*نبيل علي صالح
كثر الحديث خلال العقود الثلاثة الأخيرة عن موضوع “المجتمع المدني” خصوصًا بعد وصول العالم الحديث- في بداية الألفيّة الثالثة- إلى هذا المستوى المذهل في تقدّمه وتطوّره على الصعيد التقني الإعلامي وثورة المعلومات والتواصل (الهائلة في اتِّساعها وامتدادها) التي تسبَّبت في إحداث صدمة عمليَّة قويَّة في المجتمعات المتخلِّفة، أدَّت إلى انفتاحها على المجتمعات الأخرى الأكثر تقدّمًا وتطوّرًا من خلال قنوات الاتّصال الإعلاميَّة الواسعة المعروفة.
وقد تزايد الاهتمام مؤخّرًا بقضيَّة المجتمع المدني، وعلاقته بالدولة و”المجتمع السياسي”. حدث هذا منذ بداية انهيار المشروع الشيوعي، وتفكّك منظومته السياسيَّة الدولتيّة في العالم كلّه تقريبًا، حيث بدأ الرهان يتزايد -يومًا بعد يوم- على قوّة المجتمع خصوصًا بعد نشوب حرب الخليج الثانية، وإحداث تغيير جذري في بنية السلطة والحكم السياسي العراقي، وظهور معالم جديدة لانتخابات متعدّدة في عددٍ من البلدان العربيَّة والإسلاميَّة، وبروز حراك سياسي عامّ يطالب بإحداث تغييرات كميَّة ونوعيَّة على صعيد السلطة والحكم، وإشراك الناس في القرار والمصائر والمستقبل..
ويترافق الحديث الآن عن مشروعيَّة هذا المجتمع مع تجدّد الاهتمام بمسائل فكريَّة ومعرفيَّة واجتماعيَّة مهمّة جدًّا مثل قضايا الحريَّة، وحقوق الإنسان، والعولمة، وتحدّيات اقتصاد السوق، والتنمية، وأزمة الثقافة والمثقّفين، وأزمات الحكم السياسي العربي.. الخ.
طبعًا من الصعب جدًّا إعطاء تعريفات شاملة ومحدّدة وجاهزة لمعنى أو ماهيَّة المجتمع المدني في صيرورته التاريخيَّة بسبب وجود اختلافات فكريَّة ومفارقات معرفيَّة عميقة بين مختلف مدارس التفكير الحديث بشأن تحديد مواصفاته، وسماته، وتعريفه المحدّد في طبيعة علاقات هذا المجتمع، وارتباطاته بالدولة السياسيَّة الحديثة بصورها وتلوناتها المختلفة.
ومن خلال تدقيقنا في طبيعة الصراعات الأيديولوجيّة القائمة بين النظريّات والطروحات الفكريَّة والثقافيَّة السائدة حاليًّا، نجد أن موضوع المجتمع المدني قد أضحى الساحة الحقيقيَّة لذلك الصراع الفكري في صلب حركته التاريخيَّة الغربيّة.. في ما يتّصل بضرورة بلورة صور واضحة ومعالم محدّدة -على المستوى النظري والمعرفي– عن التطوّر التاريخي للمجتمعات البشريَّة، حيث بدأت كل مدرسة تضفي على تنظيراتها التفسيريَّة -لتاريخ الاجتماع البشري- طابع الفكر الخاصّ الذي تلتزمه منهجًا وخطًّا لها في حركة الحياة، سواء ما يتعلَّق منها بالنظريَّة الليبراليّة وتعريفاتها الثانويّة المنتشرة منذ عصر النهضة وحتى الآن، أو بالنظريّة الماركسيَّة وتأويلاتها المتعدّدة بشان المجتمع والتاريخ.
