الهرمنيوطيقا والقراءة الحداثيَّة للدين؛ دراسة في قراءة مجتهد شبستري للدين

image_pdf

مقدّمة:

         منذ القرن التاسع عشر انتظمت العالم الإسلامي حركات إصلاح ديني، كانت تهدف إلى تحديث المجتمعات المسلمة بتقديم قراءات جديدة للدين تستلهم روح الحداثة الغربيَّة مع الحفاظ على روح الدين وعدم المساس بها، ويمكن القول هنا إنَّ محاولة كل من الأفغاني ومحمد عبده وتلاميذهم كانت من هذا النوع، ولكنها لم تكن تعي روح الحداثة ومنجزاتها بشكل جديد، وهو السبب الذي أوقعها في النزعة التلفيقيَّة، وهذا ما يعدّه المؤرِّخون للفكر الإسلامي الحديث من بين الأسباب الرئيسيَّة التي أدَّت إلى فشل النهضة في العالم الإسلامي. وبعد ذلك وفي النصف الأخير من القرن العشرين، ظهرت قراءات إصلاحيَّة جديدة للدين، من أهمّ مميزاتها أنها أكثر وعيا بالحداثة الغربيَّة ومنجزاتها وبمشاكل العالم الإسلامي، ولعلّ من أهمّهما قراءة كل من نصر حامد أبو زيد ومحمد أركون ومحمد شحرور والكثيرين غيرهم. ولكن أهمّها كما أعتقد قراءة محمد مجتهد شبستري؛ ذلك أنها تقدِّم لنا نموذجا فريدا في التعامل مع الحداثة الغربيَّة واستخدام منجزاتها في تثوير الدين وتقديم فهم عصري له يحترم أسئلة الإنسان المعاصر ويؤسِّس للإيمان الديني بالمعنى الحداثي الذي دشَّنته القراءات الحداثيَّة لكل من المسيحيَّة واليهوديَّة. ويمكن القول أيضا أنَّ قراءة شبستري تحاول جعل الدين عاملا من عوامل النهضة، وذلك أنها تشخِّص بشكل دقيق أزمة ما يسمّيه هو بالقراءة الرسميَّة التي تستخدم من قبل الأنظمة السياسيَّة لتبرير التسلُّط والقهر وتغييب الديمقراطيَّة، وهي تسعى أيضا إلى نقد هذه القراءة الرسميَّة وتفكيكها ما أجَّل تجاوزها وذلك عبر تقديم قراءة حداثيَّة للدين يسميها شبستري بالقراءة البشريَّة للدين. سأحاول في هذه الورقة دراسة هذه القراءة الشبستريَّة كنموذج من نماذج الانفتاح على الحداثة الغربيَّة والاستفادة من منجزاتها.

في معنى القراءة الرسميَّة للدين وضرورة نقدها:

      لكي نعرف معنى القراءة الحداثيَّة للدين التي يقدمها شبستري لا بد من معرفة ما يسمّيه بأزمة القراءة الرسميَّة للدين، ذلك أن هذه القراءة الحداثيَّة تتأسَّس على نقد هذه القراءة الرسميَّة، كما أنَّ مفهوم القراءة الرسميَّة للدين هو من المفاهيم التأسيسيَّة في الجهاز المفاهيمي الذي يستعمله شبستري لإنجاز القراءة الحداثيَّة وكل محاولة تتجنَّب التعرّض لهذا المفهوم ستفشل في الإجابة عن السؤال: ما هي القراءة الحداثيَّة عنده؟

           يعرِّف شبستري القراءة الرسميَّة للدين بأنها تلك القراءة التي ترى ” أن الإسلام بوصفه دينا يملك منظومات متكاملة على المستوى السياسي والاقتصادي والحقوقي ناتجة من علم الفقه بحيث يمكن للمجتمعات البشريَّة في كل عصر أن تعيش أجواء هذه المنظومات والقوانين، وأن الله تعالى طلب من المسلمين أن يعيشوا في جميع العصور في ظلِّ هذه النظم السياسيَّة والاقتصاديَّة”[1] بهذا المعنى فإن كل قراءة للدين تدَّعي المشروعيَّة والصلاحيَّة لكل زمان ومكان، لا بد تقع ضمن ترسيمات القراءة الرسميَّة للدين ، وأوَّل ما يفعله  شبستري لنقد هذه القراءة هو إثبات بشريَّة الفقه وقواعده التي شيّدت عليها هذه المنظّمة التي تدّعي الصلاحيَّة الأبديَّة،  لأنه وبدون هذا الإجراء فإنَّ نقدها سيعدّ نقدا للدين نفسه والمقدّسات ولذلك يقول ” إنَّ ما يطرحه علماء الدين من معارف وتعاليم دينيَّة، إنما هي معارف بشريَّة لأنّ علماء الدين هم من البشر ويفهمون دعوة الأنبياء والوحي من خلال المعايير البشريَّة”[2] إنَّ بشريَّة المعايير التي يفهم بها العلماء (الفقهاء) الدين تعني لا قداستها وبالتالي فتح الباب أما نقدها وكشف دورها التعطيلي المكبّل لنهوض المجتمعات المسلمة. فأتباع هذه القراءة الرسميَّة يعلّبون دورا تعطيليّا كما يرى شبستري؛ فهم “يقومون بشلّ وتجميد الفكر الديني، ويكون الدين عاملا في إعاقة حركة التكامل المعنوي، والرشد الفكري، والتقدُّم الحضاري، وحلّ مشكلات الحياة في واقع المجتمعات البشريَّة”[3]  ولذلك ينبغي نقد هذه القراءة الرسميَّة التي تمرُّ بأزمة حادَّة تجعل نقدها ضرورة ملحَّة، ومن ثمّ تجاوزها من بعد ذلك بتقديم قراءة حداثيَّة.

