التنوير بين التجربتين الغربيَّة والعربيَّة: أين العطب؟

image_pdf

السؤال الأساسي المطروح بالنسبة لي بصورةٍ أساسيَّة، هو ما الأنوار؟ وقد أجاب عنه كانط.
اخترت كانط لسببين؛ الأول أنه فيلسوف مؤمن، ثانيا لأنّه الفيلسوف الذي تحوّل معه فعل أو حالة التنوير من نقاش عام إلى مشروع محدّد المعالم. طبعا، هناك من يقول فلاسفة العقد الاجتماعي، وأتفق، لكن لا أريد أن أدخل في التفاصيل والاختلافات التفصيلية لعامل الوقت.

السؤال الأساسي الذي طرحه كانط، ما الأنوار؟ أجاب عنه في مقال الذي يقع في أربع أو خمس صفحات، وأتمنّى أن يطّلع عليه الجميع. يجيب أنَّ الأنوار هي حالة الخروج من القصور إلى الرشد. ويقصد بالقصور أن نقيل عقولنا ونكتفي بالاتباع بدل المبادرة والتفكير باستقلاليَّة، ويعطي ثلاثة نماذج؛ نموذج الكاهن، ونموذج الجندي، ونموذج مفتّش الطريق.

بالنسبة لنموذج الكاهن، يقول كانط إن الكاهن يقول في الكنيسة: آمن بما أقوله لك، ولا حاجة لك بالتفكير لأنني أفكر مكانك. والجندي يقول: نفّذ الأوامر بعد ذلك لك أن تفكِّر، لكن نفّذ الأوامر أولا. إذن كانط عندما يطرح حالة الخروج من الوصاية إلى وضعيّة جديدة هي مرحلة العقل والرشد، أي أن يبادر الفرد فيكسب الثقة لكي يفكّر بنفسه، ستكون هناك عقبات.

العقبات هي المقدّس، سواء كانت الكاريزما الشخصيَّة، أو الكتب والمرجعيّات القديمة. العائق الأساسي كذلك، هو أن الوصي يرفض أن يفكّر لأنه في تفكيرنا خروج على تصوره بالسلطة. وبالتالي من هنا نفهم ما الذي يعنيه بمفهوم العقل أو العودة إلى العقل، أي أن لا نفكّر بشكل منطقي فقط، لكن امتلاك حرّيَّة الإرادة. حرّيَّة الإرادة هنا لها ثمن، وثمن كبير لأننا نغامر عندما نعمل عقلنا، لأننا نزعج السلطة أي سلطة عندما نعمل عقولنا. لكننا لا نعطي معنى لوجودنا، إلا من خلال ركوب هذه المغامرة، والمغامرة شرط لتحقيق المعنى والكينونة، ليس بالمعنى الهيدجري طبعا، بل بمعنى أقرب إلى الوجودي، بمعنى أننا نعطي الحياة عندما نبادر فيها.

وبالتالي، ما الذي يحصل؟ يقول: عندما أختلف مع مؤسستي، مثلا أنا كاهن في مؤسَّسة معيّنة، لكن تفكيري تطوّر مع الزمن وصرت أفكّر بطريقة مختلفة. يقول كانط: لا تُقِل عقلك، عليك أن تفكِّر وأن تناقش، وإذا لم تقتنع المؤسسة عليك أن تستقيل وتناقش من خارج المؤسّسة. لماذا؟ لأن هذا النقاش وهذه الانفلاتات الفرديَّة، هذا الشكل من أشكال الابتداع الجميل، محرّضه وطاقته عمليَّة التقدّم التاريخي. عندما يخرج الفرد من القطيع ويفكّر من خارجه ثم يعود بخبرة أو تجربة جديدة، فهو يسهم في عمليَّة التطوّر، ومن هنا فهذه العمليَّة هي عمليَّة أساسيَّة، وهي عمليَّة تتيح المجال ليس فقط أن نقدّم مجتمعاتنا، ولكنها تتيح لنا أن ننفتح على الإنسانيَّة جمعاء، لأنّه المشترك الإنساني عنده هو العقل (أنا أدرّس علم الكلام وأقول لطلبتي عادة، إن المعتزلة عادوا إلى العقل، لأن البيان قد يكون معجزا للعربي ولكن البيان لن يكون معجزا للفارسي أو البيزنطي) ومن هنا، فالعقل بصفته مشتركا تحوّل إلى الأساس الذي سوف يقوم عليه الخطاب المعتزلي، لانه مشترك إنساني.