المجتمع المدني: هو نمط (أو نوع) من التنظيم الاجتماعي لسلوك الفرد في إطار ممارسته لواقع العمل العمومي ضمن مؤسّسات وهيئات ثقافيّة واجتماعيّة ونقابيّة مدنيّة تمثّل مصالح القوى والقيادات والجماعات في المجتمع، وتعمل باستقلاليّة-مفترضة من حيث المبدأ– عن أجهزة السلطة وسياسات الدولة، بحيث تشكّل –تلك الهيئات المدنيّة– ثقلًا اجتماعيًّا وسياسيًّا له دوره المهمّ، وحضوره المميّز، وتأثيره الفاعل والحاسم في موازاة سلطة الدولة السياسيَّة من أجل منعها من التحوّل إلى دولة متسلِّطة تستبدُّ بالسلطة، وتنفرد بالحكم عن طريق أدوات القمع المختلفة، من خلال تركّز السلطة والممارسة السياسيَّة الحقيقيَّة في أيدي تلك المؤسّسات والهيئات الشعبيَّة لكي تكون العلاقة بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني تكامليَّة ومتوازنة، تتبع فيها الدولة المجتمع المدني. وبهذا يتَّصف المجتمع المدني بالتعدّد في الرؤى، والاختلاف في وجهات النظر، والحريَّة، في طرح الأفكار، والوعي في ممارسة النقد الموضوعي كدلالة بارزة على سلامة وصحّة الموقف والتنظيم الاجتماعي.
لقد ظهر مفهوم ومصطلح المجتمع المدني -أوّل ما ظهر- في الفكر الاجتماعي والسياسي الغربي. ولم يظهر دفعة واحدة بالتعريف المعطى له سابقًا، بل إنه استغرق مرحلة زمنيَّة طويلة، ومرَّ بأدوارٍ تاريخيَّة متعدِّدة ارتبط فيها تطوره المفاهيمي بالصراع السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي شهدته أوروبا منذ ثورتها الصناعيّة الأولى من القرن السابع عشر إلى يومنا الحالي في محاولات حثيثة للبحث عن وسائل جديدة تمكّن من السيطرة على نزعة الحكم الطغياني، وكبح جماح الدولة الشموليَّة المستبدّة.
طبعًا لا نضيف جديدًا عندما نؤكّد بأن التربة الراهنة القائمة حاليًّا في مجتمعاتنا هي تربة متعفّنة تسيطر عليها مناخات قبلية وعصبيّات متناحرة ممتدّة أفقيًّا وعموديًّا فيها، وهي تعمل على استيلاد شروط ومناخات جديدة للتكيّف مع متغيِّرات الواقع من أجل الحفاظ على مكاسبها ومواقعها.
من هنا السؤال: وما هي الأجواء المناسبة لإنماء وإيقاد عمليَّة المواجهة المستمرَّة مع تلك الذهنيَّات البدائيَّة التي تفكّر دائمًا بكيفيّة المحافظة على شرعيتها المفقودة جماهيريًّا، من أجل بناء المجتمع المدني، وولوج القرن المقبل بطموحات سياسيَّة وفكريَّة جديدة تعبِّر عن آمال الأمّة في النهوض الحضاري؟! ثم إلى أين يتحرّك مستقبل الأجيال القادمة؟!.
إننا نعتقد أنَّ الشرط الأولي لنمو المجتمع المدني في مجتمعاتنا العربيَّة هو شرط ثقافي تربوي، يحتاج إلى زمن طويل وعمل كبير، وقبل ذلك إرادة لا تلين من قبل قوى ونخب التغيير.. وذلك لكي تنمو مؤسّسات المجتمع المدني نموًّا طبيعيًّا معافى، ولكي لا تصاب لاحقًا بالعجز والضعف ومن ثم السقوط لدى أية مواجهة لاحقة.. طبعًا في حال لم يكن الشرط الثقافي حاضرًا وجاهزًا وأساسيًّا في هذا المجال.
والعمل في القاعدة المجتمعيَّة هنا هو الأساس، حيث أنه ثبت بالتجارب التاريخيَّة الحيَّة أن بناء مجتمع المؤسّسات لا يتم بإرادة فوقيَّة عليا أو بقرارات متعالية تسقط من الأعلى، وإنما هو نتيجة لعمل فكروي ثقافي تربوي بمدى تخطيطي بعيد وفعل اجتماعي واعٍ يتّجه بالعمل داخل المجتمع والنزول إلى القاعدة التقليديَّة للحياة الاجتماعيّة الثقافيّة لإحداث التغيير المطلوب في البناء الأساسي لمنظومة القيم الاجتماعيّة، حتى تتركَّز وتترسّخ تلك القيم والأفكار أو المفاهيم الجديدة اجتماعيًّا وتصبح جزءًا من نسيج المجتمع في بنائه العلوي.