       إنَّ من أهم الخصائص التي تميِّز القراءة الرسميَّة للدين وتعتبر العنصر الأول من عناصر أزمتها هو لا عقلانيّتها وتأسّسها على عناصر غير حداثيَّة، إذا ما فهمنا أنَّ الحريَّة والديمقراطيَّة وحقوق الإنسان من أهم مكتسبات الحداثة على كل الأصعدة، وهذا العنصر لم يكن ليبرز لولا دخول المجتمعات المسلمة في حداثة شكليَّة تمثَّلت في أنّ المسلمين ومنذ ما يقرب من 150 سنة استقبلوا منهجا جديدا للحياة يقطع مع المنهج القديم الذي كان باستطاعة المنظومات الفقهيَّة إدارته بشكل ما. وهذا التغيُّر استدعى وجود معايير جديدة تدير هذا المنهج الجديد للحياة، وشبستري يربط هذا التغيُّر الجذري بتطوّر العلوم فيقول ” ثمَّة موازين ومعايير معيّنة لهذه الحياة الجديدة، فهذه الحياة من جهة تدار بالاستعانة بالعلوم التجريبيَّة والتقنيَّة الحديثة، ومن جهة أخرى بالاستمداد من فلسفة الحقوق، وفلسفة الأخلاق والسياسة والعلوم الاجتماعيَّة”[4] وبالتالي كما يرى شبستري فإنَّ المنظومة الفقهيَّة تغدو غير صالحة لإدارة الحياة المدنيَّة الحديثة. وبالتالي لا بد من تشييد منظومة جديدة، تتأسَّس على منجزات الحداثة على كل الأصعدة.

        يحدِّد شبستري أهم خصيصة  أخرى تجعل القراءة الرسميَّة تواجه أزمة ينبغي تجاوزها وهي أنّها “تدعو الناس إلى عدم مشاركتهم في رسم مصيرهم الاجتماعي، ومن جهة أخرى تسوِّغ استخدام العنف ضدّ المخالفين، ومن جهة ثالثة تفتقد الاعتبار العلمي والأصالة والعقلانيَّة، فلا تحمل في ثناياها الخطاب المعنوي فحسب، بل توصد أمام السالكين طريق الوصول إلى المعنويَّة، ومن هذه الجهة فإنَّ هذه القراءة تتحوَّل ضدّ الدين”[5]  وبمعنى آخر فإن القراءة الرسميَّة للدين ترتبط بسياق تاريخي معين كما ذكرت، وهذا السياق التاريخي انتفى بدخول العالم الإسلامي في سياق تاريخي جديد لا يقطع مع السياق التاريخي القديم نهائيّا ولكنه يختلف عنه كثيرا، لذلك يغدو من الضروري تجاوز القراءة الرسميَّة للدين لأنّها تعيق تطوّر هذه المجتمعات، وهذا لن يتمّ إلا بإعادة قراءة الدين وفقا لسياقنا التاريخي الراهن، أي فهمه فهما حداثيّا  يأخذ بالاعتبار هذا الشرط الحداثي الذي دخلت فيه المجتمعات المسلمة ويحاول إيجاد منظومات قيميَّة جديدة تصلح لتدبير شؤون المجتمعات المسلمة بما يحقِّق نهضتها، ويقول شبستري في ذلك” إنَّ القراءة الأرثوذكسيَّة ترتبط بالمجتمع التقليدي وتقوم على بنى وسياقات ثقافيَّة في ذلك المجتمع تختلف عن البنى والسياقات الموجودة في مجتمعنا في عصر الحداثة”[6] وتجدر الإشارة هنا إلى أن شبستري لا يقصد أننا نعيش حداثة كالتي يعيشها الغرب وإنما يقصد أنه وعلى صعيد الدولة والاقتصاد والتكنولوجيا و…الخ فإن مجتمعاتنا تعيش حداثة،  أمَّا على صعيد الفكر فإنّها لا زالت غير حداثيَّة ومن أهمّ مظاهر لا حداثة مجتمعاتنا هو أنَّ القراءة الرسميَّة للدين هي المسيطرة على الفضاء العام السياسي والاجتماعي، ولا زالت مجتمعاتنا واقعة تحت تسلُّط المنظومات الفقهيَّة بحجّة أنها أبديَّة وصالحة لكل زمان ومكان. واستنادا إلى هذا الوضع يشدِّد شبستري على أنه ولكي تدخل المجتمعات المسلمة الحداثة الفكريَّة فلا بد من قراءة حداثيَّة للدين.

