السلوك الإنساني والعنصريَّة في ضوء نظريَّات علم النفس السياسي

image_pdf

” قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إِلَى عَصَبِيَّةٍ وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ قَاتلَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ مَاتَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ) “ (سنن أبي داود باب العصبية رقم الحديث: 5121).

” ولكي نقيس التسامح، يبدو واضحاً أننا لا نكون بحاجة إلى قياس سلوكنا واتجاهاتنا نحو جماعات نحبها، لأن جوهر التسامح يكمن في الاستعداد للعيش جنباً إلى جنب مع أفراد نعارضهم، وأفكار لا نتفق معها. يبدو واضحاً تعريف مقولة فولتير الشهيرة: أنا أمقت وجهات نظرك، لكن على استعداد لأن أموت دفاعاً عن حقك في التعبير عنها ([1]).

إن عدم التسامح السياسي يرتبط بنزعات شخصية معينة تتسم بالثبات منها التصلب بالرأي والتسلطية والتفاؤل، ومنها أيضاً عدم الأمن النفسي والدوغمائية وعدم الثقة بالآخرين، أو الحقد على بعض، والاعتقادات المتصلة بالقيم الديموقراطية فيما يصلون إليه من قرارات.

يعتبر علم النفس السياسي* مجالًا أكاديميًّا متعدِّد الاختصاصات، يقوم على فهم السياسة والسياسيين والسلوك السياسي من منظور نفسي. وتعتبر العلاقة بين السياسة وعلم النفس ثنائية الاتجاه، فيستخدم العلماء علم النفس كمرآة لفهم السياسة، وكذلك السياسة مرآة لعلم النفس. ويعد هذا العلم مجالًا متعدِّد الاختصاصات، لأنه يأخذ مادته من مجموعة واسعة من التخصصات الأخرى، بما في ذلك: علم الإنسان، وعلم الاجتماع، والعلاقات الدولية، والاقتصاد، والفلسفة، والقانون ، ووسائل الإعلام والصحافة بالإضافة إلى التاريخ. ويعرف مورتون دويتش علم النفس السياسي بأنه: دراسة تفاعل علم السياسة مع علم النفس، خاصة أثر علم النفس في السياسة. ومن الجدير بالذكر أن هذا العلم الوليد قام على أسس موجودة في العلوم النفسية وهي دراسات الشخصية، وسيكولوجية وديناميات الجماعة والقيادة، والأسس النفسية لتكوين الاتجاهات، ومهارات حل الصراع … وغيرها، مع تعديل جوهري وهو تطبيق كل ذلك على مجموعات كبيرة وقوى ضغط ومصالح متباينة.

يهدف علم النفس السياسي إلى فحص مسائل التعصب والعنصرية والتمييز العرقي والتسامح ومحاولة فهمها. عن طريق النظريات النفسية الكثيرة مثل: نظرية الإحباط والعدوان، والنرجسية ويستطيع علم النفس السياسي مساعدة صناع القرار في اتخاذ القرارات([2]) الصائبة في مجال العلاقات الدولية، وفي التنبؤ بردود الفعل المحتملة للدول الأخرى لتلك المبادرات والاتفاقيات السياسية.

بالمقابل ركز علم نفس العنصرية عبر التاريخ على سيكولوجية الفرد، كيف تدفع المعتقدات والسلوكيات الفردية العنصرية (المقاربة النفسية الاجتماعية). لكن قيدت رؤية العنصرية من هذا المنظور وحده حدود شديدة. واليوم، يستخدم بعض الباحثين في علم النفس المقاربة الثقافية الاجتماعية ويدافعون عنها، والتي تنظر إلى العنصرية على أنها أفكار وممارسات راسخة في الثقافة وتكون جزءاً لا يتجزأ منها. إذ يشكل الأفراد الثقافة وتشكل الثقافة الأفراد.

 بناءً عليه يتساءل علماء نفس السياسة المهتمون بجذور التعصب العنصري من بينهم فيديريكو ولاكس Federico and Luks ، ما الذي يجعل أفراداً عاديين عقلانيين وأصحاء نفسياً يتحيزون ظاهرياً أو باطنياً ضد شخص معين أو جماعة بكاملها، ويمثل هذا التحيز في الحقيقة واحداً من أكبر الألغاز التي يواجهها علم النفس الاجتماعي والسياسي، وربما العلوم الاجتماعية قاطبة، والنظريات النفسية التي تصدت لتفسير العنصرية ونشوء التوترات العنصرية عديدة ومتنوعة، ومن هنا نجد الكثير من هؤلاء العلماء يتصدى لدراسة أسباب انتشار هذه الظاهرة الموجهة نحو جماعة عرقية معينة وتستند إلى نظم من القوة والقمع. يُنظر إلى العنصرية أحياناً بأنها مشكلة مع الأحكام المسبقة العنصرية للفرد، لكن من المهم إدراك أنها متعددة الأوجه ومنهجية.

يزخر التفكير الإنساني بالعديد من التفسيرات العنصرية من حيث تصرفات وإيديولوجيات الفرد العلنية (الفهم الاجتماعي النفسي)، إلا أنها موجودة أيضاً ضمن الأنظمة، المؤسسات، والثقافات (الفهم الثقافي النفسي). بهذه الطريقة، فإن العنصرية جزءٌ لا يتجزأ من واقع الحياة اليومية. وبما أن التمييز العنصري هو جزء من الحياة اليومية، الأنماط الثقافية والقصص التاريخية، فمن الصعب أحياناً على أفراد المجتمع رؤية كيف تحرض الأفكار المألوفة والعادية وجهات النظر والسلوكيات ذات الطابع العنصري. كما لا يتمحور التمييز العنصري فقط حول إظهار الأفراد الأفكار المسبقة العرقية أو الانخراط في أفعال مباشرة تنم عن التمييز العرقي. إذ تكون أحياناً أقل وضوحاً وأكثر مكراً، وتؤثر على المؤسسات مثل نظام العدالة*، حيث يواجه المتهمون ذوو البشرة السوداء أحكاماً أقسى مقارنة بالمتهمين البيض بنفس الجريمة على سبيل المثال.

