المترجَمَةَ فحسب، وإنّما تخون ذاتها أيضاً. يضيف: ولولا هذه الخيانة المزدوجة لما كانت هناك ترجمة، بل لما كانت هناك كتابة[18].
وفي الغرب اشتغل الفلاسفة الغربيِّون على المهمّة الترجمية بوصفها قضيّة إشكاليّة في غاية التعقيد، حيث نجد فيلسوف اللّغة المعاصر اندريو بنجامين يتحدّث عن مفهومين للترجمة هما: مفهوم الكلمة ومفهوم الاستعمال:
1 – بصدد مفهوم الكلمة، ينظر «بنجامين» إلى «الكلمة» بوصفها مفهوماً عامًّا يندرج تحته كلّ ضربٍ من ضروب القول، لفظاً أو جملة أو نصًّا. وهو من أخصِّ صفات هذا المفهوم، أي أنّه محلّ تعدّد الاختلاف أو التنازع الدلالي. وتوضيح ذلك أنّ الإحالة التي تجمع بين الكلمة والشيء الخارجي الذي تطلق عليه، وهي لا تستغرق كلّ إمكانات الكلمة الدلالية، بل تقوم فيها إلى جانب هذه الإحالة دلالات إضافيّة مختلفة. بذلك تكون قدرتها الدلالية مجاوزة لوظيفتها الإحالية. ويرجع السبب في ذلك، إلى أنّ الكلمة لا تدلّ على معناها الإحالي دلالة مطلقة، وإنّما تنطوي على إمكان ظهور معانٍ أخرى فيها تُنازِعُ هذا المعنى محلّه، وتشكُّل معه تعدّدًا دلاليًّا لا يستند إلى معنى أصلي بعينه، أو قل تشكّل معه تعدّدًً بدون أصل.
2 – أما مفهوم الاستعمال: فهو عبارة عن اللحظة التي يتمّ فيها تحصيل معنى مخصوص. كما إذا فهم المرء، مثلاً، القول المُلقى به إليه أثناء التواصل. وقد استخدم بنجامين للدلالة على هذا المفهوم لفظاً اقتبسه من اليونانية وهو لفظ «براغما». وهو ما يفيد في هذا اللّسان معنى الشيء باعتبار حصوله عن طريق الممارسة. وإذا كان «الاستعمال» هو الظفر بمعنى مخصوص في سياق خطابي ما، فإنّ هذا المدلول يتميَّز عن مدلول «الكلمة» تميّز الخاص عن العام. فالاستعمال هو بمنزلة المعنى المتحقّق من المعاني الممكنة التي تحتملها الكلمة. وعلى هذا يكون الاستعمال حاملاً للمدلول الوجودي والزماني الذي تختص به لحظة تحقّق المعنى[19].
غير أنّ صفة هذا المعنى التحقيقية، وإن صرفت غيره من المعاني، تبقى دالة على هذه المعاني على جهة الإمكان، فيكون المعنى المتحقّق والحاضر حضوراً فعليًّا، ومحفوفاً بمعانٍ مهملة وحاضرة حضوراً ممكناً، أو بتعبير بنجامين، حضوراً بدئيًّا. بناءً على ما تقدّم فإنّ مفهوم الكلمة، لا يدلّ على فعل واحد أو معنى واحد. وإنّما يدلّ على أفعالٍ ومعانٍ متعدّدة. كما أنّ لفظ «الفلسفة» هو أيضاً محلٌّ للتعدّد الدلالي والتأويلي. وقد ذهب بنجامين إلى أبعد من هذا وذاك، ليجعل الجامع بين الفلسفة والترجمة وهو مبدأ الاختلاف، محلاًّ لهذا التعدّد ذاته. ثم استفاد من مفهوم الاستعمال ليجعل لكلّ واحد من عناصر «الترجمة» و«الفلسفة» و»الاختلاف»، وجهاً مخصوصاً يخرج به من مقام التحديد الإمكاني إلى مقام التحديد التحقُّقي، الذي لا ينافيه منافاة مطلقة[20]. وكان بيرمان موافقاً لـ «بنيامين» في الجمع بين ما يسميه «الخلوص اللّغوي» و «الخلاص الديني» في حين لم يغب عنه ضرورة حفظ ما قضت به الإرادة الإلهية من تعدّد اللغات[21]. هذا فضلاً عن أنّه كان يعتنق اتجاهاً في الترجمة يضفي على النصوص الأصلية قداسة، هي أشبه ما تكون بالقداسة التي تُخلع عادة على النصوص الدينية، كما أنه كان يجد في بعض ترجمات هذه النصوص نماذج مثلى للترجمة الحقيقية، وأحداثاً فاصلة في مسار العمل الترجمي، إن تأسيساً له أو اعترافاً به، أو تغييراً له[22]. ولا عجب في القول تبعاً لهذا التأويل، بأنّ للترجمة دوراً دينيًّا في التاريخ[23].
ومثلما رأى بيرمان إلى الوجه الميتافيزيقي لترجمة النصّ الديني، كذلك ذهب مارتن هايدغر ولكن على طريقته، في الفضاء التأويلي نفسه. فهو وإن لم ينشغل صراحة بالأصل البابلي للترجمة، ولا بالمقصد التخليصي التوراتي لها، فقد أورد إشكالاتها في سياق من المفاهيم التي لا يمكن الشك في نسبتها إلى المصطلحات المتداولة في المجال الصوفي. ولا يبعد أن يكون قد استأنس بها خلال الفترة الدراسية الأولى التي قضاها في تحصيل اللاّهوتيات المسيحية[24].
ويذكر قرّاء هايدغر أنّ طائفة من المفاهيم الهرمنيوطيقية وردت في كتاباته وخصوصاً في كتاب «الوجود والزمان»: الفهم، والتأويل، والانكشاف، والتجلّي، والغفلة، والنسيان، والحضور، والورود، والوهب، والإمداد، والإلقاء، والسمع. ولما كانت هذه المفاهيم تشكّل جزءاً من الجهاز التصوّري الذي توسّل به هايدغر في إنشاء فلسفته الوجوديّة، فقد شاركت الفلسفة الترجمة عنده في الانبناء على مجموعة من المعاني التي لا يُمكن أن يثمرها النمط العقلاني التجريدي، وإنّما تثمرها شّدة الاستغراق في التربية الروحيّة للدين. لقد كان هايدغر من أولئك الذين اقتبسوا ما شاؤوا من مقولات تناهض العقل التجريدي، ثمّ ألبسها لباس التأمّل الفلسفي. وحسبنا شاهداً على ذلك، ما بذله هايدغر من جهد في زعزعة المقولة التي ظلّت الفلسفة تتحدّد بها منذ نشأتها، حتى صارت تستعمل بدلها، وهي: النظر حيث استبدلت بمقولة «السمع»: وهي المقولة التي اختصّت المعرفة الدينية باعتمادها في فهم الحقائق الغيبية. حيث أصبح المتفلسف، بعد أن كان مستغرقاً في النظر، مدعوًّا إلى الاستماع إلى ما يقال في اللغة، كما كان المتديَّن يستمع إلى ما يتنزَّل من الوحي[25].
ولكن يُؤخذ على الطرح الهرمنيوطيقي في مقاربة الفعل الترجمي اختلاف منظّريه في التنظير له من جهة وفي فقدانه للمعياريّة الدقي في مقام التفهّم والتفاهم من جهة ثانية. فمعيارِّية الطرح الهرمنيوطيقي فضفاضة جدًّا بحيث تُدخل في الفهم ما ليس مقصوداً للمتكلِّم أو تسقط همّ القارئ على كلام المتكلِّم! من هنا لا بدّ من تأطير الفعل الترجمي التدبّري التأويلي وضمن أطُرٍ منهجيّةٍ تستمدّ حجيّتها من النص المقدّس نفسه.
التفسير والتأويل بوصفهما إيضاحًا وكشفًا
إذا كانت الترجمة تأخذ معناها من وظيفتها بما هي تعاطياً واعياً بين لسانين، فهي في وجهٍ من وجوهها نظير ما جرى عليه استخدام مفهومي التفسير والتأويل. يتبدّى ذلك من المشترك الإيضاحي لمعنى الكلمات التي ينبغي نقلها إلى لغة أخرى. وهكذا سنرى أنّ التفسير في اللغة يدلّ على بيان شيء وإيضاحه[26]، «والتفسير كشف معنى اللفظ وإظهاره، مأخوذ من الفسر، وهو مقلوب السفر، يقال أسفرت المرأة عن وجهها: إذا كشفته وأسفر الصبح: إذا ظهر»[27].
وعليه، فإنّ معنى التفسير في اللغة متقوِّم بالشرح والكشف والإيضاح بعد خفاء. أمّا التفسير في الاصطلاح فله تحديدات كثيرة، منها: أنّ «التفسير كشف المراد عن اللّفظ المشكل»[28]. ومنها أنّ «التفسير كشف المغلق من المراد بلفظه، وإطلاق للمحتبس عن الفهم به»[29]. وبصدد تفسير الكلام الإلهي يرى هؤلاء أنّ التفسير «علم يبحث فيه عن القرآن الكريم، من حيث دلالته على مراد الله تعالى بقدر الطاقة البشريّة»[30]. وهو «محاولة إزالة الخفاء في دلالة الكلام… بحيث ستر وجه المعنى، ويحتاج إلى محاولة واجتهاد بالغ حتّى يزول ويرتفع الإشكال»[31]. وفي الخلاصة «هو بيان معاني الآيات القرآنية والكشف عن مقاصدها ومداليلها»[32].
بناءً على ما تقدّم من تحديد اصطلاحيّ للتفسير، يمكن القول: «إنّ موضوع التفسير هو «المعاني والمقاصد والدلالات المحتبسة في النصّ القرآنيّ».
