لقد سلَّط انتشار وباء كوفيد/19، المعروف بكورونا، الأضواء من جديد على مركزيَّة التأرجح العميق داخل الإنسان بين الخوف والرجاء.
جذر الخوف أنَّ ذاكرتنا الجماعيَّة تختزن تجارب كوارث عديدة فتكت بنسلنا وعرقنا على هذا الكوكب الفريد، وسبب الرجاء أنَّ ذاكرتنا الجماعيَّة تختزن أيضا تجارب نجاة مذهلة في صراعات على البقاء ابتلعت كائنات أكبر حجما منّا وأكثر قوَّة.
كما يخيفنا هذا الكائن المجهري ويدفعنا إلى الاختباء المؤقَّت لأنَّه مجهول وغير معرَّف لمجسّاتنا العلميَّة. يسرق منَّا سلوكه الغامض حتى الآن قدرتنا على التوقُّع ويعصف بكل خططنا ويتحدَّى كل علومنا.
نختبئ منه، نراقبه بحذر ومكر حتى نتمكَّن منه ونتغلَّب عليه. يقول رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون في الأسبوع الثالث من آذار 2020 إننا بحاجة إلى 12 أسبوعا كي نقلب الطاولة على الفايروس. كما لو كان عدوّا محدَّد الملامح.
في الواقع، فإنَّ الشيء الوحيد الذي نعرفه عن علاقتنا بهذا العدو هو أنَّه لا يفرِّق بيننا على أساس دين أو عرق أو هويَّة. وأنَّه يهدِّد قاربنا المشترك والوحيد، لذلك فجأة ( ويحدث هذا مرَّة واحدة في القرن) يصبح همّنا مشتركا، ونتوقَّف عن النظر إلى أنفسنا بزهو و نلتفت إلى أخينا في الإنسانيَّة سواء الذي سقط في فخ الفايروس أو الذي يكاد يفلت منه. فجأة يعيد الفايروس تذكيرنا بالجوهري والأساسي في وجودنا على الأرض: البقاء. وأنَّ ما يهدِّد بقاءنا دون تمييز هو عدونا دون تمييز.
وبأجمل صورة تعبِّر عن ذلك المساعدات التي ترسلها الصين، أوَّل الضحايا وربما أوَّل المنتصرين، إلى باقي الأمم تحت شعار: كلنا أمواج في نفس البحر، أو كلنا أوراق من نفس الشجرة.
يعجز كثيرون عن مواكبة الأحداث المتسارعة عاطفيّا، فكيف يمكن استيعاب مشهد المدن العملاقة التي فرَّ منها سكانها والحدود المغلقة على عجل والطائرات الرابضة على أرض المطارات والأب الذي يعزل نفسه عن عائلته طواعية والأمّ التي تفرّ من رضيعها والأجداد الذين يحبسون بين الجدران؟
وسط هذه العاصفة نتمسَّك بعمودين اثنين لا ثالث لهما: عمود الدين وعمود العلم. إذ لا شيء في رسائل الحكَّام والعلماء والقادة الدينيّين والفنانين وصنَّاع الرأي والمواطنين العاديِّين بدءا من الصين وليس انتهاءً بالولايات المتَّحدة الأمريكيَّة التي اضطرّ رئيسها، بعد أسابيع من الاستهانة، لدعوة الناس إلى تخصيص يوم للدعاء مذكِّرا أمَّة أعظم اقتصاد في التاريخ إنَّها أمَّة إيمان، لا شيء يبتعد عن الثقة في أنّنا بهذين العمودين لا غيرهما سنعبر بقاربنا الى برِّ الأمان ونكسب المعركة مع هذا العدو الفتاك.
لقد بالغ رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون في الاتِّكاء على العلم في أحاديثه الأولى عن الوباء، وعندما طفق مستشاروه وخبراء حكومته يشرحون للناس ببرودة المختبرات وسلطة الآلهة استراتيجيَّة الحكومة في تعزيز ” مناعة القطيع” أصاب الذعر الشرائح الضعيفة من المرضى وكبار السن الذين أدركوا أنَّ موتهم سيكون هو الثمن الذي على ” القطيع” أن يدفعه لتقوية مناعته.
لكن الحكومة البريطانيَّة سرعان ما راجعت خطابها
وأدركت قصور صرامته العلميَّة عن تحقيق الهدف في احتواء التهديد الحقيقي الذي يتسبَّب
به العدو الغامض: خسارة الإنسان لفاعليّته وحيويّته وشلل الحياة. فعادت في اليوم التالي
ليس في جعبتها غير رسائل الطمأنينة عبر آليَّات متنوّعة منها ضخّ المال دون حدود إلى
الشركات والمؤسَّسات والأفراد “حتى يستمرّ الزخم رغم توقّف الإنتاج من أجل أن
تكون عمليَّة العودة إلى الحياة بعد انتهاء الوباء ممكنة وسريعة) كما قال أحد أعضاء
لجنة الأزمة في الحكومة البريطانيَّة.
لقد تعلَّمت البشريَّة من العراء الذي وجدت نفسها فيه على هذا الكوكب الغريب، أنَّ اكتشاف التقنيات التي تختصر الزمن والجهد والتي تسيطر وتدير فعل الطبيعة هو ما يحافظ على بقائها، لكنّها أدركت أنّ الأهمّ من هذه التقنيات هو قدرة نسل الإنسان المذهلة على مواجهة التحدّيات بالشجاعة ورباطة الجأش و”الحيويَّة العاطفيَّة” العالية. هذه السمة المميَّزة لعرقنا تنشأ من قابليّتنا على تمثُّل قيم وتصوّرات وجوديَّة ترسم لنا حدودا غير ملموسة لإمكانيّاتنا وقدرات نسلنا. ترسِّخ أماننا الوجودي فتحمينا من الفزع، في عالم يتحوَّل كل لحظة على كوكب صغير يسبح في فضاء نجهل مديّاته.
الثقة في أنَّ نسلنا باقٍ وفي ارتقاء وأنَّ الأرض ملكنا ونحن ورثتها وليست لهذا الكائن المجهري أو غيره، لا يخبرنا بها العلم ولا تقنياته ليس بعد على الأقل. إنَّها تمتح من إيمان عميق تصعب زعزعته، هو جزء من تعريفنا لنفسنا، لصلتنا بالكون ولنوع وجودنا. وهنا بالتحديد يكمن شغفنا بالمستقبل وجرأتنا في الزحف اليه.
لذلك، فإن أي فكرة لا تخدم ما هو جوهري في وجودنا على هذا الكوكب ستذروها الرياح وتقتلعها العواصف عاجلا أم آجلا.
فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17) الرعد.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.