قد يشير تزايد التعبيرات العلنية عن التحيز العرقي أن الأحكام المسبقة العنصرية (وبالتالي العنصرية) أقل تطرفاً في أمريكا المعاصرة على سبيل المثال. لكن يوضح العديد من علماء النفس أن التحيز العرقي قد دفن لكنه نما وازدهر بأشكال أكثر مكراً، مُقدمين أدلة دامغة على ذلك. وفي حين أن أغلب التصرفات الفردية الصارخة والتي تنم عن العنصرية لم تعد مقبولة في ” الاتجاه السائد” في المجتمع الأمريكي المعاصر. إلا أن فهم مجتمعنا لماهية العنصرية يستمر في التطور والتغير.

في حقيقة الأمر، إن مؤسساتنا ليست بعيدة جداً عن سنوات الاستعمار والعبودية والفصل العنصري، ولا يزال تجاهل العنصرية أو التغاضي عنها قائماً أو حتى دعمها بشكل نشط في العديد من جوانب الحياة الاجتماعية. لذا يجب علينا في سبيل فهم أفضل لآلية عمل العنصرية، من المهم النظر إلى ما هو أبعد من سيكولوجية الفرد أي إلى الممارسات المنهجية والثقافية التي تستمر في دعم العنصرية.

أجرت سوزان فسك Susan Fiske  القدر الأكبر من البحوث حول العنصرية racism والتعصبprejudice   والتمييز discrimination في الولايات المتحدة. وتفسر فسك ذلك بقولها: ” إن قروناً من الهجرات الشديدة التنوع التي دخلت في أمة واحدة، دفعت القضايا الإثنية إلى السطح في الولايات المتحدة أسرع من أي مكان آخره. ولكنها تؤكد أن كثيراً من النظريات التي استخدمت لتفسير العنصرية تنطبق على التعصب في السياسة الأوروبية بالقدر الذي تنطبق فيه على التعصب في السياسة الأميركية “. والحقيقة أن معظم النظريات التي تفسّر هذه الظاهرة يمكن تطبيقها على أي منطقة من العالم حيثما يكون هناك فروق عنصرية وإثنية بارزة داخل الدولة الواحدة.

إن النظريات النفسية التي تصدت لتفسير العنصرية ونشوء التوترات العنصرية عديدة ومتنوعة إلى حد يبعث على الدوار في الحقيقة، ولا يسعنا استعراضها على قدم المساواة هنا، ولكننا نستطيع الإشارة إلى الخطوط العامة للواحدة منها بالتأكيد.

كما تذهب فسك أننا نستطيع تصنيف جميع هذه النظريات في صنفين: نظريات تفسر ظاهرة التعصب على مستوى فردي (individual – level theories) ونظريات تفسرها على مستوى السياق أو الإطار المحيط (contextual – level theories).بوجه عام يمكننا النظر إلى العنصرية، كغيرها من الظواهر السياسية، باعتبارها نتاج الاعتقادات التي يحملها أفراد معينون أو نتاجاً للشخصيات الخاصة بهؤلاء الأفراد، أو قد تكون نتاجاً لعوامل موقفية تشجع أو تسمح بممارسة سلوك عنصري. وفي هذا المقال سنحاول تفسير العنصرية من خلال مناقشة نظرية الشخصية التسلطية، والسيطرة الاجتماعية، ونظرية التنميط الاجتماعي (الوصم الاجتماعي)، من خلال ما يلي:

– نظرية الشخصية التسلطية([3]): يرى بوب ألتيماير  Bob Altemeyer أن أساس نظرية الشخصية التسلطية القديمة قد ارتبط بتيودور أدورنو Adoro Theodore وزملائه، ولكنه حاول أن يزيل شيئاً من الغموض الذي اعترى تلك النظرية. فقد حددت نظرية أدورنو في الأصل تسع سمات شخصية يفترض أن تميز الجناح اليميني التسلطي من الناس، لكن ألتيماير اختصر هذه السمات في ثلاث مجموعات من الاتجاهات، وهي: الخضوع للسلطة: (ويعني ذلك ميلاً شديداً لدى الفرد إلى الخضوع للسلطة). والعدوان التسلطي (العدائية تجاه الجماعات الخارجية). والتقليدية: وتشير إلى الامتثال للمعايير الاجتماعية وعدم الاستعداد للتصدي للواقع القائم)، وأطلق ألتيماير على الصيغة المنقحة من النظرية تسمية (تسلطية الجناح اليميني) وطور مقياساً لقياس درجة اتسام الأفراد بهذه الصفات. ويمكن النظر إلى العنصرية ببساطة، من وجهة نظر ألتيماير، كواحدة من خصائص هذا الصنف من الشخصية التي تتسم بالتعصب الشديد إزاء الجماعات الخارجية من أي نوع، بما في ذلك الأميركيين من أصول إفريقية. ويقول ألتيماير بهذا الصدد: يحمل أصحاب هذه الشخصية الكثير من التعصبات، فهم معادون لكثير من الأقليات، ويظهرون تعصباً على الجميع على قدم المساواة. ولكنهم لا يدركون في العادة أنهم متمرکزون حول ذواتهم، ولا يرغبون في اكتشاف ذلك، وهم على استعداد دائماً لمساعدة الحكومة في اضطهاد أي جماعة تخطر ببالك، بما في ذلك هم أنفسهم.

