يبدو أن من قدر كتّاب السياسة والدراسات الأدبيَّة والنقديَّة اقتناص بعض الوقت للإشارة السريعة لبعض الموضوعات العلميَّة الراهنة المتَّصلة بمواجهة الجائحة الكونيَّة المعروفة بكوفيد ـ19، لاسيما في ظل تأخُّر عودة علمائنا العرب من كهوف الذهنيَّة العقليَّة الراكنة للأبحاث التي تشبه الوهم وأكثر، وهي في جملة الأمر مجرَّد أوراق يتمّ اعتماد صاحبها أستاذا أكاديميا بغير واقع معتمد لعلمه المكرور والذي يصفه بعض العلماء بالغرب بأنه علم منتهي الصلاحيَّة .
تجيء هذه التقدمة في ظلّ استمرار التقاعس العلمي لدى أساتذة العلوم الأساسيَّة والطبّ والصيدلة في إقناعنا بأن الجائحة الكونيَّة كورونا أكبر من رجل صيني تناول خفاشا، وهو موضوع يلزم الرجوع فيه أهل الاختصاص بعلوم الحيوان Animal sciences والثدييات Mammals والطيور وما شابه ذلك، وفي ظلّ الهوس الكلامي حول ارتباط الإصابة بفيروس كوفيد ـ 19 والجهاز المناعي، بالرغم من أنني كنت أتمنَّى أن تقوم الفرق البحثيَّة بكليَّات العلوم بتقديم مفاجأة للعالم باكتشاف لقاح ولو عن طريق الصدفة أو التخمين كلاعب مغمور يوجِّه ركلة الجزاء فيسدِّد الكرة بعشوائيَّة، فتأتي هدفا استثنائيا في مرمى حارس مرمى محترف، ولعلّ الحاجة الملحّة اليوم بشأن ضرورة استنفار العلماء الأكاديميين في استثمار طاقاتهم العلميَّة في اكتشاف لقاح عربي خالص الاكتشاف والإعداد والتصنيع في ظلِّ المنافسة العلميَّة الشرسة بين علماء الغرب وشرق آسيا والولايات المتحدة الأمريكيَّة ـ كانت فرصة العمر لهؤلاء الباحثين، لكنهم كالعادة رهن تلك الكهوف الذهنيَّة ومعاملهم التي اعتادوا نقد إمكاناتها والأدوات المستخدمة بها.
وكم هو محزن ما أشارت إليه صحيفة Middle East اللندنيَّة مؤخّرا في الثامن والعشرين من يوليو الجاري من تسابق مختبرات عدة في العالم على تطوير لقاح لمواجهة فيروس كورونا المستجد، وفوق شركة موديرنا في هذا المجال عبر دخولها المرحلة النهائيَّة من التجارب السريريَّة الحاسمة لمعرفة ما إذا كان فاعلا وآمنا.
وأنها بالفعل تجري التجارب بالتعاون مع السلطات الصحيَّة الأميركيَّة على قول الشركة التي تؤكد أنها قادرة على تأمين 500 مليون جرعة سنويا وحتى مليار جرعة اعتبارا من 2021.
كما تشير الصحيفة في تقريرها المتميِّز أنه في السادس من يوليو الجاري أعلنت شركة “سينوفاك” أنّ المرحلة الثالثة لتطوير اللقاح ستبدأ “هذا الشهر” بالتعاون مع الشركة البرازيليَّة “بوتنتان“. ويأتي هذا التسابق وسط غفلة علميَّة عربيَّة تبعث فينا مرارة الحزن على راهن الأكاديميين الذين أرهقونا بحديثهم عن العلم وأنهم فوق الكرة الأرضيَّة بأبحاثهم التي في الحقيقة أتت بثمارها وهي دهشة المجتمعات العربيَّة من هذا الصمت الحالي لهم.
وكما تذكر صحيفة Middle East في تقريرها المتميِّز أنَّ الشركة ذكرت في بيان أن الحكومة الأميركيَّة تعهَّدت تقديم مبلغ 472 مليون دولار يضاف إلى 483 مليونا سبق أن أعلنت. وبرَّرت الشركة هذه الزيادة بقرارها “إجراء تجربة سريريَّة للمرحلة الثالثة أوسع” ممّا كان معلنا. ولقاحها التجريبي الذي أنشأ أجساما مضادَّة للفيروس لدى جميع المتطوّعين وعددهم 45 في المرحلة الأولى من الاختبار قد يعاد اختباره اعتبارا من الإثنين على 30 ألف شخص يتلقَّى نصفهم جرعة من 100 ميكروغرام والآخرون دواء وهميا.
