الدور الاستلابي للتلقين في الجامعات العربيَّة:التلقين بوصفه أيديولوجيا تدميريَّة وقوة تجهيل استلابيَّة
يشكل التلقين منظومة أيديولوجية واستراتيجية مصممة لتدمير العقول، وتجهيل الأجيال وإخراجها من دائرة القدرة على التفكير والنقد والتأمل المنطقي أو النظر في أمور الحياة وحرمانها من القدرة على التأمل العقلاني المتنور لمظاهر الحياة والوجود. وهو بالتالي يمثل أنجع وسيلة لتدمير العقل والعقلانية عند الأطفال والشباب، وحرمانهم من القدرة على التبصر والتفكير والـتأمل في سياق استراتيجيّة أيديولوجية لا تخفى على كثير من الباحثين وأهل الاختصاص (علي أسعد وطفة )
1- مقدمة
غالباً ما ينظر المفكرون النقديون إلى التلقين (Indoctrination) أو التطبيع على أنه من أكثر المظاهر خطورة وفتكا في المجتمعات المتخلفة، وهو الفعالية التربوية التي تؤسس لكل أشكال التخلف والعبودية والقهر في هذه المجتمعات، فالتلقين يشكل أحد الملامح الأساسية للعملية التربوية في مختلف المجتمعات المحكومة بالجهل والخرافات والأمية. ولا جدال في أنَّ التلقين يشكل أخطر الأدواء التي تداهم العقول والعقلانية، إذ يدمر معظم أشكال القدرة على التفكير والرؤية النقدية لدى أفراد المجتمع، ويضعهم في وهدة الجهل والأمية والتجهيل، وربما لا نبالغ إذا قلنا: إنَّ التلقين يشكل قوة أيديولوجية وممارسة تربوية مصممة لإنتاج مختلف أشكال الجهل والتجهيل والتخلف الذهني والعقلي في المجتمعات المتخلفة.
تتّخذ العلاقة بين التلقين والأمية صورة جوهرية من التكامل والتلازم حضورا وغيابا،، فحيثما يكون التلقين تكون الأميَّة والعكس صحيح، وفي غياب أحدهما يكون غياب الآخر بالضرورة، وهذا يعني أنَّ التلقين يشكل أحد العوامل الأساسية في نشأة الجهل المعرفي، وتوليد الأميَّة الأكاديمية، كما يمثل في الوقت نفسه إحدى نتائج الأميَّة الأكاديمية وأحد أبرز مظاهرها في الوقت ذاته، وهذا يعني أيضًا أنَّ العلاقة القائمة بين التلقين والأمية الأكاديمية علاقة جدلية فاعلة منفعلة ضمن سياق تكاملي يكون فيها السبب والنتيجة متواترين متعاقبين متفاعلين ومتكاملين كل منهما يعزز الآخر وينتهي إليه. فالتلقين بوصفه ممارسة تجهيل، يشكل أهم وأخطر عوامل الأميَّة الثقافية في المجتمع وأعظم منتج للأمية الأكاديمية في الجامعات العربية دون استثناء. فالوظيفة الأساسية لعملية التلقين والتطبيع والترويض هي العمل على وأد العقل وردم القدرة على التفكير في المجتمعات التي منيت بهذا الداء. والأخطر من ذلك، أنَّ التلقين – بوصفه منهج حياة وطريقة في التفكير والوجود – يحول المجتمعات المصابة بأدوائه إلى مجتمعات عبودية قطيعية مستلبة مغيبة عن كل أشكال الوعي السياسي والاجتماعي والأخلاقي.
وقد تبدو كلمة التلقين بمختلف تسمياتها، كالتطبيع والترويض والتعليم البنكي، كلمة عادية لا تتعدى أسلوب التعليم السائد في المدارس. وعلى خلاف هذا التصور البسيط يأخذ مفهوم التلقين طابع التعقيد بوصفه ظاهرة ثقافية أيديولوجية مجتمعية، وهو إذ ذاك يؤدي في الوقت نفسه وظائف أيديولوجية وفلسفية وسياسية غاية في الأهمية والخطورة، وهو فوق ذلك ينطوي على منظومة فكرية أداتية تهدف في حقيقة الأمر إلى ترويض الأفراد والشعوب وإخضاعها للطبقات السياسية والاجتماعية التي تحكم هذه المجتمعات وتسودها.