           إنّ شبستري يحدِّد ست مباني ترتكز عليها القراءة الرسميَّة للدين، ويرى أن نقدها لا بد أن يتوجَّه إلى هذه المباني، ولكن قبل أن أعرضها لا بد من التأكيد على أن النقد الشبستري ينطلق من أرضيَّة حداثيَّة، فهو يستلهم منجزات الحداثة خاصّة الهيرمنيوطيقا واللسانيات والدراسات التاريخيَّة ليقوِّض هذه الأسس أو المباني التي تتشيَّد عليها القراءة الرسميَّة.

          إنَّ أوّل هذه الأسس هو “القول بوجود مصدر واحد للمعرفة البشريَّة، ووضع جميع المعارف والعلوم الأخرى في ظلّ المعرفة الدينيَّة “[7]  وهذا المصدر الواحد هو الوحي الذي تستنبط منه كل المعارف الأخرى، وهذا يعني أن المعرفة الدينيَّة هي المعيار الأوحد الذي تتحدَّد عبره قيمة المعارف الأخرى والعلوم بالتبعيَّة، وبهذا فإنَّ توطّن هذه العلوم (الطبيعيَّة) والمعارف الأخرى (الدراسات الاجتماعيَّة والإنسانيَّة) في ثقافة المجتمعات المسلمة وحتى تطوّرها يرتبط بهدم هذا المبنى لدى شبستري. وهذا المبنى هو الذي يثير لغطا كبيرا حول بعض نظريّات العلوم مثل نظريَّة التطوّر والانفجار العظيم هذا على صعيد العلوم الطبيعيَّة، أما على صعيد العلوم الاجتماعيَّة فنجد رفضا لنظريّات كثيرة أيضا مثل الماركسيَّة والتحليل الثقافي ونظريّات النقد التاريخي التي تهدف إلى نقد النصوص الدينيَّة.

            أمَّا المبنى الثاني فهو “القول بأن اللغة غير تاريخيَّة وغير اجتماعيَّة “ميتاتاريخيَّة واجتماعيَّة” والغفلة عن أن سياقات جميع اللغات ومنها اللغة العربيَّة هي سياقات تاريخيَّة-اجتماعيَّة، ولا يمكن لأي لغة بيان جميع المعارف الممكنة والمتصوّرة”[8] بمعنى آخر فإن هذا المبنى يكرِّس لأبديَّة المعاني التي تحتوي عليها النصوص الدينيَّة، ذلك أن لا تاريخانيَّة اللغة تعني فيما تعني لاتاريخانيَّة القراءة الرسميَّة ، وبالتالي صلاحيتها لكل زمان ومكان  وهذه المسلمة هي ما يتوجَّه إليه شبستري بالنقد عندما يقول إنَّ كل المعرفة الدينيَّة التي أنتجها الفقهاء والمفسّرون حول النصّ الديني هي معارف بشريَّة، وبالتالي خاضعة للظرف التاريخي الذي يعيش فيه الفقيه أو المفسِّر.

