القوَّة الناعمة؛ دبلوماسيَّة الثقافة الشعبيَّة والعلاقات الدوليَّة

image_pdf

 

عَرِفَ العالم الدبلوماسيَّة الثقافيَّة، أو ما أُصْطُلِحَ عليه بـ”الدبلوماسيَّة بين الثقافات” منذ عدَّة قرون خلت، رغم ظهورها المتأخِّر كسند ملازم للدبلوماسيَّة الرسميَّة، وفاعل مهمّ في العلاقات الدوليَّة. فقد نُظِرَ قديماً إلى الرحّالة والمسافرين والتجَّار والمعلِّمين والفنَّانين كأمثلة حيَّة لـ”سفراء غير رسميِّين”، أو “دبلوماسيِّين ثقافيِّين”، لأنهم يهيئونا للتبادل المعنوي، الذي يمكن أن يحدث في مجالات مثل الفن والرياضة والأدب والموسيقى والعلوم والأعمال والاقتصاد، وغيرها من ضروب المصالح، التي تتعزَّز بها الروابط السياسيَّة. وقد كان التفاعل الثقافي بين الشعوب، وعلى مرِّ التاريخ، ينحو إلى تبادل المعرفة باللغة، والدين، والأفكار، والفنون، وأشكال التنظيمات المجتمعيَّة، مما يُحسِّن العلاقات بين المجموعات المحليَّة والإقليميَّة والدوليَّة المتباينة.

وإذا كانت الثقافة هي مجموعة من القيم والممارسات، التي تخلق مَعْنَىً للمجتمع، وتشمل كلاً من “الثقافة العالية”، والتي تخاطب النخب؛ مثل الأدب والفن والتعليم، فإن قصدنا في هذا المقال هو “الثقافة الشعبيَّة”، والتي تميل إليها قطاعات أوسع من الجماهير. وهي نوع من” القوَّة الناعمة” الأوسع انتشاراً، ويُعَرِّفها جوزيف س. ناي، في كتابه “القوة الناعمة: وسائل النجاح في السياسة العالميَّة”، الصادر عن مطبعة كامبريدج عام 2004، بأنها “القدرة على الحصول على ما تريد من خلال الجذب بدلاً من الإكراه، أو الإغراءات، وينشأ من ثقافة البلاد والمثل السياسيَّة والسياسات”.

وهذا يدل على أن قيمة “الثقافة الشعبيَّة” لا تقل أهميَّة عن “الثقافة العالية” في اجتذاب الأجانب ورسم صورة إيجابيَّة للمجتمع والدولة، وباعتبارها عنصراً من عناصر الدبلوماسيَّة العامة، التي يمكن وصفها على أنها أفضل إجراءات تبادل الأفكار والقيم والتقاليد وغيرها من جوانب الثقافة، أو الهويَّة الخاصَّة، والاستفادة منها، سواء لتعزيز العلاقات، أو تعزيز التعاون الاجتماعي الثقافي، أو تعزيز المصالح الوطنيَّة. فالسياسة العالميَّة هي عمل جادّ؛ وهي اختبار دائم للمفاضلة بين السياسات الصعبة وإدارة الاختلافات المستعصية، أو كما قال جيرويد تواثيل وجون أغنيو، في بحثهما المنشور بمجلة “الجغرافيا السياسيَّة”، مارس 1992، حول “الجغرافيا السياسيَّة والخطاب: التفكير الجيوسياسي العملي في السياسة الخارجيَّة الأمريكيَّة”. إن الرأي في “مجال الحقائق الصعبة، والحقائق الماديَّة، والحقائق الطبيعيَّة لا يمكن كبته”. وبالتالي، فإن استصحاب، أو النظر في تأثيرات الثقافة الشعبيَّة، يُصْبِحُ ضرورة للتحليل والفهم لطبيعة خطاب الدبلوماسيَّة والعلاقات الدوليَّة.

