لقد عرف مجال المعرفة الإنسانيَّة منذ القدم تجاذباً بين مجالين كبيرين؛ وهما مجال العلوم الإنسانيَّة ومجال العلوم الطبيعيَّة، أو ما سيعرف فيما بعد بالعلوم الحقَّة، الشيء الذي نتج عنه مفاضلة بينهما، لكن هذه المفاضلة اختلفت باختلاف الحقب التاريخيَّة، فنجدها مع العصر اليوناني مالت لصالح العلوم الإنسانيَّة وبالخصوص الفلسفة، مع كل من “سقراط” “أفلاطون” “أرسطو” …، إلى درجة أن “أفلاطون” في أهمّ كتاب له وهو كتاب “الجمهوريَّة” ذهب إلى أنَّ الأنسب لإدارة شؤون الناس وسياستهم إنما هو الحاكم الفيلسوف؛ لأنه الأعلم بالخير والشر، ونفس الشيء حدث مع الفلاسفة المسلمين، وذلك ما تجلَّى في كتابات فلاسفته أمثال “الفارابي” و”ابن رشد” و”ابن سينا”.
إلى جانب ذلك نجد أنَّ التحولات الجذريَّة التي تمَّت في الجانب الأوروبي خلال القرن 17م، إنما تمَّت بالدور الجبّار الذي لعبه فلاسفة كبار أمثال “فلتير” ” ديدرو” و”مونتسكيو” و”ديكارت”؛ هؤلاء وإن كان جلّهم يجمع بين التكوين العلمي الطبيعي والتكوين في مجال العلوم الإنسانيَّة (الفلسفة خصوصا)، إلا أنَّ الأثر الفلسفي هو الذي لعب الدور البارز في تغيير حركة التاريخ الأوروبي. غير أننا اليوم نرى حركة ارتداد حيث أصبحت العلوم الإنسانيَّة محطّ سخريَّة عند كثير من الناس، في الوقت الذي تبجِّل فيه العلوم الحقَّة، هذه الأخيرة التي جاءت في الأصل في سياق محاولة الإجابة عن سؤال السيطرة على العالم، سواء العالم المادي أو العالم الإنساني، فالعلوم الطبيعيَّة سعت عبر آلياتها ومناهجها للكشف عن القوانين المتحكِّمة في الوجود من أجل السيطرة عليه وتسخيره لصالح الإنسان الذي كان مقهورا، رغم أنّ الغاية هذه تبدو نبيلة، وهي كذلك منذ البدايات الأولى، لكن سرعان ما ستتحوّل تلك الغاية النبيلة إلى أداة تدمير وهتك وفتك للعالم مقابل تغوّل الإنسان. ترى ما سبب هذه المفاضلة بينهما؟ هل المفاضلة حقيقة جوهريَّة في العلمين أم أنها مصطنعة لأغراضٍ خارجة عليهما؟ ثمَّ هل هي مفاضلة قائمة على أسس علميَّة أم أنها مجرّد وهم تسرَّبَ للناس دون وعي منهم؟
إنَّ النتائج التي حقّقتها العلوم الحقَّة على مستوى الموضوع والمنهج والنتائج، لعبت دوراً كبيراً في خلق هوّة بين العلوم الإنسانيَّة والعلوم الطبيعيَّة وبالتالي خلق مفاضلة، الشيء الذي دفع الناس للميل إلى العلوم الحقَّة على حساب العلوم الإنسانيَّة. لكن حينما نتأمَّل الظاهرة في العمق نجد أنَّ المتحكِّم الرئيسي في المفاضلة ليس هو ما حدث على مستوى الموضوع والمنهج والنتائج، إنما ما تحقّقه العلوم الطبيعيَّة من منافع ماديَّة مباشرة للأفراد، فنحن نعلم أنَّ مشروعيَّة القول بأفضليَّة العلوم الطبيعيَّة على العلوم الإنسانيَّة إنما هي من الطبقة متوسطة المستوى ثقافيّاً واجتماعيّا، هذه الأخيرة التي في الغالب تبحث عمّا يحقِّق لها منفعة آنيَّة ومباشرة، ثمّ من ناحية أخرى إنَّ هذه الطبقة في الغالب تبحث عن الخلاص المادي والاجتماعي لما تعيشه من قهرٍ وحرمان، ولذلك نجدها تتعامل مع الموضوعات منفعيّاً فتوجِّه أبناءها للعلوم الحقَّة مع استهزاء بالعلوم الإنسانيَّة بمبرّرات لا أساس لها من الصحَّة أملاً في الخلاص السريع ممّا تعيشه. وفي ذلك كله تساهم بوعي أو بدون وعي في تكريس المفاضلة. ثم إنَّ المفاضلة المصنوعة بين العلمين إنما تتقوّى داخل المجتمعات التي يشعر فيها الفرد بحاجة لوضعٍ اعتباري مادّي يحقِّق له الاعتراف المجتمعي. كما أنَّ المفاضلة المصطنعة تتقوى داخل المجال التداولي الذي يرى الفكر والتنظير ترفاً لا طائلة من ورائه، وأنه من اختصاص الحمقى والمغفّلين.