كثير من الباحثين ينظرون إلى التلقين على أنه طريقة في التدريس والتعليم ونقل المعلومات، وهذا الأمر صحيح لا غبار عليه، لكن الأمر الخطير الذي يجهله كثيرون هو أنَّ التلقين يشكل بذاته منظومة أيديولوجية واستراتيجية مصممة لتدمير العقول، وتجهيل الأجيال وإخراجها من دائرة القدرة على التفكير والنقد والتأمل المنطقي أو النظر في أمور الحياة وحرمانها من القدرة على التأمل العقلاني المتنور لمظاهر الحياة والوجود. وهو بالتالي يمثل أنجع وسيلة لتدمير العقل والعقلانية عند الأطفال والشباب، وحرمانهم من القدرة على التبصر والتفكير والـتأمل في سياق استراتيجيّة أيديولوجية لا تخفى على كثير من الباحثين وأهل الاختصاص.
وغالبا ما يشار إلى التلقين بوصفه طريقة في التعليم يأخذ فيها التعليم اتجاها أحاديا يكون المعلم فيه هو مصدر المعلومة والسلطة، ويكون الطالب هو المتلقي المطيع. وعلى هذا النحو يتم تطبيع الطالب أو التلميذ بالمعلومات والحقائق المفككة دون أنَّ تتاح له فرصة مناقشتها أو فهمها فهما صحيحا. وهكذا، يشكل التلقين وسيلة فعالة لغسل الأدمغة وترويض الأطفال والناشئة على الخضوع المطلق ذهنيا. وتعتمد هذه الطريقة على “حشو الرؤوس بمادة كثيفة ثقيلة تزرع زرعا في المخزون الذاكري للأطفال والطلاب ” (عبد الرحمن، 1993، 16). وهذا ما أشار إليه محمد جواد رضا في قوله مؤكّدا: ” إننا عندما نضخ في عقل الطفل مئات، بل آلاف (كذا!) من المعلومات غير المترابطة فإننا نستنزف عقل الطفل وطاقاته في جهد آلي لا يترك له فرصة التفكير” (رضا، 1991، 119).
وبالتالي فإنَّ المعلومات المجزأة والمفككة تمنع القدرة على التفكير، وهذا التفكيك الذهني يشكل أخطر أساليب اغتيال العقل، لأنه يقتل كل إمكانات التفكير الشمولي والنقدي في ذهن الفرد؛ ذلك أنَّ الحقائق تكتسب قيمتها من كونها أجزاءً في كل مركب، فإذا فصلت عنه فقدت قوتها في عقل الفرد، وأصبحت كل حقيقة مجرد معلومة لا يربطها رابط ببقية الحقائق، وهذا ما تبرع به الكتب المدرسية الآن كوسائل إعلام (رضا، 1987، 40).
إنّ التلقين شكل من أشكال التسلط والقهر الاستلابي! وهو كذلك لأنه يشكل عملية إكراه تفرض فرضا على الطفل من الخارج، وهو كذلك عملية تطبيع وترويض، أي انتهاك للعالم الداخلي للطفولة، فالطفل عندما يلقن لا يسمح له بإبداء رأيه فيما يتلقن بل عليه أنَّ يخضع ويقبل ويستكين، وهذا يشكل نوعا من استباحة المجال الداخلي للإنسان. فالتلقين وفقا لهذا المعنى يدخل في الطفل ما لا يرغب فيه، أي إنه يبرمج الطفل على إكراه منه. وبعبارة أخرى ما يتوغل إلى عالم الطفل الداخلي لا يتجاوز رغبة الطفل بل يتعارض مع هذه الرغبة وينفيها، والمهم في ذلك كله أنَّ عملية التلقين تتم دون محاكمة منطقية، حيث لا يسمح بها، ومع الزمن يصبح عقل الطفل موطنا، لا بل مستعمرة لأنظمة فكرية لا تمت إليه أو إلى الواقع بصلة، ولكنه مع الزمن، وبفعل هذا الترويض المعرفي يعتاد أنَّ يركن إلى ما آل إليه وضعه، وما حدث لعقله. وبعبارة أخرى، لقد روض وخضع لبرمجة عقلية منهجية منظمة ومستمرة.