وتثير نظرية التسلطية اليمينية، التي يطرحها ألتيماير إشكالية أخرى تتعلق بالتمييز بين الموقفية والنزوعية. فمن الناحية الأولى، ليس هناك من شك في أن الأفراد يصبحون متعصبين نتيجة للبيئات أو الظروف التي يجدون أنفسهم فيها، وليس لأنهم ولدوا على هذه الشاكلة. وبهذا المعنى تكون معظم النظريات موقفية في جذورها، لأن الناس لا بد من أن يحصلوا على نزعاتهم من مكان ما والاستثناء على ذلك هو النظريات البيولوجية التي تؤكد أننا نولد بشيء من النزعات الموروثة في الأقل ولا نولد صفحات بيضاء.

ويعتقد ألتيماير أن اليمينيين التسلطيين يتعلمون اعتقاداتهم التسلطية في الطفولة  كما يفعل ذلك غير التسلطيين،  لكن الفروق تكمن في أن غير التسلطيين يكونون أكثر وعياً بأنفسهم، ويعملون على تعديل اعتقاداتهم المبكرة بالخبرة، في حين أن التسلطيين يحافظون على تلك الاعتقادات. ومن ناحية ثانية، يمكن اعتبار هذه النظرية نظرية نزوعية من حيث إن الاتجاهات التسلطية، وإن كانت متعلمة، إلا أنها تمثل نزعات تستعصي على التغيير لاحقاً، وتستمر مدى الحياة. ومع أن السبب البعيد لهذه النزعات قد يتصل بعوامل موقفية، إلا أن السبب المباشر، أو القريب، يكون سبباً نزوعياً. 

ومع أن نظرية ألتيماير أصبحت معروفة على نطاق واسع الآن واكتسبت بعض المناصرين، إلا أنها لا تتمتع بالقبول الذي تتمتع به نظريات أخرى في هذا المجال. وبعيداً عن الانتقادات الأساسية حول هذه النظريات المبسطة في الشخصية، فإن نظرية الشخصية التسلطية تدعو إلى التساؤل عن السبب الذي يجعل مناطق بكاملها تعبر عن عواطف عنصرية شديدة إزاء جماعة أو جماعات معينة أو تمارس التمييز ضدهم، أو تفعل الأمرين معاً. وقد يكون نظام جيم کرو  Jim Crow الذي قام على الفصل العنصري في الولايات المتحدة الجنوبية قديماً هو المثال الكلاسيكي لهذه الحالة أو الإشارة هنا إلى تعصب جماعة بكاملها وليس إلى تعصب أفراد.

– نظرية السيطرة الاجتماعية: يعتبر جيم سيدانيوس Jim Sidanius هو المدافع البارز عن نظرية السيطرة الاجتماعية في العلاقات بين الجماعات. وهذه النظرية، خلافاً لسابقتها، نظرية عامة في العلاقات بين الجماعات، ويمكن الاستناد إليها الفهم أنواع مختلفة من الصراعات غير الصراعات القومية.

وتركز هذه النظرية على الدافع إلى السيطرة الاجتماعية والمقصود هنا سيطرة الجماعة التي ينتمي إليها الفرد، وتميز بين الأفراد من حيث توجهاتهم نحو هذا النوع من السيطرة، فالأفراد الذين يظهرون توجهاً قوياً نحو السيطرة الاجتماعية يرون جماعتهم على أنها جماعة مختلفة – تتميز عن الآخرين – ويرغبون في أن تحتل مركز السيطرة في المجتمع. هذه النظرية وإن كانت أكثر تعقيداً من سابقتها، إلا أنها تشترك معها في جذورها النظرية. وكما سبق أن أشرنا، فإن هذه النظرية تزعم أن الأفراد ذوي المكانة الميدانية يمكن أن يأخذوا بالأساطير التي تسبغ شرعية على التراتبية القائمة في المجتمع إلى حد يجعلهم يحابون الجماعة الخارجية ذات المنزلة العالية. ويعتبر سيدانيوس تفضيل السود لـ العم توم، الأبيض أثناء حقبة الفصل العنصري في الولايات المتحدة، أوضح مثال على هذه الظاهرة في العصر الحديث، والتي نجمت عن خضوع السود للبيض تاريخياً. 

ولقد كرس أنصار هذه المقاربة الكثير من الجهد لدراسة العنصرية على وجه الخصوص. ووفقاً لما ترى فيليشيا براتو Felicia Pratto وزملاؤها، فإن التوجه للسيطرة الاجتماعية يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالعنصرية المناوئة للسود، والتعصب على مجموعات الأقليات بشكل عام. وتؤكد فيليشيا وزملاؤها أن إيديولوجية العنصرية المناوئة للسود لم تتمثل في أفعال شخصية تمييزية فحسب، بل شملت تمييزاً مؤسسياً ضد الأميركيين الأفارقة في المجالات المختلفة، مثل البنوك، وهيئات النقل العام، والمدارس، والكنائس، وقوانين الزواج، ونظام العقوبات. ولا تأتي النظرية بالكثير عن المصدر الذي خرجت منه الأساطير المشرعة للعنصرية أو طبيعة هذه الأساطير أكثر من القول إنه يجري تناقلها من خلال الجماعات المسيطرة، غير أن أنصار هذه النظرية يرون أن المصدر الذي تنبثق منه الإيديولوجية العنصرية، والأشكال التي تأخذها ليست ذات أهمية. ومن هنا فإن هذه النظرية لا تمتلك الكثير لتقوله عن المكنزمات النفسية التي تعزز التفكير العنصري، على الرغم من أن طبيعتها غير المحددة تسمح بتطبيقها على نطاق واسع من مواقف الصراع بين الجماعات. 

– نظرية التنميط الاجتماعي (الوصم الاجتماعي) ([4]): تعود جذور هذه النظرية إلى خمسينيات القرن الماضي كتفسير للسلوك الانحرافي ويعتبر عالم الاجتماع الأمريكي ” أدوين ليمرت ” أول من تحدث عنها، وكلمة (وصم) تعني باليونانية النقطة السوداء في الصفحة البيضاء، إذن فهي تصمها أو تميزها. وفي اللغة العربية هو العار والعيب. اصطلاحاً هي صورة ذهنية سلبية تلتصق بالفرد كتعبير عن الاستياء والاستهجان لهذا الفرد نتيجة اقترافه سلوكاً غير سوي يتعارض مع القيم والمبادئ السارية في المجتمع([5]).