في ما خصَّ التأويل ومعناه في القرآن فقد تعدّدت آراء العلماء في تحديده. فذهب مشهور المنتقدين إلى أن التأويل هو التفسير نفسه، وهو المراد من الكلام. بينما ذهب مشهور المتأخّرين إلى أنّ التأويل هو المعنى المخالف لظاهر اللفظ. ويذهب العلامة الطبطبائي إلى أنّ التأويل هو الحقيقة الواقعيّة التي تستند إليها البيانات القرآنية، من حكم، أو موعظة، أو حكمة، وأنّه موجود لجميع الآيات القرآنية محكمُها ومتشابهُها، وأنّه ليس من قبيل المفاهيم المدلول عليها بالألفاظ، بل هو من الأمور العينية المتعالية من أن تحيط بها شبكات الألفاظ، وإنّما قيّدها الله سبحانه بقيد الألفاظ، لتقريبها من أذهاننا بعض التقريب، فهي كالأمثال تُضرَب ليقرَّب بها المقاصد، وتوضَّح بحسب ما يناسب فهم السامع.[33]
بين إمكان النقل الترجمي واستحالته
ثمّة مستويان من النظر حيال نقل الكتاب الإلهي من العربية إلى اللّغات الأخرى. المستوى الأوّل: يتّصل بالضرورة الحضارية التي تقتضي وصول الآيات البيِّنات إلى أمم العالم كافة. والثاني متّصلٌ بالتحويل اللفظي والمعنوي الذي تجريه الترجمة على النص القرآني.
في ما يتعلّق بالمستوى الأوّل يُبيِّن العلماء المسلمون على نحو الاجماع أهمِّية ترجمة القرآن وضرورتها. فهي من الوضوح بحيث لا تحتاج إلى استدلال، بل ذهب الكثير من علماء التفسير إلى أن ترجمة القرآن إلى مختلف لغات العالم تعدّ ضرورةً ملحّة؛ للأسباب التالية:
ـ إنّ دعوة الإسلام عامّة لجميع الناس، ولا تقتصر على الأمّة العربية فقط، وحيث كان الدين الإسلامي لكافّة الناس يمكن تقديمه لجميع الأمم بجميع لغاتها.
ـ إنّ لغة كلّ قوم تمثِّل خير قناة للتواصل والتفاهم معهم، وبذلك فهي خير طريق لتبادل المفاهيم الدينية والتقاليد والثقافات والتعاطي في مختلف مجالات الحياة.
ـ إنّ تعلُّم اللغة العربية وإنْ كان ينطوي على فضيلةٍ لا تنكر، بَيْدَ أنّ الإسلام لم يحكم بوجوب تعلُّم اللغة العربية، وعليه لا يجب على المسلم أن يتعلَّم اللغة العربية، فلا يبقى لغير العالمين باللّغة العربية من طريق لتعلُّم الإسلام إلاّ من خلال لغاتهم التي درجوا عليها.
ـ تمثِّل ترجمة القرآن ضرورة للدعوة إلى الإسلام؛ إذ إنّ الشعوب الأخرى، من مختلف القوميات والأمم بمختلف اللغات، إنّما تتعرّف إلى التعاليم والحقائق الإسلامية والقرآنية العميقة من خلال ترجمة القرآن وتفسيره؛ وذلك لأن القرآن الكريم كتاب هداية ودعوة، ويجب إيصال هذه الدعوة إلى جميع الناس. قال تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ)…{[34].
– إنّ الغاية من إنزال القرآن الكريم هي بيانه وإيضاحه وشرحه لجميع الناس، وليس لمجرَّد تلاوته، أو جعل مفاهيمه حِكْراً على طائفةٍ خاصّة من الناس دون طائفة أخرى.[35]
لا شَكَّ في أن كلّ واحد من هذه الأسباب يشكِّل دافعاً يؤكِّد على ضرورة ترجمة القرآن إلى مختلف اللغات العالمية؛ كي تتعرّف الشعوب بأجمعها من خلال ذلك على التعاليم والمفاهيم القرآنية السامية.
المستوى الثاني: إمكان الترجمة وجوازها: في سياق الجواب حول إمكان الترجمة يسوق فقهاء التفسير ثلاثة أسئلة أساسية:
الأوّل: هل بالإمكان ترجمة القرآن إلى اللغات الأخرى؟
الثاني: إذا كانت ترجمة القرآن ممكنة، فمع استحالة اشتمال الترجمة على جميع خصائص القرآن، هل يمكن تقديم هذه الترجمة بوصفها قرآناً؟
الثالث: هل يترتّب على نصّ ترجمة القرآن الحكم الشرعي ذاته المترتّب على القرآن الكريم نفسه؟ فهل يجوز لغير المتمكِّن من قراءة سورة الحمد باللّغة العربية أن يقرأ ترجمتها بلغةٍ أخرى في الصلاة؟ وهل يحرم على الجنب مسّ الآيات القرآنية المترجمة إلى لغة أخرى، كما يحرم عليه مسّها بنصّها القرآني العربي؟[36]
مرجع هذه المفارقة إلى جدلٍ لم ينتهِ حول ما إذا كان النصّ المترجم هو نفسه النصّ الأصل. وثمّة تشكيك بأن ينجو النص من الأذى وهو يترنَّح بين لغتين لكلّ منهما عالمها المخصوص. يظهر ذلك في حقل الأدب والشعر، مثلما يظهر على الخصوص في حقول الفلسفة والتصوُّف والنصوص المقدّسة. كثير من الباحثين وجدوا أنّ تاريخ التدوين هو نفسه في العمق تاريخ الترجمة. وهذه القاعدة تسري بنفسها على مجمل العلوم الإنسانية التي تبادلتها الحضارات المختلفة من الفلسفة إلى اللاهوت إلى العلوم البحتة. قد تكتسي الترجمة مظهر الشرح والتعليق كما هو الشأن عند ابن رشد. وعلى سبيل المثال فإنك حين تدرس أرسطو فذلك يعني أنّك تشرحه. ثم تحوِّله من لغة إلى لغة، ومن خطاب إلى خطاب. وهذا التحويل هو ما كان يوفّر للفلسفة حيويّتها ونشاطها. والذين يقولون بهذا الرأي يعتقدون أنّ الترجمة تنفخ الحياة في النصوص وتنقلها من ثقافة إلى أخرى. والنصّ ـ برأيهم ـ لا يحيا إلا لأنّه قابل للترجمة، أو أنّه غير قابل لذلك في الوقت ذاته. فالترجمة ككلّ كتابة، هي فعالية وتحويل وإعادة إنتاج. ذلك أنّ ترجمة نصٍّ ما تعني تحويله وتوليده. فالنّص لن يموت، ولن يُلغى إلا إذا لم يعد قادراً على الإنتاج. إلا إذا لم يعد يطرح أسئلة. وفي هذه الحالة فإنّه لا يعود مستحيل الترجمة وحسب، وإنّما لا يُفكَّر فيه وبه، ولا يُتداول، ولا يؤوَّل، ولا يُقرأ، ولا يعود نصًّا[37].
في جواز وبطلان نقل النصّ القرآني
تلقاء الكلام الإلهي نجدنا أمام مهمّة مركّبة: تأويل ضمن حقل النقل والترجمة، وتأويل في مقام فهم الكلام الإلهي والتعرّف إلى مراتبه وبطونه. ولقد مرَّ معنا أنّ بين التأويلين لقاء ومفارقة في الآن عينه. فهما يلتقيان على تظهير النصّ الإلهي قصد إفهامه للمخاطب، ويفترقان في تقنيات التظهير ومدارج الإفهام.
تأويل الترجمة إذًا، هو إجراء إضطراري تحتِّمه وظيفة المترجم حين يفترض عليه واجبُه الديني القيام به. كأن ينقل النصّ إلى لسان حضارة أخرى لأمر يعود إلى ضرورات عقديّة أو إيديولوجيّة أو حضاريّة. بهذا لا يستطيع المترجم مهما بلغت أمانته وقدرته على تفهيم مقاصد الكلمات على الإتيان بما يركن إليه النصّ المقدّس وما يمتلئ به من أسرار. أمّا تأويل التعرُّف فيقصد تقريب ما هو بعيد عبر متاخمة الأسرار التي ينطوي عليها النصّ. بمثل هذا الضرب من التأويل يتحرّر المؤوِّل من الرسوم الوظائفية للتفسير، مثلما يتحرّر النصّ القدسيّ من قيود التلقّي الأوّل ويشرعه على وعود لا متناهية من الفهم. وبقطع النّظر عمّا لو كان المتعرِّف يقدر على متاخمة الطبقات القصيّة للآيات، فإنّه حالما يفتح باب التأوُّل يروح يختبرها بالمحاورة والمساءلة والرجاء. ومثل هذا الاختبار يسري على كل مؤوِّل وإن تكاثر المؤوُّلون ونظروا بأعين متعدّدة إلى نصّ واحد. ذاك ما أعرب عنه ابن كُلاَّب صاحب «كتاب الصفات»، لمّا رأى أنّ كلام اللّه واحد، ولكنّه حين يخرج إلى الفضاء الزماني والمكاني يتّخذ أشكالاً مختلفة ويتجلّى في نصوص متعدّدة[38].
في الجواب على السؤال يرى العلماء أنّ «للقرآن الكريم نواحٍ ثلاثاً تجمَّعْنَ فيه، وبذلك أصبح كتاباً سماوياً، ذا قداسة فائقة، وممتازاً على سائر الكتب النازلة من السماء.
الأولى: كلام إلهيّ ذو قدسيّة ملكوتيّة، يُتعبَّد بقراءته، ويُتبرك بتلاوته.
الثانية: هدىً للناس، يهدي إلى الحقّ وإلى صراط مستقيم.
الثالثة: معجزة خالدة، دليلاً على صدق الدعوة عبر العصور.
