اجتماعالتنويريسلايدركورونا

الحوكمة الصحيَّة العامَّة.. بين جدل الاقتصاد وفشل القيادة

جائحة الفشل:

يتملَّكني اليقين أنَّ جائحة الفيروس التاجي “كورونا” كشفت عن فشل هائل في فهمنا لطبيعة الكثير من الأشياء، التي اعتقدنا زمناً طويلاً أننا أحكمنا السيطرة عليها بما حصلناه من معرفة، وما طوّرناه من علوم، وأبانت محدوديَّة قدراتنا الإنسانيَّة الجمعيَّة على مجابهة ما يرتبط بمصائرنا من تهديدات وتحدّيات. فقد انتبهنا فجأة إلى فداحة تصوّرنا لطبيعة الاقتصاد، وإهمال النظريَّة الرأسماليَّة للقطاع العام، وقصورها في قيادة الصحَّة العامَّة، وأن كل ما نملك لا يستطيع أن يحمينا من جائحة فيروس لا يُرى بالعين المجرَّدة، ولا نُدرك حقيقته، وكل ما قلناه عنه يغلِّفه الشكّ ويتجنّبه القطع باليقين. ورغم أنَّ مسؤولي الصحَّة العامة يقومون بدراسة الأوبئة منذ مئات السنين، ولكل دولة ميزانيَّة مخصَّصة للصحَّة العامَّة، إلا أنه، بعد كل هذا، مات المزيد من الناس بسبب العدوى من أمراض مثل الطاعون، أو الأنفلونزا الإسبانيَّة، أكثر من الذين ماتوا الحرب. وكان الخبراء يبحثون من خلال البيانات، غالباً بمساعدة أجهزة الكمبيوتر الفائقة السرعة، للعثور على علاجات، أو لقاحات للأمراض المعدية. وعلى الرغم من جميع الموارد الموجودة تحت تصرّفهم، فإنهم يقولون الآن أن علاج الفيروس التاجي على بعد أشهر، وأنَّ لقاحاً يتمّ اختباره بالكامل بعد التجارب السريريَّة، ربما بعد عام ونصف.

وتكاثفت الأسئلة المتعطِّشة للإجابات في أذهاننا: ألم يروا شيئاً كهذا قادماً على الإطلاق؟ ولماذا لا يستطيع المسؤولون عن المراقبة والتخطيط والعمل على منع الكوارث من تفادي الأزمة؟ وإذا كانت الإجابة المختصرة هي أنه، كما هو الحال في كل أزمة صحيَّة عالميَّة كبرى في الثلاثين عاماً الماضية، افتقدت القيادات روح المبادأة والمبادرة والقدرة على الاستشراف. ففي حين أنَّ الأطبّاء والممرِّضات، وغيرهم من العاملين الطبيين، في الخطوط الأماميَّة للمواجهة ضدّ الفيروس التاجي، ويخاطرون بحياتهم، فإنَّ الأشخاص الذين تتمثَّل مهمّتهم في المراقبة والتحضير والتخطيط والتنفيذ لاتِّخاذ إجراءات لمنع المصائب، إمَّا أن يكونوا نائمين على عجلة القيادة، أو لا يأخذون مسؤولياتهم على محمل الجدّ، بما فيه الكفاية.

أولويات الاقتصاد:

طَرَحْتُ على معالي الدكتور جواد العناني، رئيس الديوان الملكي الأردني الأسبق، والاقتصادي المعروف، سؤالاً تمحور حول أنَّ تفشي مرض كورونا قد كشف عن ظهور تناقضات كبيرة في منطق المصلحة الخاصَّة، التي سمحنا للسوق فقط أن يُنَظِمها، وكانت لها عواقب وخيمة، تجلَّت على وجه الخصوص في طريقة تعامل الدول الرأسماليَّة المتقدِّمة مع المرض، لعدم وجود سياسة صحيَّة واجتماعيَّة فعالة، وضعف استجابة القطاع الخاصّ للخطر، الذي شكَّلته الجائحة. وذلك ضمن الندوة التفاعليَّة حول “مستقبل الاقتصاد العربي: تصوّرات لما بعد جائحة كورونا”، التي نظَّمتها المنظَّمة العربيَّة للتنميَّة الإداريَّة، يوم الأربعاء 6 مايو 2020، وتشرَّفت بإدارتها من مقرّ المنظّمة بالقاهرة. وكان منطوق السؤال هو: هل ينبغي للتخطيط الاقتصادي العربي المستقبلي أن ينتبه أكثر لأهمّيَّة القطاع العام في الجوانب الحيويَّة، خاصَّة الصحيَّة والاجتماعيَّة، لاستدراك مثل هذا القصور؟