ومن ناحية أخرى، إنَّ المفاضلة اليوم إنما هي تحت طلب القوى الرأسماليَّة التي ترغب من جهة في يدٍ عاملة تقنيَّة تؤدّي الوظائف المباشرة والتقنيّة، وكذا كبح كل قوّة من شأنها الوعي بما تخلقه من مآسٍ إنسانيَّة جرّاء الجشع والأنانيَّة، أو التي من شأنها أن تخلق رجَّة مجتمعيَّة تؤدّي إلى فقدان سيطرتها وهيمنتها.
إنَّ المفاضلة اليوم هي تحت طلب الدول التي تريد لأفرادها الخضوع، وتريد قتل الروح الإبداعيَّة لمواطنيها لضمان مصالحها، لأن من شأن أي عمليَّة توعويَّة أن تؤدي إلى ضياع مصالحها السياسيَّة والاقتصاديَّة، هذه الأخيرة التي غالباً ما تخلخل بالفكر النقدي الذي هو الابن الشرعي للعلوم الإنسانيَّة.
من خلال ما سبق نكتشف أنَّ المفاضلة ليست جوهراً في العلمين بل أدخلت عليهما، أمّا والأصل فخلاف ذلك، إذ المعرفة في أعلى مستوياتها، أي ما يتعلق بإنتاج النظريّات العلميَّة إنما هي نتاج تكامل كل من الممارسة النظريَّة التي هي من صميم العلوم الإنسانيَّة والممارسة التجريبيَّة الاختباريَّة التي هي من صميم ممارسة العلوم الطبيعيَّة، وذلك ما قرّره “غاستون باشلار” في كتابه “منطق الاكتشاف العلمي” من خلال تأكيده على ضرورة الحوار الجدلي بين العقل والتجربة في بناء المعرفة العلميَّة.
مع ذلك فإن المفاضلة في الحقيقة نابعة أحيانا من أسبابٍ موضوعيَّة لا يمكن إنكارها، وهذه عند المتخصّصين، نذكر من بينها ما حقّقته العلوم الحقَّة من “موضعة” أي أنها استطاعت دراسة الموضوعات دراسة موضوعيَّة تبتعد عن الذاتيَّة ولو بمقدار، هذه الأخيرة التي تجعل كل ممارسة علميَّة دون جدوى؛ لأن كل الخلاصات والنتائج التي يتوصَّل إليها تظل مجرَّد إحساسات ومشاعر فرديَّة لا قيمة لها في ميدان العلم. إن الموضعة هذه هي ما لم تستطع العلوم الإنسانيَّة – وإن كانت غير مطالبة بذلك- بلوغها، أي أن موضعة الظواهر الإنسانيَّة ما زالت عقبة أمام تقدّم هذه العلوم، وإن كانت الجهود التي بذلت داخل مجال السوسيولوجيّة من طرف كل من “إيميل دوركايم” وزعيم النزعة الوضعيَّة في العلوم الإنسانيَّة “أكست كونت” وآخرين، لا يمكن إنكارها في هذا الباب.
ثم هناك سبب موضوعي آخر يجعل هذه المفاضلة مقبولة إلى حدٍّ ما، وهو أن العلوم الحقَّة استطاعت أن تبني لذاتها منهجاً صارماً يمكّنها من التعامل مع الموضوعات بشكلٍ صارم ويمنع كل تدخّل للذات في موضوع دراستها – رغم أنَّ التداخل مستبعد ما دام الدارس والمدروس ليسا من جنسٍ واحد – هذا الوضع الذي لم تستطع العلوم الإنسانيَّة بلوغه، فالعلوم الإنسانيَّة مطبوعة بالتداخل بين الذات الدارسة وموضوع الدراسة، هذا التداخل يجعل إمكانيَّة تطبيق منهج صارم متعذِّرة؛ لأنَّ موضوع العلوم الإنسانيَّة موضوع واعٍ ومتغيِّر، هذه الوضعيَّة تجعل مهمَّة الباحث في العلوم الإنسانيَّة عسيرة. فإذا كان العالم في ميدان العلوم الحقَّة له قدرة على أن يفسِّر الظواهر وبالتالي الوصول إلى قوانين ثابتة تفسِّر العلاقة بين الأسباب والنتائج، فإنّه في العلوم الإنسانيَّة عاجز عن ذلك فيبقى أمامه خيار فهم الظاهرة وتزويد الباحثين بنتائج يمكن الاستفادة منها.