لهذا، تُدْرَسْ وتُفْحَصْ مُمارسات السياسة الخارجيَّة الآن بطريقة لم يسبق لها مثيل، بل حتى تلك التي كان يفترض سابقاً، أو يعتقد أنها تقليديّاً، انحرفت عن الشؤون الدوليَّة، قد جذبتها وسائل الإعلام الاجتماعيَّة إلى ساحة السياسة العالميَّة. إذ تسمح المواقع التفاعليَّة للمستخدمين متابعة الأحداث السياسيَّة ونتائج الانتخابات في الوقت الحقيقي من الجانب الآخر من العالم، ويعني وضع البيانات على الانترنت أن العالم “هناك” متاح الآن على الهاتف المحمول الخاص بك. لذا، فإن كتاباً مثل “فهم الثقافة الشعبيَّة والسياسة العالميَّة في العصر الرقمي”، الذي حرّرته لورا شيبيرد وكيتلين هاميلتون، وصدر عن روتليدج عام 2016، يطرح هذه المواضيع في السياسة العالميَّة المعاصرة، ليتحقَّق فهم أفضل كيف أن الاتِّصالات الرقميَّة من خلال تقنيات وسائل الإعلام الجديدة تُغَيِّر تصوّراتنا وارتباطنا مع العالم.

قيمة “الثقافة الشعبيَّة” لا تقل أهميَّة عن “الثقافة العالية” في اجتذاب الأجانب ورسم صورة إيجابيَّة للمجتمع والدولة، وباعتبارها عنصراً من عناصر الدبلوماسيَّة العامة، التي يمكن وصفها على أنها أفضل إجراءات تبادل الأفكار والقيم والتقاليد وغيرها من جوانب الثقافة، أو الهويَّة الخاصَّة، والاستفادة منها، سواء لتعزيز العلاقات، أو تعزيز التعاون الاجتماعي الثقافي، أو تعزيز المصالح الوطنيَّة.

ويمثِّل هذا الكتاب نقطة البداية للحوار حول كيف بدأت التكنولوجيات الرقميَّة في التأثير على بحث وممارسة العلماء والفاعلين في مجال العلاقات الدوليَّة، وذلك بعرضه لمجموعة من الدراسات المعمَّقة، التي تتناول بشكلٍ خاصّ التناص بين السياسة العالميَّة والثقافة الرقميَّة الشعبيَّة. وسواء كان التركيز هو وسائل الإعلام الرقميَّة، أو الشبكات الاجتماعيَّة، أو المحتوى، الذي ينشئه المستخدمون، فإن مواقع النشاط السياسي هذه، والصياغات الفنيَّة، التي تنتجها، تُخبرنا كثيراً عن كيفيَّة إشتراكنا في صنع الثقافة، وإشراكنا للسياسة العالميَّة في تَمَثُّلِها في العصر الراهن.

وهنا، يلزم النظر إلى الديناميات المتغيِّرة للعلاقات الدوليَّة المعاصرة في سياق سياسات القوى، التي تُشَكِّل وتُشَكِّلها الثقافة الشعبيَّة. وذلك بالتركيز على النظريات والسياسات والأحداث الرئيسيَّة في السياسة العالميَّة، فيما يتعلَّق بكل من وسائط الإعلام التقليديَّة والجديدة. والتساؤل حول كيف تنعكس السياسة العالميَّة، أو تستنسخ في الثقافة الشعبيَّة؟ وكيف تُشَكِّل سياسات الثقافة الشعبيَّة ديناميات السياسة العالميَّة؟ وما هي أساليب وطرق الربط بين الثقافة الشعبيَّة والسياسة العالميَّة في العلوم الاجتماعيَّة والبحوث الدراسات الثقافيَّة؟ وكيف يمكن تحديد وتحليل وتقييم وتفسير مصادر المواد الرئيسيَّة للسياسة العالميَّة والثقافة الشعبيَّة؟ وكيف يُجْرَى التخطيط، والبحوث الأصليَّة والتعامل معها؟ وبهذه المعرفة المتخصِّصة، وإدراك المهارات المرتبطة بمختلف المهن، بما في ذلك الوكالات الحكوميَّة، والأعمال التجاريَّة، ووسائل الإعلام، وغيرها من المجالات، التي تدعو الحاجة فيها إلى المعرفة المتقدمة وفهم السياسة العالميَّة المعاصرة، إلى جانب الثقافة الشعبيَّة، يتحقق التكامل المرغوب بين الثقافة والدبلوماسيَّة.

إنَّ الالتزام بمحدّدات الإجابات الصحيحة على هذه الأسئلة، وغيرها، يوفِّر بالطبع مدخلاً مهماً للفهم وللتدريب على الانضباط الدبلوماسي في أداء السياسة الخارجيَّة، خصوصاً في مجال الاقتصاد السياسي الدولي. إذ هو يتضمَّن معرفةً للنقاش المعاصر بشأن العولمة وأثرها على الدول والاقتصادات والمجتمعات في البلدان المتقدمة والناميَّة على السواء. وهو يغطي الديناميات الدوليَّة من خلال مجموعة من المناهج النظريَّة والتجريبيَّة والمنطقة القائمة ذات الصلة في مكان العمل. كما يُعطي الأساس المنهجي لفهم المجتمع الدولي المعاصر، ويطور الخبرة لمجموعة من المهن، التي تحتاج إلى فهم متقدم لمسارات السياسة الخارجيَّة.