ولمعرفتي الوثيقة أنَّ الدكتور العناني يتَّفق مع هذا التوصيف، ويمتلك ناصية القول في قضايا الاقتصاد؛ معرفة وتجربة، تدريساً وممارسة، ركَّزت معه على موضوع القطاع العام والصحَّة، بعد أن رأينا كيف خذل القطاع الخاص دولاً متقدِّمة في أوربا وأمريكا، وظهر ضعفه في تلبية احتياجات الناس الصحيَّة الضروريَّة مع جائحة كرونا. فأشرت إلى أن مُنَظِّر الرأسماليَّة والقطاع الخاصّ الأشهر “آدم سميث” كانت لديه فكرة أثيرة عند معالجته للصعوبة، التي يواجهها البشر في محاولتهم أن يكونوا أذكياء وفعّالين وأخلاقيين. ففي “ثروة الأمم”، الذي صدر عام 1776، أكَّد سميث أنَّ الخباز يخبز الخبز ليس إحساناً منه تجاه الآخرين، ولكن من أجل مصلحته الذاتيَّة. وممَّا لا شكّ فيه أن الفوائد العامَّة يمكن أن تنتج عندما يسعى الناس إلى تحقيق ما هو أسهل؛ أي المصلحة الذاتيَّة. لكن العناني ذكرنا سريعاً أن آدم سميث استثنى “الصحَّة والتعليم” من “الخصخصة” الرأسماليَّة واختلالات قانون السوق.

لذلك، أعتقد أن جواد العناني يتّفق مع ديرك فيليبسن، أستاذ السياسة العامَّة والتاريخ في جامعة ديوك في ولاية كارولينا الشماليَّة بأمريكا، الذي يقول إنَّه يجب ألا يُسمح بعد الآن للمكاسب الخاصَّة باستبعاد الصالح العام، لأن منطق المصلحة الخاصة، الذي يُصِرُّ على أنه يجب علينا فقط “السماح للسوق بالتعامل معها”، أي الصحَّة، له عواقب خطيرة. فقد أدَّى عدم وجود سياسة صحيَّة واجتماعيَّة فعالة استجابة لتفشِّي مرض الفيروس التاجي إلى ظهور التناقضات بشكل كبير، خاصَّة في الولايات المتَّحدة. ففي جميع أنحاء العالم، يكافئ السوق الحرّ التنافس وتحديد المواقع والمرافق، لذلك أصبحت هذه المؤهّلات الأكثر جاذبيَّة، التي يمكن أن يتمتَّع بها الناس. أمَّا التعاطف، والتضامن، أو الاهتمام، بالصالح العامّ فيُحال إلى الأسرة، ودور العبادة، والمنظّمات المدنيَّة، والنشاط الطوعي المجتمعي. وفي الوقت نفسه، فإنَّ السوق والمكاسب الخاصَّة لا يمثِّلان الاستقرار الاجتماعي، أو الصحَّة، أو السعادة.

ونتيجة لذلك، نجد أن نظام السوق، من كيب تاون إلى واشنطن، قد استنفد المجال العام، لصالح القطاع الخاص، ولصالح المكاسب الخاصَّة؛ مثل، الصحَّة العامَّة، والتعليم العام، ووصول الجمهور إلى بيئة صحيَّة. ويقول فيليبسون إنَّ الجائحة كشفت عن مكوِّن غير منطقي آخر، وهو أنَّ الأشخاص، الذين يقومون بعمل أساس؛ مثل، رعاية المرضى، ونظافة القمامة، ويحضرون لنا الطعام، ويعملون على ضمان حصولنا على المياه والكهرباء، هم في الغالب أشخاص يكسبون أقل، ويعملون بدون فوائد ما بعد الخدمة، أو عقود مضمونة. ومن ناحية أخرى، فإنَّ أولئك الذين لا يملكون في كثير من الأحيان سوى القليل من المهارات المفيدة، التي يمكن تحديدها؛ مثل، المدراء وكبار التنفيذيين، لا يزالون هم الفائزون. وببساطة، يمكننا القول إنَّ نظام السوق المدفوع بالمصالح الخاصَّة لم يَحمِ أبداً، ولن يحمي الصحة العامة، ولا المسائل الأساسيَّة من الحريَّة والرفاهيَّة المجتمعيَّة.