وبعيدا عن هذا التقاعس العلمي العربي، وبمنأى عن الجمود الاستشرافي لأساتذة العلوم الأساسيَّة والطبّ في تبصير وتنوير مجتمعاتهم العربيَّة وسط جهالة علميَّة استنزفت طاقات كتاب النهضة في رصدها منذ بدايات القرن العشرين في الإشارة إليها وإلى مغبة استمراء العيش في تلك الجهالة المزمنة والمستدامة، تجدر الإشارة إلى بحثين علميين من أجمل وأروع وأدقّ البحوث العلميَّة التي تناولت الأمراض المعديَّة والجهاز المناعي، البحث الأول للعالم ( وليام بول ) William Paul بعنوان ” الأمراض المعدية والجهاز المناعي” Infectious Diseases and the Immune System، والمنشور على صفحات مجلة Scientific American، وفيه يشير إلى أنه رغم الحقائق التي تبدو كئيبة وحبطة بشأن الأمراض المعديَّة التي خرجت عن السيطرة، فإنّ قوَّة الجهاز المناعي في التعامل مع العدوى رائعة، مشيرا إلى أن تلك الروعة تكمن عندما تسانده التقنيات الحديثة للقاحات وهذا هو الأمر الغائب عن ذهنيَّة علماء الكهوف الذين لايزالوا رهن المحراث الخشبي اللهم سوى بعض العلماء المخلصين الجادّين في علمهم وعملهم ولأوطانهم أيضا.
وبفضل التقنية العلميَّة للقاحات تمَّت السيطرة على الجدري وشلل الأطفال، وهو ما دفع العلماء منذ عشر سنوات إلى إدراك أعمق لكيفيَّة عمل الجهاز المناعي ومدى استجابته للعوامل المعدية.
وللاستجابات المناعيَّة ـ حسب توصيف العالم وليام بول قدرة تكيفيَّة حسب التحديات التي يواجهها ذلك الشخص، وبالضرورة هذه الاستجابات لا تتمثَّل في ارتداء الكمّامات أو القفازات أو استعمال الكحول والصابون الطبي كما يعكِّر صفو أذهاننا العلماء العرب بمثل هذه الوصفات الاعتياديَّة، بل يشير إلى أن (الليمفوسيتات Lymphocytes) تستطيع اكتشاف الجراثيم لأنها مزوّدة بجزيئات مستقبِلة على أسطحها، وجينات هذه المستقبلات يمكن غربلتها ـ كما يذكر وليام بول ـ وتنويعها بحيث تتنج تركيبات تتَّفق مع أيَّة مادة غريبة تقريبا.
وقريبا من العلميَّة وبعيدا عن السرد اللغوي الأدبي، فإنَّ بحث وليام بول يؤكِّد أن الخلايا المتنوّعة التي يتكوَّن منها الجهاز المناعي وظائفها متخصِّصة، وهذه التخصصيَّة تمنح (الفقاريات Vertebrates ) القدرة على تعرف الجراثيم والقضاء عليها، وبلغة أقرب للواقع محاولة السيطرة عليها بدلا من القضاء النهائي.
وقريبا من العلميَّة وبعيدا عن السرد اللغوي الأدبي، فإنَّ بحث وليام بول يؤكِّد أن الخلايا المتنوّعة التي يتكوَّن منها الجهاز المناعي وظائفها متخصِّصة، وهذه التخصصيَّة تمنح (الفقاريات Vertebrates ) القدرة على تعرف الجراثيم والقضاء عليها، وبلغة أقرب للواقع محاولة السيطرة عليها بدلا من القضاء النهائي.