ونحن عندما نقدّم فكرة “المجتمع المدني” –وما يتّصل معها من قيم ومعايير ومناخات وأجواء من الحرّيّات والديمقراطيّة ووالخ- كحلّ لأمراض مجتمعاتنا التربويّة والمجتمعيّة، فإننا لا نعطي حلًّا سحريًّا أبدًا، ولا نقدّم وصفةً مجانيّة بسيطة يمكن صرفها من أيّة صيدلية.
إذًا، فالقضيَّة أعقد من ذلك بكثير، ودونها الكثير من التحدّيات والعقبات والعراقيل الضخمة الداخليَّة والخارجيَّة.. ولا يمكن أن تأخذ –كفكرة عمليَّة- طريقها للتطبيق إلا في ظل توفّر القناعة والوعي والإرادة من قبل أفراد المجتمع، وأن يروا فيها خلاصهم ونهايتهم السعيدة، وأنّ لهم مصلحة حقيقيَّة فيها وفي الدفاع عنها.. بهذا الشكل يمكن خلق حراك اجتماعي ينمو مع الوقت ويكبر ويخلق آلياته الذاتيَّة الرافعة في الخلق والإبداع مع مرور الزمن.
إننا نعتقد أن الرهان على العمل الثقافي-التربوي المنطلق من تنمية الأفكار وبناء معالم تطوّر مجتمعاتنا الفكريّة والعمليّة، ووضع التصورات والبرامج الميدانيَّة التي ترفع من مستوى وعي المجتمعات والشعوب من أجل إعادة بناء وإرساء واقع مجتمعي جديد يراجع مسيرته بعقلانيّه واعية، هو رهان حقيقي ويستأهل العمل عليه خاصّة عندما يبنى على بنية معرفيَّة متماسكة ورؤية عقلانيَّة منفتحة على الحياة والعصر، وإرادة فاعلة لا تركن ولا تلين.
إننا –ومن خلال إيماننا العميق بضرورة إحداث تغيير شامل في مجتمعاتنا كلها– نؤكِّد على أنه يجب علينا أن نؤسِّس لنوعيَّة التغيير القادم، ونساهم –بعقلانيَّة التخطيط والفاعليّة– في بناء صورته، وتأسيس ملامحه في طبيعة تفكيرنا القائم، وطريقة اتخاذنا لقراراتنا المصيريَّة، والأساليب التي نتبعها، والمناهج التي نلتزمها في تنظيم حياتنا التربويَّة والاجتماعيَّة. وهذا الأمر بالغ الأهمية وهو مقدّمة ضروريّة جدًّا لبناء المجتمع المنشود، وصناعة الحياة المدنيَّة التشاركيَّة التي نطمح إليها بالاستناد أساسًا على بناء عقل الفرد ووعيه على أسس معياريَّة قيميّة صحيحة من المشاركة والمبادأة.
إن مؤسّسات المجتمع المدني هي التي يمكن أنْ توفِّر لأجيالنا قابليات النهوض والبناء الحقيقي النفسي والعضوي، لأنها تنظر بحياديّة للسياسة والتسييس، وتبعد الأجيال عنها، وهذه من أهم معايير النهضة الحقيقيَّة لمجتمعاتنا، القاضية بترك التربية والتعليم مجالًا للعلم فقط، ولتأهيل الطلّاب والتلاميذ تأهيلًا علميًّا (وتربويًّا) نوعيًّا صحيحًا يقوم على طرح الأسئلة الباحثة، وتعويدهم على الاستفسارات المفتوحة، لا أنْ يكونوا مجرّد متلقّي أجوبة، وذاكرة للحفظ بلا تفكير، بمعنى تشجيعهم على المبادرات الفرديَّة والحوار، وإثارة الجدل والنقاش المفتوح بعيدًا عن التسييس والتلقينيّة والإجابات المسبقة والمعلّبة.