مأساة القطاع الخاص:

ولو فكَّرنا في الأمر قليلاً، يمكننا أن نتساءل: ما الضرر إذا أغلقت الأجنحة التنفيذيَّة لشركات الأسهم الخاصَّة، بقانون الشركات، وشركات التسويق أثناء الحجر الصحي؟ فإنَّ الجواب سيكون، على الأرجح، لا شيء، رغم أن هؤلاء الناس هم الذين يكسبون الملايين؛ أحياناً في غضون ساعة، أكثر ممَّا يجني أختصاصيو الرعاية الصحيَّة، أو موظِّفو الحماية الاجتماعيَّة، في عام كامل. وقد أشار الكثيرون إلى عدم أخلاقيَّة النظام الاقتصادي بسبب الجشع والمكاسب، التي تركِّز على الذات، وعدم كفاءته، وقسوته، وقصر نظره، وخطره على كوكب الأرض والناس. لكن، قبل كل شيء، علينا الانتباه إلى أنَّ منطق المصلحة الذاتيَّة سطحي من حيث أنه لا يُدرك ما هو واضح. إذ إن كل إنجاز خاصّ ممكن فقط على أساس وجود المشاعات المزدهرة، التي تتمثَّل في المجتمع المستقرّ والبيئة الصحيَّة. فالرعاية الصحيَّة، والصرف الصحي، والكهرباء، والوصول المجاني إلى المعلومات عالية الجودة، هي الضامن للاستقرار والاستمرار.

بدلاً من ذلك، قد تُسمَّى مشكلتنا الحقيقيَّة بـ”مأساة القطاع الخاص”. فمن أوعية الغبار في ثلاثينيات القرن الماضي إلى أزمة المناخ المتصاعدة اليوم، ومن المعلومات الخاطئة عبر الإنترنت إلى البنية التحتيَّة الصحيَّة العامَّة الفاشلة، فإنَّ القطاع الخاص، الذي لا يشبع، هو ما يُفسد غالباً السلع المشتركة اللازمة لبقائنا والازدهار الجماعي. وإذا تساءلنا: من في هذا النظام، القائم على القطاع الخاص، يحاسب صناعة الوقود الأحفوري، الذي يدفعنا إلى حافة الانقراض؟ وماذا يحدث للأرض وقمم الجبال والمحيطات، التي دمَّرتها عمليات التعدين العنيفة لتحقيق مكاسب خاصَّة؟ وماذا سنفعل عندما تُدمّر الثروة الخاصَّة قيمنا الاجتماعيَّة في النهايَّة؟ ونحن لسنا في صدد الإجابة، لأنَّه في سوق الشركات، التي يسيطر عليها القطاع الخاص، يُعَدُّ عيباً قاتلاً في شخصيتها الاعتباريَّة إذا فقدت القدرة على النمو اليوم. وذلك بغض النظر عن مدى نموّها بالأمس، إذ يجب أن تستمرّ في فعل ذلك غداً، ثم بعد غد؛ وإلا ستنهار الآلات، وتتوقَّف الأرباح.