وبعد، فهل بإمكان الترجمة ـ من أيّ لغةٍ كانت ـ الوفاء بتلكم النواحي؟ وهل يمكن الحفاظ على الناحية الإعجازية للقرآن ـ وخاصّة الإعجاز البياني منه ـ إذا تمّت المحافظة على المعنى؟ وهل يمكن الحفاظ على قداسة القرآن التي هي مناط التعبُّد إلى اللّه والتقرُّب منه؟
لا شَكَّ في استحالة الحفاظ على المعاني القرآنية بتلك البلاغة التي أنزلها اللّه تعالى ونقلها كما هي في عملية الترجمة. من هنا فإنّ ترجمة القرآن مهما كانت دقيقة وعلميّة لا تمثِّل إلاّ جانباً ضئيلاً من أبعاد القرآن الكريم، ولا يمكنها أن تشتمل على قداسة القرآن ذاتها؛ لأنّ الترجمة ما هي إلاّ كلام المخلوق، والقرآن يبقى هو كلام الله.[39] وترتيباً على هذه الوجهة يتحصَّل لدينا أن لا شيء من أساليب الترجمة يمكن اعتباره وافياً بنقل القرآن إلى اللغات الأخرى، ولكنْ حيث لا مناص من القول بضرورة ترجمة القرآن إلى سائر اللغات فإنّ أفضل أسلوب لترجمة القرآن هو الترجمة الحُرّة. ولئن كانت هذه الوجهة لا ترى استحالة ترجمة القرآن، إلاّ أنّها تراها عملية معقَّدة، وتواجه الكثير من العقبات التي لا يمكن تجاوزها. عليه فإنّ ترجمة القرآن ترجمة صحيحة ضرورة يستدعيها صميم الإسلام وواقع القرآن[40]. والذي يتّضح من السيرة العملية للمسلمين على طول تاريخ الإسلام هو وجود التبليغ والدعوة والوعظ والإرشاد في إطار بيان مفاهيم القرآن بمختلف اللغات، وتوظيف الترجمة وتفسير القرآن في هذا النوع من الأنشطة التبليغية والثقافية الواسعة. «إنّ ترجمة القرآن كانت منذ القِدَم، ولا تزال، هي السيرة المتداولة بين علماء المسلمين، بل وحتّى غير المسلمين؛ إذ كان لا بُدَّ من الحوار مع كلّ قومٍ بلغتهم[41]. وأمّا من الناحية النظريّة فإنّ مسألة جواز أو عدم جواز ترجمة القرآن إلى اللّغات الأخرى لم يتمّ البحث والحوار بشأنها بين علماء الإسلام في القرنين الأوّلين.
هناك بين فقهاء المذاهب بشأن قراءة القرآن باللغات الأخرى فتاوى مختلفة، تستند إلى المتبنيات الفقهية الخاصّة بكلّ واحد منهم[42]. فقيل مثلاً: إنّ مذهب الشافعي على عدم جواز قراءة القرآن بغير اللّغة العربية، لا في الصلاة، ولا خارجها. ونقل هذا الكلام عن مالك وأحمد وأبي داوود أيضاً[43]. وقد نسب إلى أبي حنيفة القول بجواز قراءة القرآن بالفارسية ـ سواء في الصلاة أو في غيرها، في حين قام إجماع فقهاء الشيعة على عدم كفاية الترجمة في قراءة الصلاة، وأنّ قراءة الترجمة تبطل الصلاة.[44] كما أظهروا إتفاقاً على عدم إجراء أحكام القرآن ـ بصورةٍ عامّة ـ على ترجمته بأيّ لغة.[45]
ولقد بدا من البيِّن هنا أنّ عدم ترتيب الأحكام الشرعيّة على ترجمة القرآن، وعدم جواز قراءة الصلاة بغير العربية، بل وحتّى عدم جواز قراءة القرآن بغير العربية حتّى خارج الصلاة، لا ينهض دليلاً على عدم جواز ترجمة القرآن؛ لأنّ الهدف من ترجمة القرآن لا ينحصر بهذه الأمور، حتّى يكون عدم جوازها دليلاً على عدم جواز ترجمة القرآن. إن ترجمة القرآن ضرورةٌ لا يمكن إنكارها لتحقيق الهدف من نزوله، بمعنى أنّ الهدف العام من القرآن هو هداية الإنسان، وهذا الهدف لا يتحقّق إلاّ من خلال إبلاغ المفاهيم والمعاني القرآنية السامية إلى جميع الشعوب والأمم بلغاتها. ومن هنا ذهب الشيخ معرفت إلى الاعتقاد بأنّ ترجمة القرآن ضرورةٌ يقتضيها واجب التبليغ والدعوة إلى الإسلام.[46] وقد قال في هذا الشأن: «لم تسبق من علماء الإسلام نظرة منع من ترجمة القرآن، بعد أن كانت ضرورةً دعائيّة لمسها دعاة الإسلام من أوّل يومه»[47].
ومهما يكن من أمر، فعلى الرغم من ذهاب العلماء المسلمين سنّة وشيعة إلى تأييد ترجمة القرآن بشدّة، لاعتبارات وضرورات دعويّة وحضاريّة وخصوصًا للمجتمع المسلم غير الناطق بالعربية، إلاّ أنّهم يحترزون من غياب الدقّة والاختصاص في العمليّة الترجميّة. ولذلك فإنّ منهم من يرى لزوم ضبط الترجمة الصحيحة للقرآن، من خلال جملة من الشروط[48]:
مشكلة الفهم وشرائط النقل
إذا كانت مهمّة الهرمنيوطيقا تصيير البعيد عن الفهم قريباً لطالب الفهم، فليس هدف الهرمنيوطيقي بالأساس استيعاب العالم الكامن خلف النصّ، وإنّما الانفتاح على عالم الإمكانيات التي يختزنها النص بما يتيح له استكشاف طبقاته المجهولة. لكن عملية الإستيلاء على العوالم الممكنة تستدعي تمثّل النصّ ومحاورته من داخل. وهذه مهمّة تحتاج إلى درجة من المجهود التأويلي يصل فيها المؤوِّل إلى النقطة التي تمَّحي فيها المسافة بين المؤوِّل الناظر في النّص، والنّص المنظور إليه من طرف المؤوِّل. وما ذاك إلّا لأنّ المؤوّل متضمَّنٌ هو نفسه في العمليّة التأويليّة.
متى اتّصل الأمر بترجمة القرآن الكريم، قد نمسي على منقلب آخر تصير معها الترجمة نفسها واقعاً هرمنيوطيقياً. فالمترجم في مقام اشتغاله على نقل الآيات يجد نفسه في مواجهة تحديّين متلازمين: تحدّي النقل والتحويل، وتحدي الفهم والتأويل في آن. وذاك بلا ريب، أمرٌ مستصعب، ومهمّة شاقّة في التحديَّين معاً، فلا يحسنُهُما على وجه الإجمال إلا من كان على دراية بثلاثة علوم:
1 – علم بالعربية: اللغة التي نزل بها القرآن الكريم.
2 – علم باللسان المنقول إليه. أي إلى غير لسان العرب: ذلك بأنّ مهمّة المترجم أن يُعِدَّ للنصّ المترجَمِ ما وَسِعَتـْه قدرتُهُ من إحاطة بقواعد اللّغة، في نحوها، وصرفها، وبناءاتها، وتراكيبها.
3 – علم بنوع النّص: ومقتضاه أن يكون المترجمُ فاهماً محتوى النصّ ومقصده. وهذا المقتضى هو من الشروط الأوّلية التي ينبغي على المترجم حيازتها. فالمترجم العارف بالفلسفة ـ على سبيل المثال ـ يقدر على مقاربة النّص الفلسفي أكثر مما يقدر عليه آخرون ممن لا ذائقة لهم بهذا الفن. كذلك الأمر ما يعني الشعر أو النثر، أو أؤثر الصوفي على سبيل المثال. حيث لا يفلح المترجم ها هنا بلوغ تراكيبها الرمزية ما لم يكن قد ألِف لغتها ووقف على أسرارها.
بإزاء مشكلة الفهم، يذهب الباقلاني إلى أنّ الله تعالى جعل عجز الخلق عن الإتيان بمثل القرآن دليلاً على أنّه منه، وجليلاً أساساً على وحدانيته».[49] ثم يمضي إلى ما هو أبعد؛ ليبيِّن أنّ فهم الكلام الإلهي يتجاوز حدود الوعي اللساني ليصل إلى تمثُّل هذا الكلام من خلال قبوله والإقبال إليه. «فمن كانت بصيرته أقوى ومعرفته أبلغ كان إلى القبول منه أسبق، ومن اشتبه عليه وجه الإعجاز أو خفي عليه بعض شروط المعجزات وأدلة النبوات كان أبطأ إلى القبول حتى تكاملت أسبابه واجتمعت له بصيرته وترافدت عليه موادّه».[50] لذا فإنّ المتناهي في الفصاحة من سمع القرآن عرف أنّه معجز؛ لأنّه يعرف من حال نفسه أنّه لا يقدر عليه. فما الذي نعنيه إذاً بالفهم؟…
لقد استخدمت التفاسير والمصادر القرآنية مصطلح الفهم بكثرة، وكان الكلام يدور تارة على فهم الآيات القرآنية، وأخرى على قواعد الفهم وشروطه. ذهب بعضهم إلى أنّ الفهم يُعدّ نوعاً من أنواع الإدراك مثله مثل الظّن، والشعور، والذكر، والعرفان، إلخ… وذهب آخرون إلى أنّه يعني الألفة مع الشيء، فتقع به المعرفة بالقلب، ولذا فهو تصوّر عميق للمعنى من لفظ المخاطب عند السماع أو الإشارة، وقيل إنه «إدراك خفي دقيق، ولذا فهو أخصّ من العلم، لذا لا يصحّ أن يوصف به الله تعالى؛ لأن الإدراك في الفهم متفاوت»[51].