لقد جاء في دراسة مهمَّة، بعنوان: “من القوَّة الناعمة والثقافة الشعبيَّة إلى السياسة العالميَّة”، التي صدرت في عام 2011، وقادت فريق تحريرها كريستينا رولي، من جامعة بريستول، المملكة المتحدة، أنَّ النصوص الثقافيَّة الشعبيَّة والمؤسَّسات والممارسات، سواء وسائل الإعلام، والرياضة، والأفلام، أو السياحة، غالباً ما يتمّ تصنيفها باعتبارها أصول لقوَّة ناعمة كبيرة. ومع ذلك، فإنَّ معظم حسابات القوَّة الناعمة لا تُسْتَصْحَب بعمق في أي من عمل الآليَّات، التي تمارس من خلالها هذه الثقافة الشعبيَّة النفوذ، وهي فجوة تُعبِّر عن أعراض إهمال أعمق للثقافة الشعبيَّة في العلاقات الدوليَّة. وقد سعت هذه الدراسة إلى معالجة هذا الإهمال من خلال تقديم نظريَّة أكثر تفصيلاً للثقافة الشعبيَّة والسياسة العالميَّة.

ويمكن استجواب أمثلة على شيوع الثقافة الشعبيَّة في أدبيَّات القوَّة الناعمة لتوضيح الانفتاح على عمق تأثيرات هذه الثقافة، التي تقدِّم العلاقات الدوليَّة، وإبراز القيود على هذا الانفتاح، على حدٍّ سواء. فإذا تراضى الناس على الاستجابة لهذه القيود، ينبغي اقتراح تصوّر أكثر تعقيداً من مجرّد الحديث المرسل عن الثقافة الشعبيَّة والسياسة العالميَّة، التي 1) تأخذ على محمل الجدّ تعقيد الإدعاءات السببيَّة عن الثقافة الشعبيَّة المضمنة في أدبيَّات القوَّة الناعمة، 2) وتعمل مع فهم أكثر دقَّة لصناعة المعنى وآليّات التواصل، 3) وتقدِّم الدور التأسيسي للثقافة الشعبيَّة في السياسة العالميَّة. وبمثل هذا الفهم، ينبغي أن يقرّ التصوّر المقترح بأن النصوص الثقافيَّة والممارسات والمؤسَّسات الشعبيَّة هي سياسة عالميَّة، ومن ثم يجب أن تكون مركزيَّة في تحليلها التجريبي والنظري. وبهذا، يمكن توضيح الحجج من خلال دراسة بعض التشابكات الأساسيَّة للثقافة الشعبيَّة مع السياسة العالميَّة.

لهذا، فإن الحديث عن الثقافة الشعبيَّة والسياسة العالميَّة لا يطعن في دراسات السياسة الخارجيَّة والدبلوماسيَّة، ولا يعتدي على، أو يتعدَّى حدود التخصّصات المتعلقة بالعلاقات الدوليَّة. إذ إن دراسة الثقافة الشعبيَّة في عالم السياسة ليست تطوّراً جديداً نشأ للتو؛ فمنذ تسعينات القرن الماضي، هناك عدد متزايد من علماء العلاقات الدوليَّة لجأوا لاستخدام مصادر التراث الجماليَّة والمصنوعات اليدويَّة للثقافة الشعبيَّة لمعالجة القضايا المتعلِّقة بمساق العلاقات الدوليَّة. ومع ذلك، فإنه في كثير من الأحيان لا يزال هذا النوع من الأبحاث غير مرحَّب به في العلوم الاجتماعيَّة. وهذا أمر مؤسف يصعب القبول به، فالمزايا لجلب شعبيَّة الثقافة والسياسة العالميَّة معاً متعدِّدة.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن الأخذ بمصادر الثقافة الشعبيَّة كمنصَّات انطلاق للسياسة العالميَّة، كما جاء في كتابات بليكر 2001، ومور 2009، وشيبرد 2010، تُشجعنا للنظر في دور السياسة البصريَّة والعواطف في تشكيل العالم الاجتماعي والسياسي. رغم أن ويلديز في عام 2006، كان يظن أن هذا المنحى سيعقد التسلسل الهرمي لمصادر السياسة العالميَّة؛ الأمر الذي يدعونا للطعن في فكرة أن السياسة العالميَّة تجري فقط في المجال العام، أي الرسمي، وهذا الرأي يتَّفق مع ما قال به إينولي عام 1989 وديتمير وغراي 2010. وفي هذا مغالطة للواقع بائنة، لأن الجمع بين السياسة العالميَّة والثقافة الشعبيَّة يحاكي المناقشات الدائرة في العلاقات الدوليَّة، ويخلق مساحات جديدة للتفكير النقدي في العمل الدبلوماسي.

