اجتماعالتنويريسلايدر

التعايش والاعتراف بالآخر عند هابرماس؛ قراءة في فلسفة الاعتراف المعاصرة

أن نتواصل يعني نقتسم ما يجمعنا وأن نتجاوز عن الاختلافات التي تفرقنا، على اعتبار أن القرن الواحد والعشرين هو قرن التعايش السلمي بمعنى تأمين الشروط المطلوبة للعيش المشترك بين وجهات نظر مختلفة ومتضاربة. في عالم صغير للغاية يعلم فيه الأفراد كل شيء. فالاعتراف بالتنوع الثقافي بصفته مكوناً أساسياً للحقوق الإنسانية هو ظاهرة جديدة([1])، إلا أن مساره ليس كذلك بدليل جملة التوترات والصراعات التي تعيشها بعض المجتمعات وما نتج عنها من نفي واستبعاد للآخر المختلف. في هذا المقال سنحاول تسليط الضوء على تجربة هابرماس التواصلية تحقيقاً لمفهوم التعايش والاعتراف بالآخر المختلف.

سعى الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني المعاصر  يورغن هابرماس (1929-  ) من خلال نظريته عن الفعل التواصلي إلى تحديد ملامح التعايش السلمي والاعتراف بالآخر بالاستناد إلى العقلانية التواصلية، التي تحكمها أخلاقيات المناقشة والحوار، التي ستفضي بطبيعة  الحال – حسب التنظير الهابرماسي – إلى وضع الأسس العملية لممارسة الديمقراطية التواصلية، التي تعتبر المنطلق الأساسي لتجسيد مفهوم العيش المشترك مع الآخر والاعتراف به. يستمد الفعل التواصلي عند هابرماس بواعثه من مفهوم العقلانية التواصلية، التي تمارسها ” ذات قادرة على الكلام والفعل بهدف التوجّه نحو التفاهم بين الذوات([2])، مما يؤدي إلى عدم اللجوء إلى العنف أو إلى إلغاء الآخر والسيطرة عليه، وذلك بفضل قدرة ” الفعل التواصلي الذي يحدد العلاقات داخل مجالات عمومية قائمة على المناقشة والحوار متخذةً من المبادئ الأخلاقية أساساً لها، أطلق عليها هابرماس أخلاقيات المناقشة([3])، التي تحكم العملية التواصلية حسب معايير متفق عليها([4]).

ولكن تلك الأخلاقيات ليست مذهباً ولا نسقاً من القيم والمعايير الجامدة أو الثابتة([5])، والدليل على ذلك، في أنه إذا تشكك أحد المشاركين في العملية التواصلية في الدقة المعيارية لتعبير ما، أو إذا تعرضت أحد ادعاءات الصلاحية للشك، فإن ادعاءات الصلاحية نفسها تصبح موضع سؤال، وفي هذه الحالة لا بد للمشاركين في التواصل إعادة فحص تلك الادعاءات من جديد ومراجعتها مراجعة نقدية لتصحيح أخطائها.

وهكذا يعتمد هذا التفسير على البعد التواصلي اللغوي والتفاهم العقلاني الهادف، الذي يؤدي بالأطراف المشاركة بالعملية التواصلية إلى محاولة تحقيق نوع من الاتفاق والإجماع المتبادل حول القضايا المطروحة للحوار، ” وفقاً لشروط وقواعد أخلاقية تنفي قهر الذوات أو السيطرة عليها أو خداعها مما يتيح لهم الفرص بالتساوي للمشاركة في الحوار والنقاش وصنع القرار”([6])، ” كما أن الإجماع لن يتم الوصول إليه إلا عن طريق قوة الأطروحة الأفضل “([7]). مما يؤسس إلى مفهوم التعايش السلمي والاعتراف بالآخر.

يعتبر مفهوم التعايش نتيجة رمزية لتوجهات معيارية تسعى إلى تحقيق التأليف والتقارب بين وجهات النظر والآراء والقيم المتنوعة والأبعاد المتناقضة في المجتمع المعاصر. ويقوم مفهوم التعايش في جوهره على احترام تنوع الهويات الثقافية والأُطر المشتركة بين أفراد المجتمع لصالح الهوية الثقافية الوطنية الجامعة. إلا أنه عندما يغيب التواصل المبني على حق الآخر بالعيش المشترك سيؤدي إلى غياب التفاهم، فتظهر الاختلافات والتوترات والصراعات للعيان مما يُنبئ بانهيار بنية الواقع الاجتماعي.