تأويل الآيات في أفهام العرفاء
يرتبط سؤال التأويل عند العرفاء بمعنى القرآن، ومعنى القرآن عندهم مرتبط بمعنى ودلالات كلام الله، وإذا كان القرآن هو كلام الله، فإن الوجود أيضا هو كلام الله، باعتبار أن الكون كلّه خلق بالأمر الإلهي «كن»، فالكون هو تجلِّ لكلمة «كن» الإلهية، فيكون الوجود كلمات الله المسطورة في الآفاق والقرآن كلمات الله المسطورة في المصحف، ويصبح القرآن هو كلمات الله المرقومة التي توازي الوجود وترمز إليه، وكما أن كلام الله الوجودي المنظور لا يمكن حصره ونفاذه (قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا)[52]. (وَلَوْ أَنّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّـه)[53]. فإن كلام الله المسطور في المصاحف لا محدود ولا نهائي في تأويله.
بين لا تناهي كلام الوحي ومحدوديّة المتلقِّي، يذهب العرفاء إلى بيان أنّ الحقيقة الغيبية في إطلاقها غير متعقّلة ولا متوهَّمة، فإدراكها هو التحيّر فيها. والحيرة هنا، تأتي في مقام التعقّل والتدبُّر، لا تلك التي ارتكن فيها الإنسان إلى قبضة الفكر المحض. فثمّة فرق عندهم بين حيرة المتدبِّر وحيرة الباحث عن معنى الكلمات في ظاهر الحرف والعبارة. فإنّ حيرة الأخير تقع في مرتبة ناقصة وعلامتها تعطيل الأفهام والحؤول دون تلقي القول الإلهي على الحقيقة[54]. أمّا حيرة المتدبِّر الذي حرّر قلبه وأطلقه من التعلقات والميول والرغبات الدنيويّة، فحيرته عبارة عن تحول القلب وتبدّله انسياقًا مع تنوّع الحقيقة في صورها المختلفة، أي إدراك الوحدة في الكثرة، والتنزيه في التشبيه، والحقيقة في المجاز. وبالتالي إدراك الثبات في التنوع والتنوّع في الثبات. وحده الذي يستطيع إدراك هذا التنوّع، كما في قوله تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)[55]. وفي آية ثانية: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّـه لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا)[56].
في الحكمة المتعالية مثلاً، تتخذ العملية التأويلية أهميّة معرفيّة خاصّة؛ لجمعها المنهجي بين البرهان والقرآن والعرفان، حيث يأخذ التأويل تبعاً لهذا الجمع معنى الكشف عن مراتب المعنى وبواطنه[57]. ولكي لا يشتبه الحال على المأخوذ بتعبير الباطن، يرفض ملا صدرا بشدّة مصطلح التأويل المشبّه بالباطنية، ويؤكّد على التفسير بما له من المعنى الشامل للتأويل، ووفق طريقة الراسخين في العلم الذين خصّهم الله تعالى بالتأويل. وهذه طريقة تحفظ الظاهر بقدر ما تعتني بالباطن. فتأويل الشريعة يعني أسرار العبادات، وتأويل الطريقة يعني أسرار النفس، وتأويل الحقيقة يعني أسرار الوجود. لا يبتعد صدر الدين الشيرازي في مسلكه التأويلي عن مذاق أهل المكاشفة؛ بل يتابعهم في مقولة الظاهر والباطن، ليرى أنّ للقرآن ظهراً وبطناً ولبطنه بطون سبعة هي مراتب المعنى القرآني الذي يتصاعد من المعنى الظاهر إلى المعنى المتخيّل بالحواس الباطنية، ثم إلى المعنى العقلي المجرّد ثمّ إلى المعنى الأمري الذي هو عالم الروح. وهذان المعنيان الأخيران هما من عالم الآخرة، حيث يرى الشيرازي أنّ لكلّ منهما درجات ومراتب ومنازل ومقامات تتجاوز حدود العقل فضلاً عن الحسّ، وهي معانٍ لا يدركها إلّا الأوحدي من الأنبياء والأولياء، أمّا لو تصاعدنا في المعنى فسنجد مرتبة فوق كلّ هذه المراتب لا يدركها أحد حتى الأنبياء إلا إذا فنوا عن العوالم وتجرّدوا عن النشآت وبلغوا مقام الوحدة.
على أن ما يرمي إليه الشيرازي من مقولة البطون، التي تتجاوز السبعة في الواقع إلى ما شاء الله تعالى، هو الاشارة إلى تكثّر المعنى القرآني كثرة لا تقف عند حدّ؛ لأنّها كلمات الحق تعالى التي لا تنفذ: (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ
مَدَداً)[58].
فهم الكلام الإلهي وفق التأويلية الصدرائية ليس مجرّد مرتبة مدرجة ضمن الهندسة المعرفية لمراتب الحكمة المتعالية. إنّه، بحسبها، كلّ المراتب بوصف كونه حاضراً فيها، محيطاً بها عميق الإحاطة. وهو في الآن نفسه مفيضاً عليها الوجود والعلم والتسديد. وإلى هذا فإنّه لا يغادر أيّ منها إلّا لكي ينشيء لها ظلاً وجوديًّا في القرآن. فالقرآن يتّسع للمراتب الوجوديّة كلّها. وضمن هذه الدّالة فهو جامع الوجود. كما في الآية (مَالِ هَذَا ألْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا)[59].
في كتاب مفاتيح الغيب يعرض صدر المتألهين أربعة مسالك تفسيرية للقرآن هي: مسلك أهل اللغة، ومسلك أهل التأويل الذين يصرفون الألفاظ عن مفهومها الأوّل.. ومسلك أهل الجمع بين التفسير الحرفي والتأويل، ثم ينتهي إلى الأخذ بما يسميه مسلك الراسخين في العلم.
خاصيّة أهل هذا المسلك الذي يتبناه ملا صدرا، أنّهم -كما يقول- ينظرون بعيون صحيحة منوّرة بنور الله في آياته من غير عَوَرٍ ولا حَوَل، ويشاهدونه في جميع الأكوان من غير قصور ولا خلل. إذ قد شرح الله صدورهم للإسلام، ونوَّر قلوبهم بنور الإيمان، فلانشراح صدورهم، وانفتاح روزنة قلوبهم يرون ما لا يراه غيرهم. ويسمعون ما لا يسمعون. ليس لهم حرارة التنزيه ولا برودة التشبيه، ولا الخلط بينهما، كالفاتر من الماء. بل كالخارج عن عالم الأضداد كجوهر السماء. فالخارج عن الضدّين ليس كالجامع للطرفين[60]..
تأويليّة صدر المتألهين تنتمي إلى الصفات التي وضعها لمسلك الراسخين في العلم هي تأويلية أبدعت مفاتيح جديدة في عالم التفسير تقوم على استنباط طبقات النصّ عبر استئنافٍ مستمرٍّ ودائم لعمليات الفهم. أمّا التأويل عنده فيرتكز إلى آليات مثلثة الأضلاع هي النص والعقل والكشف. وهو ما لم ينصرف إليه على الجملة جمع المفسرين في عصره.
ولئن كان ثمة ما يستشير الإشكال حول مصطلح التأويل، فلهذا المصطلح عند ملا صدرا معنى خاص، وهو أن التأويل يعني التفسير نفسه، ولكن مع استئناف لا ينقطع من أجل استكشاف المزيد من فهم حقائق الآيات. لكن هذا النوع من التأويل (أي التفسير المستأنف) عند ملا صدرا له قواعده ومعانيه وضوابطه. نذكر منها على وجه الحصر ما يلي:
-دحض طرق التفسير التي تفصل بين اللفظ ودلالته.
-وصل ظاهر اللفظ بظاهر المعنى، وظاهر المعنى بباطنه وهكذا دواليك وصولاً إلى ما يسمّيه بالكشف.
-دحض ثنائيّة المجاز والحقيقة في معرض تفسير المحكم والمتشابه من الآيات. إذ ثمة اتصال ووحدة بين المجاز والحقيقة. ذلك أنّ كلّ القرآن حقيقة لا مجاز في مقام الكشف.
اجتهادات العلماء في ترجمة الآيات
لقد أفرد الجاحظ بحثاً معمّقًا بشأن الترجمة في «كتاب الحيوان»، وبحث في ضمنه ترجمة النصوص الدينيّة[61]. كما ذُكر ابن أبي قتيبة الدينوري(322هـ)[62] بوصفه واحداً من طلائع الذين تناولوا بحث إمكان أو عدم إمكان ترجمة القرآن[63]. وبعد ذلك بقرونٍ عمد الشاطبي ـ وهو من العلماء الكبار ـ إلى تفصيل البحث في مجال ترجمة القرآن الكريم، في كتاب الموافقات.
إنّ عمق المباحث التي ذكرها الجاحظ تدعونا إلى بيان خلاصةٍ لآرائه في هذا الشأن. ويمكن بيان الآراء التي ذكرها الجاحظ ضمن النقاط التالية:
أـ إنّ الترجمة في الحقيقة هي نوعُ وكالةٍ، ويكون الوكيل فيها نازلاً منزل موكِّله، وعليه أن يسعى في استيفاء حقوق موكِّله. بَيْدَ أنّ الترجمة تنطوي على مسار معقَّد وصعب المنال؛ إذ لا يستطيع المترجِم بلورة جميع التفاصيل التي يتوفَّر عليها النصّ المترجَم. وفي ذلك قال الجاحظ: «إنّ التَّرجُمان لا يؤدِّي أبداً ما قال الحكيمُ، على خصائص معانيه، وحقائق مذاهبه، ودقائق اختصاراته، وخفيَّات حدوده، ولا يقدر أن يوفّيها حقوقها، ويؤدِّي الأمانة فيها، ويقوم بما يلزم الوكيل، ويجب على الجَرِيّ. وكيف يقدر على أدائها وتسليم معانيها؟[64].
