“دوائر التحريم؛ السلطة،الجسد، المقدَّس”

image_pdf

صدر عن دار مصر العربيَّة في القاهرة كتاب يتَّسم بالجرأة في موضوعه والجرأة في تناول الموضوع، وهو من تأليف الدكتور حسن حماد أستاذ الفلسفة في جامعة الزقازيق، وعنوان الكتاب “دوائر التحريم؛ السلطة،الجسد، المقدَّس” ويرى المؤلِّف أن دوائر التحريم في حياتنا كثيرة ومتعدِّدة ومتنوِّعة ومتحرِّكة، تتَّسع تارة وتضيق تارة أخرى، تتقاطع وتتداخل وتتماس مع بعضها بصورة دائمة، وربما تتطابق أحياناً.

 

ودوائر التحريم التي نتناولها في هذه الدراسة دوائر ثلاث هي على التوالي: دائرة السلطة ودائرة الجسد ودائرة المقدَّس. والدوائر الثلاث متشابكة فيما بينها بصورة يصعب مناقشة أي منها بمعزل عن الآخر، فهناك علاقات سريَّة وخفيَّة ومبهمة وغامضة تتمّ فيمت بين الدوائر الثلاث فالدائرة الأولى وهي السلطة (خاصَّة السلطة بمعناها السياسي) إذا ما كانت سلطة دنيويَّة ستبدو سلطة مدنَّسة من وجهة نظرٍ لاهوتيَّة، أما إذا امتزجت بالدين ستصبح سلطة مقدَّسة ومطهرة لأنها ستحكم حينئذٍ باسم الإله. أمَّا الجسد بشكل عام فينتمي إلى دائرة المدنَّس إلا أنه قد يكتسب صفات المقدَّس بالوضوء والصلاة والنظافة والغُسل في حالة الموت، أما الدائرة الأخيرة وهي المقدَّس فظاهرياً تبدو مبرأة تماماً من كل ما ينتمي إلى دائرة المدنّسات سواء شملت هذه الدائرة الأخيرة ما هو إنساني أو ما هو نجس، ولكن التحليل الأنثربولوجي لفكرة المقدَّس سوف يكتشف لنا أن دائرة المقدَّس ليس منفصلة عن الدنيوي أو المدنَّس. هذا الطابع الجدلي لدوائر التحريم يتكشَّف بصورة أوضح إذا ما بحثنا عن الجذر اللغوي لكلمة المحرم ومشتقاتها في اللغات المختلفة: كلمة المحرَّم في اللغة الإنجليزيَّة هي Taboo، وهي كلمة بولينيزيَّة الأصل Tabu. تعنى المحرَّم والمقدَّس والملعون، وهي أيضاً كلمة مرادفة للكلمة اللاتينيَّة القديمة Sacer. والكلمتان تشيران إلى ما يصيب بالدنس من خلال الاتَّصال ببعض الأشخاص أو الأشياء، كما أنها تدلّ بالمثل على كل ما يتَّصف بالألوهيَّة أو التحريم.

إنَّ الفقهاء وأتباعهم على مدار التاريخ الإسلامي وحتى كتابة هذه السطور قد اغتصبوا هذه السلطة المطلقة لله ونسبوها لأنفسهم فيما يعرف بالفتاوى التي اتّخذت لدى المسلمين المعاصرين طابعاً فوضوياً وعبثياً فأصبح بوسع أي أحد أن يمارس وظيفة الإفتاء بمجرد أن ينضمّ إلى أحد الجماعات الإسلاميَّة أو ينتسب إلى مؤسَّسة الأزهر، وبذلك اتَّسعت دوائر التحريم لتنال كافة التفاصيل الصغيرة في حياة المسلم بدءاً من الأفكار والأخيلة ومروراً بالكلمات والألفاظ ووصولاً إلى الأفعال والسلوكيَّات التي يمارسها في حياته اليوميَّة، ومن ثم فقد أُضيفت محرّمات جديدة إلى المحرّمات المذكورة في القرآن والتابعين ومعظمها من صنع شيوخ الفتاوى والتحريم. ومن ابتكار خيالاتهم المريضة!!. فمن هذه الفتاوى تحريم الأغاني والأفلام والمسرحيات وكافة أنواع الفنون التشكيليَّة بوصفها وسائل تحرِّض على الفحشاء وأدوات للإلهاء والانشغال عن الأمور الدنيويَّة.