وفي سياق أدبيات علم النفس السياسي تعتبر واحدة من النظريات الواقعة ضمن المعسكر النزوعي التي حظيت باهتمام واسع في السنوات الأخيرة. وكواحدة من نظريات العنصرية، تُرجع نظرية التنميط هذه الظاهرة إلى الطريقة التي يصنف بها العقل البشري المعلومات. بالمقابل تنطبق هذه النظرية أيضاً على الصور النمطية العنصرية في هذا النطاق. ينبثق التنميط العنصري جزئياً، وفقاً لهذا المنظور، من حاجة الإنسان الأساسية إلى تبسيط الواقع، ووضع الناس والأشياء في أصناف. وتفيد فسك وتايلر في كتابهما الكلاسيكي المعرفة الاجتماعية، الصادر عام 1984 أن النظرة إلى الصور النمطية كجانب اعتيادي من جوانب العملية المعرفية، حين تطبق على الناس، أصبحت مقبولة على نطاق واسع، وهي تختلف اختلافاً بيّناً عن النظرة التقليدية إلى الصور النمطية كظاهرة غير عقلانية معزولة عن غيرها من العمليات المعرفية. ويبدو أن الصور النمطية السلبية تتكون، في جانب منها، نتيجة لنزعتنا إلى إقامة ارتباطات وهمية بين الأفراد والجماعة التي ينتمون إليها في نظرنا، وتفيد فسك وتايلر، في هذا الصدد: قليلاً ما يتصل أعضاء جماعة الأكثرية بأعضاء من جماعة الأقلية (هذا من جهة، ومن جهة أخرى قليلاً ما يصدر عن الناس سلوك سلبي لأن السلوك الإيجابي أو المحايد هو الغالب)، وربما تُقيم جماعة الأكثرية ارتباطاً وهمياً بين مثل هذين الحدثين النادرين (أي عندما يصدر سلوك سلبي عن فرد من جماعة أقلية)، وتستنتج أن أعضاء جماعة الأقلية أكثر ميلاً إلى القيام بالسلوك السلبي من جماعة الأكثرية

ولعل المثال التالي يوضح مفهوم الارتباط الوهمي هذا. تخيل مثلاً أنك طالب جامعي أبيض من منطقة ريفية تستأجر شقة من مالك باكستاني في مدينة ليدز بإنكلترا. والباكستانيون يشكلون أقلية كبيرة في المملكة المتحدة، ولكنهم يفضلون الإقامة في المدن الكبرى في الشمال والوسط، مثل بيرمنغهام، ومانشستر، وليدز. ودعنا نتخيل أن الماء أخذ يتسرب من سقف شقتك، لكن المالك لم يرد على مكالماتك ورسائلك المتكررة طالباً إليه إجراء الإصلاح اللازم، ونتيجة لذلك نشأ لديك نفور شديد منه واستغراب، وقررت الانتقال من الشقة بأسرع ما يمكن. ففي مثل هذا الموقف، وخصوصاً إذا لم يكن لديك أصدقاء باكستانيون، ولم يكن لديك كثير من العلاقات مع باكستانيين آخرين، أي لا يوجد لك علاقة بأحدهم على الإطلاق، فإنك ستميل على الأرجح إلى استنتاج وجود صلة (أو ارتباط وهمي) بين سلوك هذا الشخص والباكستانيين کجماعة. وقد تجد نفسك تنعت الباكستانيين جميعاً بنعوت عنصرية، على الرغم من أنك لم تعتبر نفسك يوماً شخصاً متعصباً. ومن حيث إن هذه المقاربة المعرفية التي نحن بصددها تفترض كذلك أننا ” علماء بالفطرة “، فقد يجد الواحد منا نفسه منقاداً إلى بناء استنتاج غير  سليم على أساس من حالة منفردة واحدة. 

وليس مستبعداً أن تتطور لدينا مشاعر عنصرية إزاء الباكستانيين في المثال السابق. أما إذا كان لدينا معرفة بعدد كبير من المالكين وكان لدينا خبرة مماثلة مع معظمهم، فإننا قد تلحق هذا الفرد وصمة المالكين، بدلاً من وصمة  الباكستانيين. وستؤدي تلك الحالة إلى مشاعر تعصبية على جميع المالكين بدلاً من الباكستانيين، وعليه، فإن نظرية الوصم ترى أن العنصرية ليست أمراً حتمياً، فهي تعتمد على الوصمة المستثارة، وعلى مخزون الوصمات الذي يمتلكه الفرد ومضامينها. وهذا هو العنصر الذي يجعل مقاربة الوصمات مقاربة نزوعية من حيث الأساس. 

وقد جرت دراسة التنميط ودوره في التعصب منذ بداية الثلاثينيات في الأقل، وكانت معظم البحوث فيه تنطلق من منطلق فرويدي کلاسيکي، أو تحليلي نفسي، وتنظر إلى العنصرية كشكل من الإسقاط يقوم فيه أفراد مضطربون نفسياً بإسقاط مشاعر النقص التي يحملونها على الآخرين، ولكن الرائد الحقيقي لدراسة هذه الظاهرة كان عالم النفس الاجتماعي الشهير غوردون ألبورت* الذي ظل كتابه (طبيعة التعصب) الصادر عام 1954 مؤثراً في هذا المجال لفترة طويلة حتى بعد وفاته.