ب ـ إنّ من بين قواعد الترجمة الجيّدة أن يكون المترجِم متمكِّناً من كلا اللغتين ـ المنقول منها والمنقول إليها ـ على مستوى التخصُّص، وأن يعلم التفاصيل والفروق الدقيقة في كلا اللغتين. بَيْدَ أن تحقيق ذلك صعبٌ للغاية؛ لأنّ كل لغة تستدعي أن يستنفد الشخص كامل قواه المعرفيّة، حتّى لا يبقى لديه فائضٌ لتوظيفه في اللغة الأخرى، ومن هنا كان وزان المترجِم وزان الذي يحمل بطّيختين بيدٍ واحدة، ولن تكون نتيجة جهده سوى إسقاط كلا البطيختين. يقول الجاحظ: «وإنَّما له قوّةٌ واحدة، فإنْ تكلَّم بلغةٍ واحدة استُفْرِغَتْ تلك القوّة عليهما[65].
ج ـ إنّ ترجمة الكتب والنصوص الدينية والوحيانية أصعب بكثيرٍ من ترجمة النصوص العلمية. ويمكن القول: إنّ العقبات والموانع الماثلة في طريق المترجِم عند ترجمته للنصوص الدينية يستحيل تجاوزها؛ إذ في هذا النوع من الترجمة يكون الكلام حول مفاهيم ما ورائية تتعلَّق بالشأن الإلهي والصفات الإلهية وما إلى ذلك. كما أنّ الأسلوب البياني للنصوص الدينية الوحيانية يحمل من الخصائص التي تعرقل عمل حتّى المترجِم الحاذق، فما ظنُّك بالمترجِم الذي لا يمتلك الصلاحية اللازمة؟! وفي ذلك يقول الجاحظ: «هذا قولُنا في كتب الهندسة، والتنجيم، والحساب، واللحون، فكيف لو كانت هذه الكتب كتب دينٍ وإخبار عن الله عزَّ وجلَّ؟[66].
لقد تحدَّث الجاحظ في العمق، وصرَّح بتعقيد الترجمة، وقال ذلك الكلام الذي يقوله اليوم العلماء المهتمّون بموضوع ترجمة النصوص المقدَّسة.
أما الشاطبي فقد أوضح آراءه بشأن ترجمة القرآن ضمن مقطعين: المقطع الإجمالي؛ والمقطع التفصيلي. فيرى في المقطع الإجمالي أنّ القرآن نزل بلسانٍ عربي مبين، ولم يكن لسائر اللغات الأخرى أي تدخُّل فيه، ولم يكن لها سهمٌ فيه. يضيف: إنّ فهم القرآن إنّما يكون عبر فهم اللغة العربية، وفي ذلك قال الشاطبي: «فمَنْ أراد تفهّمه فمن جهة لسان العرب يفهم، ولا سبيل إلى تطلُّب فهمه من غير هذه الجهة.[67]
وفي بيان دعواه القائمة على انحصار فهم القرآن بفهم اللغة العربية: إنّ أوضاع وأساليب اللغة العربية تختلف عن سائر اللغات الأخرى، ومراده من هذه الأوضاع وجود الاشتراك والترادف وأمثال ذلك في مفردات لغة العرب. ومراده من الأساليب ذكر العام وإرادة العام، وذكر العام وإرادة الخاص، وذكر الخاص وإرادة الخاص، وذكر الخاص وإرادة العام، والإيضاح، والإخفاء، والإيجاز، والإطناب، وما إلى ذلك. ومن هنا فإنّ فهم القرآن لا يتأتّى إلاّ من خلال فهم اللغة العربية[68].
وأما في المقطع التفصيلي فيقول: للغة العربية من حيث هي ألفاظ دالّة على معانٍ نظران: أحدهما: من جهة كونها ألفاظاً وعبارات مطلقة دالّة على معانٍ مطلقة، وهي الدلالة الأصلية؛ والثاني: من جهة كونها ألفاظاً وعبارات مقيّدة دالة على معانٍ خادمة، وهي الدلالة التابعة.
فالجهة الأولى هي التي يشترك فيها جميع الألسنة، وإليها تنتهي مقاصد المتكلِّمين، ولا تختص بأمّةٍ دون أخرى، فإنّه إذا حصل في الوجود فعلٌ لزيد مثلاً، كالقيام، ثم أراد كلّ صاحب لسان الإخبار عن زيد بالقيام تأتّى له ما أراد من غير كلفةٍ. ومن هذه الجهة يمكن في لسان العرب الإخبار عن أقوال الأوّلين ممَّنْ ليسوا من أهل اللغة العربية، وحكاية كلامهم، ويتأتّى في لسان العجم حكاية أقوال العرب والإخبار عنها. وهذا لا إشكال فيه. وعليه فإنّ قوله تعالى: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأَرْضِ)[69] مثلاً يمثِّل مصداقاً لهذه الجهة، حيث يمكن ترجمتها إلى اللّغات الأخرى، ولا يختصّ فهمها بفهم اللغة العربية.
وأما الجهة الثانية (الدلالة التبعيّة) فهي التي يختصّ بها لسان العرب فى تلك الحكاية وذلك الإخبار، فإنّ كل خبر يقتضي في هذه الجهة أموراً خادمة لذلك الإخبار بحَسَب المخبر، والمخبر عنه، والمخبر به، ونفس الإخبار في الحال والمساق، ونوع الأسلوب من الإيضاح والإخفاء والإيجاز والإطناب وغير ذلك.
وعليه تكون الدلالة التبعيّة ـ طبقاً لادّعاء الشاطبي ـ خاصّة باللغة العربية، ولذلك لا يمكن ترجمة اللغة العربية أو لغة القرآن النازلة باللغة العربية إلى لغةٍ أخرى تفتقر إلى «الدلالة التبعية». وإليك نصّ عبارة الشاطبي في هذا الشأن: «وإذا ثبت هذا فلا يمكن مَنْ اعتبر هذا الوجه الأخير أن يترجم كلاماً من الكلام العربي بكلام العجم على حالٍ، فضلاً عن أن يترجم القرآن وينقل إلى لسان غير عربي»ّ.[70]
وفي ما يتعلَّق بالآراء التي ذكرها الشاطبي يمكن القول:
أوّلاً: إنّ ما ذكره الشاطبي بالنسبة إلى الكلام، وأنه مشترك بين جميع اللغات، لا يقتصر ـ في الحقيقة ـ على الوجه الأوّل، بل حتّى الكلام الذي ذكره في الوجه الثاني يشترك بين جميع اللغات، أو على الأقلّ إنّ اللغة الفارسية ـ التي نمتلك العلم بقواعدها في الحدّ الأدنى ـ تتوفَّر على جميع الخصائص التي ذكرها الشاطبي بالنسبة إلى «لدلالة التبعية»، من قبيل: الإيضاح، والإيجاز، والإطناب، وأمثال ذلك. اللهمّ إلاّ إذا كان مراده من الدلالة التبعية شيئاً آخر غاب عن فهمنا.
وثانياً: إنّ الترجمة تبقى ترجمة، والنصّ الأصلي يبقى نصّاً أصلياً. توضيح ذلك: إنّ للنصّ والكلام الأصلي خصائصه، وللترجمة خصائصها. ولو توفّرت الترجمة على جميع خصائص الكلام والنص الأصلي لن يعود هناك من اثنينية بين النصّ والترجمة. هذا في حين أنّ للنصّ والكلام الأصلي وجوداً وتشخّصاً خاصّاً به، وإن للترجمة وجوداً وتشخّصاً خاصّاً بها. ومن الحقائق المتَّفق عليها بين جميع المحقِّقين أنّ بعض خصائص الكلام الأصلي قد تختفي في الترجمة، إلاّ أنّ الهدف الرئيس من الترجمة، والذي يتمثّل في إيجاد الارتباط والتواصل مع المخاطَب ونقل الخطاب له، إنّما يتمّ عبر هذه الآلية. وهذه الآلية هي التي اختارها جميع العقلاء للتفهيم والتفاهم بين مختلف الثقافات واللغات.
يلاحظ، في مؤلّفات عدد من الباحثين، «أنهم عدوا التفسير – وهنا بمعنى التأويل – مفتاحاً لفهم الآيات: «فالتفسير عندهم كشف المغلق من المراد بلفظه»، وعلى ما يرى الزركشي أنّ التفسير هو الباب الذي يفضي إلى الفهم: «ومن ادّعى فهم أسرار القرآن، ولم يحكم التفسير الظاهر، فهو كمن ادّعى البلوغ إلى صدر البيت قبل تجاوز الباب، فظاهر التفسير يجري مجرى تعلّم اللّغة التي لا بّد منها للفهم»[71].
يشير الزرقاني، في فصل «فضل القرآن والحاجة إليه»[72]، إلى أنّ العمل بتعاليم القرآن يكون بفهمه، وفهمه منوط بتفسيره: يضيف: «إنّ العمل بهذه التعاليم لا يكون إلا بعد فهم القرآن وتدبّره والوقوف على ما حوى من نصح ورشد، والإلهام بمبادئه عن طريق تلك القوّة الهائلة التي يحملها أسلوبه البارع المعجز، وهذا لا يتحقّق إلا عن طريق الكشف والبيان لما تدلّ عليه ألفاظ القرآن، وهو ما نسمّيه بعلم التفسير»[73].
والقصد كما يعتقد المفسّرون بأنّ للمعنى الواحد مراتب وطبقات كثيرة، قد تصل حسب بعض الروايات إلى سبع أو سبعين مرتبة، وبوسع المخاطب أن يخوض غمار هذه المراتب مع الالتزام بضوابط التفسير وشروطه والمعايير المتبعة فيه، فللآيات القرآنية معان كثيرة يمكن اكتشاف بالمزيد منها مع تطوّر الإنسان في المجالات المختلفة، غاية ما هناك أنّ هذه المعاني المعروف منها، وغير المعروف، يقع بعضها في طول بعض، وليست عرضية، وإلاّ لوجب إهمال تلك المعاني التي لا تنسجم مع غيرها ومع القصد الإلهي بحكم عرضيتها وتقاطعها.