في هذا السياق وجب علينا قبل أن نخوض في مناقشة رؤية هابرماس للتعايش السلمي توضيح مفهوم التعايش الذي يُعرف بأنه ” القبول بوجود الآخر والعيش معاً جنباً إلى جنب من دون سعي إلى لإلغائه أو الإضرار به سواء أكان ذلك الآخر فرداً أم حزباً سياسياً أم طائفة دينية أم دولة مجاورة أم غير ذلك([8]). وفي هذا السياق يرى أنيله أفضالي، ولورا كوليتون أن مفهوم التعايش يعني مجتمعات متكاملة يعيش فيها الناس من مختلف الأعراق والأجناس والأديان منسجمين مع بعضهم بعضاً، ولا يتطلب ذلك أي شيء للتعايش سوى أن يعيش أعضاء تلك الجماعات معاً من دون أن يقتل الآخر([9]). ومن الناحية “ العملية “ هو إقامة علاقة بين اثنين أو أكثر من الجماعات المختلفة الهوية التي تعيش بتقارب يشمل أكثر مجرد العيش بجانب بعضهم البعض، كما يشمل درجة معينة من الاتصال والتعاون يمكن أن يمهد التعايش لتحقيق المصالحة على أساس السلام والحقيقة والعدالة والتسامح([10]). لكن السؤال المركزي الذي نفسه علينا في هذا المقال كيف السبيل إلى التعايش السلمي والاعتراف بالآخر من خلال الفعل التواصلي حسب يورغن هابرماس؟ 

يذهب هابرماس إلى أن المهام الأولية للفعل التواصلي تنحصر في تنمية البعد الموضوعي الإنساني للعقل، لذلك يطلق على مفهوم العقل عنده ” بالعقل التواصليCommunicational Reason. هذا العقل بطبيعة الحال لديه فاعلية أو قدرة تتجاوز العقل المتمركز حول الذات، والعقل الشمولي المنغلق الذي يدعي أنه يتضمن كل شيء، والعقل الأداتي الوضعي الذي يفتت ويجزئ الواقع الاجتماعي إلى موضوع حتى العقل نفسه. كما أن الفعل التواصلي الذي صاغه هابرماس هو محاولة لبلورة إجماع يعبّر عن المساواة داخل المجال العام ( الفضاء العمومي )، حيث ينتزع فيه الفرد جانباً من ذاتيته ويدمجها في مجهود جماعي قائم على التواصل والتفاهم ليتجاوز العلاقات الاجتماعية القائمة على الإكراه والهيمنة وإرساء بدلاً منها علاقات الحوار والنقاش. بذلك تُعطى الأولوية للفعل التواصلي في أزمات الحداثة ومن بينها كيفية تحقيق التعايش السلمي والاعتراف بالآخر

يترتب على إعطاء هابرماس فعل التواصل الأولوية والأهمية على الفعل الأداتي عدة أمور أهمها أن العقلانية المنبثقة عن الفعل التواصلي، تستلزم نسقاً اجتماعياً ديمقراطياً، يشمل الجميع، ولا يستبعد أحد، وليس هدفه السيطرة والهيمنة، كما في العقلنة الهادفة، وإنما التفاهم بين الذوات. بالإضافة إلى محاولة الكشف عن نظام أخلاقي يتسم بالكلية. وكلية المعايير الأخلاقية عند هابرماس يتم التوصل إليها عبر نقاش حر عقلاني، تُبحث فيه نتائج كل معيار منها، وما إذا كان يلقى القبول والرضا عن طريق الإقناع العقلي والإجماع عليه، أما عن محتوى المعايير فيعتمد على ظروف المجتمع الخاصة. وأخيراً أن النظرية عند هابرماس تعد نتاجاً للفعل الإنساني، وتخدم ذلك الفعل وتهدف لتحقيق أكبر قدر من الحرية للإنسان([11]).