        أما المبنى الثالث فهو “تصوّر وجود مفهوم أو فلسفة وحيدة في عالم الإمكان، وهي عبارة عن: معقوليَّة التاريخ ونظمه، والحال توجد تصوّرات أخرى للتاريخ لا توجد فيها معقوليَّة أو نظام خاص، “[9] هذا المبنى يتعلَّق بموضوعات مثل النبوَّة والوحي، لأن عدم وجود مثل هذا النوع من التصوّرات يعني أنه لا يمكن بحال تأسيس تصوّرات عن غائيَّة الله من إرساله للرسل.   وبعده يأتي المبنى الرابع الذي يتَّصل بالدرس الهرمنيوطيقي وهو يقوم على “تصوّر أن معاني النصوص الدينيَّة تتبادر إلى الذهن بشكل مباشر من الكلمات والعبارات الواردة في هذه النصوص، وأن النصوص لا تقبل إلا تفسيرا واحدا ومعنى فاردا”[10] ويرى شبستري أنَّ هذا القول هو الذي ينفي تعدُّد القراءات الدينيَّة ونسبيتها، وبالتالي يبرِّر استخدام العنف ضدّ أصحاب القراءات المختلفة بحكم أنَّ الحقيقة واحدة وأنَّ أنصار القراءة الرسميَّة هم من توصَّلوا إليها، وتكفي نظرة سطحيَّة فقط للصراعات المذهبيَّة في تاريخ الإسلام حتى تتَّضح مساهمة هذا القول فيها بشكل كبير، حتى في عصرنا الذي نعيشه فادِّعاء امتلاك الحقيقة الدينيَّة ظلَّ يغذِّي الصراعات المذهبيَّة داخل الإسلام والمجتمعات المسلمة، ويستعين شبستري بالهرمنيوظيقا لهدم هذا المبنى فيقول “إن كل فهم وتفسير لنص معين يقوم على أساس رؤية وفرضيَّة مسبقة، وبما أن هذه الرؤى والمفروضات للناس في مقام فهم النص متفاوتة ومختلفة، فإنَّ قراءتهم وفهمهم لمعنى النصّ سيكون متفاوتا بالتبع، وهذا التفاوت ممَّا لا محيص عنه”[11] .

         أمَّا المبنى الخامس فهو “تصوّر أنَّه بالإمكان في دائرة المعرفة إثبات الحقيقة بشكل مبرهن وعدم الالتفات إلى البحوث الفلسفيَّة والمنطقيَّة التي تنقض إمكانيَّة مثل هذا البرهان لإثبات الحقيقة”[12] والمعنى هنا، أن هذه المبنى هو الذي يقصي أغلب منجزات العلوم في العصر الحديث، لأنَّ القراءة الرسميَّة تدَّعي حقانيتها ليس من حجج وبراهين منطقيَّة أو عقليَّة، وإنما من قداسة مستمدَّة من إلهيَّة النص الذي تفسِّره. وهذا يرفضه شبستري تماما.

           أمَّا المبنى السادس والأخير فهو “العدول من المنهج الفلسفي والعرفاني للفلاسفة والعرفاء المسلمين في مباحث التوحيد، إلى المنهج الكلامي والاعتماد على أمور اعتباريَّة من قبيل الحسن والقبح العقليِّين في مسألة النبوَّة”[13] هذا المبنى متعلّق بفهم شبستري نفسه للتراث، فهو يعرف نفسه من بين أنصار العرفان الإسلامي الذي كان أكثر القراءات انفتاحا وتسامحا وكثيرا ما يضرب المثل بأن العرفاء الشيعة كان يقدرون ابن عربي العارف المثل، دليلا على أن هذه القراءة العرفانيَّة هي أرحب القراءات في التراث الإسلامي.  والآن وبعد وصولنا إلى هذه النقطة سأنتقل إلى معنى القراءة الحداثيَّة.

الهرمنيوطيقا والقراءة الحداثيَّة للدين:

       إنَّ القراءة الحداثيَّة الدين والتي يقترحها شبستري تستند على أهم منجزات الحداثة الغربيَّة كما أشرت سابقا، ألا وهي الهيرمنيوطيقا، ولكنها كذلك تستند على منجزات أخرى للحداثة مثل الدراسات التاريخيَّة والمناهج النقديَّة التي طوّرتها منذ القرن السابع عشر، وكذلك منجزات الدراسات اللغويَّة والفلسفة وحتى الاجتماعيَّة، وهذا آتٍ من مرتكز مهمّ لدى شبستري وهو أنَّ عقيدة الإنسان تتحوَّل وتتطوَّر بتطوّر وتحوّل المعارف البشريَّة ” المرتكزات الفكريَّة لكل إنسان هي الأدوات التي تفهم بها مسألة الله، ومعنى الرسول، ودور النبوّة، وهي أدوات تستمد من العلوم والمعارف المتوفِّرة في عصرها”[14] وبالتالي فإنّ كل تطوّر في العلوم والمعارف يلزم عنه تطوّر موازٍ في العقائد وأشكالها، ومن هنا قوله بضرورة الإصلاح الديني الذي يتمثَّل في تقديم قراءات حداثيَّة للدين هي القراءة البشريَّة ويعرف شبستري هذا الإصلاح بأنَّه ” إصلاح بمعنى العودة إلى خامات الإسلام (الكتاب والسنة) بهدف تشييد بناء فكري وعقدي ديني جديد يتلاءم مع الصورة والتجربة التي يحملها الإنسان المعاصر للعالم والإنسان”[15] وهذا هو الهدف الأساسي من نقد القراءة الرسميَّة؛ أي تشييد هذا البناء الفكري الذي سيحلّ محلّ المنظومة الفقهيَّة القديمة.