السؤال الآن، إذا كان كانط يشير إلى هذا المشترك الإنساني للعقل ويعتبره أنه أساس المبادرة، أي المجال العمومي لأنه دون المجال العمومي لا يمكن الحديث عن التنوير. التنوير يتمّ بالضرورة داخل المجال العمومي. إذن، أين مكان الدين؟ وهنا يجب الرجوع إلى الحديث الذي تمّ صباحا، عن الخروج من الجدار الدوغمائي أو الوثوقي بالنسبة لكانط. ما هو الخروج؟ كانط قال إن أمامنا خيارات، المجال العلمي يمكن أن نجد له إجابات دقيقة تتحيز في الزمان والمكان، ويمكننا أن نفهمها عن طريق السبب، إذن ففي العلم لا خلاف، لأن معياره إلى العقل، لكن هذه الأشياء حتى نفهمها، نحن نفهمها كظاهرة فقط، لأننا حتى نفهمها يجب أن تكون قابلة للكم، قابلة لوضع معيّن داخل إطار الزمان وداخل إطار المكان، إذن فما هو خارج إطار المكان مستعصٍ على الفهم، أنا لا أملك أدواته، أنا أحلّل ظاهرة بيولوجيَّة أو حيويَّة، لأنّني أمتلك أسبابها وهي السببيّة والرياضيّات والتحيّز المكاني والتاريخي، لكن الظواهر الميتافيزياقية تتميّز بأنها متعالية على الزمان والمكان، ومن هنا فهو يعلّق النقاش حوله، يمعنى لا أصدر أحكاما، لأنّي إذا أصدرت احكاما بصفتها مقدّس سوف تفجّر المجال العمومي، ومن هنا يجب أن نتحاور بعقول حول المشترك، ويجب ان نعلق أو نترك الحريَّة الفرديَّة للنقاش في كل ما هو متعالٍ علينا لأننا لا نمتلك أدواته، ولا نستطيع الحسم فيه، ومن هنا كانط يميّز بين المعرفة ما نضبطه كميّا ونحدّده بشكلٍ واضح وبين مجال التفكير الذي هو مجال التأمّل والتحليل الذي هو متاح بطبيعة الحال.

إذن، كيف يمكن للدين أن يحضر في المجال العمومي؟ كانط يحيل إلى مسألته، العقل كمشترك إنساني، ولكن الأخلاق والواجب الأخلاقي كذلك. يقول مثلا: يجب من خلال القانون الذي تشرّعه أن تعمل وكأنّك تشرّع للإنسانيَّة جمعاء، وان تقيس مصالحك بمقاييس الإنسانيَّة جمعاء. يجب ألا تنظر للإنسان كوسيلة لغاية ما، بل الإنسان غاية في ذاته. لكن ما هي المرجعيَّة التي توفّر لنا هذه الإمكانيَّة، إمكانيَّة إصدار أحكام أخلاقيَّة. إنها القيم الدينيَّة التي يمكن أن تعبر وتنفذ إلى التفكير، ويمكنها أن تعبر داخله كقيم لا تثير الحساسيّات ولا تفجِّر المجال العمومي، أما عندما تحضر كمعتقد وهويَّة فإنّها تؤدّي إلى الصدام وإلى تفجير المجال العمومي.

الدكتور ليث كبة، أشار في الصباح إلى مرجعيَّة القرآن كمرجعيَّة ثابتة وهذا شيء لا نقاش فيه، ولكن النقاش، النصّ القرآني فيه لغة، وهذه اللغة تتجدّد. وتجدّد اللغة يجب أن يجعلنا نلاحق المعاني، مثلا، (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا)، وهذا قول لعمر بن الخطاب، لكن كلمة حرّيّة في زمن عمر بن الخطاب تعني من ليس عبدا، هذه دلالتها في سياقها التاريخي، لكن بما أنّ اللغة تتجدَّد بمعنى وهي حيَّة، فنحن عندها نطوّر علاقة النصّ بقارئ النصّ في سياقنا العالمي، فإننا ندفع هذا النص لكي يجعل المستويين المادي والروحي متكاملين ومتساويين داخل الإنسان.

________

* ألقيت ضمن فقرة الندوات الفكرية خلال الاجتماع السنوي الرابع للرابطة العربية للتربويين التنويريين الذي عقد في عمّان الأردن، بتاريخ 23 نوفمبر 2019.

جديدنا