بذلك  لا يريد هابرماس للنشاط التواصلي أن يتخبط، ولا أن يصبح تواصلاً مشوهاً. لذا لابد من أن تحكمه شروط بالغة الأهمية، وهي كالآتي([12]): أولاً إن النشاط التواصلي لن يتم إلا من خلال علاقة تفاعل بين فردين أو أكثر داخل سياق العالم المعيش. ثانياً أن تتم عملية التواصل من خلال اللغة التي يتم بواسطتها علاقة بين المشاركين في التفاعل وبين العالم الخارجي، وبينهم وبين الذوات الأخرى، باعتبارها – اللغة – الوسيط الأساسي في النشاط التواصلي، وهذا يتطلب بطبيعة الحال تحديد مصطلحات القضية المراد مناقشتها قبل بداية الحوار، بقصد توجيه الحوار نحو أهدافه المرسومة، بغية عدم حصول سوء فهم بين المتحاورين حسب الموضوع المطروح سواءً كان اقتصادياً، سياسياً، اجتماعياً([13]). ثالثاً أن تهدف التجربة التواصلية للوصول إلى اتفاق بين الذوات المشاركة في التفاعل ويفترض هذا الاتفاق وجود معرفة مشتركة بينهم، أو على الأقل وجود نوع من التقارب في وجهات النظر، وأن يتم الاعتراف المتبادل على مزاعم الصدق من أجل الوصول إلى إجماع ” فلابد من أن يكون في نهاية الحوار نتائج توصّل إليها المتحاورون وبالتالي يجب على كل الأطراف أن تكون راضية على النتائج المتحصل عليها والالتزام بها وإذا غاب هذا الالتزام كان الحوار باطلاً([14]). رابعاً إذ تشكك أحد المشاركين في التواصل في الدقة المعيارية لتعبير ما، أو إذا تعرض أحد مزاعم الصدق للشك، أو لم يستطع المشاركون في التواصل لتبريره أو الدفاع عنه بالحجج العقلية، فإن مزاعم الصدق نفسها تصبح موضع تساؤل، وفي هذه الحالة لابد للمشاركين من التواصل من أجل إعادة فحص تلك المزاعم من جديد لتصحيح أخطائها، ومعنى هذا أن العملية التواصلية تخضع لما ” يسمى بديمقراطية الحوار “. خامساً يفترض المشاركون في التواصل أن الحوار له قواعد الأخلاقية التي من أهمها توافر ظروف تضمن الإجماع الذي لم يتم الوصول إليه إلا عن طريق قوة الأطروحة الأفضل. سادساً أن يتحرر الحوار من كل أشكال الضغط والقهر التي يمكن أن تمارس عليه من الخارج لضمان موقف مثالي للحديث. سابعاً أن يتاح لكل مشارك في الحوار فرصة مساوية لسائر المشاركين، وأن يتمتع كل منهم بحق التأكيد أو الدفاع أو التساؤل حول ما يراه من قبول أو رفض لمزاعم الصدق وفق المعايير المعترف بها. ثامناً أن يعبّر كل مشارك في التواصل عن مزاعم الصدق والقدرة على تبريرها للمشاركة في عملية التفاهم المتبادل. وهذا يعني أن مفهوم الفعل التواصلي يحيل إلى الفعل المشترك لذاتين على الأقل قادرتين على الكلام والفعل وإقامة علاقات شخصية مشتركة سواءً كانت علاقات لغوية أو غير لغوية، حيث إن الفاعلين في هذا المجال يسعون إلى تفهم موقف الفعل، وفهم خططهما للفعل، لكي ينسقا أفعالهما بالتراضي أو الاتفاق بينهما. والمفهوم الأساسي عن التفسير يشير في المقام الأول إلى تعريفات أو تحديدات للموقف، بحيث يمكن التوصل فيه إلى إجماع([15]).