ويعد المفكر البرازيلي باولو فرايري (Paulo Freire) رائد الاستكشاف النقدي للتعليم التلقيني الذي يطلق عليه تعبير التعليم البنكي، ويصفه في كتابه المشهور (تعليم المقهورين) (Pedagogy of the Oppressed) بأنه تعلم ترويضي يبرمج الطلبة على الخضوع ويدفع بهم إلى مواقع العدمية الفكرية والذهنية. ويصف فرايري التعليم البنكي التلقيني ببعض السمات الأساسية التي تتمثَّل في الأستاذ الذي يعلم والطلبة الذين يتلقون، وفي الأستاذ الذي يعرف كل شيء، والطلبة الجهلة الذين يجهلون كل شيء، في الأستاذ الذي يفكر ويتأمل والطالب الذي لا يستطيع التفكير ولا يسمح له بالتأمل، في الطالب الذي يذعن ويخضع ويستمع والمعلم الذي يتكلم ويفرض ويمارس السلطة، في الأستاذ الذي يمتلك ناصية القرار والتصرف، وفي الطالب الذي يستجيب استجابة مطلقة لواجبات الطاعة والخضوع والرضوخ والإذعان. وهذا يعني أنَّ المفهوم البنكي- التلقيني للتعليم يحول الطلبة إلى مجرد طاقة سلبية بلا هوية ودون وعي مستقل، ولا يعدو الطالب في هذه المعادلة أنَّ يكون أكثر من آنية تصب فيها المعلومات صبا، وتشحن العقول بالمطلقات والخرافات والأوهام لتعطيل الطاقات العقلية والقدرات الإبداعية عند الناشئة. والتعليم التلقيني لا يستهدف شيئا آخر سوى تطويع الطلبة للتأقلم مع عالم القهر والاستلاب وتكييفهم لمتطلبات الخضوع والقصور والإذعان، وهو إذ ذاك تعليم يتناقض مع مفهوم الحرية والعقل ويدفع الطلبة إلى أقصى حالات الاستلاب والسلبية في مجتمعهم القطيعي (فرايري، 1980، 57).
والتلقين كما يراه فرايري، هو العملية السيكولوجية التي يتم فيها ومن خلالها الزجّ بالأطفال والمتعلمين في زنزانات العبودية العقلية والإكراه المعرفي، وهو ما يؤدي فعليا إلى عملية تجفيف القدرات العقلية للطفل وتدمير الطاقة الإبداعية الكامنة فيه؛ ذلك لأنَّ الطفل، على مدى سنوات عديدة يقضيها في المدرسة، يردد فقط ما يلقنه إياه المعلم، ويحفظ ما يأمره به، ويستظهر ما يطلب من نصوص، وينفذ إرادة المعلمين بصورة كلية. ويمنع، في المقابل، من التفكير أو النقد أو الحوار أو المناقشة أو الإبداع أو التجديد، وتلك هي ممنوعات النظام التربوي السائد في الأنظمة التربوية المعاصرة. فالتلقين عملية غسل دماغ حقيقية، يتم فيها تفريغ الإنسان من طاقته الذهنية ويدفعه إلى حالة اغترابية استلابية، وغالبا ما ينظر إلى المتعلم بوصفه مجرد إناء تصب فيه معلومات المعلم، وهي غالباً معلومات لا تتصل بحاجاته واهتماماته ولا تمكنه من التفكير والنقد والتحليل.
