1
شُعور الإنسان بالغُربةِ عن ذاته، والاغترابِ في بيئته، يؤدِّي إلى صناعةِ علاقات اجتماعية هَشَّة، وتكوينِ روابط وهمية بين الذات والموضوع، وتكريسِ التناقض بين الكِيان الإنساني والبيئة الاجتماعية. وهذه الفوضى العارمة مِن شأنها تشتيت الجُهود الإبداعية، وإضاعة الوقت في معارك جانبية. وبما أن الإنسانَ في سِباق معَ الزمن، وواقعٌ تحت ضغط العناصر الحياتية والأدواتِ الوظيفية والنماذجِ التفسيرية، فلا بُد له مِن إيجاد صيغة اجتماعية قائمة على المُوازَنة بين الأضداد، والتَّوفيق بين التناقضات، وترسيخ نُقْطة مركزية في مُنتصف الطريق، لأن الأحداث الاجتماعية لا تسير وَفْقَ أهواء الإنسان، ومُكوِّنات الحياة لا تتحدَّد حَسَب رغباته. وفي أحيان كثيرة، يجد الإنسانُ نَفْسَه في قلب الأزمات والكوارث، وتُفْرَض عليه الصراعات مِن كُل الجهات، ويتعرَّض لمُفاجآت خطيرة تُهدِّد شرعيةَ وُجودَه ومشروعيةَ أحلامه، ويُضْطَر إلى التعامل معَ أشخاص يُبغِضهم ولا يُطيقهم، وعَلَيه أن يُحافظ على توازنه الروحي واتِّزانه المادي في هذه الدَّوامة المُتكرِّرة. والذكاءُ الاجتماعي يتجلَّى في قُدرة الإنسان على التعامل مع الضغوطات دُون تغيير مبادئه، والتأقلم مع الظروف الجديدة دون تغيير جِلْده. وهذا الأمرُ في غاية الصعوبة، فلا وصفة جاهزة له، ولا تعليمات مُسبقة لتنفيذه، وكُل إنسان عليه أن يَقتلع شَوْكَه بِيَدَيْه، ويَخترع طَوْقَ النَّجاة، ويَكتشف وسائلَ الحماية، ولا يَنتظر أحدًا لمُساعدته، والحاجةُ أُم الاختراع.
2
غُربةُ الإنسان الحقيقية غَير مَحصورة في نِطاق الزمان وحَيِّز المكان، ولكنها غُربة الجسد عن الروح، والتعارض بين العاطفة والعقل،والصراع بين القلب والذكريات، والصِّدام بين الأشواق الروحية والنَّزعات المادية. وهذا التَّشَظِّي في داخل الكِيان الإنساني يصنع زمنًا للوَهْم، ويُؤَسِّس مكانًا للسَّراب. وهكذا تَصِير هُوِيَّةُ الإنسانِ هَاوِيَتَه، ويَفقد إحساسَه بالزمان والمكان، لأنهما صارا في عَالَمه الشخصي خَيَالًا بلا حقيقة، وعَرَضًا بلا جوهر. وغيابُ الزمان يعني أن الإنسان صار بلا امتداد تاريخي، وغيابُ المكان يعني أن الإنسان صار بلا حاضنة جُغرافية. وهذا الغِيابُ المُزْدَوَجُ يَصنع وَعْيًا زائفًا، وسُلطةً معرفية مَكسورة، ويُكرِّس الانقسامَ بين الإحساس بالذات وصناعة الذات، أي إنَّ الوعي يَنفصل عن الإرادة، وبالتالي يُصبح الإنسانُ عاجزًا عَن تحويل الفراغ إلى منظومة فكرية بَنَّاءة، وخائفًا مِن تحويل العَدَم إلى نسق حضاري مُتكامل. ولا يُمكن للإنسان أن يتفوَّق على ذاته، ويُعيد بناءَ صُورتها في الظواهر الثقافية، إلا بالسيطرة على الفراغ والعدم،والانتصار عليهما، وتحويلهما إلى فِكر وحضارة.
3
الإشكاليةُ في طبيعة التفاعلات الاجتماعية الرمزية هي عدم التفريق بين الإنسانية الحقيقية التي هي شَرط لوُجود الإنسان في مركز العلاقات الاجتماعية وأساسِ الظواهر الثقافية، وبين الإنسانية المُصْطَنَعَة التي يتم توظيفها لتحقيق مصالح شخصية وتلميع الصُّورة وتحسين السُّمعة. وإذا استمرَّ الإنسانُ في ارتداء الأقنعة، فقد يَخسر وَجْهَه الحقيقي، ويَنسى شخصيته الأصلية، ولا يَقْدِر على استعادتهما، وهذا يعني ضياع الإنسان في ضجيج المُدُن القاسي، وعدم قُدرته على المُقاوَمة بسبب خسارة صَوته الخاص. وبالتالي، لم يَعُدْ يَملِك رسالةً ورؤيةً في إفرازات الحياة وتفاصيل المجتمع. وإذا تَكَرَّسَ هذا الاغترابُ شُعوريًّا وواقعيًّا، قَضَى على العلاقات الاجتماعية. وإذا خبَّأ الإنسانُ مِفتاحَ بَيته في كَومة مَفاتيح، فقد يُضيع مِفتاحَ بَيته إلى الأبد، ويُصبح كالذي يَبحث عن إبرة في كَومة قَش. وكذلك إذا خبَّأ شخصيته في شخصيات مُتعدِّدة، ودَفَنَ وَجْهَه في أقنعة مُتنوِّعة، فقد يُضيع نَفْسَه إلى الأبد. ولا تُوجد دائمًا فُرصة ثانية للتَّعويض، ففي أحيان كثيرة، تكون الفُرصة الأُولَى هي الأخيرة. ولا يَكفي أن يكون الإنسانُ ذكيًّا من ناحية اجتماعية، لأنَّ العِبرة تتجلَّى في طريقة استخدام هذا الذكاء، وتوظيفه لتحقيق المنفعة الفردية والمصلحة العامَّة معًا، والعاجز عن مَنفعة نَفْسِه، لن يَستطيع تحقيق مصلحة غَيْرِه، لأن فاقد الشَّيء لا يُعطيه.