يعتمد هابرماس على البعد اللغوي في انجاز عملية التواصل باعتبارها تشكل الأداة أو الوسيلة للتواصل، كما هي فحواه ومادته، ومعياره القبلي، بما تحويه من إمكانية نقد وصنع المعايير([16])، لأن اللغة تلعب دور الوسيط الذي يحقق التفاهم كما أشرنا سابقاً، حيث يؤكد على ” أننا إذا أردنا أن نفهم الفعل التواصلي علينا أن نفترض اللغة بوصفها الوسيط الذي يمكن أن يتحقق فيه نوع من التفاهم([17])، ويبرر هابرماس رأيه هذا بأن قدرتنا على التواصل ذات بنية وقواعد أساسية لا توجد إلا في اللغة التي تتعلمها وتتحدث بها كل الذوات. فالتجربة التواصلية ليست هي القدرة على إنتاج جمل لها قواعد، وليست مجرد ” نسق من الرموز له تركيبه النحوي ومعجمه وصوتياته، أو له خصائصه الدلالية وتمظهراته اللغوية المختلفة فقط، بل يهتم باللغة من منظور خصائصها التداولية كذلك. فاللغة عنده تشكل نسقاً من القواعد تساعد على توليد تعبيرات لدرجة أن كل تعبير مصاغ بشكل صحيح يعتبر عنصراً من عناصر اللغة. ومن ثم فإن الذوات القادرة على استعمال هذه التعبيرات تشارك في عمليات التواصل لأنها تستطيع التعبير وفهم الجمل والجواب عليها “([18]).

كما سعى هابرماس في هذا الإطار إلى عدم التركيز على جانب واحد وهو المتكلم، بل سعى إلى إيجاد نظرية تهتم بالمتكلم والسامع تهدف إلى الوصول إلى اتفاق. وهكذا نجد أن نجاح الفعل التواصلي ( الإيعازي ) عند هابرماس لا يقوم فقط على ما يقوله المتكلم أو فهم كلام المتكلم، لذا أضاف عليه عاملاً مهماً جداً يتمثل في قبول الادعاء المقدم من قبل المتكلم. وهنا يتحدث هابرماس عن قبول إدعاءات الصلاحية أو ( مزاعم الصدق Validity Claims )، التي يرفعها المتكلم بدايةً، ويرد عليها المستمع بنعم أو لا. ” ففي الفعل التواصلي تتوقف حصيلة التفاعل نفسه على إمكانية توصُّل المشاركين فيه إلى اتفاق فيما بينهم على تقييم مشترك لعلاقاتهم، وحسب هذا النموذج من الفعل فإن النجاح الوحيد الممكن لتفاعل ما يتمثل في توصُّل المشاركين إلى إجماع عام بنعم أو لا لمزاعم الصدق المرتكزة على أسس عقلية “([19]).

تهدف ” إدعاءات الصلاحية ” أو ” مزاعم الصدق ” – حسب هابرماس – إلى الربط بين أفعال الكلام والعقلانية. فقبول أفعال الكلام يعني قبول إدعاءات الصلاحية أو مزاعم الصدق، التي من المفترض توافرها، لكي نصل إلى تواصل سليم ومعافى يفضي إلى اتفاق تفاهمي، وهي كالآتي([20]): المعقولية: التي يتم إنجازها بفعل جملة مركبة تركيباً صحيحاً تحترم قواعد اللغة المستعملة. وتظل مستوفية لشروطها ما دام التواصل مستمراً ويتم بطريقة عادية. ويعتقد هابرماس بأن المعقولية أحد الشروط الدائمة للتواصل، وهي لا تنحصر في قول يدعي صلاحية ما أو تتضمن إمكانية للتبرير. الحقيقة: يتعلق هذا الافتراض بحقيقة مضمون القول التي تضمن وظيفياً وصف حالة واقعة موجودة وغير مستوحاة من الخيال، أو بالقدر الذي يتضمن فيه وقائعها ومن ذلك حقيقة الأقوال التقريرية. ولعل عبارة فيتجنشتين الشهيرة: ” العالم مجموع الوقائع، لا الأشياء ” تؤكد هذا المنحى    الجديد. الدقة: أن نعترف بدقة المعيار أي أن يكون استخدام الكلمات والعبارات متفقاً مع السياق المعياري المتعارفة عليه بواسطة فعل الكلام الحاصل. بمعنى آخر أن  يحيط هذا الافتراض بمصداقية التلفظ باعتبارها وظيفة لإقامة علاقة مستقيمة ما بين الأشخاص، ويتكفل هذا الادعاء بموضوع تطابق الفعل اللغوي مع مقتضيات مخطط معياري سابق معترف به من طرف المجتمع، ويمتاز بشرعية معاييره. الصدقية: يختص هذا الافتراض بما يقال، بالقدر الذي يسمح به للمتحدث عن التعبير عن نوايا محددة وبطريقة صادقة بعيدة عن التضليل والكذب والحذلقة الكلامية ومن دون سفسطة. وبالتالي يقتضي عدم الشك في إخلاص الذوات المهتمة بموضوع المناقشة والهدف يجب أن يكون صادق ونبيل وليس التمويه وحرف المناقشة عن مسارها الحقيقي.