        إن شبستري يؤسِّس لقراءته الحداثيَّة والتي يسمّيها القراءة البشريَّة للدين بالحديث عن تغيّر مهمّ جدا فيما يتعلَّق بالدراسات اللغويَّة في سياق الحداثة الغربيَّة، والذي ترتَّبت عنه تغيّرات جذريَّة فيما يتعلَّق بفهم النصوص ويقول في ذلك “في القرن الثامن عشر ظهر تحوّل في علم اللسانيّات وتبدَّلت اللغة إلى موضوع معقَّد وظهرت على هذا الأساس فلسفات مثاليَّة جديد، وهكذا فقد المعنى بساطته وبرزت نظريَّات مختلفة في باب حقيقة المعنى والمقصود منه، ومن البديهي أنَّ المعنى في أي من النظريَّات اللغويَّة الجديدة لم يعد عبارة عن الواقع الخارجي”[16] إنَّ انفكاك المعنى عن الواقع الخارجي يعني بالضرورة تاريخانيّته، ممّا يفتح الباب أمام الإنسان الذي يعيش في ظرف تاريخي مغاير للظرف التاريخي الذي تشكّل فيه النصّ أو الظرف الذي فسّر فيه،  أن يقدِّم تفسيره هو أيضا للنص، فانفصال المعنى عن الواقع الخارجي يعني أيضا انفكاكه عن أن يكون له تفسير واحد تمَّ تحصيله في زمن محدَّد. ولكنه لا يعني بحال أنَّ كل التفاسير التي يمكن تقديمها صحيحة كلها ويقول شبستري في ذلك “إنَّ فهم النصّ إنما يتحقَّق مع تلاقي الأفق التاريخي للفهم مع الأفق التاريخي لظهور النص، وذلك يساهم بدوره في تبيان المعاني، وفي ذات الوقت يفتح الطريق أمام نقد هذه المعاني المتفاوتة، وليس المقصود أنَّ كل المعاني المدعاة صحيحة، بل إنَّ المعنى الصحيح هو الذي يخلص من بوتقة النقد بشكل نسبي”[17]  كما أن إمكان تعدُّد المعاني وبالتالي القراءات يتأسَّس بدوره على أنه لا يمكن لأي تفسير أن يدَّعي أنّه يمتلك الحقيقة المطلقة، وبالتالي فإنَّ كل قراءة مقدّمة للدين هي قراءة بشريَّة، وبالتالي قابلة للنقد وليست بالقراءة الرسميَّة للدين التي تدَّعي القداسة وامتلاك الحقيقة المطلقة.

        إنَّ هذه القراءات المتعدِّدة لا بدّ لها من البرهنة على معقوليّتها حتى تصبح قراءات مقبولة، والمعيار هنا كما يقرِّر شبستري، هو ضوابط الهرمنيوطيقا، وهذه الضوابط الهرمنيوطيقيَّة تقول صراحة ببشريَّة الفهم وعدم قداسته، ويقترح شبستري لتشييد القراءة البشريَّة للدين الالتزام بمقوّمات الهرمنيوطيقيا في تفسير النصوص، ويحصر هذه المقوّمات في خمس نقاط سأناقشها هنا تباعا.