وبحكم إعادة الترتيب اتّخذ الكتاب وحدته العضويّة، وهذه إحدى أهمّ معجزات القرآن. إذ النص واحد لا يتغيّر ولا يتبدّل وتختلف قراءته تبعاً للتركيب في تطوّر العقل البشري، فلكلّ حالة عقلية تاريخية إسقاطاتها الذهنيّة الخاصّة بها على القرآن تبعاً لمبادئها العقلية وأشكال تصوّرها للوجود. أمّا النصّ فهو ثابت ليس على مستوى الكلمة فقط ولكن أيضاً على مستوى الحرف. فالقرآن في بنائيته الحرفية – كما يلاحظ عدد من الباحثين – يماثل البنائية الكونية بحيث إذا تفلّت نجم عن موقعه اختلّ النظام الكوني كلّه، ولهذا قابل الله بين البنائية الحرفية للقرآن و(موقع) النجوم، فلم يقسم – سبحانه – بالنجم ولكنّه أقسم بمواقعها في سياق تعريفه بخصائص القرآن البنائية[74]: (فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لّا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ)[75].
فليس من أحد يستطيع ضبط الصياغة القرآنية على مستوى الحرف المماثل لصياغة الكون غير الله. فلكلّ حرف وظيفته (الألسنة البنيوية) في الإنشاء القرآني الذي ليس هو مجرّد بلاغة فقط. فالاستخدام الإلهي للمادة اللغوية ولأي مادة في الكون يختلف نوعياً عن الاستخدام البشري مع وحدة خصائص المادة. فحين يستخدم الله اللغة العربية في التنزيل فإنّه يستخدمها وفق مستوى إلهي يقوم على الإحكام المطلق. فلا يكون في القرآن مترادفات توظيفاً ضمن جناس وطباق، إذ تتحوّل الكلمة ضمن الاستخدام الإلهي إلى (مصطلح دلالي) متناهي الدقّة (فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ*وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ)[76]. فلكلّ كلمة في القرآن دلالتها المفهومية المميّزة، وذلك خلافاّ للاستخدام البشري البلاغي العفوي لمفردات اللغة، فلا يورد القرآن (مسَّ) بمعنى (لمس) إطلاقاً، ولهذا حين قال الله (لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) فقد قصد (النفس) الطاهرة وليس (البدن)، فالبدن (يلامس) النساء:(أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ)[77]، وكذلك (وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِم)[78]، أما (المسَّ) فيتجه إلى المعرفة والإدراك والإحساس والشعور: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ){[79]. وكذلك (إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ)[80]. فمُّس القرآن يعني إدراكه والشعور به. وتفصيل المعنى هنا أنّه لا يمسّ الكتاب المكنون الذي فيه القرآن إلاّ المطهّرون، أو لا يمسّ القرآن الذي في الكتاب إلاّ المطهّرون. والكلام على أيّ حال مسوق لتعظيم أمر القرآن وتجليله، فمسّه هو العلم به وهو في الكتاب المكنون كما يشير إليه قوله: (إنّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبـِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ){. والمطهّرون ـ اسم مفعول من التطهير ـ هم الذين طهّر الله تعالى نفوسهم من أرجاس المعاصي وقذارات الذنوب، أو ممّا هو أعظم من ذلك وأدقّ وهو تطهير قلوبهم من التعلّق بغيره تعالى، وهذا المعنى من التطهير هو المناسب للمسّ الذي هو العلم، دون الطهارة من الخبث أو الحدث كما هو ظاهر[81].
وهو مسّ لا يأتي إلا للمطَّهرين نفساً وليس للمتطهّرين بدناً فقط، فعلوم القرآن المكنونة لا تتكشّف للسارق والقاتل والزاني والمنتفع بها في أغراض الدنيا، وقد صيغت هذه الآية في إطار الربط بين الكرم والمكنون والطهر. فالكرم يعني العطاء، فإذا انقطع القرآن عن العطاء لم يكن كريماً، والعطاء يرتبط بتكشّف المكنون، فما كان متكشّفاً في السابق فهو موروث، وليس عطاءً جديداً يضفي على القرآن صفة الكرم، ثم إنّ هذا العطاء يكون لنفس طاهرة[82].
وليس للنفوس الطاهرة مواصفات (فوق طبيعية) كما يفترض البعض وإن تفاوتت درجاتها العبادية، إذ تشمل هذه النفوس أولئك الذين لا يعانون كثيراً مراتب الارتقاء الديني عبادة، وتشمل متوسطي الارتقاء، وأعظمهم عند الله هو السابق:(وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّـه بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ){ (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّـه ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ)[83].
إذًا، فالقرآن ممنهج بالاستخدام الإلهي لمفردات اللغة العربية على مستوى الاصطلاح الدقيق، منزّل على مستوى الحرف، وغاية ما نستطيع قوله إنّه ما كان من عنعنة وكشكشة في لغة بعض القبائل قرأت بها القرآن لا علاقة له بحرف التنزيل، وإنّما هي قراءات هم قرأوا بها بما يتيسّر في لسانهم؛ أما ما جاء من إعراب وتشكيل في عصر التدوين من بعد اللغة فحكمُه إلى المنهج المحيط بالشرعة [84].
لهذا يتطلّب العلم القرآني قاموساً (ألسنياً معرفياً) يستند في تحديد دلالات ألفاظ القرآن المنهجية والمعرفية إلى نظرية (العائد) المعرفي، أو المرجع، أو الوسيط، فهناك ثلاثة أمور في عملية توصيل دلالات المفردة. فهناك الكلمة، وهناك الأمر الذي تشير إليه، وهناك التصوّر العقلي المشكل عن هذا الأمر في الذهن وذلك خلافا للتصوّر التقليدي لفقه اللغة والمعاني. فخصائص اللغة غالباً ما تأتي مرتبطة بخصائص الأمة التي تتكلمها من زاوية الوسيط الذهني للتصوّر، فكلّ أمّة تتكلّم كما تفكر، ونحن نعلم بأنّ لغة القرآن هي الوسيط الذهني للتصوُّر، فكل أمة تتكلّم كما تفكّر ونحن نعلم بأنّ لغة القرآن لغة عربية وقد ورد المعنى بذلك كما في الآيات الكريمة (لساناً عربياً – حكماً عربياً)، ما يعني أنّ اللغة ليست مجرَّد كلمات دالَّة على مُسّمى دون وسيط مشكَّل للتصوّر..
العربية والمفارقة الهرمنيوطيقية
بوصفه لغة الوحي ينطوي لسان العرب على خاصِّية مفارقة، في مقام كونه كلاماً وحيانياً. ولذا من غير الجائز التعامل مع العربية في مثل هذا المقام بالذات كلغة مثل سائر اللغات.
لقد نزل القرآن الكريم لفظاً ومعنى باللسان العربي. وهناك عدد من الآيات يبيَّن ذلك، منها: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)[85]. (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ علَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِين)[86](وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا)[87].
فالقرآن الكريم أنزل باللّسان العربي. فكان نزوله أعظم تحوّل تاريخيّ في اللّغة العربية وآدابها ومعجزاتها الكبرى في كلّ موضوع من المواضيع التي حفل بها. فلقد كان نزوله بداية لانطلاقة اللغة العربية انطلاقه كبرى من إطارها المحدود في الجزيرة العربية إلى الانتشار على صعيد عالمي. فالقرآن للناس كافة، وخطابه للعالمين.
على هذا التخصيص شغل موضوع نقل القرآن الكريم إلى اللغات الأجنبية حيّزاً وازناً من تفكير الهيئات الدينية الإسلامية كما عالجه رجال الفقه والكلام واللغة منذ أقدم العصور.
وفيما كانت المناقشات والمطارحات حول هذا الموضوع تحتدم حيناً، وتفتر أحياناً، كان من لا ينطقون العربية قد تعلّموا هذه اللغة ونقلوا القرآن الكريم إلى لغاتهم أو نقلوه إلى لغاتهم عن ترجمات أخرى من دون الرجوع إلى أصله العربي.
ويستدلّ من البحث عن مواقف الكثيرين من الفقهاء والتيارات الكلامية وأنّهم لم يجيزوا ترجمة القرآن. فقد اجمعوا على استحالة ترجمة القرآن بمعانيه الأصلية ومعانيه التي اشتمل عليها.
ففي معرض الكلام عن الميّزات البلاغيّة للقرآن الكريم يرى بعض هؤلاء من المعاصرين: «أنّ نقل الخواص البلاغية العربية إلى ما يقابلها في اللغات الأخرى، على فرض العثور عليه كلّه لا يستتبع الدرجة البلاغية في تلك اللّغة. والتصرّف باختيار الأساليب البلاغية المناسبة للّغة الأخرى قد يحصل بلاغة، ولكنّها تنسب لصائغ الترجمة، ومحال بالتالي أن يصل إلى حد يعجز البشر، كيف وهذا الصوغ صوغه وهو من البشر؟ وإذا يكون الإعجاز الذي به كان القرآن آية فائتاً لا محالة في الترجمة».
يكاد ابن حزم الحنبلي يقول إنّ من قرأ أم القرآن أو شيئاً منها أو شيئاً من القرآن في صلاته مترجماً بغير العربية، أو بألفاظ عربية غير الألفاظ التي أنزل الله تعالى، عامداً، بطلت صلاته، وهو فاسق؛ لأن الله تعالى قال: (قرآناً عربياً) وغير العربي ليس عربياً، فليس قرآناً، وإحالة عربية القرآن تحريف لكلام الله، وقد ذم الله تعالى من فعلوا ذلك[88].
أمّا في ما جاء حول حكم قراءة القرآن بالعجمية، فقد أفاض الزركشي في معالجة مسألة قراءة القرآن مترجماً فقال: «لا تجوز قراءته بالعجمية سواءً أحسن العربية أم لا، في الصلاة وخارجها. واستقرّ الإجماع على أنّه تجب قراءته على هيئته التي يتعلّق بها الإعجاز لنقص الترجمة عنه، وكذلك لنقص غيره من الألسن عن البيان الذي اختص به دون سائر الألسنة. وإذا لم تجزِ قراءته بالتفسير لكان التحدّي بنظمه، فأحرى أن لا تجوز الترجمة بلسان غيره.