ويميز فرايري في كتابه الموسوم (تعليم المضطهدين)، بين منهجين مختلفين متعارضين للعملية التربوية: أطلق على المنهج الأول تسمية التعليم البنكي، وهو التعليم القائم على التلقين الذي يجسد نظاما سلطوياً محضاً يجعل من المدرس دكتاتوراً يفرض سلطانه ونصوصه على الطلبة دون أنَّ يسمح لهم بالتفكير والاعتراض، وهو منهج استلابي اغترابي مدمر لعقل التلميذ وقدراته الذهنية. وأطلق على المنهج الثاني المنهج النقدي في التعليم الذي يساعد على بناء شخصية الطالب وفكره، بتشجعيه على التفكير والتأمل والنظر، ويكون فيه المعلم مساندا لعملية بناء العقل التنويري عند الطلبة. وقد تبين فيما بعد أنَّ أغلب المجتمعات السائرة في مسارات التنمية والتحديث قد اتخذت المنهج النقدي ورفضت المنهج التقليدي البنكي الاغترابي، وعلى خلاف ذلك تبنت المجتمعات الاستبدادية، ومنها مجتمعاتنا العربية، المنهج الأول الاستلابي للقضاء على كل أشكال التفكير وحرية التعبير وتقبل الآخر (مغامس، 2015).
ويمكن لنا أنَّ نقول في هذا السياق إنَّ عملية التلقين عملية استلابية تؤدي إلى تدمير العقل والعقلانية عند الطالب، وباختصار هي عملية تشويه للملكات العقلية والذهنية عند الطفل والمتعلمين بصورة عامة، وتؤدي أيضًا إلى قتل روح المبادرة. وبمرور الزمن، ومع استمرار هذا الأسلوب الخطير، يتحول الإنسان إلى صنم ناطق يضج بغبار المعرفة، ونثريات الذاكرة، مع غياب القدرة على التفكير الإنساني الحر الخلاق.
فعملية التلقين خلال مراحل التعليم، وتحت تأثير آليات الإكراه العقلي والمعرفي التي تفرضها، تحول المتعلم إلى كائن اغترابي، وإلى أداة طيعة مستلبة ومقهورة توظف في خدمة أنظمة القهر السياسي والاجتماعي القائم. وهذا التعليم ينتج حشودا مليونية من هذه الشخصيات الاغترابية، فيتحول المجتمع برمته إلى مجتمع عبودي، تسوده قيم القهر والتخلف والتسلط والاستبداد، لأنَّ هذه الحشود المستلبة، بفعل عمليات اغترابية لا حصر لها، تسقط في مستنقعات الوهم ومهاوي الاستسلام والخضوع.
يميز الفيلسوف الألماني عمانويل كانط Emmanuel Kant (1724-1804) بين التعليم الترويضي – التلقيني والتعليم التنويري بقوله: ” الإنسان إما أنَّ يروض ويوجه ويعلم آليا، وإما أنَّ ينور تنويرا حقيقيًّا “. ويرى أنَّ الترويض (التلقين) يكون للكلاب والخيول، ويمكن أيضًا أنَّ يكون لبني الإنسان… ولكنه يعلن أنَّ التربية لا تتم بالترويض: فالمهم قبل كل شيء أنَّ يتعلم الأطفال كيف يفكرون ” (بدوي، 1980، 123). ويعارض كانط التلقين وينظر إليه بوصفه منهجا كارثيا مدمرا ضد الإنسان والإنسانية، لأنَّ وظيفة التربية الحق هي النهوض بمهمّة التنوير، وهذا يعني أنَّ المعرفة يجب أنَّ تنتزع من الفرد لا أنَّ تسكب فيه؛ فالتلميذ ليس فراغا يملأ بل طاقة يجب أنَّ تفجر بالمعرفة. ومنهج كانط الفلسفي يشكل إدانة صريحة لأساليب التلقين في العملية التربوية. فعملية التلقين التربوي – كما يراها – تتمثَّل في عملية إكراه معرفي، تفرض على الطفل، بوصفها معرفة لا يرغب فيها، ولا تعنيه، ولا تواكب توجهاته واهتمامه، وضمن هذا التوجه، تكمن حكمة كانط وغايته في تأكيده على أهمية نمو المعرفة من الداخل وليس فرضها من الخارج. فالتلقين عنده إرهاب إيديولوجي منظم، وهو في الوقت نفسه أداة لتطويع الفرد ذهنيا وعقليا ووسيلة إخضاع لإرادة خارجية تروض المتعلّم على الإذعان والانصياع، وتشرّط وجوده بالخضوع والاستسلام (بدوي، 1980). وهذا ما يذهب إليه هشام شرابي في كتابه المعروف (مقدمات لدراسة المجتمع العربي)، إذ يهاجم التلقين ويرى فيه خطورة كارثية على المجتمع والعقل، لأنه يشكل طاقة استلابية اغترابية تعمل على تدمير العقلانية والروح النقدية في الفرد وفي المجتمع، إذ يتحول الفرد بموجبها إلى كائن مفرغ من الطاقة الذهنية ويصبح أداة للترديد والحفظ بدلا من أنَّ يكون وسيلة تحليل ومعرفة ونقد (شرابي، 1991، 85).