تعمل هذه الشروط مجتمعةً على تحديد غايات التفاهم وبلوغه، وهي تعكس علاقتنا: بالعالم الخارجي الطبيعي، وبالعالم الداخلي النفسي، بالعالم المعيشي أو عوالم الحياة الاجتماعية. وتحمل كل من هذه العوالم على حدة خطاباً خاصاً بها يجعل على عاتقها إنجاز البحث في العقلانية الخاصة بكل عالم. فالعالم الداخلي الذاتي يتطلب خطاباً جمالياً يدرس المعايير التعبيرية والبلاغة والذوقية والفنية، أما العالم الطبيعي فيتطلب دراسة تجريبية، تضطلع بتفسير ظواهره وتحليل أسبابها، في حين يتميز الخطاب القانوني بدراسة التفاعل الاجتماعي والسلوك في مجرى الحياة اليومية الاجتماعية وفق المعايير والأحكام الجاري العمل فيها([21]).

وهكذا يمكن القول إن هابرماس يضع شرط القبول أو الموافقة من قبل المستمع مساوياً للاعتراف بإدعاءات الصلاحية المرفوعة من قبل المتكلم. فيحق للمستمع أن يتحدى إدعاءات الصلاحية تلك، لأن الوصول إلى التفاهم مشترك يترتب عليه أن يقوم كل من المتكلم والسامع بالموافقة على إدعاءات الصلاحية العمومية. فعندما يقوم المتكلم بنقل الكلام، فهو بذلك يطرح عدداً من إدعاءات الصلاحية، التي تؤكد على أنها عامة وهي الصدق والمصداقية والصلاحية المعيارية. ” وسواء رفع المتكلم إدعاءات الصلاحية بشكل صريح أو ضمني، فإن المستمع حسب هابرماس لديه ثلاثة خيارات، هي إما القبول أو الرفض إدعاءات الصلاحية، أو تركها بدون قرار في الوقت الراهن “([22]).

بعد أن انتهينا من عملية توضيح ” الشروط الأخلاقية لحوار حقيقي ” يوضح هابرماس أنه يمكن للأطراف المشاركة في العملية التواصلية قبول هذه الادعاءات ما دام التواصل يجري بدون تصادم متبادل بين الأطراف المعينة، إذ يصبح معيار صحتها قريناً بالافتراض المتبادل أو محط إقرار خفي بينهم([23]) لأن غاية أي التجربة تواصلية الوصول إلى اتفاق بين الذوات المشاركة في التفاعل ويفترض هذا الاتفاق وجود معرفة مشتركة بينهم، أو على الأقل وجود نوع من التقارب في وجهات النظر، وأن يتم الاعتراف المتبادل على إدعاءات الصلاحية من أجل الوصول إلى إجماع([24]). لكن هذا التوافق يصل إلى نهايته عندما يناهض أحد المشاركين صحة الافتراضات وينازعها ما تدعيه من صلاحية. وإذا رغب أطراف العملية التواصلية الاستمرار في الحوار والنقاش، فيجب على المعترض أن يقدم الدليل على صحة ما يقول وبطريقة تقبل التمحيص حتى يتم قبول اعتراضه.

أما إذا فشلت الأطراف المشاركة في العملية التواصلية في تبرير أو الدفاع عن صحة ادعاءاتهم بالحجج العقلية التي ” تمارس مهمة فحص مقولات النزاع من أجل التوافق والصراع من أجل الإجماع “([25])، فإن إدعاءات الصلاحية نفسها تصبح موضع تساؤل، وربما يختل التواصل أو يتوقف، وفي هذه الحالة لابد للمشاركين من التواصل من أجل إعادة فحص تلك المزاعم من جديد ومراجعتها مراجعة نقدية لتصحيح أخطائها، ومعنى هذا أن العملية التواصلية تخضع لما يسمى بديمقراطية الحوار. فالإجماع عند هابرماس لا يتم الوصول إليه إلا عن طريق([26]) قوة الحجة الأفضل([27]). وهكذا يفترض الفعل التواصلي دائماً إمكانية الحجاج والمناقشة النقدية والحق في الرفض والموافقة، لأنه من دون هذه القاعدة لا يمكن للفعل التواصلي أن يقوم بتأسيس أصلاً. لذا فإن وجود تداولية عامة للغة يشكل نوعاً من المنطق الذي يضمن الشروط المعيارية وإمكانيات نجاح الفعل التواصلي([28]).