ولما كان القرآن الكريم متعبّداً بلفظه إجماعاً، فلا مجال لأن تؤدّي التراجم المقصود الحقيقي لكلام الله، ولذلك قال الإمام الغزالي: «لا تقوم ترجمة الفاتحة مقامها، ولا تجزي الترجمة العاجز عن العربية. ولو أمكن لأيٍّ من البشر ترجمة القرآن ترجمة حرفيّة لخرج القرآن عن كونه معجزاً، وكان في إمكان البشر أن يأتي بمثله[89]…
في غمرة هذه المباحث والمطارحات التي بدأت منذ العصر الإسلامي الأول وما تزال مستمرّة خصوصاً حيال ما نشهد من تقدّم العلوم والمعارف وسهولة الترجمات، ناهيك باستخدام الكومبيوتر لهذه الغاية، فقد عالجت مشيخة الأزهر هذه الإشكالية منذ 1929. ثم توصّلت الى أن الغاية من ترجمة معاني القرآن هي تبسيط هذه المعاني وتفسيرها بدقة وترجمتها باعتبار أنّ القرآن لفظ عربي معجز وله معنى. أما نظمه العربي فلا سبيل إلى نقل خصائصه لأنّ هذا مستحيل استحالة قطعية «أما الخلاصة التي آلت إليها آراء هؤلاء المعاصرين حول هذه المسألة بالذات هي «أنّ ترجمة القرآن الكريم ترجمة تامّة تؤدّي من المعاني والتأثير ما تؤدّيه عبارته العربية، إنّما هي ضرب من المحال» والحجة في مشروعة هذا التقرير قائمة على أربعة مرتكزات:
ـ أنّ القرآن الكريم معجز لا يمكن ترجمته.
ـ أنّ ترجمة القرآن بحرفيته غير ميسورة.
ـ أنّ الترجمة تفقد القرآن روعة النظم العربي والطلاوة واللذة والتأثير في النفوس.
ـ أنّ في الترجمة ما يؤول بعض الألفاظ[90].
لعلّ ما ينتهي إليه الجمع الأعظم من العلماء المسلمين حيال ترجمة القرآن هو أنّ الحقيقة المتعالية حلّت في العبارات والحروف. وأنّ العبارة والحرف واللفظ هي الحقيقة نفسها لا صورة عنها. بل هي ليست شكلاً لمحتوى، أو إلباساً لفظياً لمقاصد الوحي. فالحرف حقيقة ومعنى لا مجرّد لفظ عارض على المعنى. واذن فاللفظ عين التعبُّد، به يتّصل العابد بالمعبود على حقيقة العبادة؛ لذلك كانت الصلاة وقفاً على لغة القرآن. وعلى هذه النشأة يصير مآل الترجمة معرفة بالنص من الدرجة الثانية، أي أنّها نقل لسطوح الأحرف لا تظهير لمقصد القائل ذاته…..
بين تأويل النقل الترجمي وتأويل التدبُّر لقاء وافتراق في آن. لقاء حول الكلام نفسه وافتراق في فهم الكلام نفسه. أي حقيقة المقصد الإلهي من القول المنزَّل. فإذا كان التأويل كمفهوم كلي يعني حمل الكلام على غير المعنى الذي وضع له، فالنقل الترجمي يبتدئ من اللفظ وينتهي في اللفظ، وبذلك يفارق طبقات المعنى التي يختزنها النص القدسي. أما التأويل المتدبِّر فهو الذي يمضي إلى ما لا يتناهى في استبصار معاني الآيات ومقاصدها. وبذلك يتعذَّر على المؤوِّل الوصول إلى مطابقة قصد المتكلم مطابقة تامّة. وما ذاك إلا لأن لكلّ مؤوِّل تأويله وفهمه الخاصَّين به.
أما الراسخون فلزموا التوجيه الإلهي لمّا قيَّدوا تأويلهم كلامه تعالى بعلمه. كما جاء في الآية (هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّـه الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَاب)[91] ومعنى هذا أنّهم لرسوخهم في العلم آمنوا، وسلّموا بالمحكم والمتشابه منه…
[1]*ـ مفكِّر وباحث في الفلسفة والإلهيات ـ لبنان.
[2]– غلام حسين الديناني، العقل والعشق الإلهي، دراسة ضمن كتاب: «المعرفة الدينية، جدلية العقل والشهود» دار المعارف الحكمية، بيروت – 2011 – ص 98.
[3] – سورة طه، الآية 114.
[4]– انظر: الزبيدي، تاج العروس، ج 8، ص 211.
[5]– محمد هادي معرفت، التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب، ج 1، ص 116.
[6]– المصدر نفسه.
[7]– سورة الإسراء، الآية 29.
[8]– محمد هادي معرفت، تاريخ القرآن: 184؛ التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب 118:1.
[9]– محمد هادي، معرفت، تاريخ القرآن – التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب، م.س، ص 185.
[10]– محمد عبد العظيم الزرقاني: مناهل العرفان في علوم القرآن، راجعه وضبطه وعلّق عليه محمد علي قطب ويوسف الشيخ محمد، المكتبة العصرية، صيدا – بيروت، 2001، ص 102.
[11]– محمد عبد العظيم الزرقاني، مناهل العرفان في علوم القرآن، م.س.
[12]– مصدر سبق ذكره – ص 104.
[13]– انظر: عبد الرحمن، طه: فقه الفلسفة – الفلسفة والترجمة، ط2، بيروت- الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، 2000، ص 62.
[14]– م ن، ص 105.
[15]– عبد الرحمن، طه، فقه الفلسفة – الفلسفة والترجمة، م.س، ص 108.
[16]– م ن، ص 110.
[17]– الجاحظ: الحيوان، ج1، ص 76.
[18]– بنعبد العالي، عبد السلام: في الترجمة، لا ط، بيروت، دار الطليعة، 2001، ص 44.
[19]– Benjamin، A: Translation and the Nature of Philosophy، p.115.
[20] – Ipid.P.157.
[21]– Berman:l´épreuve de l´étranger، pp.21- 23.
[22]– المصدر نفسه ص 289.
[23]– راجع: عبد الرحمن ، طه، فقه الفلسفة – الفلسفة والترجمة. في قراءته لأفكار بيرمان، م.س، ص 123.
[24]– م ن، ص 124.
[25]– عبد الرحمن، طه، فقه الفلسفة – الفلسفة والترجمة، م.س، ص 124.
[26] – ابن فارس، أحمد: معجم مقاييس اللغة، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، قم المقدّسة، مكتب الإعلام الإسلامي، 1404هـ.ق، ج4، مادّة «فَسَرَ»، ص504.
[27] الطريحي، فخر الدين: مجمع البحرين، ط2، طهران، المكتبة المرتضويّة، مطبعة چاپخانهء طراوت، 1362هـ.ش، ج3، مادّة «فَسَرَ»، ص438.
[28]الطبرسي، الفضل بن الحسن: مجمع البيان في تفسير القرآن، تحقيق وتعليق: لجنة من العلماء والمحقّقين، ط1، بيروت، مؤسّسة الأعلمي، 1415هـ.ق/ 1995م، ج1، ص39.
[29] الزركشي، بدر الدين: البرهان في علوم القرآن، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، ط1، القاهرة، دار إحياء الكتب العربيّة، عيسى البابي الحلبي وشركاؤه، 1376هـ.ق/ 1957م، ج2، ص147.
[30]الزرقاني، عبد العظيم: مناهل العرفان في علوم القرآن، تحقيق: فوّاز أحمد زمرلي، ط1، بيروت، دار الكتاب العربيّ، 1415هـ.ق/ 1995م، ج2، ص6.
[31]معرفة، محمد هادي: التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب، ط2، تنقيح: قاسم النوري، ط2، مشهد المقدّسة، الجامعة الرضويّة للعلوم الإسلاميّة، 1425هـ.ق/ 1383هـ.ش، ج1، ص17-18.
[32]الطباطبائي، محمد حسين: الميزان في تفسير القرآن، لا.ط، قم المقدّسة، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين، لا.ت، ج1، ص4.
[33]– اتظر: الطباطبائي، محمد حسين: الميزان في تفسير القرآن، ج32، ص 49.
[34]– سورة البقرة، الآية 185.
[35]– معرفت، محمد هادي، تاريخ القرآن، م.س، ص 195 ـ 196.
[36]– معرفت، محمد هادي، تاريخ القرآن، م.س، ج1، ص 115.
[37]– بنعبد العالي، عبدالسلام، في الترجمة، م.س، ص43.
[38]– هو أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كُلاَّب القطان البصري من أبرز متكلِّمي البصره توفي في 855هـ. وقيل ان الحارث المحاسبي أخذ عنه علم النظر والجدل وقد اشتهر بردوده الكلامية على الجهمية والمعتزلة في يختص بعقيدة التوحيد.
[39]– معرفت، محمد هادي، تاريخ القرآن، م.س، ص 185 ـ 186؛ معرفت، محمد هادي، التفسير والمفسِّرون في ثوبه القشيب، م.س، ج1، ص 121 ـ 127.
[40]– معرفت، محمد هادي، التفسير والمفسِّرون في ثوبه القشيب، م.س، ج 1، ص 127.
[41]– معرفت، محمد هادي ، تاريخ القرآن، م.س، ص 187.
[42]– انظر: الجصاص، أحمد بن علي: مختصر اختلاف العلماء، ج1، ص 260؛ الفخر الرازي: التفسير الكبير، ج 1، ص 171.
[43]– انظر: الزركشي: مناهل العرفان، ج 2، ص 115؛ السرخسي: المبسوط، ج 1، ص 37.
[44]– انظر: النجفي: جواهر الكلام، ج 9، ص 299.