بالقطع سيشهد الناس، في أمريكا خاصَّة، أنه عندما تعود الشركات الخاصَّة للعمل، فإنها لا تُخضع نفسها للمساءلة أمام الجمهور دافع الضرائب، الذي أنقذها، كما حدث منذ عمليات الإنقاذ، التي أعقبت الأزمة الماليَّة عام 2008، إذ عادت الشركات، والتي تم إنقاذها، إلى حلب ثروات دافعي الضرائب بلا رحمة. ومن خلال التركيز على تبادلات السوق الخاصَّة على حساب الصالح الاجتماعي، اتَّخذ صناع السياسات والاقتصاديون فكرة، ربما هي جيدة في ظل ظروف محدّدة بوضوح ومحدودة للغاية، ولكنّها وسعت نطاقها لتصبح أيديولوجيَّة سامَّة وعمياء. إنَّ الاقتصاد جزء لا يتجزَّأ من مجتمع سليم مع خدمات عامَّة وظيفيَّة، وليس العكس. وقد حان الوقت لتأكيد ما هو منطقي ومقبول، وهو أنه بدون جمهور قوي لا يمكن أن يكون هناك قطاع خاص، لأنَّ صحَّة الفرد تعتمد على الصحَّة العامَّة، مثلما تعتمد حريَّة الفرد على الحريَّة الاجتماعيَّة. ويمكن أن تكون لحظة الألم والانهيار هذه بمثابة دعوة للاستيقاظ؛ إدراك أن الجمهور هو خيرنا الأعظم وليس الخاص. علينا جميعاً أن ننظر خارج النافذة لنرى الحقيقة القائلة إنه بدون جمهور نابض بالحياة ومستقر، يمكن أن تصبح الحياة بسرعة فقيرة وسيئة ووحشيَّة وقصيرة.

 

غياب الاستشراف:

إنَّ الصدمة الحقيقيَّة هي أن الفيروسات التاجيَّة ليست جديدة، إذ تمّ بالفعل تصنيف أكثر من 6000 سلالة من قبل العلماء. سلسلة الفيروس التاجي الحاليَّة متغيرة، ولكن بعض السمات المميَّزة تجعلها مميتة. فقد تبيَّن الآن أن الفيروس “يبدو” أنه ينتقل بشكل أسرع بين الأشخاص، ويبقى على الأسطح لفترة طويلة، حوالي 12 يوماً. والأخطر، أنه ينتقل من الأشخاص الذين لا تظهر عليهم أعراض، ممَّا يعني أن شخصاً لا يعاني من أعراض يمكن أن يحمل الفيروس ويمرّره للآخرين. ولكن، وبعد كل هذه المعاناة، التي تكبّدناها في الأشهر الماضية، وما زلنا، هل علينا أن نقبل أن خبراء الأمراض المعديَّة، في جميع تخصّصاتهم، لم يتوقّعوا أبداً هذه الخصائص الفتاكة؟ إنَّ التقدير العام اليوم يُثبِتْ أن التعامل مع الفيروس التاجي هو فشل كارثي لقيادة الصحَّة العامَّة. نعم، يقدم الأشخاص المؤهلون تأهيلاً عالياً؛ من منظَّمة الصحَّة العالميَّة، والمراكز الأوربيَّة لمكافحة الأمراض، والصين، واليابان، والمعهد الوطني الأمريكي للحساسيَّة والأمراض المعدية، وعلماء الأوبئة البارزين من مؤسسات مثل ستانفورد وهارفارد وجونز هوبكنز، وغيرها، تحديثات منتظمة على التلفزيون حول ما يجب القيام به. وبينما يقدر المشاهدون درّبتهم ومهارتهم ومدى الهدوء، الذي يتمتعون به، فإن الملايين يمرضون، ومئات الآلاف يموتون، وبلايين البشر، في جميع أنحاء العالم يتأثَّرون الآن بفشلهم الجماعي في التصرّف، ومنع هذا الوباء من الحدوث في المقام الأول.

