مـلاحظات عابرة

image_pdf

بدون نقل أو توليف، ولا إعادة إنتاج نفس الكتابات الأولى التي جسَّدتها الفلسفة في مرحلة من المراحل، دعونا في هذا المقال ننهج سبلاً أخرى عسانا نجد فيها ضالتنا، والاكتفاء بمقولة فلسفية أعتبرها أهمّ الخلاصات التنويرية لأنها مقولة تربط البداية بالنهاية مع طرح السؤال حول الأنوار ككلمة مكثَّفة بالمعنى والدلالات تولَّدت عليها قراءة للعالم، مختلفة عن سابقاتها سمّيت بالتنوير؛ وهي مقولة لإمانويل كانط، يقول فيها: ” التنوير إذن: تحلَّ بالشجاعة لاستخدام عقلك بنفسك”.

أعتقدُ أنَّ هذه المقولة الفلسفية المكثَّفة بالمعاني والدلالات، تستطيع أن تخبرنا عن الأنوار، وتقول لنا الأسس المعرفية التي قام عليها. إنَّ الأنوار قام على مبدأ العقل والتحقُّق بكل حرّية بما يقع في الحياة، ومساءلة المقولات التي تسيَّر حياة الأفراد. إنَّها تلك العصى السحرية التي تكشف عن المكبوت وتزيل الحجاب عن الهيمنة وكل ما هو متخفٍّ، ويجعل العقل قاصراً ومطيعا. إنَّ الأنوار هي الإرادة العاقلة التي تسمح لنفسها بوضع كل قضايا الحياة فوق طاولة الشكّ.

كل هذا الخطاب تمَّت كتابته مئات المرات، وسمعنا العديد من المحاضرات بعنوان الأنوار أو التنوير، إنَّه شرف الإنسانية ومصيرها الذي يجب أن يكون. إنَّ الحتمية التاريخية التي لا تستطيع النفوس البشرية النفور منها، وعدم المطالبة يُعّدُّ قصورا واستعطافا مبالغا فيه للعبودية والطاعة. وبه يكون الأنوار هو ذلك المصباح الذي يضيء طرقنا للخروج من ظلمات الاستبداد والهيمنة بجميع تفاصيلها إلى مساحات العقل، ويعدّ الدين جزءا كبيرا من هذه المناطق السوداء أو الظلامية التي تكبِّل الأفراد وتكسر جماجمهم، خاصّة لما يعقد قرانه بالسلطة السياسية، ويصبح زواجهما شرعياً في المخيال الجمعي لدى الناس، والملاذ الذي يخفِّف علينا وقع الواقع، ونهرب به إلى مستوىً فوق الواقع. ونصرِّف به أزماتنا بشكلٍ غائي تحكمه علَّة ما.

كلام جميل، سردية رائعة، اعتقدَ بها العالم. وسبح في نهرها البشر بشكلٍ تلقائي، لكن لم نتساءل على وجه التحديد هل الأنوار والتنوير كان تنويرياً إلى حدِّ النخاع، وهل مارس تنويره كما أوجب به أو كما نظَّر له؟  وهل سمح التنوير للمجتمعات الأخرى أن تختار تنويرها كما يجب، أم فرض عليهم بشكلٍ فوقي؟ وهل يجب على جميع المجتمعات أن تسلك المسار كما سلكته المجتمعات الغربية؟ وهل عمل هذا التنوير بمقولات التسامح مع المجتمعات الأخرى من منظور اختلافي عنه لكي تجد لنفسها خصائص تنويرية ذاتية؟ والسؤال الذي يطرح نفسه بشكر كبير هل يجب أن نُسمّي تغيراتنا نحو الأفضل بالتنوير أم بشيء آخر؟

الحقّ في الاختلاف، إنَّ زمان هذه المجتمعات هو زمان مختلف، وحدثها وسؤالها كذلك. كما أنَّ واقعها له دينامية داخلية وخارجية مركّبة، بالإضافة إلى كينونتها التاريخية المتشعَّبة التي تفرض نفسها في كل مرحلة، كاعتقادات راسخة في الأذهان والوجدان. هنا نسمح لنفسنا بالمناداة بالاختلاف في ظل الكونية، لكونها شرّاً لا بد منه. لكن هذا لا يضفي عليها الشرعية المعرفية لمحو هويّتنا ومعارفنا ووجودنا. إننا هنا لا نسلم بالنقد الإيماني للكونية، وإنما نقد واقعي يتأسَّس على المدى الحدثي للواقع بنفسه؛ أي جعل الواقع يتكلَّم من الداخل، وفق لغته ومعارفه وهويته، وبناء على رؤيته للعالم. كما لا نسلم بإقصاء الآخر في هذه الصيرورة الانتقالية، وإنما هو مدخل مهمّ لفهم الذات وتوجيه سهام النقد للذات وله في الآن نفسه، لأننا لا نسكن هذا العالم بشكلٍ أحادي، وإنما بشكل تعاضدي، توافقي، تواصلي.

لا خلاف، على أن التراث يفرض علينا نفسه في هذا السياق، ويساءلنا على موقعنا تجاهه وفيه، هذا التراث الذي يثقل كاهلنا في كل مرحلة، ولا يسمح لنا ببتره أو القطع معه بشكل نهائي يفيد لغة السيف، كما لا يسمح لنا من جهة أخرى بالغوص فيه والعيش في ثناياه. إنَّ النقطة التي نطرحها هنا، تفيد الموقع المنهجي الذي رسمه محمد عابد الجابري في طرحه لقضية التراث، إذ يزعم أن الإشكال ليس في التراث، وإنما في فهمنا التراثي للتراث. بمعنى لا يجب العيش فيه ولا القطع معه. وإنما في تفكيكه والعمل على كشف النقاط الحيَّة فيه، وجعلها لبنات تأسيسية لإبداعنا وتقدُّمنا، وهذا كذلك يجب أن نطبِّقه على فهمنا له، وطرق قرائنَّا للتراكم المعرفي الذي أنتجه، بالإضافة إلى أنه يجب علينا دائما استحضار الآخر في عمليتنا هاته؛ كملازم للذات من أجل تحقيق شرط النقد المزدوج.  

جديدنا