وقد نظر ألبورت إلى التعصب على أنه كراهية مبنية على تعميم خاطئ ومتصلب، قد يظل شعوراً أو يجري التعبير عنه، وقد يتجه نحو جماعة أو نحو فرد من تلك الجماعة. وعندما وضع البورت كتابه، كان ينظر إلى التنميط العنصري كخلل في الشخصية، ولكنه كان أول من تطرق إلى الفكرة المقلقة بأن العنصرية قد تنجم عن عمليات طبيعية لا تعدو أن تكون جزءاً من العمل المعتادة للذهن الإنساني، وأصر ألبورت على أن العقل الإنساني لا بد من أن يستند إلى التصنيفات ليفكر ويضيف ما أن تتكوّن التصنيفات حتى تصبح الأساس المعتاد للأحكام المسبقة. بذلك مهد ألبورت لتطوير المقاربة المعرفية في التعصب، ولكنه تبنى وجهة النظر القديمة، واعتبر التعصب كراهية غير عقلانية متجذرة تنجم عن الجهل وتعكس مناورات دفاع نفسية يتوسلها ذو البناء الشخصي الضعيف من الناس. كما أكد ألبورت دور العوامل الانفعالية والدافعية في التعصب، الأمر الذي مهد لأجيال من الباحثين أخذ أفكاره والانطلاق بناءً عليها في اتجاهات مختلفة. أسفل النموذج

وهكذا بنى الباحثون نظرياتهم لاحقاً على أساس هذا البعد المعرفي لتحليل ألبورت، إلا أنهم خالفوا حُججه في بعض الجوانب. وفي نهاية المطاف خلص ألبورتإلى نتيجة مفادهاأن (وجود الصور النمطية يقود لا محالة إلى اتجاهات تعصبية).

وفي سياق متصل تتبنى غالبية البحوث في التسامح([6]) السياسي (منحي نزوعي). فقد وجدت الدراسات المبكرة في هذا المجال أن التسامح يرتبط بنزعات شخصية معينة تتسم بالثبات نسبياً منها: التصلب بالرأي([7])، والتسلطية، والتفاؤل، عدم الأمن النفسي، والدوغمائية*، أو التصلب بالرأي أيضاً، وعدم الثقة بالآخرين. وقد سعت بعض الدراسات في هذا السياق إلى تحليل العوامل التي تؤثر في صنع القرارات المتعلقة بالتسامح، وبالأخص فيما يتعلق بدور الانفعال في صنع القرارات، وهو منظور نزوعي أيضاً من حيث إنه يركز على الفروق بين الأفراد في الاستجابة للبيئة المعلوماتية المحيطة بهم ذاتها. كما تلعب الفروق الفردية دوراً هاماً في اختلاف الناس في الطريقة التي يصنعون بها الأحكام المتعلقة بالتسامح، وفي الطريقة التي يتعاملون بها مع المعلومات الراهنة، فالناس يختلفون في ما يحملونه من نزعات وفيما يصلون إليه من قرارات، وقراراتهم القائمة تلك تؤثر في مدى تسامحهم أو عدم تسامحهم. فقد يختلف الناس، مثلاً، في مستوى معرفتهم السياسية وخبرتهم، وطريقة معالجتهم للمعلومات الجديدة. وهذا يعني أن القرارات المتعلقة بالتسامح هي في نهاية المطاف نتيجة المزيج من العوامل، تتضمن: النزعات القائمة لدى الأفراد والمتعلمة مبكراً في الحياة، والاعتقادات المتصلة بالقيم الديموقراطية، والمعلومات المحددة المتعلقة بالحالة قيد البحث.

 إننا عندما تواجه حجم العنـصرية الكبير في العديد من البلدان، فمن السهل أن تشعر بالعجز أمامه. لكن هناك بعض الأشياء التي يمكنك القيام بها على المستويين الفردي والمجتمعي للتأثير على العنصـرية الشخصية والمنهجية على حد سواء. فيما يلي بعض الإجراءات التي يمكن من خلالها مكافحة العنـصرية: ففي البداية يجب علينا العمل  على بناء نظام قائم على المساواة تشترك فيه المجتمعات كافة بشكل عادل. والانتباه المباشر إلى مشكلة التمييز العنصري بدلاً من إخفائها أو التظاهر بعدم وجودها. كما يجب علينا عندما نواجه موقفاً عنصرياً، أن نتحدى ونسأل الناس عن سبب تفكيرهم بهذه الطريقة وشجعهم على أخذ البدائل بالاعتبار. بالإضافة إلى ذلك ينبغي علينا أن نتذكر أن التغيير لا يحدث بين ليلة وضحاها والتحلي بالصبر إذا كان التقدم باتجاهه بطيئاً، فحتى التغييرات الصغيرة بإمكانها أن تؤدي إلى نتائج كبيرة عندما يكون الفعل مستمراً ومتسقاً. كما يجب علينا تعليم الأطفال الاندماج والتعاطف مبكراً حتى يكونوا قادرين على تحديد العنصرية ومواجهتها عند البلوغ، وإجراء بحوث نفسية تتناول كيفية تغيير المعايير الاجتماعية وأفضل الطرق لتطبيق النظم التي تؤدي بالنتيجة إلى تغيير مواقف الناس في المجموعة السائدة (المهيمنة) بحيث تتأثر النظم أيضاً بهذا الاتجاه، والسعي إلى تصميم مناهج تعليمية تتناول تاريخ العنصرية وتعلم التلاميذ كيفية إدراك التحيزات الموروثة لديهم. بالإضافة إلى القيام بعملية التواصل في ظروف مواتية مع مجموعات أخرى، والعمل نحو تحقيق أهداف مشتركة مع أشخاص من أعراق مختلفة. كما يجب علينا السعي إلى تكوين صداقات بين الأعراق (قبول الآخر) ([8]) وتعزيزها بحيث يستطيع أعضاء المجموعات رؤية بعضهم كأفراد بدلاً من اعتبارهم مجرد جزء من الطائفة أو العرق.