             أوَّل هذه المقوّمات هو ما يسمّيه بقبليّات المفسِّر والدور الهرمنيوطيقي، أي كل المعلومات التي تكون في ذهن قارئ  أو مفسّر النص قبل بدء القراءة، وتدخل فيها حتى عقائده ومسلماته ويري شبستري أن بدونها لا يمكن فهم النصوص فهي حتميَّة الوجود ويقول في ذلك “الحقيقة الأخرى التي تدلّ على حتميَّة وجود القبليّات في عمليَّة فهم النصوص، هي أنَّ الفهم يبدأ بالسؤال، والسؤال غير ممكن من دون معلومة مسبقة”[18] فطرح السؤال يستبطن أصلا وجود معلومة عن الموضوع فليس بالإمكان السؤال عن المجهول، وكل قراءة لنص لابد أن تحتوي على معرفة مسبقة بإمكان وجود أجوبة لأسئلة الإنسان القارئ داخل النص، ولو لم تكن هذا المعلومة المسبقة موجودة لم تكن هناك حاجة لقراءة هذا النص بالذات من دون النصوص الأخرى فمن الخبل قراءة نص تاريخي للحصول منه على أجوبة تتعلَّق بعلم الفلك. وهذه المسلمات المسبقة ذات صلة بالمقوم الثاني من مقومات الهرمنيوطيقا والذي يسميه شبستري بميول وتطلعات المفسرين وهي محفزات تدفع المفسر في الشروع في عمليَّة الفهم وهي نوع من أنواع القبليّات ولكنها تتَّصل بأسئلة ذات صلة بالعالم الخارجي للإنسان وهي نوعين ” الظاهر أنَّ الإنسان يتحفَّز للسؤال من داخله، وتواجهه دائما سلسلة من الأسئلة، فبالدرجة الأولى  تواجه الإنسان الأسئلة التي ترتبط بمعيشته وحياته (كالأسئلة الاقتصاديَّة والسياسيَّة وما إلى ذلك) وفي الدرجة الثانية تداهم الإنسان إذا أراد الحياة حرّا أسئلة تتَّصل بمعنى الوجود والمصير وما شاكلها من القضايا”[19] ويشدِّد شبستري على تنقيح وغربلة قبليّات وميول وتطلّعات مفسِّري النصوص الدينيَّة أوّلا لأنّها تتعلَّق بالإجابة على الأسئلة المصيريَّة، ولأنها ترتبط بعدد كبير من الناس أكثر من كل النصوص الأخرى، كما أن غالبيَّة الناس يستندون في سلوكهم عليها ويقول في ذلك “إنَّ فهم النصوص يرتبط مائة بالمائة بصحَّة قبليّات وميول وتطلّعات المفسّر. فبالمقدّمات والمقوّمات غير المغربلة والمشوبة بأنواع الأكدار الضارَّة، لا يتسنَّى القبض على المعنى الصحيح للنص”[20] وكمثال على هذه الغربلة والتنقيح يقترح شبستري أن تحتوي القراءات الجديدة للدين مقولة حقوق الإنسان “إنَّ عمليَّة التجديد بإمكانها إدخال مقولة حقوق الإنسان في ثقافة المسلمين واستنطاق مضمون هذه الحقوق في الفكر الإسلامي بخلفيّات دينيَّة بحيث تكون حقوق الإنسان محور الأطروحات النظريَّة والفكريَّة في الحقل السياسي للمسلمين”[21] ولكي نفهم ما يعني شبستري بذلك لابد أن نفهم أنه يهدف إلى تجذير منجزات الحداثة  خاصَّة على الصعيد القيمي داخل التجربة الدينيَّة للإنسان المسلم ومن هنا نقده الصارم للقراءة الرسميَّة للدين، فحتَّى نكون أكثر دقَّة، فإنَّ هذا التنقيح الذي يشدِّد عليه شبستري يهدف إلى القطع مع القراءة الرسميَّة للدين، والتي أنجزت في فترة لم يتبلور فيها حتى مفهوم الإنسانيَّة، والذي يميّز القراءة البشريَّة للدين هو نزعتها لأنسنة الدين.

     إنَّ الذي يميّز على سبيل المثال القراءة الشبستريَّة للدين هو استبطانه لمسلمات حداثيَّة، وإذا ما قارناه على سبيل المثال بالقراءة السلفيَّة سيتّضح الفرق، وهنا يمكن القول إنَّ شخصا مثل ابن باز لا يمكن أن يجذر قيم الحداثة داخل الدين، فهو لا يؤمن بها من الأساس، ولأنه على سبيل المثال يستبطن نفس النظرة للمرأة في القرن السابع الميلادي، فإنَّ تفسيره للنص سيخرج بنفس النتائج التي خرج بها مفسّر من القرون الأولى للإسلام، أما شبستري ولأنه يؤمن بمساواة كل من المرأة والرجل، فإنَّ النتائج التي يخرج بها تفسيره للنصّ نفسه الذي يفسّره ابن باز ستكون مختلفة، وسيحاول تجذير هذه المساواة داخل الثقافة الدينيَّة للإنسان المسلم الحديث.