لقد تنبّأ أصحاب الرؤية الاستشرافيَّة الثاقبة من قبل، وها هو بيل جيتس، في حديث مشهور منشور، في عام 2015، في برنامج “تيد-TED”، يقول إنَّ العالم غير مستعد تماماً لمواجهة جائحة، وحذر من أنه يتعين على الدول التحرك. وقال: “اليوم، لا يبدو الخطر الأكبر لحدوث كارثة عالميَّة على هذا النحو”، موضحاً صورة سحابة عش الغراب الناتجة عن انفجار نووي. وقال “بدلاً من ذلك، يبدو الأمر كذلك”، مشيراً إلى صورة لفيروس الإنفلونزا. لماذا لم ينتبه مسؤولو الصحَّة العامَّة لبيل غيتس؟ فقد يقول قائل إنها لو جاءت من المخابرات لاتبعوها، رغم أن حرب العراق الثانية كانت فشلاً ذريعاً للمخابرات، التي ذكرت أنَّ صدام حسين كان يمتلك أسلحة دمار شامل، في حين لم يكن لديه أي شيء. وكانت النتيجة أنَّه تمَّ إنفاق تريليونات الدولارات دون داع وقتل وجرح مئات الآلاف. وبالمقابل، حدثت أزمة الرهن العقاري، لعام 2008، لأنَّ المنظّمين الماليّين، ووكالات التصنيف الكبرى، لم يروا مشكلات في الرهون العقاريَّة عالية المخاطر، والأدوات الماليَّة المعقَّدة؛ مثل، التزامات الديون المضمونة، على الرغم من أن عملهم يفرض عليهم أن يكونوا في الطليعة. والنتيجة؛ إنفاق تريليونات الدولارات بلا داع، وتغيير حياة ملايين الأرواح إلى الأبد.

وقديماً ذكر السيناتور الأمريكي روبرت كينيدي، في معرض تعليقه على كيفيَّة تتبُّع الأداء في الاقتصادات الحديثة، في عام 1968، المبني على حساب الإنتاج لا النتيجة، والكميَّة لا النوعيَّة، والأسعار لا الاحتمالات، أننا عندما نقيس كل شيء، وباختصار، فإن هذا لا يجعل الحياة جديرة بالاهتمام. مُذَكِّرَاً بأنَّ القيمة الأكبر هي؛ الحريَّة، السعادة، المرونة، التي ترتكز كلها على جمهور سليم. إنّهم يعتمدون على قدرتنا الجماعيَّة على الاستفادة من أشياء مثل الهواء النقي وحريَّة التعبير والتعليم العام الجيد، وباختصار، فإننا نعتمد جميعاً على الخدمات الصحيَّة. ومع ذلك، فإن أقوى مقياس في العالم، الناتج المحلي الإجمالي، لا يحسب أياً منه. إن مصطلح “المأساة المشتركة”، الذي ورد في مقال كتبه غاريت هاردن، من الأكاديميَّة الأمريكيَّة، عام 1968، ادَّعى أنه سيتم إفساد الملكيَّة المشتركة؛ مثل، الأراضي العامة، والممرّات المائيَّة، إذا تركت لاستخدام الأفراد بدافع المصلحة الذاتيَّة.

 

الصين في الواجهة:

لقد بدأ جليّاً فشل نظام الصحَّة العامَّة، في غالب دول العالم، عندما ظهر الفيروس التاجي لأول وهلة، وشكل مفاجأة وصدمة لمسؤولي الصحَّة العامَّة، وشعرنا للوهلة الأولى أنهم مثلنا نحن، الذين لم يعرفوا حتى ما هو هذا الفيروس التاجي من قبل. وجاءتنا تطمينات المدير العام لمنظَّمة الصحَّة العالميَّة، تيدروس أدهانوم غيبريسوس، في مؤتمر صحفي عُقد في 10 فبراير 2020، إن “النمط العام للحالات لم يتغيَّر، وأن 99 في المائة من الحالات المبلغ عنها موجودة في الصين، ومعظم الحالات خفيفة.” وأعلن أن فريق منظَّمة الصحَّة العالميَّة وصل إلى ووهان في اليوم التالي، بعد شهرين تقريباً من وفاة المريض الأوَّل في الصين. وفي 28 فبراير، زاد عدد الحالات والوفيات، وبدل من موقفه بقوله، “من الواضح أنَّ الزيادات المستمرَّة في عدد الحالات وعدد البلدان المتضرِّرة خلال الأيام القليلة الماضية تثير القلق”. وبعد عشرة أيام، في 11 مارس، وصفت منظَّمة الصحَّة العالميَّة الفيروس التاجي بأنه جائحة عالميَّة.