ويشير ( وليام بول ) في بحثه عن الجهاز المناعي، الذي أتمنَّى أن يكون قد اطّلع عليه علماؤنا العرب وهم في زمرة الانشغال في مكاتبهم من أجل إعداد والانتهاء من بحوث ودراسات الترقّي الأكاديمي، أو أولئك المنهمكون في معاملهم وسط طلابهم يهّددون ويتوعّدون الطلاب المساكين بالرسوب أو ضرورة الانتباه للمعلومات العلميَّة الحصريَّة التي يقولونها وهم يسترجعون ويجترون ذكريات ابتعاثهم العلمي في دول أجنبيَّة متناسين واقع الأمّة العربيَّة الأكثر احتياجا لجهودهم العلميَّة بدلا من ذكرياتهم مع أجهزة ( ألايفون ) والفنادق العائمة، ورحلات الصيد والشواء وغير ذلك من ذكريات بليدة خائبة لا ولن تهم الطالب البائس في شيء ـ يشير إلى أن كل مكوّن من مكوّنات الجهاز المناعي موجّه ضدّ عوامل تصيب إلى أن كل مكوّن من مكوّنات الجهاز المناعي موجّه ضدّ عوامل تصيب مكانا معينا في جسم الإنسان بالعدوى، وتلك البروتينات المناعيَّة الموسومة بـ ( الأجسام المضادة Antibodies ) أو الضدّيات متخصّصة في تدمير الجراثيم التي تعيش خارج الخليَّة البشريَّة في الدم أو في السوائل المحيطة بخلايا الرئة.
أمّا خلايا الدم البيضاء الموسومة علميا بـ ( لمفوسيتات TCD 4 Lymphocytes) فلها أهميَّة بالغة وفاعلة في مواجهة ومكافحة والتصدّي للبكتريا والطفيليات التي تعيش داخل الخلايا، وهذا ما كنا نرجوه من أساتذة العلوم الأساسيَّة في إخبارنا بحقيقة الجهاز المناعي، لاسيما وأنهم يحتفلون سنويا بأنهم أصحاب الفضل على كافة كليات القطاع الطبي بعلمهم وأبحاثهم وتدريسهم بتلك الكليات لكن للأسف تتواصل الخيبات العلميَّة بغير انقطاع.
وكافة الأبحاث المعاصرة التي تتّجه لمواجهة الجائحة الكونيَّة توجّه الانتباه إلى أهميَّة الأجسام المضادّة في الوقاية، ذلك أنه عندما تغزو الجرثومة المكورة السبحيَّة الرئويَّة Streptococcus Pneumoniae أو المكورة الرئويَّة إلى أنسجة الرئة، فإنها بذلك تستعمر حجيرات الهواء، وفيها يتمّ انتقال الأوكسجين إلى الدم، وتتمّ إزالة ثاني أوكسيد الكربون، وفي هذه اللحيظات تتكاثر الجرثومة مسبّبة دمارا للأنسجة والتهابا يعيق التنفّس نهائيا .
وتشير البحوث في صدد الجهاز المناعي إلى أنه يمكن السيطرة على العدوى الفيروسيَّة بواسطة تدمير خلايا الجسم ذاته، فإذا كانت السيطرة على الفيروسات تتم حاليا وفق التقنيات الحديثة للقاحات فإن الخليَّة المصابة بالعدوى يمكن تدميرها قبل أن تتاح الفرصة السانحة لجزيئات الفيروس من أن تتجمَّع داخلها، وبالتالي أي جزيء صغير من الفيروس يخرج من الخليَّة بعد موتها وتدميرها لن تصبح قادرة على تكاثر خلايا أخرى جديدة.
