مشروع الجابري؛ توجيه منهجي من أجل تلقٍّ معرفي

image_pdf

الدخول إلى المشروع الفكري البرهاني المعاصر الذي أسَّسه، باقتدار، المفكِّر محمد عابد الجابري يتطلَّب دق بابين رئيسيين:

*   باب «نحن والتراث» الرئيس الذي يقود نحو بابين داخليين، باب “تكوين العقل العربي” وباب “بنية العقل العربي”. 

*  باب «مدخل إلى القرآن الكريم» الرئيس الذي يقود نحو أبواب داخلية، أبواب/أجزاء “فهم القرآن الحكيم: التفسير الواضح حسب ترتيب النزول”. 

بين الكتابين/المدخلين الرئيسيين، ومتعلقاتهما من أبواب فرعية، علاقة امتداد وانسجام، مما يؤكد أن الدخول إلى المجال التداولي الإسلامي يمر، بالضرورة، عبر إدراك تكوين وبنية العقل العربي، باعتماد آليات التحليل الابستملوجي. 

ماذا أراد الأستاذ الجابري أن يقول للمتلقي العربي-الإسلامي بعد هذا العمر الطويل الذي قضاه منكبا على حفرياته المعرفية ؟ 

الرسالة واضحة لكل حكيم ذي لبّ:  تلقي وتداول النص القرآني مجردا من شروط تكوينه وعناصر/علاقات بنيته، هو الذي حكم على منجزنا الفكري الإسلامي المعاصر بالعقم، وحوله من مُنجز معرفي يشرف على بنائه خيرة العقول العلمية، إلى منجز إيديولوجي يتاجر به السياسيون في سوق النخاسة. 

هل كان الأستاذ الجابري يمارس الإنشاء حينما أطلق وصف “الحكيم” في فهمه للقرآن ؟ لا أظن ذلك! لقد كان يشير إلى درة ابن رشد (فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال)، ليؤكد أن الحكمة والشريعة وجهان لعملة واحدة، ومن يروج لانفصالهما يمارس الدجل الإيديولوجي، ويسعى إلى الاستفراد بالنص القرآني، ليؤوله على هواه لحاجة في نفسه يريد قضاءها ! 

 هذا الوعي المعرفي المتقدم بالعقل العربي، تكوينا وبنية من جهة، وبالنص القرآني متنا ومنهجا من جهة أخرى، هو الذي نقل  الأستاذ الجابري إلى مرحلة متقدمة في تلقيه الفكري للنص القرآني، حيث تمكن  من الكشف عن تهافت التلقي الاستشراقي الذي يخلط بين القرآن والتراث ويعتبر  النص القرآني جزءا من التراث، وفي المقابل تمكن الأستاذ الجابري من التأسيس لتلق معرفي واع بخصوصية النص القرآني.

  عندما يتحدث الأستاذ الجابري عن المكون التراثي، بالجمع، فإنه يتوقف لتوضيح بعض مواطن العتمة، التي قد تكون مفروضة من طرف التلقي الإيديولوجي المغرض، ولعل أبرزها العلاقة المفترضة بين النص القرآني من جهة، وبين تلقي النص القرآني من جهة أخرى. لذلك، نجد الأستاذ الجابري يميز بين مستويين في موضوع الدراسة :

 •   من خلال المستوى الأول، يرفض التعامل مع القرآن كجزء من التراث.

•   من خلال المستوى الثاني، يعتبر جميع أنواع الفهم، التي شيدها علماء المسلمين لأنفسهم حول القرآن، جزءا من التراث لأنها تنتمي إلى ما هو بشري

هذا التمييز، بين المتن القرآني وبين الخطابات التي أنتجها التلقي القرآني، هو الذي مكن الأستاذ الجابري من الانتقال، من توظيف مفهوم ” القرآن” إلى توظيف مفهوم ” الظاهرة القرآنية” بما يحمله مكون الظاهرة من حضور للمؤثرات الخارجية التي تؤثر على سيرورة التأويل. 

إن المقصود بـ” الظاهرة القرآنية”، حسب الأستاذ الجابري، ليس فقط القرآن كما يتحدث عن نفسه، بل أيضا مختلف الموضوعات التي تطرق إليها المسلمون، وأنواع الفهم والتصورات العالمة التي شيدوها لأنفسهم قصد الاقتراب من مضامينه ومقاصده.
______
* د.إدريس جنداري – باحث.

جديدنا