باختصار شديد، إن مكافحة العنصرية أبعد من مجرد أن تكون شخصاً (غير عنصري) والتي تعادل أحياناً العنصـرية السلبية، تعلم كيف يكون الفرد مناهضاً نشطاً للعنـصرية وهو أمر أساسي. فعلى سبيل المثال، أظهرت الأبحاث أن اتباع نهج أكثر مباشرة ومناهضة للعنصـرية في تعليم الأطفال عن تاريخ العنصرية له التأثير الأكبر على فهمهم للأثر الحقيقي لها.

وفي الختام، نهى الإسلام عن ممارسة العصبية والعنصرية وحاربها باعتبارها من صفات أهل الجاهلية، وهي في وقتنا الحاضر تلازم الشعوب المتخلفة، والدول الممزقة والمتقدمة أيضاً باعتبارها انعكاساً لتشوهات التربية العقيمة، ومظهر من مظاهر الأمراض الاجتماعية والثقافية، التي تنذر بالعواقب الوخيمة، والنتائج الخطيرة على تماسك المجتمع ووحدته، وفي تجاهل أسبابها ومسبباتها أو التساهل مع متعاطيها محفز لانزلاق المجتمع نحو التناحر فيما بينه، وبالتالي يصبح مجتمعاً ممزقاً يسهل افتراسه.

________

– المراجع المعتمدة:

  1. أرلين كونسيك: العنصرية من وجهة نظر علم النفس وما علاقتها بالصحة النفسية؟، ترجمة: هبة مسعود، منصة أوبستان، ديسمبر 12, 2022. https://2u.pw/QIyXrXb
  2. إيناس صبري عبد المنعم: علم النفس السياسي وسيكولوجية القادة والجماهير، المركز الديمقراطي العربي، 13. يونيو. 2017. https://democraticac.de/?p=47118#_ftn4
  3. حسام الدين فياض: المدخل إلى علم الاجتماع – من مرحلة تأصيل المفاهيم إلى مرحلة التأسيس، مكتبة الأسرة العربية، إسطنبول، سلسلة نحو علم اجتماع تنويري، الكتاب الثاني، ط1، 2021.
  4. دافيد أو . سيزر وآخرون: المرجع في علم النفس السياسي، ترجمة: ربيع وهبة وآخرون، مراجعة وتقديم: قدري حنفي، المركز القومي للترجمة، القاهرة، العدد:1484، الجزء الأول، ط1، 2010.
  5. دايفد باتريك هوتون: علم النفس السياسي، ترجمة: ياسمين حداد، مراجعة: سامي الخصاونة، المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات، بيروت، ط1، 2015.
  6. رافع النصير الزغول، عماد عبد الرحيم الزغول: علم النفس المعرفي، دار الشروق للنشر والتوزيع، عمان، ط1، 2014.
  7. سهيلة عبد الرضا عسكر: الشخصية التسلطية وعلاقتها بالتعصب، مجلة القادسية للعلوم الإنسانية، المجلد: 12، العدد: 03، 2009.
  8. عبد الكريم بكار:  خطوة نحو التفكير القويم، دار علام، عمان، ط5، 2011.
  9. عبد الوهاب الكيالي: موسوعة السياسة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الجزء الثاني، ب.ت.
  10. كريستيان تيليغا: علم النفس السياسي؛ رؤى نقدية، ترجمة وتحقيق: أسامة الغزولي، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، العدد: 436، 2016.
  11. محمد المهدي: علم النفس السياسي (رؤية مصرية عربية)، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، ط1، 2007.
  12. ميشيل إ. ماكلو وآخرون: التسامح (النظرية والبحث والممارسة)، ترجمة: عبير محمد أنور، المركز القومي للترجمة، القاهرة، العدد: 2057، ط1، 2015.
  13. ميلاد حنّا:  قبول الآخر (فكر واقتناع وممارسة)، دار الشروق، القاهرة، ط1، 1998.
  14. Arlin Cuncic, MA: The Psychology of Racism, https://www.verywellmind.com/the-psychology-of-racism-5070459

([1])  دايفد باتريك هوتون: علم النفس السياسي، ترجمة: ياسمين حداد، مراجعة: سامي الخصاونة، المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات، بيروت، ط1، 2015، ص(327).

*  انظر  أيضاً (الفصل الأول بعنوان: علوم النفس التي يعتمد عليها علم النفس السياسي) من كتاب دافيد أو . سيزر وآخرون: المرجع في علم النفس السياسي، ترجمة: ربيع وهبة وآخرون، مراجعة وتقديم: قدري حنفي، المركز القومي للترجمة، القاهرة، العدد:1484، الجزء الأول، ط1، 2010، ص(45 وما بعدها).

([2])  يرى بعض الباحثين أن عملية اتخاذ القرار هي عملية إصدار حكم. فيعرفه هاريسون على أنه عملية عقلية تنطوي على إصدار حكم باختيار أنسب السلوكيات في موقف نعين. بمعنى أدق تعتبر عملية اتخاذ القرار عملية واعية وعميقة تنطوي بشكل أساسي على اختيار أنسب البدائل المتاحة لحل مشكلة أو الخروج م موقف ما. انظر رافع النصير الزغول، عماد عبد الرحيم الزغول: علم النفس المعرفي، دار الشروق للنشر والتوزيع، عمان، ط1، 2014، ص(314-315).

* العدالة هي مفهوم تعني عدم الانحياز في محاكمة أي إنسان لأي أمر، وهي رؤية إنسانية للمحيط الذي يعيش فیه‌ کل فرد شرط أن ینظم هذه‌ الرؤیة قانون وضعي یشارك في صياغتها الکل بعيداً عن التحکم. فلسفياً: يقوم مفهوم العدالة في الفلسفة غالباً على العلاقة مع الحق، فمن الفلاسفة من قال إن العدالة أساس للحق، كقول أرسطو ” العدل هو أن يأخذ كل إنسان ما يستحق “، وأفلاطون ” العدالة إنصاف، فالمساواة في الحق ظلم وجور “، وفي الزمن الحديث ڤون هايك الذي خرج من مفهوم الفرد العادل إلى مسؤولية الدولة في تحصيل الحقوق. أما عن أهمية العدالة تنبثق  من خلال السعي إلى تحقيق المساواة بين أفراد المجتمع، وهذا بغض النظر عن مركز الشخص أو جنسه أو دينه، وبهذا سوف يتحقق الأمن والأمان للجميع وسيكونون قادرين على العيش والقيام بأعمالهم دون الشعور بالخوف من الظلم. نشر المحبة والأُلفة بين جميع أفراد المجتمع.