وعندما ضرب الفيروس بعنف في ووهان، اتَّخذت الصين إجراءات غير معقولة بالنسبة لدولة تعدّ قوَّة عالميَّة كبرى. كانت الاستجابة الأولى للآلة الصينيَّة هي قمع البيانات العلميَّة، التي كانت قادمة من ووهان ثمَّ معاقبة الصحفيِّين وعمَّال الرعاية الصحيَّة في الخطوط الأماميَّة، الذين سعوا إلى تسليط الضوء على المشكلة. وذهبت منظَّمة الصحَّة العالميَّة بسهولة إلى الصين ولم تُثقل وزنها مطلقاً على الصين لتصبح مواطنة عالميَّة أفضل. إذ لو كانت الصين تشارك تجاربها بشكل أكثر علانيَّة ودعت كبار مسؤولي الصحَّة العامَّة في العالم إلى ووهان خلال الأسبوع الأول من تفشي المرض، لكان من الممكن أن تكون الدول حول العالم مستعدَّة بشكل أفضل لمحاربة الهجوم الفيروسي، وربما لم يكن على الصين أن تواجه الكثير من الوفيَّات. لكن إلقاء اللوم كله على الصين هو قضيَّة تعلَّق بأهدابها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، رغم أنها ليست عادلة أيضاً. فلم تنظر بعض أغنى الدول في العالم، وعلى رأسها أمريكا، أبداً إلى قوائم جرَّدها للبنية التحتيَّة الحيويَّة، مثل الأقنعة والقفازات وأجهزة التهوية لمحاربة جائحة عالميَّة.

إنَّ القوى الكبرى في العالم تمتلك الآلاف من الأسلحة الذريَّة جاهزة للردّ على أي هجوم نووي، ولكن عدد المعدات الضروريَّة للحماية الشخصيَّة قليل، والذي يكلِّف جزءاً صغيراً من قنبلة نوويَّة واحدة؟ ولهذا فقط، لماذا لم يطلب مسؤولو الصحَّة العامة من حكوماتهم تخزين ملايين معدات الوقاية الشخصيَّة في المتاجر الحكوميَّة، لتكون جاهزة للتوزيع في ظلِّ هذا التفشي؟ وتستثمر أيَّة شركة حديثة موارد كبيرة على ممارسة تسمَّى تخطيط استمراريَّة الأعمال، أيَّة كيفيَّة مواصلة العمل عند وقوع كارثة. فإذا وضعنا في الاعتبار أن مركز بيانات يقوم بتدوير حركة الإنترنت في جميع أنحاء العالم، فهل يمكن للمرء أن يتصوَّر أن شركات التكنولوجيا الكبرى؛ مثل، قوقل، وفيسبوك، وأمازون، ستدير جميع مراكز البيانات الخاصَّة بها خارج بلد واحد؟ حتى محلِّل التعافي من الكوارث على مستوى المبتدئين سيشير على الفور إلى مثل هذا الاقتراح على أنه غير قابل للتطبيق ويرفضه.

ومع ذلك، اعتمدت المستشفيات الكبرى وسلاسل الرعاية الصحيَّة في العالم، والشركات المصنَّعة للأجهزة فقط على الصين لجميع الطاقة الإنتاجيَّة المتعلِّقة بمعدّات الحماية الشخصيَّة ومكوّناتها الحيويَّة. فالرئيس الأمريكي ترامب ورئيس الوزراء الهندي مودي يعملان لإطلاق خطط طموحة وحوافز واعدة لإعادة التصنيع، لكن صناعة الصحَّة التجاريَّة لم تستثمر أبداً في مصدر احتياطي للقدرة الإنتاجيَّة. عندما تعرَّضت الصين للفيروس التاجي، فعلت الصين ما ستفعله أيَّة دولة، أي احتفظت بمخزونها المخصَّص للتصدير حتى تتمكَّن من استخدامه لخدمة سكانها أولاً. وعندما أغلقت المصانع الصينيَّة وبقي العمال في منازلهم، توقَّفت معجزة سلسلة التوريد الفعالة في الصين. ومع عدم وجود قدرة إنتاج احتياطيَّة، واجه العالم على الفور نقصاً في معدّات الحماية الشخصيَّة الضروريَّة.