إنَّ الثقافة الشعبيَّة لم تعد مهجورة، أو معزولة عن منهج دراسة العلاقات الدوليَّة، فهي اليوم حقل أكاديمي نابض بالحياة، تنشغل بدراستها الجامعات، وتُؤلَّف فيها البحوث المبتكرة، التي نجحت في التأسيس لها كنظريَّة قائمة بذاتها. وللتمثيل على سعة الاهتمام الحاضر، فقد انتظم في الفترة من 23-25 نوفمبر 2017، في جامعة نيوكاسل، المملكة المتحدة، مؤتمر عن “الثقافة الشعبيَّة والسياسة العالميَّة” قُدِمَت فيه مجموعة كبيرة من الأبحاث من منظورات كانت حكراً على مساقات الدبلوماسيَّة، والسياسة الخارجيَّة، والعلاقات الدوليَّة. وقد يسأل سائل: لماذا يتعيَّن علينا فهم الثقافة الشعبيَّة إذا كُنَّا في الأصل مهتمِّين بالسياسة العالميَّة والدبلوماسيَّة؟ وقد تبدو الإجابة، من الوهلة الأولى، سهلة لضآلة ما هو معروف عن العلاقة بين المجالين، إلا أن السياسة العالميَّة، والحسّ السليم، يُخبرانا؛ أولاً، وقبل كل شيء عن قضايا المجتمعات، بما فيها متطلّبات الحياة وأسباب المعاناة؛ مثل، التعاون والصراع، والحرب والسلام، والتطهير العرقي، والإبادة الجماعيَّة، وانتشار الأمراض الوبائيَّة على الصعيد العالمي، واللاجئين، والكوارث الطبيعيَّة، وانتشار الأسلحة النوويَّة، والإرهاب، ومكافحة الإرهاب، والاتجار بالأسلحة، والمخدرات، والبشر، والمجاعات، والتجارة الحرة، والشركات الاحتكاريَّة، والعولمة.

إنَّ الثقافة الشعبيَّة لم تعد مهجورة، أو معزولة عن منهج دراسة العلاقات الدوليَّة، فهي اليوم حقل أكاديمي نابض بالحياة، تنشغل بدراستها الجامعات، وتُؤلَّف فيها البحوث المبتكرة، التي نجحت في التأسيس لها كنظريَّة قائمة بذاتها.

وقد يكون مفيداً لفت الانتباه لسلسلة “الثقافة العامَّة والسياسة العالميَّة” الأمريكيَّة، وهي منتدى لاقتراح البحوث متعدِّدة التخصّصات؛ تستكشف الروابط العميقة والمتنوّعة بين الثقافة الشعبيَّة والسياسة العالميَّة. وتهدف إلى تحقيق المزيد من الابتكار، والدقَّة، والاعتراف، بهذا المجال الفرعي الناشئ من مساق العلاقات الدوليَّة. ولتحقيق هذه الغايات، تهتمّ السلسلة بمواضيع مختلفة تجاور الصيغ الثقافيَّة، التي تزداد اتِّساعاً في نطاقها؛ مثل أشكال الإنتاج والتوزيع والاستهلاك على المستويات الإقليميَّة والمحليَّة والمحليَّة؛ إلى المواجهات بين الحياة الثقافيَّة والقوى السياسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة العالميَّة؛ إلى الأشكال الجديدة، أو الناشئة من السياسة، والتي تنجم عن إعادة تنظيم، أو تدويل الثقافة العامَّة.