([3])  الشخصية التسلطية: يعرفها فروم بأنها ميل الفرد  إلى أن يعترف بعجزه من الاستقلال بشخصيته ومن ثم يميل إلى أن يندمج في فرد آخر أو في شيء آخر خارج ذاته لكي يكتسب منه القوة التي تنقصه. أما أدورنو يعرفها بأنها متلازمة من تسعة متغيرات هي التقليدية والخضوع والتسلطي والعدوان التسلطي ومعارضة التأملية والخرافة والنمطية والقوة والخشونة والتدمير والتهكم والاسقاطية والتركيز المفرط على الجنس. ويذهب روكيش بأنها نظام معرفي من الانغلاق الذهني وينتهي بتفتحه وهو خاص بمعتقدات ولا معتقدات الشخص سواء كان عن الحقائق والوقائع والسلطة وكذلك النماذج المتسامحة وغير المتسامحة مع الآخرين. وفي النهاية يرى انكلش هي نمط لشخصية يبني عليها الشخص توقعاته لسلوك الآخرين وتقاوم التغيير وتتسم بدرجات متفاوتة من اليقين الذاتي.  سهيلة عبد الرضا عسكر: الشخصية التسلطية وعلاقتها بالتعصب، مجلة القادسية للعلوم الإنسانية، المجلد: 12، العدد: 03، 2009، ص(205-251).

([4])  الوصم الاجتماعي أو باللغة الشائعة وصمة العار هي مواقف سلبية أو تمييز يتعرض له شخص بناء على خاصية مميزة له مثل حالة صحية ما أو مرض عقلي أو حتى لأسباب مثل العرق أو الجنس أو الدين. وتعتبر الأمراض العقلية من أكثر الأمور التي تسبب وصمة عار لصاحبها على مستوى العالم، ولذلك فإنها تؤدي غالباً لتأخير العلاج أو حتى عدم الحصول عليه بسبب الخوف من الوصم. ناقشت نظرية الوصم تلك الظاهرة بالنسبة لأصحاب السلوك الإجرامي، وقد ظهرت نظرية الوصم لأول مرة في كتاب           ” الانتحار ” الذي قام بتأليفه عالم الاجتماع الفرنسي اميل دوركايم، والذي ناقش فكرة أن الجريمة ليست انتهاكاً لقوانين العقوبات بقدر ما هي فعل مسيء للمجتمع. ولذلك ارتبطت تلك النظرية ارتباط كبير بعلم اجتماع الجريمة، لأن وصم شخص ما بأنه مجرم يجعل الآخرين يتعاملون معه بطريقة أكثر سلبية. أيضاً ترتبط نظرية الوصم ارتباطاً وثيقاً بالبناء الاجتماعي وتحليل التفاعل الرمزي داخل المجتمع، ويرى واضع تلك النظرية أن الانحراف ليس ميلاً متأصلاً داخل الفرد، ولكنه نابع من ميل الأغلبية إلى تصنيف الأقليات بشكل سلبي أو أولئك الذين ينظر إليهم على أنهم منحرفون عن المعايير الثقافية القياسية للمجتمع. تهتم النظرية بكيفية تحديد الهوية الذاتية وسلوك الأفراد أو تأثرها بالمصطلحات المستخدمة لوصفهم أو تصنيفهم، وكانت تلك النظرية بارزة خلال الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي بفضل عالم الاجتماع هوارد بيكر الذي تأثر بنظرية اميل دوركايم ، ولا تزال بعض النسخ المعدلة من النظرية شائعة اليوم وقد ساهم في تطويرها عدد أخر من علماء الاجتماع .

([5]) حسام الدين فياض: المدخل إلى علم الاجتماع – من مرحلة تأصيل المفاهيم إلى مرحلة التأسيس، مكتبة الأسرة العربية، إسطنبول، سلسلة نحو علم اجتماع تنويري، الكتاب الثاني، ط1، 2021، ص(233).

* غوردون ويلارد ألبورت Gordon Allport‏ (1897-1967) عالم نفس أمريكي. كان ألبورت من أوائل علماء النفس الذين اهتموا بدراسة الشخصية، ودائماً ما يشار إليه بأنه أحد من وضعوا أساس علم نفس الشخصية. أسهم ألبورت في تأسيس معايير القيم، ورفض منهج التحليل النفسي للشخصية، حيث كان يعتقد أنه دائماً ما يتعمق أكثر من اللازم. كما رفض ألبورت أيضاً منهج السلوك، حيث كان يرى أنه ليس عميقاً بالقدر الكافي. كان ألبورت يؤكد على تميز كل فرد، وعلى ضرورة دراسة حاضر كل فرد، وليس ماضيه، لفهم شخصية ذلك الفرد. يعتبر ألبورت من المؤثرين بشكل عميق ومستمر في مجال علم النفس، على الرغم من أن أعماله لم تنل نفس القدر الذي نالته أعمال غيره من الشهرة الواسعة. واكتسب ألبورت جزءاً من أهميته ودوره في علم النفس بسبب براعته في الهجوم، وأفكاره الكثيرة عن العديد من الموضوعات المثيرة للاهتمام (مثل: التعصب والتحيز ، الشائعات، وسمات البشر). ونال ألبورت أهميته أيضاً من خلال عمله بالتدريس، حيث اعتاد أن يترك انطباعاً قوياً ومستمراً في نفوس طلابه، والذين أصبح لكثير منهم شأن كبير في مجالات علم النفس بعد ذلك. ومن ضمن طلاب ألبورت: (جيروم برونر، أنتوني جرينوالد، وستانلي ميلجرام، وليو بوستمان، وتوماس بيتيجرو، وإم بريوستر سميث).