تأسيساً على ما تقدم نجد أن هابرماس قد سعى إلى التقليل من أهمية العوامل والمتغيرات* التي ترمي إلى تقويض فرص التعايش السلمي والاعتراف بالآخر، بل سعى أيضاً إلى إلغاء دورها في عملية التواصلي الكفيلة بترسيخ أسس التعايش السلمي. لذا يفرض هابرماس على الشخص الذي سيدخل في عملية التواصل العقلانية سواء أكان متحدثاً أو مستمعاً التزام بوضعية الحالة المثالية للكلام، والذي يفترض وضعاً خالياً من تأثير متغيرات إلغاء الآخر واستبعاده. بذلك ينزع أفراد المجتمع عن أنفسهم كل القوى المبنية على العنف المادي التي يمكن أن يمارسوها، ليدخلوا في عملية الحوار التواصلي العقلاني الذي يفضي إلى اتفاق فيما بينهم لحل المشاكل والنزاعات التي تعترضهم بشكل سلمي مما يؤدي إلى ترسيخ أسس وقيم التعايش السلمي والاعتراف بالآخر.

ويرى هابرماس أن التعايش والاعتراف بالآخر لا يمكن له أن يتحقق إلا عن طريق التفاهم والحوار المستند على العقلانية التواصلية. بمعنى آخر أن العلاقات الإنسانية لا تقوم إلا على التفاهم والحوار العقلاني التواصلي. ومن هذا المنطلق يرى هابرماس أن أهداف القوى التقليدية القائمة على الاقصاء لا تتفق تمام مع أهداف العقلانية التواصلية. لأن الشخص العقلاني بالنسبة لهابرماس ” هو الشخص الذي يحاول الوصول إلى اتفاق أو تفاهم عن طريق الحوار ([29]). أي المبتعد عن العنف المادي وممارسته اللاإنسانية. وهذا يعني أن اللغة والتواصل هما وسيلة أفراد المجتمع للوصول إلى اتفاق وإجماع مع الآخرين بهدف تجسيد التعايش. ” لأن الاتفاق الناتج عن العنف أو التأثير لا يمكن أن يعد اتفاقاً، بل يجب أن يعتمد الاتفاق فقط على الاقتناع الجماعي “([30]). وهكذا يصبح الحوار في سياقه الاجتماعي المستند إلى الفعل التواصلي وفق أخلاقيات المناقشة الهابرماسية ” عبارة عن أداة لإخراج المجتمع من الانعزال ويعتبر كذلك عنصراً لتحقيق الاندماج الاجتماعي بين أعضائه دون عنف ولا تطرف ويكمن دور الحوار في المجتمع بفتح باب المشاركة بين أعضائه في تحليل الأزمات التي يجتازها “([31]).