ويشير أوليفييه (Olivier Reboul) في معرض تحليله لمفهوم الترويض إلى أنَّ “الكلب المدرب المروض ليس كلبا أكثر نموا من الكلاب التي لم تروض بعد ” (ربول، 1986، 25)، لأننا عندما “نروض كلبا أو حصانا فإننا لا نقوم بذلك من أجل أنَّ نعلم الحيوان فحسب، وإنما لنجعل الحيوان يستجيب لسلوك يفيد معلمه “(ربول، 1986، 25). وهذا يعني أنَّ هذه الكلاب المروضة ليست أكثر نموا وقدرة من الكلاب الأخرى، بل هي أكثر استعدادا لخدمة صاحبها والاستجابة لطلباته (ربول، 1986، 25). ومثل هذا التشبيه ينسحب على الخيول: فالخيول المروضة هي الخيول التي تستجيب لحاجات الركوب عند أصحابها وليست هي الخيول الأفضل دائما. والتعليم في صيغته الترويضية لا يخرج عن هذه الدائرة. فعندما يكون هدف التعليم هو إعداد الفرد لخدمة أساطين القوة ورموز السيطرة، يكون التعليم تلقينا، وهو يخرج عن هذه الدائرة عندما يستهدف تحقيق نماء الطلبة على المستوى الأخلاقي والنفسي والاجتماعي. والتعليم عندما يهدف إلى تحقيق النماء الداخلي للإنسان يصبح فعلا تربويا، وليس فعلا تلقينيا.
وفي هذا الصدد يرى رونيه أوبير (Jacques-René Hébert) أنَّ التلقين فعل لا يتناقض مع التربية بل هو فعل يتنافى معها بصورة كلية (ربول، 1986، 26).
وفي هذا السياق ينظر الدكتور محمد جواد رضا ” إلى التلقين والتبشير بوصفهما عمليتي إخصاء للعقل العربي البازغ في الأطفال، وهما تعملان على استباحة مناهجنا وكتبنا المدرسية ” (رضا، 1991، 23). وفي هذا المعنى يقول هشام شرابي: “التلقين هو الشكل الأكثر تنظيما من أشكال فرض السلطة وتثبيتها، فهو يجمع بين العقاب والتطبيع Indoctrination وهي طريقة تعتمد على الترديد والحفظ بحيث لا يبقى مجال للتساؤل والبحث والتجريب” (شرابي، 1991، 38).
فالتعليم البنكي، وهو صيغة اصطلاحية للتلقين والتطبيع، يدفع المعلم إلى معاملة الطلبة بوصفهم حسابات بنكية تودع فيه المعلومات والمعارف، وتخزن، وفي كل فترة يعود المودع ليحسب في كل حساب بنكي ما يوجد فيه من رأسمال معرفي مودع. فالطالب هنا مستقبل للمعلومات والمعلم هو الذي يودعها فيه. ويهدف التعليم البنكي إلى تبديد القدرة الإبداعية عند الطلبة، ومن ثم ترويضهم من أجل الاندماج في النسق الاجتماعي الذي تسوده قيم التسلط والإكراه (بدران، 1999، 24). ويرى هشام شرابي أنَّ الهدف من التلقين ” هو نقل قيم المجتمع وعاداته الثابتة إلى صميم التركيب الذهني للفرد “(شرابي، 1991، 38). والفرد في سياق فعل التلقين يتلقى تركيبات فكرية جاهزة، أو خلائط عقائدية مركزة، يؤسس عليها أنماطه السلوكية، دونما قدرة على التأمل النقدي في طبيعة هذه الأنماط السلوكية، أو في منظوماتها الذهنية المؤسسة لها، وهو ما من شأنه أنَّ يؤدي إلى كسر إمكانات الفرد العقلية والنقدية (شرابي، 1991، 38).