           إلى هنا سنكون قد وصلنا إلى المقوم الثالث وما يسميه شبستري باستنطاق التاريخ أو الإصغاء إلى التاريخ وهو ” البحث فيما كان يريد المؤلِّف إيصاله للمتلقي، أي البحث والتنقيب التاريخي الدقيق لمعرفة عدَّة أمور منها: ما هي المحفِّزات والرغبات التي ساقت المؤلِّف إلى خلق النص؟ وما هي الظروف التاريخيَّة التي أحاطت به؟ ثم ما هي الظروف التاريخيَّة التي ألمَّت بمخاطبيه؟ وما هي أدواته وإمكانيّاته اللغويَّة التي استخدمها للكتابة أو الخطابة؟ “[22]وهنا لا بد للمفسِّر الإلمام بالمناهج التاريخيَّة إلماما جيّدا، خاصَّة مناهج النقد التاريخي وكذلك اللغة وأصولها وقواعدها وأسَّسها وأسَّس الحوار والدور التعبوي للنص و.. إلخ. ويمكن القول هنا أن شبستري يدعو إلى شيء مشابه لما يسمِّيه شلايماخر مؤسِّس الهرمينوطيا الحديثة بالتماهي مع القارئ الأصلي أي المؤلِّف وذلك عبر الآليَّة التي طوّرها دلتاي في الدراسات التاريخ أي التمثُّل، فوفقا لدلتاي فإنَّ إنسانيَّة النصّ تتيح إمكان فهمه عبر تمثُّل الحالة التي كان عليها المبدع أي كاتب النص وذلك ذو علاقة بالتجربة التاريخيَّة وفهمنا لها. إنَّ ما يمكن قوله هنا إنَّ شبستري يريدنا أن نفهم تاريخانيَّة النصّ أي أنه ابن سياقه، وهذا لا يعني بالطبع عدم إمكان توجّهه لنا ذلك أن النصّ الدين يرتبط بالأسئلة المصيريَّة وهي ملازمة للإنسان في كل الحقب.

          أما المقوم الرابع هو ما يسمّيه شبستري بتشخيص بؤرة المعنى، وهو تحديد ” وجهة النظر التي تدور حول محورها جميع تفاصيل النص، وواضح أنَّ من المهمّ جدا تشخيص هذا الأساس، وفهم كل النص باعتباره بناءً يقوم  على هذا الأساس”[23] ويضيف شيستري ” لا يستطيع تفسير النصّ إلا الذي يؤمن بوحدة النص، ويعتبره كيانا واحدا يفيد معنى عامّا تامّا، بالإضافة إلى المعاني المستقلَّة للمفردات، وبمعنى آخر ليس هناك ما يفهم إلا المعنى التام”[24] تكمن أهميَّة هذا الإجراء في أن نجاح المفسّر في تشخيص هذه البؤرة يعني أنه سيفهم كل تفاصيل النصّ استنادا إليها، وسيلة المفسّر هي استنطاق التاريخ لأن ذلك سيسهل عليه تشخيص هذه البؤرة، وما يمكن تقريره هنا أيضا أن تشخيص بؤرة المعنى يرتبط أيضا بالميول والتطلّعات فهي ذات تأثير كبير هنا، فعلى سبيل المثال يمكن أن نقول إنَّ من يفهم أنّ للنص سياق تاريخي وبالتالي له مقصد معيّن وجمهور من المخاطبين سيحاول أن يصل إلى غايات المؤلّف من النص وبالتالي تفسير كل التفاصيل المرتبطة بهذه الغايات تفسيرا تاريخيّا.

  أمَّا المقوم الخامس والأخير من مقومات الهرمنيوطيقيَّة التي يقترحها شبستري لتأسيس القراءة البشريَّة للدين هو ترجمة النصّ إلى الإطار التاريخي الذي يعيشه المفسّر ويقول في ذلك ” حينما يعيش المفسِّر إطارا تاريخيّا يختلف عن الإطار التاريخي الذي عاشه المؤلف، وتكون تجاربهما عن الحياة والعالم مختلفة، فلا بد عندها من ترجمة النصّ وتحوّله إلى الإطار التاريخي الذي يعيشه المفسّر”[25] وهذه الترجمة تختلف تماما عن الترجمة من لغة إلى لغة لأنها ترجمة التجارب، وهذا نابع من كون أنّ للإنسان المعاصر فهما مختلفا لنفسه وللعالم، ونقد القراءة الرسميَّة الذي ذكرته سابقا ذو صلة وثيقة بهذا التغيّر. ذلك أن هذه القراءة الرسميَّة تجبر المتديّنين على أن يعيشوا وفقا لتجارب الماضيين لا تجاربهم. وهذا ما يكرِّس للاستلاب الماضوي الذي تعيشه الجماعات المسلمة. والوسيلة الوحيدة لتفادي هذا الاستلاب الذي تفرخ عنه الإرهاب هي فهم النصّ وفقا لتجارب الإنسان المعاصر وفهمه لنفسه والعالم. وتجدر الإشارة هنا أنَّ هذا الاختلاف في الفهم بين المعاصرين والماضين ناتج بالدرجة الأولى من تطوّر العالم الطبيعيَّة بالدرجة الأولى والعلوم الاجتماعيَّة بالدرجة الثانية ذلك أنَّ هذه العلوم والفلسفات الحديثة شيَّدت تصوّرا جديدا للإنسان وجعلته يفهم نفسه والعالم بشكل مختلف، وهذا ما دفع كل من اليهوديَّة والمسيحيَّة إلى تقديم نفسيهما في صورة حديثة تتَّفق مع التصوّر الجديد الذي دشَّنته الحداثة، وهذا هو السبب نفسه الذي يجعل شبستري يقدِّم قراءته البشريَّة للدين.