بناءً على ما تقدم نستنتج أن هابرماس يرفض كل مفهوم عرقي أو قومي للمواطنة في ظل الديمقراطية التواصلية، لأن القومية والعرقية تؤدي إلى التعصب والعنف وبالتالي نفي التعايش والاعتراف بالآخر، ففي نظر هابرماس أن المواطنة التواصلية هي القادرة على استيعاب التعددية الثقافية والاجتماعية، وما يربط العلاقات بين المواطنين داخل الوطنية الدستورية هو الحوار والنقاش الذي رهانه الفهم الصحيح للقوانين العالمية المشتركة، دون أن ننسى احترام الخصوصيات الثقافية والقومية … إلخ. إذ أن الالتزام بمبدأ الحوار حسب هابرماس سيؤدي حتماً إلى الالتزام بشروط التعايش الديمقراطي السلمي والاعتراف بالآخر الذي سيعبد الطريق نحو التحرر من التسلط والقهر والاستبعاد ونقي الآخر، عندما يتم اشتراك كل فئات المجتمع وبمختلف انتماءاته في تقرير المصير الذي يخص كل مواطن دون استثناء. فالمواطن في دولة الحق والديمقراطية التواصلية التي يقترحها هابرماس لم يعد ينظر إليه ككائن خاضع إلى السلطة الشرعية، فقد أصبح يعرف ذاتاً واعيةً تساهم في عملية التي يفكر عبرها المجتمع في ذاته ويقرر مصيره، لكن لا يمكن للحق أن يكتفي بإرضاء المتطلبات الوظيفية لمجتمع معقد، لا بد من أن يستجيب لشروط التعايش والاندماج الاجتماعي الذي يتم في النهاية عبر عمليات الفهم المتبادل المحققة من قِبل ذوات تتفاعل بواسطة التواصل، أي عبر ادعاءات الصلاحية. فالمواطنة عند هابرماس لم تخرج عن دلالة الإنسان الحر وعندما أضافت إليه مشاركة الأفراد في صنع القرار دون المساس بحقوق الآخرين وهذا يتم عن طريق الحوار وخلق المساواة بين الذوات وهذا ما يهدف إلى تأسيس العقلانية التواصلية التي تصبح بلا منازع المقدمة الأولية لتجسيد مفهوم التعايش السلمي والاعتراف بالآخر عبر سلسلة من المبادئ والإجراءات التي تبدأ بممارسة الفعل التواصلي وتنتهي بالديمقراطية التشاورية التي تعبّر عن أعلى مراحل التقبل الإنساني للآخر والتعايش معه حسب هابرماس.


([1]) إيمان سوقال: التنوع الثقافي وجدليات التواصل وإعادة بناء الهوية، مجلة العلوم الاجتماعية، جامعة الأغواط، الجزائر، المجلد: 7، العدد: 31، جويلية 2018، ص(26).

([2]) أبو النور حمدي أبو النور حسن: يورجين هابرماس ” الأخلاق والتواصل “، دار التنوير، بيروت، 2009، ص(143).

([3]) حسام الدين فياض: تطور الاتجاهات النقدية في علم الاجتماع المعاصر، دار كريتار، إسطنبول، ط1، 2020، ص(396).

([4]) عطيات أبو السعود: الحصاد الفلسفي للقرن العشرين وبحوث فلسفية أخرى، منشأة المعارف، الإسكندرية، ط1، 2002، ص(100). 

([5]) نور الدين علوش: المدرسة الألمانية النقدية- نماذج مختارة من الجيل الأول إلى الجيل الثالث، دار الفارابي، بيروت، ط1، 2013، ص(85).

([6]) هشام عمر النور: تجاوز الماركسية إلى النظرية النقدية، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 2012، ص(41).

([7]) عطيات أبو السعود: الحصاد الفلسفي للقرن العشرين وبحوث فلسفية أخرى، مرجع سبق ذكره، ص(104). 

([8]) مجموعة مؤلفين: أوراق ديمقراطية من عهد الاستبداد إلى حكم الدستور (التعايش في ظل الاختلاف)، سلسلة أوراق ديمقراطية، مركز العراق لمعلومات الديمقراطية، العراق، العدد: الثاني، يونيو/ حزيران، 2005، ص(57). 

([9]) أنطونيا تشايز ومارثا ميناو: تخيل التعايش معاً ( تجديد الإنسانية بعد الصراع بعد الصراع الإثني العنيف)، ترجمة: فؤاد السروجي، مراجعة: محمود الزواوي، الأهلية للنشر والتوزيع، عمان، ط1، 2006، ص(29). 

([10]) عبير سهام مهدي: مفهوم التعايش السلمي ودوره في تحقيق  الوحدة الوطنية ( العراق أنموذجاً )، المنتدى الوطني لأبحاث الفكر والثقافة، حولية المنتدى، المجلد: 7، الإصدار: 7، بغداد، 4/7/2011، ص(174). 

([11]) إيان كريب: النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس، ترجمة: محمد حسين غلوم، مراجعة: محمد عصفور، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، سلسلة عالم المعرفة، العدد:244، أبريل/نيسان، 1999، ص(350-351). 

