الأصوليَّة الظلاميَّة والمعركة التي لا بد منها

image_pdf

 

في وقت تسيطر فيه مشكلة الأصوليَّة والأصوليين على العالم كله لا أجد لي عزاء إلا أن أغطس في الزمن وأعود إلى الوراء لكي أرى كيف حلت أوروبا مشكلتها مع أصوليتها. أن مشكلة الأصوليَّة هي مشكلة المشاكل، أم المشاكل. ولن يستطيع المثقفون العرب أو المسلمون تشخيصها وعلاجها إلا بعد مرور زمن طويل. أنها  سوف تستغرق خيرة جهودنا طيلة هذا القرن أو حتى منتصفه على الأقل. هناك مشاكل ليس لها حل في المدى المنظور. وينبغي أن نفهم ذلك. أنها  من الضخامة والاتّساع بحيث أنها  تتجاوز مقدرة جيل واحد، وانما يلزمها مرور عدة اجيال من أجل الإجهاز عليها أو التخلص منها.

ولكن هذا لا يبرر لجيلنا أن يقف مكتوف الأيدي أمام ما يحصل. فالمشكلة لن تنحل من تلقاء ذاتها، وإنما ينبغي أن يضطلع بها المفكرون من كافة الاختصاصات والمشارب. وإذا ما نظرنا إلى التجربة الأوروبيَّة في التنوير وجدنا أنها  كانت صعبة ومريرة. فالمعركة استغرقت ثلاثة قرون متتاليَّة، بل وحتى أربعة: من لوثر وايراسم، إلى هيغل ونيتشه، مروراً بسبينوزا وجون لوك، وفولتير، وديدرو، وروسو، وكانط وسواهم عديدون. كل فلاسفة أوروبا جيشوا طاقاتهم للقضاء على هذا المرض الخطير الذي يصيب أي دين: مرض التعصُّب والظلاميَّة الأصوليَّة.

 

* معركة مليار مسلم

 

* وفي مقالات سابقة كنت قد تحدثت عن بعض هذه المعارك وأبديت إعجابي اكثر من مرة بأكبر مغامرة شهدها تاريخ الفكر البشري: مغامرة التنوير أو التحرّر من الدوغمائيَّة المتحجِّرة.

وقلت بإنها معركة المستقبل، معركة العرب، معركة المسلمين، معركة مليار شخص، ولكن ما كنت أتخيل أنها  ستتحوَّل بمثل هذه السرعة إلى مشكلة تهم ستة مليارات شخص: أي العالم بأسره.

هكذا اتَّسعت الأصوليَّة وكبرت حتى اصبحت بحجم العالم، كنا نخوض المعركة، نحن حفنة من المثقفين العرب، في الظل والصمت، كنا نخوضها، ولا نزال، في ظروف غير متكافئة على الإطلاق، كنا نمشي على رؤوس أقدامنا لكيلا نحدث ضجيجا أكثر مما يجب، ولكيلا نثير رد الفعل الهائج للانغلاق التاريخي الطويل. ومع ذلك فإننا لم نسلم من الاتهامات والإشاعات، وأشكال أخرى من المحاربات والضغوط التي لا داعي لذكرها هنا.

كنت أقول وما أزال مصرا على هذا القول أكثر من أي وقت مضى: كل مثقف عربي لا يعتبر مشكلة الأصوليَّة بمثابة المشكلة الأساسيَّة لعصرنا ليس مثقفا ولا يستحق هذه التسمية بأي حال. فالمثقف هو ذلك الشخص الذي يشعر بأنه مهموم بقضايا شعبه وأمته، وإذا ما انشغل بالثانويات وأهمل الأساسيات فهذا يعني أنه خارج قوس. كل المفكرين الكبار على مدار التاريخ هم مفكرو المشكلة الواحدة.

إنهم يهجسون بها ليل نهار، ينامون معها ويستيقظون عليها.. أنها  شغلهم الشاغل وقضيَّة العمر. قد تختلف نوعيَّة هذه المشكلة من عصر إلى عصر، ولكن تبقى هناك مشكلة أساسيَّة لا يستطيع أن يكتشفها أو يهجس بها إلا فلاسفة الدرجة الأولى. وكنت أستغرب كيف أن الكم الأكبر من المثقفين العرب لا يعيرون هذه المشكلة الاهتمام الذي تستحق، بل ولا يرون فيها مشكلة على الإطلاق! وعلى الرغم من وحشيَّة الحرب التي شنها الأصوليون في الجزائر والسودان وإيران ومصر وافغانستان وسواها على المجتمع المدني وعلى روح العصور الحديثة وعلى الرغم من أنهم دقوا إسفينا عميقا في صميم الوحدة الوطنيَّة للشعب وزرعوا الفتنة والبلبلة، إلا أن مثقفينا الأشاوس ظلوا يغضون الطرف عن هذا التيار بحجة أنه شعبي أو يمثل الشعب! ولم يستشعروا حتى هذه اللحظة بضرورة محاربة الأصوليين المتزمتين على أرضيتهم بالذات: أقصد أرضيَّة التراث الديني وكيفيَّة فهمه وتفسيره، فبدلا من القراءة المنغلقة، بل والإرهابيَّة التي يقدِّمها المتزمتون عن تراثنا الإسلامي، كان ينبغي أن نولد قراءة جديدة لنفس التراث كما فعل فلاسفة التنوير الأوروبي مع تراثهم المسيحي.