وتشجِّع هذه السلسلة، بالإضافة إلى ضروب الإبداع المختلفة؛ كالأفلام والتلفزيون والأدب والفن، بحماس البحث في خصوصيات الميراث الاجتماعي المتنوّعة، بما في ذلك جماليات الصوت والصورة، والموسيقى، والثقافات الغذائيَّة، والألعاب الترفيهيَّة، والتصميم والهندسة المعماريَّة، والبرمجة، وأدوات الترفيه، والرياضة، وأخبار الأعيان والمشاهير. وتُعَدُّ مناهج دراساتها شديدة التنوع في مقارباتها حول الثقافة الشعبيَّة والسياسة العالميَّة، وهي مهتمَّة بالأبعاد الثقافيَّة للهيمنة والمقاومة والقوَّة، في الماضي والحاضر والمستقبل.

وبالمثل، تسعى جهودُ علميَّة متنوّعةُ حول العالم إلى إفساح فضاء للعمل يُعين على استكشف آثار التكنولوجيات الجديدة ووسائل الإعلام الجديدة على الممارسات المعروفة والمعتمدة للتمثيل الدبلوماسي والمعنى السياسي. وتشجع على المشاركة مع الثقافة الشعبيَّة كوسيلة للتنافس على سرديات موثقة لأحداث معينة وتسويات سياسيَّة، فضلاً عن استكشاف الطرق، التي يسترشد فيها الخطاب السياسي السائد بهذه الثقافة الشعبيَّة. كما تُشجِّع التحقيق في كيفيَّة مساهمة الثقافة الشعبيَّة في تغيير التصوّرات المتعلّقة بالوقت، والفضاء، والحجم، والهويَّة، والمشاركة، مع تحديد الحدود الخارجيَّة لما يفهم شعبياً بأنه “سياسي”، أو “ثقافي”.

وعلاوة على ذلك، يمكن أن يُساهم الاهتمام بالثقافة الشعبيَّة في دفع العلاقات الدوليَّة بعيداً عن التحليلات السياسيَّة الكليَّة الراكدة، التي تركز على العلاقات الرسميَّة بين الدول، وذلك بإيجاد مرجعيات مستحدثة، وتسليط الضوء على الديناميات الجديدة للسلطة. ويستبعد هذا افتراض وايت 1960 أن نظريَّة العلاقات الدوليَّة هي مجرد إنتاج المعرفة في العلاقات بين الدول، والتركيز على الثقافة الشعبيَّة هو استجابة لدعوة من قبل بعض علماء العلاقات الدوليَّة لتحويل الاهتمام من الدولة إلى الفرد. على سبيل المثال، في حين أن لعبة الفيديو الإيضاحيَّة قد لا تشبه المصادر، التي تعودنا على استخدامها أكثر من غيرها لدراسة مثل البيانات الرئاسيَّة، وموجزات السياسة، والمعاهدات، فإنه لا يزال موقع السياسة الجزئيَّة معتلاً حيث تتشخصن القضايا، وتتضخَّم الذوات السياسيَّة، وتطرأ المخاوف والتهيؤات الجيوسياسيَّة والأمنيَّة، وتتصارع الهويَّات، وتتعارك المجتمعات المتخيّلة، التي يُعاد إنتاجها على مستوى الحياة اليوميَّة في ممارسات السياسة الخارجيَّة.

وفي الختام، يمكن القول إنَّ الدبلوماسيَّة الثقافيَّة، ببعديها الشعبي والنخبوي، عند تعلّمها جيداً، والفهم العميق لتأثيراتها، وإحسان تطبيقها على جميع المستويات، تمتلك القدرة الفريدة على التأثير على “الرأي العام العالمي”، ومحاورة أيديولوجيَّة الأفراد، أو المجتمعات، أو الثقافات، أو الأمم، بطريقة تُعَظِّم المصالح الوطنيَّة المرجوّة من نشاط السياسات الخارجيَّة، وحيويَّة الفعل الدبلوماسي. إذ إنه قد بات واضحاً الآن، وفي عالم يزداد اتِّساعاً وترابطاً، أن انتشار تكنولوجيا الاتِّصال الجماهيري يكفل لنا جميعاً إمكانيَّة الوصول إلى بعضنا البعض بسرعة فائقة أكثر من أي وقت مضى. إذ تُعدّ الدبلوماسيَّة الثقافيَّة، بأبعادها المختلفة، “شعبيَّة”، أو “عاليَّة”، حاسمة في تعزيز السلام والاستقرار في جميع أنحاء العالم.

 

الدكتور الصادق الفقيه

عمان، المملكة الأردنيَّة الهاشميَّة

السبت 20/1/2018

جديدنا