أمّا البحث الثاني الذي تمَّت الإشارة إليه في تقدمة هذه المقالة التي تبدو علميَّة متخصّصة رغم كون كاتبها أكثر تخصّصا في تدريس اللغة العربيَّة؛ استجابة للقارئ العربي الذي وجد همّا وحزنا بل وغما في التقاعس العلمي العربي لدى المتخصّصين، فهو بحث العالم ( لوك أونيل ) Luck ONeil المعنون بـ ( جهاز الإنذار المبكر للمناعة Immunological Early Warning System ) المنشور بمجلة Scientific American، وهو بحث شديد الصلة بالجاحة الكونيَّة كورونا، وفيه يبدأ الباحث بسرد قصَّة لطيفة يقول في نصّها والتي قام بترجمته ترجمة رائعة وماتعة لا تخلو من التشويق والاستلاب صوب القراءة الدكتور أيمن توفيق أستاذ الجراحة العامَّة وجراحة الأطفال ومؤلِّف كتاب ” رومانسيَّة العلم ” : ” كانت امرأة تركب المصعد عندما بدأ راكب بجوارها يعطس، وفيما كانت تفكِّر في الأمراض التي قد ينشرها الركاب الآخرون، بدأ جهازها المناعي يعمل. فإذا كانت الجرثومة التي أطلقها العاطس من نوع مسبق للمرأة أن قابلته من قبل فإن كتيبة من خلايا مناعيَّة مدربة ـ وهم جنود المشاة فيما يطلق عليه جهاز المناعة التكيفي Adaptive Immune System سوف تتذكَّر هذا الغازي المحدّد وتقضي عليه خلال ساعات، أما المرأة فلعلها ن تدرك مطلقا أن العدوى قد أصابتها” .
وفي هذا البحث يؤكِّد أونيل أن اعتقاد العلماء قديما في أن الجهاز المناعي المتأصِّل لا يزيد عن كونه سورا لقلعة، والباحثون كانوا يظنون أنَّ معركتهم الحقيقيَّة تبدأ بعد صدع هذا السور العتيد واختراقه، لكن أثبت العلم الحديث أن هذا السور المنيع بالفعل مرصع بالحراس الحقيقيين والمعروفة بالمشتتات، وتلك التي تكتشف الغزاة أي الفيروسات وتطلق بالفعل إنذارات متلاحقة لمواجهة هذه الفيروسات المتلاحقة والمتواترة للقضاء عليها. وهذه المشتّتات بإمكانها الإحاطة بالفيروس الغازي بجدار عازل قوي تمنع انتشاره بالجسم.
وتبقى أسئلة الدهشة التي نطلقها كعادتنا لعلمائنا العرب، مع التحفّظ الشديد على كون كل أستاذ أكاديمي يستحيل عالما، فالعلم حقا يكمن ويقبع بمدرّجات الجامعة وبمعاملها الاعتياديَّة، أمّا صفة العلميَّة ولقب العالم ليس بالضرورة وصفا لهذا الموظّف الحكومي المتمثِّل في صورة الأستاذ الأكاديمي الذي يقتصر دوره الحقيقي على إعطاء محاضرات نظريَّة وتطبيقات علميَّة قديمة التصوّر والتوصيف لمجموعة تغدو بائسة من الطلاب الذين يتخرّجون ولا يجدون لهم مكانا وسط السباق العلمي المحموم نظرا لامتلاكهم ثمّة معلومات علميَّة عن طريق هؤلاء الأساتذة.
ماذا عن تفعيل البحوث العلميَّة العربيَّة بشأن تلك المشتّتات بوصفها أهدافا تسرع من شأن الاستجابات المناعيَّة وتحمي من العدوى بالفعل؟ وإذا كان علماء الغرب اكتشفوا الدور المحوري الذي تلعبه المشتّتات في تحفيز الاستجابة المناعيَّة، فماذا عن علمائنا العرب في مواجهة عيوب المناعة المتأصِّلة التي تؤدِّي إلى قابليَّة أشد للإصابة بالفيروسات؟
وحتى تتمّ الإجابة والاستجابة من الأكاديميّين العلميّين العرب، سأتفرَّغ لقراءة البحث العلمي المعنون بـ ” الذراع الطويلة للجهاز المناعي ” للعالم جاك بانشيرو Jacques Banchereau .
ماذا عن تفعيل البحوث العلميَّة العربيَّة بشأن تلك المشتّتات بوصفها أهدافا تسرع من شأن الاستجابات المناعيَّة وتحمي من العدوى بالفعل؟ وإذا كان علماء الغرب اكتشفوا الدور المحوري الذي تلعبه المشتّتات في تحفيز الاستجابة المناعيَّة، فماذا عن علمائنا العرب في مواجهة عيوب المناعة المتأصِّلة التي تؤدِّي إلى قابليَّة أشد للإصابة بالفيروسات؟
__________
ـ أستاذ المناهج وطرائق تدريس اللغة العربيَّة ( م).
ـ كليَّة التربيَّة ـ جامعة المنيا.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.