خاتمة:

   إنَّ الهدف النهائي من القراءة الحداثيَّة أو البشريَّة التي قدَّمها شبستري، هو إنقاذ المجتمعات المسلمة من الأزمة الفكريَّة التي تعاني منها على الصعيد الديني، فبعد أن كان الدين عاملا لنهوض الأمَّة الإسلاميَّة في بدايته، أصبح متكلِّسا ويقف حاجزا أمام نهوض وتطوّر هذه المجتمعات، وأوَّل أسباب تكلسه هو احتكاره من قبل القراءة الرسميَّة، وكما رأينا فإنَّ تبرير التسلُّط وغياب الديمقراطيَّة يتمّ عبر استخدام الأنظمة القمعيَّة لهذه القراءة الرسميَّة ، بحيث يتمّ خلع التقديس على السلطة الدنيويَّة، كما أنَّ هذه القراءة الرسميَّة تبرِّر العنف ضدّ المخالفين وتكرِّس للإقصاء والإرهاب ضدّ الآخر سواء كان الآخر الداخلي أي المخالف في المذهل أو الخارجي المخالف في الدين.

   إنَّ القراءة الحداثيَّة تهدف إلى تفكيك هذا التكلُّس وكسر الجمود الفكري، وقراءة الدين قراءة تجعله عاملا مساعدا في نهضة المجتمعات المسلمة لا تكبيلها، ومن هنا استلهامها للحداثة الغربيَّة، ومحاولة توطينها داخل الوعي الجمعي، حتى يتمّ ابداع حداثة في مجتمعاتنا، ولا ينبغي أن نفهم هنا أن شبستري يدعو إلى التقليد، بل إنه يدعو إلى المغايرة ولكنه يرى أن منجزات الحداثة ستساعدنا كثيرا في إبداع هذه الحداثة المغايرة.

المراجع:

محمد مجتهد شبستري. الهرمينوطيقا: الكتاب والسنة. ترجمة حيدر نجف. بيروت، دار التنوير، 2013.

محمد مجتهد شبستري. قراءة بشريَّة للدين. ترجمة أحمد القبانجي. بيروت، منشورات الجمل، 2009.

محمد مجتهد شبستري. نقد الفراءة الرسميَّة للدين. ترجمة أحمد القبانجي. بيروت، الانتشار العربي، 2013ز

محمد مجهد شبستري وآخرون. مطارحات في عقلانيَّة الدين والسلطة. ترجمة أحمد القبانجي. بيروت، منشورات الجمل، 2009.


[1]محمد مجتهد شبستري. نقد الفراءة الرسميَّة للدين. ترجمة أحمد القبانجي. (بيروت، الانتشار العربي، 2013) ص15

[2] محمد مجهد شبستري وآخرون. مطارحات في عقلانيَّة الدين والسلطة. ترجمة أحمد القبانجي. (بيروت، منشورات الجمل، 2009) ص125

[3] محمد مجتهد شبستري. نقد القراءة الرسميَّة للدين. ص65

[4] نفس المصدر. ص18

[5]نفس المصدر. ص 43

[6] محمد مجتهد شبستري. قراءة بشريَّة للدين. ترجمة أحمد القبانجي. (بيروت، منشورات الجمل، 2009) ص85

[7][7] محمد مجتهد شبستري. نقد القراءة الرسميَّة للدين. ص51

[8] نفس المصدر. ص52

[9] نفس المصدر. ص52

[10] نفس المصدر. ص52

[11]محمد مجتهد شبستري.  قراء بشريَّة للدين. ص 14

[12] نفس المصدر ص53

[13] نفس المصدر. ص53

[14] محمد مجتهد شبستري. الهرمينوطيقا: الكتاب والسنة. ترجمة حيدر نجف. (بيروت، دار التنوير، 2013) ص27

[15] نفس المصدر ص136

[16]محمد مجتهد شبستري. قراءة بشريَّة للدين. ص12

[17] نفس المصدر. ص15

[18]محمد مجتهد شبستري. الهرمنيوطيقا: الكتاب والسنة. ص17

[19] نفس المصدر. ص18

[20] نفس المصدر. ص26

[21] محمد مجتهد شبستري. قراءة بشريَّة للدين. ص28

[22] محمد مجتهد شبستري. الهرمنيوطيقا: الكتاب والسنة. ص20

[23] المصدر السابق ص 22

[24] نفس المصدر. ص22

[25] نفس المصدر. ص23

جديدنا