([6])  التسامح: التسامح ببساطة يعنى نبذ المشاعر والأفكار والسلوكيات السلبية تجاه من أساءوا إلينا، واستبدال مشاعر وأفكار وسلوكيات إيجابية بها، فيتيح التسامح لنا أن نعايش مشاعر التعاطف والرحمة والحنان لمن أساءوا إلينا، ونحمل كل هذه المشاعر في قلوبنا مهما بدا لنا العالم من حولنا، والتسامح هو الطريق إلى الشعور بالسلام الداخلي والسعادة، وهو سبيلنا إلى الطمأنينة رغم الشعور بالألم، والاستمرار في الحياة بعد تعرضنا للإيذاء من الآخرين ويساعدنا التسامح على تحمل مسؤولية ما نشعر به، وعدم التوقف عن الأمل لمجرد أننا تعرضنا لألم ما. يُعرف التسامح مع الذات: بأنه الميل لتجنب اللوم الذاتي المفرط، والشعور بالذنب جراء ما ارتكب الفرد من أخطاء في حق الآخرين أو حق نفسه وهو أيضاً اعتراف الفرد بأخطائه والتخلي عن الاستياء الذاتي مع الاعتراف بالخطأ، وتعزيز مشاعر الحب والعطف والسماحة تجاه الذات. أما التسامح مع الآخر: يعرف بأنه عملية متعمدة يتم بمقتضاها التغاضي عن الاساءات الموجهة للذات، من قبل فرد آخر أو أفراد آخرين، وتخفيض الانفعالات والأفكار والسلوكيات السلبية تجاه المُسيء، ويتفاعلان معاً من جديد، ذلك عندما يتسامح المُساء إليه، ولا يظهر أية إرجاع أو ردود أفعال سلبية تجاه المُسيء، وعندما  يحدث التسامح مع الآخر، يحدث التسامح مع الذات كعملية داخلية. ميشيل إ. ماكلو وآخرون: التسامح (النظرية والبحث والممارسة)، ترجمة: عبير محمد أنور، المركز القومي للترجمة، القاهرة، العدد: 2057، ط1، 2015، ص(9-15).

([7])  الفكر المتصلب: إن لدى كل واحد منا درجة من التصلب الفكري، وذلك يعود إلى أمرين: الأول، أن من تحليلات القصور الذاتي للعقل البشري أن يظل في حركته متأخراً عن متطلبات الواقع، فهو أثناء عمله يرتكب أخطاء ويوجد مشكلات، ولكن حركته في معالجة تلك الأخطاء والمشكلات تظل بطيئة، وتأتي متأخرة، بسبب نقص ما يتطلب ذلك من شفافية ومرونة. الثاني، أن الواحد هنا لا يستطيع أن يعثر على نحو مستمر على الحواجز التي يقيمها بين التصلب الممدوح الذي يتمثل في استقرار العقائد والمبادئ والمفاهيم الكبرى، وبين التصلب الذهني المذموم الذي يتمثل في نقص المرونة الذهنية، وفي اعتناق بعض المفاهيم الخاطئة التي تجعل المرء فاقداً للرشد الفكري. باختصار  يتصف صاحب الفكر المتصلب بأنه شديد الجمود على أفكاره، وهو غير قادر على التخلي عن آرائه حتى لو بدا له خطؤها، وعلى حين أن صاحب الفكر المرن يذعن للحق، ويتشوق إلى معرفة الجديد سواء أكان موافقًا لما يرى أو مخالفاً له….  لمزيد من القراءة والاطلاع انظر عبد الكريم بكار:  خطوة نحو التفكير القويم، دار علام، عمان، ط5، 2011، ص(77 وما بعدها).

* الدوغمائية: تعني التصلب والتزمت وفرض الرأي بالقوة وليس عن طريق الإقناع والحجة والدليل. والدوغمائية : كلمة يونانية تعني الجمود العقائدي ” مذهب أو رأي ” والتأييد الأعمى لمبادئ أو مطالب مذهب أخلاقي ما، بدون إمعان والنظر فيها . والمقصود بهذا المصطلح الإشارة إلى النهج الفكري المتزمت والإيمان بامتلاك الحقيقة وإلغاء الآخر. ويعود أصل هذا المصطلح إلى كلمة دوغما الواردة في الفكر الديني المسيحي الكاثوليكي، وتعني المبدأ الذي ينسب إليه الصحة المطلقة، ويدخل ضمن هذا الإطار مفهوم عصمة البابا الكاثوليكية والذي تعتبر تعاليمه رسمياً بمثابة إلهام إلهي. ويستخدم هذا المصطلح اجتماعياً وسياسياً لوصف المناهج والأساليب الفكرية المتعصبة والمتحجرة والتي تجافي المعقولية والمنطق. ومن المعروف أن الحركات السياسية الكليانية مثل: الشيوعية والفاشية، إضافة إلى بعض الحركات الدينية المتزمتة، تعتمد النهج الدوغمائي وتصف كل خروج عن مقولاتها وعقائدها بالانحراف. انظر عبد الوهاب الكيالي: موسوعة السياسة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الجزء الثاني، ب.ت، ص(697).

([8])  لمزيد من القراءة والاطلاع انظر (الفصل الرابع بعنوان:  ثقافة قبول بين الفرد والجماعي). ميلاد حنّا:  قبول الآخر (فكر واقتناع وممارسة)، دار الشروق، القاهرة، ط1، 1998، ص( 90 وما بعدها).
________
*د. حسام الدين فياض/ الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة/ قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً.

جديدنا