ومن التحريمات المألوفة لدى المتشدّدين ظهور المرأة في المجال العام، ذلك أنهم يحرِّمون كُلّ ما يمتّ للمرأة بصلة: صوتها، رائحتها، وجهها، جسدها، ولذلك ينبغي توخَّي الدقَّة في عزلها وحجبها وتصميتها بوصفها عورة ينبغي سترها!

أيضاً من التحريمات الجديدة تحريم الديموقراطيَّة والعلمانيَّة والاشتراكيَّة بوصفها بدعاً صليبيَّة كافرة. ولكن لأن الضرورات تبيح المحظورات، لذلك فلا مانع لدى الأصولي من أن يستخدم المسلمون الديموقراطيَّة كمطيَّة للوصول إلى السلطة، ثم بعد ذلك يتمّ التخلّص منها إلى الأبد.

ويذهب حسن حماد إلى أن دوائر التحريم تتَّسع لدى المتطرِّفين الجدد لتصبح مجرد الفكرة أو الخاطرة وسوسة من وساوس الشيطان، وتصبح النظرة سهماً من سهام إبليس، ولا تقل في جرمها وخطيئتها عن الزنى الفعلي، أما الكلمة فلها قوَّة الفعل، وبها يكون الإيمان، وبها يكون الزواج، وبها يحدث الطلاق، ففي ثقافة التحريم تُصبح الكلمات بديلاً سحرياً للواقع، فالكلمة هي التي تقرِّر مصير الإنسان وتحدِّد حياته ووجوده، أمَّا الكلمة المقدَّسة فلها من القوة والجبروت والسلطان ما لا يمكن تخيله أو إدراكه.

كما يذكر المؤلِّف أن نذكر هنا أن دوائر  التحريم ليست قاصرة فحسب على السلطة الدينيَّة، ربما تكون السلطة الدينيَّة هي أكثر السلطات قدرة على تعزيز المشاعر التحريميَّة، لأن المعتقدات الدينيَّة إذ تنفذ إلى قلب وأعماق الإنسان تتحوَّل إلى سلطة باطنيَّة مطلقة لا يجب مناقشتها ولا يجوز فهمها، أما السلطات الأخرى التي تنافس السلطة الدينيَّة في فرض تحريماتها ومحظوراتها. فيأتي في مقدّمتها السلطة السياسيَّة بكل مؤسَّساتها وأجهزتها وأدواتها إلى جانب السلطة الاجتماعيَّة الممثَّلة في العرف والتقاليد، وسلطة الرأي العام والسائد والمألوف. إن هذه السلطات كثيراً ما تدخل في منافسة وصراع مع السلطة الدينيَّة من أجل فرض نموذجها ومثالها التحريمي على الأفراد والجماعات. ولكن عندما تكون السلطة السياسيَّة والسلطات الثقافيَّة والتربويَّة التابعة لها في حالة من الضعف والهشاشة والرخاوة، هنا تصبح المؤسَّسة الدينيَّة لها الكلمة العليا في حياة الإنسان، فهناك علاقة طرديَّة ما بين القمع السياسي والتشدُّد الديني، فكلما تقلَّصت مساحة الحريَّة اتَّسعت دائرة الإرهاب والتطرّف الديني، وبالتالي تتَّسع دوائر التحريم بحيث يصبح التفكير جريمة تساوى التكفير، ويصبح كل جديد أو تجديد بدعة وضلالة ينبغي قذفها في النار!!

جديدنا