والتلقين، علاوة على ذلك، نمط من أنماط التسلط والقهر الواضح! لأنَّ التلقين عملية تعليمية تفرض فرضا على الطفل من الخارج، وهي بذلك عملية تطبيع وانتهاك للعالم الداخلي للطفولة، فالطفل عندما يلقن لا يسمح له بإبداء رأيه فيما يلقن،، وهو ما يؤدي في النهاية إلى برمجة الأطفال وإكراههم على ما لا رغبة لهم فيه، وبعبارة أخرى، فإنَّ ما يفرض على الطفل من معلومات، لا يتجاوز رغبة الطفل فحسب، بل يتعارض مع هذه الرغبة ويدمرها، والأخطر من ذلك أنه لا يسمح للطفل أو الطالب بمحاكمة هذه المعلومات أو التفكير فيها أو التساؤل حولها وعنها، ومع الزمن، ومع تصاعد هذه العمليات، يفقد الطفل كل إمكانات التفكير والتأمل.
ولا بد من الإشارة في هذا السياق إلى أنَّ اغتصاب عقل الفرد واستباحة عالمه الداخلي تتميز بطابع الاستمرار والديمومة، فالعملية تبدأ على أشدها في الأسرة وتأخذ طابعا ممنهجا في المدرسة، وتتحول إلى عملية منظمة في إطار الحياة الاجتماعية بما تنطوي عليه هذه الحياة من منظومات فكرية وأيديولوجية. وهذا يعني أنَّ عقل الفرد ينمو في أجواء مسمومة وفي تربة صماء، فينشأ على حليب العبودية ويرضع من ثدي القهر، وينتهي إلى وضعية هزال وجودي وأخلاقي.
فالتلقين يشكل، جوهريا، العملية السيكولوجية التي يتم فيها ومن خلالها وضع المتعلم في دائرة العبودية ويتم تفريغه ذهنيا بواسطة الإكراه المعرفي، لأنَّ إمكانات الطفل العقلية في هذه العملية تتبدد، حيث يجب عليه، على مدى سنوات طويلة، أنَّ يردد ما يلقنه إياه المعلم، وأن يحفظ ما يأمره به، وأن يستظهر النصوص التي تملى عليه، وأن ينفذ إرادة المعلمين وأوامرهم في طرفة عين. ويمنع عليهم إبداء مظاهر الإبداع أو التوجه نحو أي شكل من أشكال التجديد، وهذا غيض من فيض الممنوعات التي يجب على المتعلم أنَّ ينتهي عنها في النظام التربوي السائد والقائم على التلقين. وبعبارة أخرى يمكن القول إنَّ التلقين يمثل عملية غسل دماغ حقيقية، يتم فيها تفريغ عقل الإنسان وإرادته من كل أشكال المبادهة العقلية أو الذهنية الخلاقة، والطفل في نسق هذه العملية لا يكون أكثر من مجرد وعاء ذهني يُشحن بالمعلومات والنصوص التي لا تتصل بحاجاته واهتماماته أو وجوده، ويُثقل عليه بهذه المعلومات الجزئية إلى الدرجة التي يتم فيها إغلاق منابت التفكير، وتدمير كل أشكال النزوع العقلاني إلى أنَّ يتم إخضاعه وضمه إلى قطيع الدهماء.