[45]– معرفت محمد هادي، تاريخ القرآن، م.س، ص 186؛ معرفت، محمد هادي، التفسير والمفسِّرون في ثوبه القشيب ، م.س، ج1، ص 123 ـ 125.
[46]– انظر: معرفت، محمد هادي، التفسير والمفسِّرون في ثوبه القشيب، م.س، ج 1، ص 127.
[47]– معرفت، محمد هادي، تاريخ القرآن، م.س، ص 187؛ التفسير والمفسِّرون في ثوبه القشيب، م.س، ج1، ص 127.
[48]– 1ـ تجب الإحاطة الدقيقة بمحتوى كلّ آيةٍ، مع استيعاب دلالاتها اللفظية ـ سواء في ذلك الدلالات الأصلية أو التبعية، والعمل على تفسير الدلالات العقلية للآية التي تحتاج إلى التفسير.
2ـ يجب تظهير المعنى والمفهوم الكامل لنصّ الآية في الترجمة، من خلال اختيار أقرب المعاني وأنسب الألفاظ في اللغة المنقول إليها، وإذا مسَّتْ الحاجة إلى إضافة لفظ أو عبارة وجب وضعها ضمن معقوفتين؛ تمييزاً لها.
3ـ يجب أن تتمّ ترجمة القرآن تحت إشراف لجنةٍ علميّة مختصّة، ويكون أعضاؤها من المختصّين في مختلف العلوم الدينية؛ كي تسلم الترجمة من الخطأ ومجانبة الصواب.
4ـ يجب الحفاظ على صيغة الحروف المقطَّعة، وعدم ترجمة الكلمات المتشابهة، من قبيل: {البرهان}، و{دابّة}، و{الأعراف}، وإبقاؤها على ما هي عليه من الإبهام، والإحجام عن شرحها وبيانها.
5ـ من الضروري عدم توظيف المصطلحات العلمية والفنية في الترجمة؛ لأن الترجمة إنّما يراد منها أن تكون نافعة لعامة الناس، والمصطلحات الخاصة لا تفي بهذه الغاية. كما يجب الإحجام عن ذكر الآراء المختلفة في عملية الترجمة.
6ـ من الأجدر أن تتمّ الترجمة على يد مجموعة من الأشخاص، وأن لا تكون عملاً منفرداً، حتّى يمكن لكلّ شخصٍ من هذه المجموعة أن يختار الترجمة المناسبة لتخصُّصه، والوصول بذلك إلى نقاط مشتركة بين الجميع، كلٌّ بحَسَب اختصاصه.
7ـ من الضروري أن يتمّ ضمّ نصّ الترجمة إلى نصّ الآيات القرآنية المترجمة؛ كي يتسنّى للقارئ إذا حصل له شكٌّ في المعنى أن يجري مقارنة بين النصّين، ولا يتوهّم أنّ الترجمة يمكنها أن تكون بديلاً عن القرآن من جميع الجهات.
[49]– أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني: إعجاز القرآن، تحقيق أحمد صقر، لا ط، القاهرة، دار المعارف، 1963، ص 17.
[50]– م ن، ص 25.
[51] في ما يتصل بإمكان فهم آيات الوحي، نجدنا حيال رؤى واجتهادات شتى منها:
أولاً- إنّ فهم آيات القرآن وقفٌ على «من خُوطِب به» وأما غيرهم فلا يقدرون على فهمها.
ثانياً – تأسيساً على تقسيم الآيات إلى صنفين: متشابهة ومحكمة، يرى مفسّرون أنّ الآيات المحكمة قابلة للفهم لجميع المسلمين، أما الآيات المتشابهة فهي عند أصحاب هذا المنحى، ليست كالمحكمة في يسر فهمها. ذلك بأنّها تُحمل على مراتب أهمها: أ – الآيات المتيسّر فهمها للجميع – ب- الآيات التي يتعذّر على الجميع فهمها.
ثالثاً –أنّ جميع الآيات، محكمها ومتشابهها، ممكنة الفهم كما يعتقد كثيرون، ولا توجد أية قرآنية يستعصي فهمها. ومما يبينه علماء التفسير من المعاصرين أنّه «ليس بين آيات القرآن (وهي بضعة آلاف آية) آية واحدة ذات إغلاق وتعقيد في مفهومها، بحيث يتحيَّر الذهن في فهم معناها. القرآنية العربية أفصح الكلام، ومن شرط الفصاحة خلوّ الكلام عن الإغلاق والتعقيد، حتى أنّ الآيات المعدودة من متشابه القرآن كالآيات المنسوخة، وغيرها، هي في غاية الوضوح من جهة المفهوم».
وقد استندت هذه الفئة، إثباتاً لرأيها، إلى العقل والنقل، ورأت أنّ عدم فهم القرآن يتناقض وصفاته، ومنها كونه «هدى» و«نور» و«مبين»، وعدت الآية الآتية بأنّها تبرهن إمكانية فهم جميع الآيات» Nفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآن وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْد غَيْر اللّـه لَوَجَدُوا فِيهِ اِخْتِلَافًا كَثِيرًاM.
فيقسّم كثير من المفسّرين والباحثين فهم القرآن، الى نوعين: فهم عادي عرفي، وفهم عالمٌ واعٍ. ويرى هؤلاء أنّ بعض المعارف الإلهية التي نزلت على قلب النبيn في قالب لفظي هي خارج نطاق الحس والتجربة، والمادة، ومن ثم فإنّ فهم عامة الناس لها لا يتجاوز الحالة السطحية المادية، بحيث يفهمون الآيات بما لا ينسجم مع الإرادة الإلهية. في مقابل هذه الكثرة ثمّة من يفهم الآيات وفق مبانٍ محدّدة، وشروط خاصة على سبيل المثال، هناك تباين كبير بين الفهمين في شآن الآية الكريمة Nيَدُ اللَّـهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْM والآيةNعَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىM، حيث أخذ المشبِّهة وبعض علماء التفسير بهذه الآية وأمثالها دون اهتمام وعناية بمرتكزات التفسير وشروطه، ودون الأخذ بالاعتبار القرائن المقامية والكلامية، سواء كانت هذه القرائن متصلة بالجملة، أم منفصلة عنها. لكن هناك الكثير من العلماء من يرد على هذه الحجة فيعتبر أن: «هذه القرائن ـ كالآية التي تفسّر الآية الأخرى ـ وهي ذات تأثير كبير في بلورة الظاهر، خصوصاً وأنّ الكلام الإلهي يصدُق بعضه بعضاً، ويسنُد بعضه بعضاً.
[52] – سورة الكهف، الآية 109.
[53] – سورة لقمان، الآية 27.
[54] – محيي الدين ابن عربي: الفتوحات المكّية، ج4، ص 197.
[55] – سورة محمد، الآية 24.
[56] – سورة النساء، الآية 82.
[57] – جابر، علي أمين: فلسفة التأويل عند صدر الدين الشيرازي، ط1، بيروت، مركز الحضارة لتنمية الفكر الاسلامي، 2014، ص 141 – 150.
[58] – سورة الكهف، الآية 109.
[59] – سورة الكهف، الآية 49.
[60] صدر الدين الشيرازي(ملا صدرا): كتاب مفاتيح الغيب، تعليق علي النور ومحمد خواجوي، لا ط، بيروت، مؤسسة التاريخ العربي، 1999، ص 153.
[61]– انظر: أبو عمرو الجاحظ: كتاب الحيوان، ج 1، ص 75 ـ 79.
[62]– انظر: ابن فرحون المالكي: الديباج المذهَّب، تحقيق محمد الأحمدي أبو النور ، لا ط، دار التراث للطبع والنشر ، ج1، ص 35.
[63]– انظر: الشاطبي، إبراهيم بن موسى اللخمي: الموافقات في أصول الشريعة، تحقيق عبد الله دراز – محمد عبد الله دراز، لاط، دار الكتب العلمية، 2004، ص 68.
[64]– الجاحظ، كتاب الحيوان، م.س، ج 1، ص 75 ـ 76.
[65]– م ن، ص 76.
[66]– الجاحظ، كتاب الحيوان، م.س، ص 77.
[67]– الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، م.س، ج 2، ص 64.
[68]– انظر: الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، م.س، ج2، ص 64 ـ 66.
[69]– سورة القصص، الآية 4.
[70]– الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، م.س، ج2، ص 68.
[71]– تفسير النص القرآني – المصدر نفسه – ص 67.
[72]– الزرقاني، محمد عبد العظيم: مناهل العرفان في علوم القرآن، تحقيق: فواز أحمد زمرلي، ط1، بيروت، دار الكتاب العربي، 1415هـ – 1995م، ص 120.
[73] – م ن، ص 126.
[74]– انظر: حاج حمد، محمد أبو القاسم: منهجية القرآن المعرفية، لا ط، بيروت، دار الهادي، 2003، ص 97.
[75]– سورة الواقعة، الآيات 75-80.
[76]– سورة الواقعة، الآيتان 75-76.
[77]– سورة النساء، الآية 43.
[78]– سورة الأنعام، الآية 7.
[79]– سورة الأعراف، الآية 201.
[80]– سورة آل عمران، لآية 120.
[81] الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج19، ص37.
[82]– الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، م.س.
[83]– سورة فاطر، الآيتان 31-32.
[84]– الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، م.س.
[85]– سورة يوسف، الآية 2.
[86]– سورة الشعراء، الآيات 193-194-195.
[87]– سورة الشورى، الآية 7.
[88]– ابن حزم: المحلّى، ج 3، ص 254.
[89]– الغزالي: الوجيز، ص 26-27.
[90]– راجع: البنداق، محمد صالح: المستشرقون وترجمة القرآن الكريم، ط1، بيروت، منشورات دار الآفاق الجديدة، 1980، ص 73.
[91]– سورة آل عمران، الآية 7.
________________
*محمود حيدر – مفكِّر وباحث لبناني في الفلسفة والإلهيات.