فلو أن هؤلاء الفلاسفة قالوا بينهم وبين انفسهم: إن معظم شعبنا أصولي أو يتبع الأصوليين في تفسيرهم للدين، وبالتالي فينبغي علينا أن نلتحق بالشعب ونستسلم للمقادير.. لو قالوا ذلك لما حصل أي تطور في اوروبا. كانت أوروبا ستظل جاهلة، متخلفة، تتخبَّط في حروبها الأهليَّة والمذهبيَّة حتى هذه اللحظة. فالوفاء للشعب يعني إنقاذ الشعب من تصوراته الخاطئة، ومن أحكامه المسبقة المكرسة منذ مئات السنين لا اتباعه بشكل أعمى. هنا يكمن الفرق بين المثقف ورجل الشارع، مع احترامي لرجل الشارع الذي لا يستطيع تغيير وضعه. على هذا النحو فهم فلاسفة التنوير مهمتهم ورسالتهم ولم يدغدغوا عواطف الشعب أو غرائزه، وإنما صارحوه بالحقيقة. وهكذا أنقذوا شعوبهم من وهدة التخلّف والانحطاط، وارتفعوا بها إلى مستوى الحضارة والتمدّن والرقي.

 

* ليكن نيوتن.. فكان

 

* لكن ما معنى مفهوم التنوير يا ترى؟ وكيف ظهر في القرن الثامن عشر؟ وكيف تبدَّدت أمامه الظلمات الحالكة للأصوليَّة؟ لا نستطيع في مقالة واحدة أن نعالج كل هذه الأسئلة، ولكن سنحاول أن نقترب من بعضها، لنحاول توضيح المفهوم أولا. في كتابه عن عصر الأنوار في أوروبا يرى المؤرخ السويسري اولريتش إم هوف أن مصطلح التنوير في اللغة الإنكليزيَّة لم يظهر إلا في القرن التاسع عشر على الرغم من أن مدلوله كان موجودا من قبل. ومعلوم أن الظاهرة تسبق احيانا تسميتها. وعندما ظهر هذا المصطلح راح يتنافس مع مصطلح آخر هو: عصر العقل. فالفيلسوف بيركلي مثلا راح يتحدَّث عنه بشكل شاعري قائلا: هذا البحر من الأنوار التي هجمت علينا وشقّت طريقها على الرغم من عراقيل العبوديَّة والشعوذات.. وراح مفكِّر إنكليزي آخر يقول: إن هذا القرن مستنير أكثر مما كانت تحكم به أو حتى تتصوّره القرون السابقة. وأما الشاعر بوب فقد لخَّص الحركة الفلسفيَّة والعلميَّة لعصره قائلا: الطبيعة وقوانين الطبيعة كانت مخبوءة في الظل.. وفجأة قال الله: ليكن نيوتن، فكان! وأصبح كل شيء مضاء.. وبالتالي فإن النور أشرق على أوروبا والعالم كله من غربها لا من شرقها على عكس الشمس. لقد جاء أولا من انكلترا الليبراليَّة قبل أن ينتقل إلى فرنسا فالمانيا فسواها.

أما المفهوم الفرنسي للتنوير فيعني: الذكاء، المعرفة، وضوح الفكر، ثم أصبح علامة على العصر كله. وراح الفلاسفة يعتقدون أن انوار العقل الطبيعي وحدها قادرة على السير بالبشر نحو تقدّم العلم والحكمة والحضارة. وفي عام 1750 أي في عز عصر التنوير، راح أحد الفلاسفة يقول: أخيرا تبدَّدت كل الظلمات، وانهمرت علينا الأنوار من كل الجهات. ما أجمل هذا النور ما أجمل التقدم البشري! أما المصطلح الألماني الدال على التنوير بصفته حركة تشمل العصر كله فلم يظهر إلا عام 1780: أي عندما كان كانط يكتب مؤلفاته الكبرى ثم ترسخ المفهوم في القرن التاسع عشر بالطبع. عندئذ راح أحد المفكرين الألمان يتحدَّث عن حريَّة الفكر والصحافة ويقول إنهما يمثلان بالنسبة للعقل، ما تمثله الأنوار بالنسبة للعينين. وأما هيردي الذي عاش في القرن الثامن عشر فكان يقول واصفا عصره: أنه عصرنا المستنير، عصرنا الأكثر إشعاعا بين العصور.