لقد ذكر القادة السياسيون الغربيّون وبعض عمالقة الصناعة أنهم سيبدأون في إنتاج أجهزة التنفس الصناعي الآن. ولكن ليس من السهل إنشاء خطّ إنتاج جديد تماماً والبدء في شحن المنتج على الفور. من سخريَّة القدر، لم يعد لدى العديد من الدول الغربيَّة مصانع لتصنيع مكوّنات ثانويَّة، ولكنَّها مهمَّة، مثل البراغي والغسالات والمكسرات، التي يتمّ تصنيع معظمها اليوم في الصين فقط. هذا هو السبب في أنَّ جيم هاكيت، الرئيس التنفيذي لشركة فورد، قال في مقابلة تلفزيونيَّة أخيرة أنَّ أقرب وقت يمكن أن تبدأ فيه فورد أجهزة التهوية للشحن هو في يونيو 2020، بحلول هذا الوقت، فإن الآلاف قد يكونون ماتوا.

والآن، ليس لدى القادة السياسيين في الدول الغربيَّة الرأسماليَّة أدنى فكرة عن الآثار الجانبيَّة لأفعالهم لأنهم يستمعون إلى مسؤولي الصحَّة العامَّة والعلماء الذين خذلونا جميعاً. بواسطة أمر تنفيذي، لجأ العالم إلى خطوات غير مريحة للغاية مثل الحجر الصحي القسري، وتتبُّع الاتصال، والتباعد الاجتماعي. وكما نشاهد، فإنَّ الطريقة الوحيدة ذات المغزى، التي يمكن من خلالها القيام بذلك هي إغلاق اقتصاد البلد بأكمله، ممَّا تسبَّب في ضرر لا يمكن إصلاحه للملايين. إلى متى يجب أن تكون هذه القيود سارية؟ ماذا سنفعل إذا أعلنَّا النصر على كورونا، ولكن قلَّة من الأشخاص المصابين ولكنهم بدون أعراض ظاهرة سيهربون من الشبكة ويبدأون في إعادة العدوى مرَّة أخرى؟ لا يوجد ردّ من القادة السياسيين ولا مسؤولي الصحَّة العامَّة في الدول الكبرى، ولكن يبدو أن الأمل هو الاستراتيجيَّة الحاسمة هنا.

تأثير اقتصادي مؤلم:

يخبرنا التاريخ أنه حتى في أسوأ فترات الحرب، تستمرّ التجارة، ولا تتوقَّف إلا بواسطة صفارات الإنذار والتفجيرات. فقد كان العاملون الصحيُّون الشجعان في الخطوط الأماميَّة يعتنون دائماً بالجرحى ويميلون إلى الموتى للتخفيف عن ذويهم. ولكن في حالة الفيروس التاجي، اتَّخذت الحكومات قرارات غير مسبوقة، إذ لا يوجد اقتصاد مزَّقته الحرب أغلق كل شيء. ففي بلد مثل الهند حيث يأتي ما يقرب من 80 في المائة من النشاط الاقتصادي من القطاع غير الرسمي، لا يتحدَّث أي زعيم حكومي عن معالجة آلام المتضرّرين. إذ إنَّ الإعانات المؤقَّتة الصغيرة النقديَّة وحصص الإعاشة لا تكفي ببساطة. إنَّ إيقاف الاقتصاد أمر سهل نسبيّاً، لكن إعادته إلى الحياة ليست كذلك. بشكٍل عام، تولد الأعمال الصغيرة ما يكفي من النقد المجاني للبقاء على قيد الحياة لمدَّة شهر تقريباً بدون دخل. عندما يتمّ تسريح الموظَّفين، عليهم أن يقرِّروا كيفيَّة إعطاء الأولويَّة لدفع فواتيرهم للشهر التالي، وعندما لا يدفعون فواتير، من المحتمل أن تفشل الشركات الصغيرة الأخرى. عندما لا تدفع الشركات دفعات الإيجار، يعاني المالك. وعندما يفشل المالك في دفع أقساط الرهن العقاري، تعاني البنوك وأسواق الأوراق الماليَّة، التي تعتمد على العقارات.

