تُصنَّف مراكز التفكير أو الـ (Think Tank) على أنها واحدة من جهات الضغط والتأثير المباشر على مستقبل الدول والمجتمعات والعلاقة بينها، فهي ذات وظيفة سياسية بالدرجة الأولى، لأنها تخدم الأطراف الحكومية من جهة، وغير الحكومية من جهة، وغير الحكومية من جهة أخرى والتي بدورها تلعب دوراً سياسياً ضاغطاُ ومؤثراً على سياسات الدولة. وتحاول هذه المراكز العمل على تقديم النصح والمشورة والتحليل والبدائل التي يمكن الاعتماد عليها لاتخاذ موقف أو إجراء تجاه الأحداث والقضايا المستجدة والمؤثرة في كلا الساحتين الإقليمية والدولية، كذلك تعمل على المساهمة في صناعة الرأي العام، وتوجيه التفكير العام للدولة وسياساتها الداخلية والخارجية، وتدريب جيل جديد من القيادات السياسية والفكرية. ولا يختلف أحدٌ هنا على دورها الفاعل في المجتمعات الديمقراطية، ودورها التابع والفقير في مجتمعاتنا العربية، حيث تلعب طبيعة الأنظمة دوراً كبيراً في تحديد مدى فاعلية وتأثير هذه المراكز.
في عالمنا العربي تعاني هذه المراكز من عدّة تحدّيات تُخرجها عن طبيعة دورها المتوخى، وتتلخّص فيما يلي:
- طبيعة الأنظمة غير الديمقراطية، وهو ما يقيد حرية هذه المراكز في التفاعل والتداخل العلمي والموضوعي مع الواقع، وعلى الدور الفاعل في صناعة الرأي العام.
- طبيعة المحيط الثقافي المتخلّف بشكلٍ عام والذي لا يقدِّر قيمة العلم والمعرفة بشكلٍ عام، أو في المؤسّسات الجامعية والأكاديمية وسياساتها التعليمية التي تفتقر إلى المناخ الأكاديمي الذي يمكنه من أن يشكّل حاضنة حقيقية لتخريج الكوادر البحثية الجادّة المتمكّنة من أدوات البحث والإبداع.
- طبيعة الغرب كمركز حضاري جاذب لدول الهامش اقتصادياً وسياسياً وثقافياً، وما يمتلكه من إمكانات تؤدّي إلى الحدّ من فاعلية المراكز الوطنيَّة في التأثير السياسي والاجتماعي والاقتصادي، ويدفع بأصحاب القرار للاعتماد على استشارات مراكز التفكير الغربية.
إنَّ حاجة هذه المراكز إلى مصادر تمويل، يضعها أمام خيارات صعبة تحرفها عن أداء دور خادم المجتمع وتنميته. فهي إما أن تدور في فلك السياسات والأولويات البحثية والسياسية لمراكز التفكير الغربية بشكلٍ مباشر أو غير مباشر طلباً للتمويل، أو ستعمل خدمة لنظام سياسي، بحيث يقتصر عملها على إضفاء الشرعيّة والترويج له، وبالتالي تتحوّل إلى بوق، وواجهة تشرعن وتدافع عن سياسات لا تحظى بالدعم الكافي من المواطنين في تلك الدول.
وأرى أن ما سيدفع مراكز التفكير في دول الربيع العربي نحو دور أكثر فاعلية هو توفر مناخ حقيقي من الحرية والديموقراطية وسيادة القانون. أما في الدول التي لم يطلها الربيع العربي، فإن مراكز التفكير ستلعب دوراً مهمّاً بسبب الظروف الإقليمية والدولية الضاغطة والمتسارعة، والتطورات الاجتماعية والتكنولوجية، التي تتطلّب من أصحاب القرار اتّخاذ مواقف وقرارات تستند إلى تحليل معمّق للحدث والظروف المحيطة به وتقديم البدائل المتعدّدة، وتأهيل كوادر قادرة على مساعدة النخب السياسية في أداء عملها.
هذه التغيرات ستوسع حلقة النخبة السياسية، وتزيد من دوائر التأثير عليها، وتهيئ المناخ لتوسيع قاعدة المشاركة السياسية، والمساهمة في إحداث تحولات في طبيعة الأنظمة. لذلك ما لم تمتلك مراكز التفكير في العالم العربي رؤية استراتيجية مدركة لما هو مقبل من تغيرات حتمية، والدور الممكن الذي ستؤثر من خلاله على صنّاع القرار والنخب السياسية والاجتماعية، وتسهم في تهيئة الأرضية والمناخ الملائم لاستيعاب هذه التغيرات على الصعيدين السياسي والاجتماعي، فإنها حقيقة ستعمل خارج السياق التاريخي وضدّ سنن التغير الاجتماعي، وستبقى مجرد تابع لجهةٍ ما أو بوق لنظام قائم.
لذلك على هذه المراكز أن تضع على رأس أهدافها دراسة خيارات وبدائل سياسية تُسهم في إحداث تحولات سلمية، لا تهدّد وجود النخب السياسية الحالية، وتتّسق مع تركيبة النظام الاجتماعي القائم، وأن تقدِّم المبرّرات الكافية لإقناع صنّاع القرار والدوائر المؤثِّرة عليها بذلك. وعلى النخب السياسيَّة إذا ما أرادت أن لا تخسر مواقعها أو يعصف بها ربيع يطيح بها ويضع الدولة والمجتمع تحت رحمة القوى المعارضة المنظمة ذات التوجهات الإيديولوجية المعروفة، والمستعدَّة لفعل أي شيء في سبيل الوصول للسلطة، أن توفر القدر الكافي من الحرية والتشريعات القانونية الحامية لهذه المراكز لأداء دورها الحقيقي بل ورعايته.