أما مفهوم التنوير في ايطاليا فهو حديث العهد، ولم يتشكل كتيار إلا في القرن العشرين. والواقع أن اوروبا الجنوبيَّة تأخرت عن التنوير قياسا إلى اوروبا الشماليَّة. وبالتالي فلا يحق لنا أن نضع ايطاليا ثم بالأخص إسبانيا والبرتغال على نفس المستوى الحضاري الذي وصلت إليه بلدان كانكلترا وفرنسا والمانيا وهولندا.. نقول ذلك على الرغم من أن إيطاليا لحقت بالركب مؤخرا: أي خلال الخمسين سنة الأخيرة. ثم تبعتها اسبانيا وكذلك البرتغال إلى حد ما. هذا على الرغم من أن الأصوليَّة الكاثوليكيَّة ظلت قويَّة في بلاد فرانكو وسالازا، وإن كانت الحداثة والديمقراطيَّة قد انتصرتا في العشرين سنة الأخيرة. بالطبع نسيت سويسرا، بلد جان جاك روسو، هذا البلد الرائع الذي لعب دورا كبيرا في العقلانيَّة والتنوير. ونسيت السويد والدنمارك والنرويج، وما كان ينبغي أن أنسى.. هذا هو التنوير الذي أزال الغشاوات عن الأعين، ولكن المتعصبين الأصوليين حاولوا عرقلتهم عن طريق الإبقاء على الظلمات، على الجهالات العمياء. وكان حقدهم على الأنوار كبيرا.

 

* أوروبا والإرهاب اللاهوتي

 

* والآن أطرح هذا السؤال: هل يستطيع مثقف عربي واحد أن يقول إن العصر الذي نعيشه هو عصر مستنير؟ أقصد العصر العربي أو الاسلامي بالطبع وليس العصر الاوروبي، لأننا نعاصر الاوروبيين زمنيا لا فكريا ولا عقليا، من يجرؤ على ادّعاء ذلك؟ لا، إنه عصر الأصوليَّة الظافرة، عصر الضجيج والعجيج، عصر طالبان وبقيَّة الجحافل الزاحفة على التاريخ. أكثر ما نستطيع قوله هو أننا نحضر لعصر تنويري عربي ـ إسلامي مقبل. صحيح أننا قد لا نراه بأم اعيننا، ولكنه آت لا ريب فيه. ولا أعتقد أنه بعيد جدا. فوراء الأكمة ما وراءها. ذلك أن الموجة الحاليَّة سوف تنكسر أو تنحسر عما قريب. وبانحسارها سوف يبزغ نور جديد يكاد يخطف الأبصار، نور انتظرناه طويلا: أي منذ عدة قرون! ومعلوم أن أكبر عتمة هي آخر عتمة: أي تلك التي تسبق مباشرة انبلاج الفجر.

لكي نقدم مثالا تطبيقيا على صحة هذا القول يكفي أن ننظر إلى القرن الذي سبق مباشرة عصر التنوير في اوروبا: أي القرن السابع عشر. فقد كان عصرا لاهوتيا خطيرا.. إنه العصر الذي شهد سيطرة التيار المضاد للإصلاح الديني، العصر الذي حاكم غاليليو، وأجبر ديكارت على الهرب من فرنسا، وارعب سبينوزا.. إنه عصر الحروب المذهبيَّة والاهليَّة التي اجتاحت اوروبا. إنه عصر الإرهاب اللاهوتي الذي لا يقل جبروتا عن ارهاب طالبان أو بقيَّة الاصوليين الحاليين . ومع ذلك، فبعده بعشرين سنة فقط، دارت رحى المعركة بين التنويريين والظلاميين وكانت النتيجة لصالح التنوير: أي لصالح توليد تفسير جديد للدين. وهو تفسير تحريري، لا قمعي ولا ظلامي. هنا يكمن طريق الخلاص: بلورة فهم آخر للتراث الديني غير الفهم السائد والمسيطر منذ مئات السنين والذي يحاول الأصوليون إقناعنا بأنه هو وحده الممكن.. هكذا انتصرت اوروبا على نفسها، وحلت عقدتها التاريخيَّة المزمنة المتمثلة بذلك الصدام المروع ما بين العقل اللاهوتي والعقل العلمي أو الفلسفي. هذا الصدام ما بين اللاهوت القروسطي والحداثة لا يقل خطورة عن اصطدام الطائرات الانتحاريَّة ببرجي مركز التجارة العالمي في نيويورك! كنت قد نبهت اكثر من مرة إلى خطورة لاهوت القرون الوسطى أو فقه القرون الوسطى، هذا اللاهوت الذي يسمح لأي جاهل بأن يطلق فتاوى التكفير والتحريم والقتل والذبح..

وقلت إن تفكيكه يمثِّل ضرورة ملحة وعاجلة بالنسبة لكل المجتمعات العربيَّة والإسلاميَّة.

ولا يمكن لهذه المجتمعات أن تتقدم إلا اذا فككته لأنه يعرقل حركتها ويشعرها في كل خطوة تخطوها بالخطيئة والذنب. كما أنه أصبح يشعرنا بالعار والخجل والحرج أمام الآخرين.

لكن تفكيكه سوف يجبرنا على الدخول في معركة حامية، كلما خف أوارها راح يشتد.

_______
*الشرق الأوسط/ الراصد التنويري/ العدد الثالث (3)/ يناير- كانون الثاني 2009.

جديدنا