كثير من يعتقد أنَّ إعادة النظر في القضايا هي إلغاء التاريخ، وكثير من يعتقد أن المراجعة هي التراجع، فإعادة النظر في الأشياء التي تحدث أمامنا أو التي نقوم بها عن غير تفكير جِدّي أو دراسة جِدِيَّة، هي نابعة من غياب المنهج، فلكل واحد منا لابد أن يكون له في حياته منهج يسير عليه، سواء كان شخص عادي أو معنوي، وسواء كان في المسائل الإقتصاديَّة أو السياسيَّة، أو في مجال البحوث أو حتى في الحياة العاديَّة للإنسان، ففي الجانب السياسي فإنَّ إعادة النظر في الأحداث التاريخيَّة تمكِّن السياسيين ورجال الفكر من تصحيح الأخطاء التي وقعت في فترة من الفترات، بالاعتماد على منهجٍ تاريخي فكري، واستعادة سلطة الوعي المفقودة في لحظة تهوّر في رسم السياسات أو اتّخاذ قرارات سياسيَّة قد تُضَيِّعُ حقوق الناس أو تهدر دماءهم، وما الحروب الأهليَّة إلا نتاج التهوّر و”الإندفاعيَّة”، فبدلا من تحقيق أهدافها تفقد طريقة العبور نحو المستقبل.
كثير من الباحثين يربطون مشكلة المنهج بالإيديولوجيا، ويرون أنَّ الإيديولوجيَّة مرتبطة أيضا بمنطق التجربة والخطأ، و بذلك نجد بعض الأنظمة السياسيَّة أو حتى الاقتصاديَّة تنشغل بإيجاد حلول للمشكلات دون التفكير أو القدرة على التنبّؤ بالمشكلات التي يمكن أن تتولَّد عن المشكلات السابقة، فتظل تدور في حلقة مفرغة، قد تجعلها تابعة للأحداث لا صانعتها، وعاجزة عن تحويل مجراها والتحكّم في نتائجها، وبالتالي تكون غير قادرة على “التغيير”، مثلما نراه اليوم في الثورات الشعبيَّة، يقول أحد الباحثين إنَّ الثوري العربي كان عليه أن يحلِّل المعطيات الثوريَّة والوقوف على العوامل السلبيَّة التي تنخر قلب المجتمع ، سواء أكان مجتمعا ماديا أو مثاليا، لقد سعت بعض النظم السياسيَّة إلى البحث عن المجتمع المثالي، وأين يمكن العثور عليه، وهل يمكن الوصول إليه ، وماهو المنهج الذي ارتكز عليه هذا المجتمع حتى حقَّق مثاليته، أم أنَّ الحديث عن “المثاليَّة” ضرب من الخيال، وأن الدعوة إليها هي دعوة شعراء رومانسيين لا يستطيعون تطوير الواقع الفاسد أو تغييره، في ظلّ تنامي العنف والتطرّف، والغطرسة السياسيَّة والعسكريَّة والنزاعات المسلَّحة، التي جعلت جيل ما بعد النكبة يجهض كل إمكانياته ويفقد معنوياته فاستسلم إلى الواقع .
أمَّا في الجانب الاقتصادي نجد كثير من المشاريع التي تطلقها المؤسَّسات تكون نهايتها الفشل و بالتالي تخسر الدولة أموالا ضخمة صرفت على هذه المشاريع، فقد نقرأ مثلا أخبار تعكس ما يتوجَّب عليه أن يكون في الواقع، فأن يصرِّح مسؤول مثلا: أن سنة 2021 ستكون سنة مناطق ظلّ بامتياز، هذا يعني أن الأزمة قد تتعقَّد أكثر في ظل انتشار جائحة كوفيد 19 وظهور سلالات جديدة، هذه الأخيرة التي تنتشر بسهول حسب الخبراء، وبالتالي سيكون تراجع في التنمية، ومناطق الظلّ تعني وجود تمزّق في التنمية واستمرارها، لأنّ مناطق الظلّ هي المناطق التي يصعب الوصول إليها وهي تتعلَّق بساكنة الجبال، أو المناطق الصحراويَّة المعزولة التي يصعب الوصول إليها أيضا وتحتاج إلى إمكانيات ماديَّة كبيرة ( عتاد نقل متطور)، ولا تعني الأحياء القديمة، الهشَّة، المتواجدة بالمدن الكبرى التي ينبغي أن تكون في مستوى المدن المتطوّرة، كذلك الشأن بالنسبة للحياة الاجتماعيَّة، كثير من العلاقات الزوجيَّة مثلا تنتهي بالطلاق أو الانفصال؛ لأن التأسيس لها لم يكن مبني على منهج سليم، كما يوجد خلل في المنظومة الاجتماعيَّة التي أدَّت إلى حدوث اضطرابات في الشخصيَّة، هذه المنظومة التي كانت سببا في عدم القدرة على التعايش مع الآخر.
نفس الشيء بالنسبة للمنهج التربوي، فعدم اعتماد مناهج تربويَّة تتماشى وخصوصيَّة المجتمع عادة ما تؤول إلى الفشل، فكثير من المناهج الغربيَّة أدخلت على المنظومة التربويَّة العربيَّة، فحدثت صراعات واضطرابات كادت أن تؤدِّي إلى حروب، والتاريخ يكشف كيف عملت الدول الإستعماريَّة على سلب الشعوب إرادتها و إبعادها عن موروثها الثقافي عن طريق المنظومة التربويَّة، وفرض الاختلاط بين الجنسين داخل القسم، فيفقد بذلك الطلبة تركزيهم، بل قد يتَّسع الأمر بهم إلى ربط علاقات عاطفيَّة وهم في سنة المراهقة، في ظلّ لتطور التكنولوجي وظهور الفيسبوك، الذي أدَّى إلى انتشار الجريمة الإلكترونيَّة، فهذه المنظومة ( المنهج) كما يقول خبراء لها مداخل وعمليات تحويل ومخارج، وتتأثَّر تاثيرا مباشرا بمناخ و ثقافة المؤسّسة، فمن المنطق إذن أن يخضع فكر الإنسان إلى التحليل والمراجعة ويكون تفكيره داخل الجماعة عامل بناء وإنماء لا عامل هدم ودمار، المشكل هو أن المسؤولين اعتمدوا على التنمية الماديَّة، وأهملوا العامل البشري، أي بناء وتكوين العنصر البشري، وهي مسؤوليَّة كل واحد تجاه المجتمع الذي يعيش فيه من أجل تغيير الواقع الإنساني، ويبق السؤال هو : كيف نخلق منظومة ( سياسيَّة، اقتصاديَّة، اجتماعيَّة، تربويَّة ثقافيَّة فكريَّة ) تكون لها القدرة على التعايش مع الآخر؟
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.