وأخيراً إنَّ المفاضلة قد تجد تبريراتها فيما تحقِّق للعلمين من نتائج، العلوم الحقّة ونتيجة “للموضعة” والمنهج استطاعت أن تحقِّق نتائج تتميَّز بالدقَّة والثبات والكونيَّة، فلا يمكن أن يدّعي أحد أنّ النتائج التي يتوصَّل إليها في دراسة موضوع طبيعي مثلا في أمريكا غير مقبولة في المغرب أو السينيغال أو الكويت أو في أي بقعة من بقاع العالم، إنها نتائج زمكانيَّة. في مقابل ذلك نجد أنَّ نتائج العلوم الإنسانيَّة لا زمكانيَّة، فهي نتائج تعوزها الدقَّة وتتميَّز بالتغير المستمرّ كما أنها غير كونيَّة أي أنها تظل خاصَّة بزمانٍ ومكان معيَّن، إلا ما كان صالحاً للاستفادة، أما أن يعتمد كمفسّر فذلك ضرب من المستحيل، والحقيقة أنَّ ذلك سبب مباشر لخصوصيَّة موضوعات ومناهج العلوم الإنسانيَّة.
وفي الأخير ينبغي أن نسجِّل هنا، أنّ الاختلاف الحاصل بين موضوع العلوم الطبيعيَّة وموضوع العلوم الإنسانيَّة يجعل من الطبيعي ما تحدّثنا عنه سواء على مستوى الموضوع أو المنهج أو النتائج. ثم يجد من الضروري إعادة التأكيد على أن المفاضلة وإن انطلقت من هذه الاعتبارات الموضوعيَّة – فما بالك بالمبرّرات التي تنطلق من حسٍّ مشترك محكوم بالمنفعة – تظل غير مقبولة، بحجَّة بسيطة وهي أنه لا يمكن أن نفاضل بين علمين مع أنهما مختلفين في الأصل.
ليبقَ الحل في أن نحتفظ لكلٍّ بمكانته والاعتراف لهما بإسهاماتهما كل من موقعه في بناء شخصيَّة الفرد والمجتمع. فالفرد العلمي التقني منفردا، من شأنه أن ينتج لنا خطاباً غير مستعد لفهم المختلف لأن ذهنه تركّب بثنائيَّة الصحيح والخطأ، وهذا النموذج يكون في الغالب مستعدّاً لولوج باب التطرّف والتعصّب وقد يصل حدّ الإرهاب، كما أنّ العالم في ميدان العلوم الإنسانيَّة إن لم ينفتح على العلوم الحقّة من شأنه أن يظل مجرد تخمينات وفرضيّات تعوزها المحاججة البرهانيَّة المنطقيَّة التي تعطي لقوله قوَّة وفاعليَّة.
أننا اليوم في حاجةٍ ماسّة لتذويب المفاضلة القائمة بين العلمين وذلك بتكريس ثقافة الاعتراف والتكامل المعرفي، وذلك لأن الظواهر بأنواعها ظواهر مركبة، وبالتالي فمعالجتها لزاماً تقتضي أن تكون مركّبة، وهو الأمر الذي لن يتحقَّق إلا بتكامل كلا العلمين. كما أنَّ تحقيق ذلك التذويب يقتضي كذلك اعترافاً مباشراً وتطبيقاً واعياً من طرف الدول، وذلك على مستوى البرامج والمقرّرات الدراسيَّة، وكذا على مستوى الإعلام والمجال العام، فالمفاضلة الواقعة اليوم وإن كانت وهماً فهي تتطلَّب تدخّلا من كل الأطراف المجتمعيَّة لتذويبها. فالعلوم الإنسانيَّة والعلوم الحقّة في نهضة أي مجتمع كوجهي عملة نقديَّة واحدة.