لقد تعهَّدت الحكومات في جميع أنحاء العالم بضخ تريليونات الدولارات من السيولة في الشركات والشركات الصغيرة والبنوك لإبقائها نصف حيَّة، حتى تتمكَّن من العودة إلى التجارة العاديَّة، ولكن ليس من الواضح مدى فعاليَّة هذه التعهّدات. بالنسبة للدول الغنيَّة مثل الولايات المتَّحدة واليابان، والتي يمكنها الاقتراض بعملتها الخاصَّة، ويمكنها طباعة أكبر قدر ممكن من المال، فإن هذه الأنواع من الإجراءات ممكنة. وبالفعل، مرر الكونجرس الأمريكي للتو مشروع قانون تحفيز بقيمة 2. 2 تريليون دولار، وهو الأكبر في تاريخ البلاد، سيغطِّي تكاليف استجابة الفيروس التاجي للأشهر الأربعة المقبلة. أمَّا بالنسبة لكل الدول الأخرى، ستؤدِّي طباعة النقود إلى تضخم سريع واستنفاد احتياطيات النقد الأجنبي، وستنخفض قيم الأصول، وستنخفض تبعاً لها قيم العملات مقابل الدولار. فكيف تخطِّط هذه البلدان لإعادة تشغيل اقتصاداتها في مثل هذا الوضع القاتم؟

لذلك يبدو أنَّ معركة الفيروس التاجي ستستمر، ولن تتوقَّف حتى يتمّ العثور على علاج، أو حتى يتمّ العثور على لقاح. لكن ليس لدينا حتى الآن أي دليل على ما سيحدث إذا تحوّل الفيروس التاجي إلى شكل جديد قادر على التحايل على هذه الآليات الدفاعيَّة. هل سيتعيَّن علينا إعادة هذه الإجراءات الصارمة مرَّة أخرى لمواجهة الفيروس الجديد حتى يتمّ العثور على علاج آخر؟ وإلى متَّى سيستمرّ هذا الحال؟ وهذه الأسئلة تقودنا إلى سؤال آخر: من المسؤول عن وضعنا جميعاً في هذا المنعطف الخطير؟ فمن الواضح أَّن القادة السياسيين في العالم ليسوا هم الذين يضطرون للعب دور قوي في الوقت الراهن. فالحقيقة المزعجة، وربما غير اللائقة، هي أن ما يسمى بخبراء السياسة العامَّة، الذين تتمثَّل مهمّتهم في حمايتنا من الوباء التالي، لم يروا هذا الوباء قادماً حتى أثناء سفرهم حول العالم، وحضور الندوات والمؤتمرات، ورفع كؤوس النبيذ والنظّارات في انسجام. إنَّ تقاعسهم، أو عدم قدرتهم على التخطيط للوباء، هو، الذي دفع العالم إلى الركوع وغيّره إلى حيث المجهول.

وفي الختام، يمكننا القول إنَّ استمرار جائحة كورونا يعني أن العالم يستعدّ لإضفاء اللمسات الأخيرة على البنود، التي نادراً ما كان يناقشها؛ من دون مساعدة عامَّة ضخمة، قد حان وقت طرحها على الملأ، وأنَّ الرأسماليَّة الاستخراجيَّة المتأخِّرة، التي يتمّ دفعها عن طريق المصلحة الخاصَّة والجشع، ستموت حتماً. إنَّ النوع الضيِّق من التفكير في الاقتصاد الكلي، الذي يسيطر حالياً على قاعات الدراسة والأوساط الأكاديميَّة يستدعي إلى الذاكرة قصَّة مراهق صغير يقوم بتوبيخ والديه على نحو مختلف، فقط ليعود إلى المنزل، مراراً وتكراراً، عندما يعدم الأفكار، أو المال، أو الدعم. وبالمثل، فإنَّ الشركات الكبرى في البلدان الرأسماليَّة كلها ستنهار بدون عمليَّات الإنقاذ العامَّة والإعفاءات الضريبيَّة والإعانات الحكوميَّة. ففي كل مرَّة يقع فيها القطاع الخاصّ في أزمة، تنقذه الأموال العامَّة. وفي الأزمة الحاليَّة، قد تصل قيمتها إلى تريليونات الدولارات. وهي كما يُلاحظ، قد ظلَّت لأكثر من قرن من الزمان، تقوم بخصخصة المكاسب والتكاليف الاجتماعيَّة.

___________

* دبلوماسي سوداني، الأمين العام السابق لمنتدى الفكر العربي

السبت 16 مايو 2020

القاهرة، جمهوريَّة مصر العربيَّة


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة