معضلة العنصريَّة الدينيَّة
نحتاج إلى كثير من الجرأة والموضوعية، لنقول بأن العنصرية الدينية هي أسوأ أشكال العنصرية. فهي تقوِّض كرامة الإنسان، وتُفقد الأديان مضمونها الأخلاقي، وتجعل “إله العالمين” مجرد “إله عشيرة”، أو في أحسن الأحوال “إله أقلِّيّة”.
لا تتوقف قيمة الإنسان وحقوقه، على ما يَجِد عليه نفسه من عِرق، أو لون، أو ديانة، وإنما تتجلى قيمة الإنسان في إنسانيته التي لا تقبل التقسيم، أو الاجتزاء. فالاختلافات بين الشعوب ليست مبرِّرًا لكراهيَتِهم وانتقاص حقوقهم، وإنما هي مهماز يحفزهم على البحث عن المشتركات الكبرى، التي تجمعهم وتعمِّق معرفتهم بإنسانيَّتَهم وغاية وجودهم.
من الواضح أن العنصرية الدينية يصعب اكتشافها وعلاجها، فهي تتغذى على جهل الإنسان وجهالته، وشعوره بالتهديد والبغضاء، وتتستَّر وراء أثواب القداسة، وسلطة الحقيقة.
لقد أفْضَت زيادة الخلط بين الصراعات السياسية والدين، إلى إنتاج عنصريات صلبة لا تقبل النقد، أو المراجعة. وفي هذا السياق نذكر العنصرية “الصهيونية”، التي قامت باستغلال المعتقدات الدينية اليهودية، وأعادت توظيف مقولَتَي: “شعب الله المختار”، و”الأرض الموعودة”، ونجحت في استدراج عدد كبير من اليهود من شتَّى الأعراق والقوميات، وجعلتهم جزءًا من المشروع الاستعماري في فلسطين.
فالاعتقاد بأنَّ اختيار الله لبني إسرائيل، اختيارٌ إلهي غير مُعلَّل ولا مشروط؛ هو نتاج فهمٍ سقيم لقول التوراة: ” لأَنَّكَ شَعْبٌ مُقَدَّسٌ لِلرَّبِّ إِلهِكَ، وَقَدِ اخْتَارَكَ الرَّبُّ لِكَيْ تَكُونَ لَهُ شَعْبًا خَاصًّا فَوْقَ جَمِيعِ الشُّعُوبِ الَّذِينَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ”. (سفر التثنية: 14/2).
وبناء على هذا النص، أطلق اليهود على أنفسهم تسمية «عم قادوش» أي «الشعب المقدَّس»، و«عم عولام» أي «الشعب الأزلي»، وغيرهما من التسميات التي تُشعر بتميُّزهم عن سائر الشعوب.
وفي السياق الإسلامي، لم يكن فهمُ القرآن بمعزل عن الأجواء والمشاعر العنصرية، كما هو الحال في فهم بعض الفقهاء لقوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَٰذَا} [التوبة: 28]. فقد رأى هؤلاء الفقهاء غيرَ المُسلم نجسًا نجاسةً عينية، ولم يتنبَّه هؤلاء على أن هذا الفهم الخاطئ يقوِّض العمق الإنساني للقرآن، ويعيد إنتاج مقولة “الغوييم” ونجاستهم، وَفْق المنظور العنصري في التفسير اليهودي.
وفي نص آخر، نجد مفهوم “الخيرية” لدى بعض المسلمين، يقترب في دلالاته من مفهوم “شعب الله المختار”، كما في قوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]. والواقع أن الفهم الدقيق لهذه الآية، لا ينسجم مع القول بالأفضلية. فالخيرية والأفضلية في الآية، تتوجه نحو الناس “أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ”، وهي تتجلى فيما يبذله الناس من خير وعطاء لغيرهم من الأمم، وليس فيما يجدون عليه آباءهم من سمات عرقية، أو تصورات دينية.
كما أن تقديم (الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر) في الآية، على الإيمان بالله، يؤكد أن عمل الخير، وتحقيق النفع العامّ، والسعي لإبعاد المجتمعات عن الشرور، والفساد، والظلم، هو المعوَّل عليه في الخيرية.
إنَّ مَن يستحقون الخيرية الأفضلية، ليسوا هم مَن يدَّعونها، وإنما هم هؤلاء الذين يشير إليهم غيرهم بالأفضلية والعطاء. فالأفضلية ليست تسمية يتوارثها الناس من ديانة أو طائفة بمحض الميلاد، وإنما هي شهادة صادقة يقدمها الناس لمن يبذلون لهم الخير.
إن أبسط دليل على فساد العنصرية، هو تناقض مضمونها المنطقي. فالعنصريون لا يرضون بأن تطبَّق عليهم معايير التمييز، التي يمارسونها تجاه غيرهم!
ومن أجمل ما جاء في كلام النبي الكريم، في تقويض العنصرية، والتمييز، وفي بناء الأخوَّة الإنسانية الجامعة، قوله عليه السلام: “لا فَرْق بين عربيٍّ ولا أعجميٍّ، ولا أبيض ولا أسود، إلاَّ بالتقوى”.
والتقوى هنا ليست اسمًا لديانة، أو تصورًا نظريًّا، وإنما هي العدالة، والرحمة، ومكارم الأخلاق، التي يعيشها الإنسان تجاه خلقِ الله، والتي تجعله أكثر قربًا إلى الله.
__________
*المصدر: تعددية
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.