([12]) عطيات أبو السعود: الحصاد الفلسفي للقرن العشرين وبحوث فلسفية أخرى، مرجع سبق ذكره، ص(103- 104). 

([13]) شريقي أنيسة: أخلاقيات الحوار في الفلسفة الغربية يورغن هابرماس أنموذجاً، رسالة دكتوراه غير منشورة، إشراف: عبد الله موسى،  شعبة الفلسفة، قسم العلوم الاجتماعية، كلية العلوم الاجتماعية والإنسانية، جامعة الطاهر مولاي سعيدة، الجزائر، 2016- 2017، ص(23).

([14]) المرجع السابق نفسه، ص(26).

([15]) Habermas: The Theory of Communicative Action, Translated by: Thomas Mc McCarthy, Beacon Press, Boston, vol:1, 1984, p.( 86).

([16]) علي عبود المحمداوي: الإشكالية السياسية للحداثة – من فلسفة الذات إلى فلسفة التواصل هابرماس نموذجاً، منشورات الاختلاف والأمان، الجزائر والرباط، ط1، 2011. ص(208). 

([17]) Habermas: The Theory of Communicative Action , v:1, op.cit, p.(99).

([18]) محمد نور الدين أفاية: الحداثة والتواصل في الفلسفة النقدية المعاصرة ( نموذج هابرماس )، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، ط2، 1998، ص(198).   

([19]) عطيات أبو السعود: الحصاد الفلسفي للقرن العشرين وبحوث فلسفية أخرى، مرجع سبق ذكره، ص(111). 

([20]) حسن مصدق: يورغن هابرماس ومدرسة فرانكفورت – النظرية النقدية التواصلية،  المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط1، 2005، ص(145- 146).

([21]) المرجع السابق نفسه، ص(132).

([22]) Habermas: The Theory of Communicative Action, v:1, op.cit, p.(38).

([23]) حسن مصدق: يورغن هابرماس ومدرسة فرانكفورت – النظرية النقدية التواصلية، مرجع سبق ذكره، ص(147).

([24]) عطيات أبو السعود: الحصاد الفلسفي للقرن العشرين وبحوث فلسفية أخرى، مرجع سبق ذكره، ص(104). 

([25]) علي عبود المحمداوي: الإشكالية السياسية للحداثة – من فلسفة الذات إلى فلسفة التواصل هابرماس نموذجاً، مرجع سبق ذكره، ص(218-219). 

([26]) عطيات أبو السعود: الحصاد الفلسفي للقرن العشرين وبحوث فلسفية أخرى، مرجع سبق ذكره، ص(104). 

([27]) جون سكوت: خمسون عالماً اجتماعياً معاصراً، ترجمة: محمود محمد حلمي، مراجعة: جبور سمعان، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، ط1، 2009، ص(387).

([28]) الزواوي بغوره: ما بعد الحداثة والتنوير موقف الانطولوجيا التاريخية (دراسة نقدية)، دار الطليعة للنشر، بيروت، ط1، 2005، ص(240).

* تنحصر تلك العوامل والمتغيرات في الضغوطات المختلفة التي يواجهها الأفراد سواء أكانت اجتماعية، سياسية، دينية، أو حتى اقتصادية، تتمظهر في مختلف أشكال القمع والقهر والاستبعاد الاجتماعي، التي يتعرض لها الأفراد في حديثهم من أجل التواصل، وهكذا يواجه هؤلاء الأفراد اعتراضات شتى في كل مفاصل المجتمع مما يعيق فرض تعايشهم السلمي والاعتراف بهم بسبب التمركز حول بناءات القوة في التعامل مع الآخرين.

([29]) Habermas: The Theory of Communicative Action, v:1, op.cit, p.(21).

([30]) Ibid, p.( 287).

([31]) شريقي أنيسة: أخلاقيات الحوار في الفلسفة الغربية يورغن هابرماس أنموذجاً، مرجع سبق ذكره، ص(83).
__________
**د. حسام الدين فياض/الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة/ قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً.


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

حسام الدين فياض

د. حسام الدين فياض الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة قسم علم الاجتماع - كلية الآداب في جامعة ماردين - حلب سابقاً.

مقالات ذات صلة