ويمكن لنا أنَّ نقول في هذا السياق إنَّ عملية التلقين تتجاوز حدود العبودية الصرفة إلى عبودية أدهى وأمر وأشد، هي عبودية العقل والمعرفة، وهي العبودية التي يتم فيها برمجة العقل بصورة اغترابية، وتدمير ملكة الحكم، والإثقال على الذاكرة، وتغييب روح المبادرة والمبادهة عند أفراد المجتمع. وبمرور الزمن، ومع استمرار هذا الأسلوب الخطير في مختلف المراحل الدراسية، يتحول الإنسان إلى حالة صنم ناطق يضج بغبار المعرفة، ونثريات الذاكرة، وشظايا متفجرة من القدرة على التفكير الإنساني الحر الخلاق.
ومع نهاية السلم التعليمي وتحت تأثير آليات الإكراه العقلي والمعرفي يتحول الإنسان إلى وضعية اغتراب عقلية ونفسية تتميز بطابع الشمول والعمق، وعلى هذا النمط يتحول إلى أداة طيعة مستلبة ومقهورة توظف في خدمة أنظمة القهر السياسية والاجتماعية القائمة.
ويبقى القول الفصل لعلماء النفس الذين أبلوا في الربط بين التلقين وقتل العفوية عند الطفل، وقد انبرت ميلاني كلاين (Melanie Klein, 1882-1960)- أحد أبرز وأهم علماء النفس والتحليل النفسي في مجال الطفولة- لهذه القضية ومنحتها كثيرًا من اهتمامها، إذ أجرت دراسة للعوامل الاستلابية للتلقين والكبت في تدمير القوى العقلية للطفل والراشدين، واستطاعت أنَّ تدلي بدلوها في تفسير الكيفيات التي يتم فيها تدمير الطاقة الإبداعية عند كثير من الأطفال الذين أبدوا مواهب حقيقية في مرحلة الطفولة الأولى، أي: في المرحلة ما قبل السادسة من العمر. في هذا السياق، سبق لكلاين أنَّ لاحظت ما يسمى تراجع طاقة الذكاء عند بعض الأفراد الذين عرفوا في طفولتهم ذكاء مميزا، فكثير من الأفراد الذين شهد لهم بدرجة عالية من الذكاء في مراحل طفولتهم الأولى تراجعت قدراتهم الذّهنية في مرحلة الرشد. ومرد ذلك – كما ترى كلاين – أنَّ هؤلاء الأفراد كانوا قد تعرضوا إلى تربية تلقينية مجحفة أطاحت بإمكانات نموهم الذهني وأدت على الأقل إلى محاصرتها واعتقالها. وهي في هذا السياق تعتقد أنَّ عملية كبت النزعات الطفلية البدائية والجنسية عند الطفل تؤدي بدورها إلى اغتيال طاقاته الذهنية وقهر إمكانات نموه عقليا وذهنيا (فيلو، 1996).
فعقل الطفل يدمر بجرعات ملوثة من المفاهيم والتصورات القسرية التي تفسد عملية نمائه وتطوره الذهني 1964) Klein,). وهذا يعني بالضرورة أنَّ إكراه الطفل على تمثل أفكار ومعتقدات جاهزة يمثل عملية تؤدي به إلى التهلكة الذهنية والعقلية حيث تقتل فيه مختلف ميول الإبداع واتجاهات التفكير الحر السليم. فالطفل الذي يتلقى أفكارا ومفاهيم أسطورية وخيالية، مدفوعا إلى الإيمان بها، وكرها على أنَّ يأخذ بها على أنّها عين الحقيقة والواقع يتعرض لضرر ذهني واضح قوامه أنَّ الطفل يفقد إيمانه بمنطق الرؤية الموضوعية والحسية والمنطقية للأشياء، ويتحول إلى كائن خرافي في مستوى ذهنيته، ويعتاد القبول بالأشياء الخيالية والأسطورية، وينزع إلى الاستكانة والخضوع والاستسلام1959) Klein,).
2-التعليم البنكي الاستلابي في العالم العربي:
يشكل التلقين بوصفه تطبيعا وترويضا منهج حياة ووجود في المجتمعات المتخلفة، ومنها المجتمعات العربية. والترويض فلسفة تربوية ضاربة الجذور في أعماق وجودنا الثقافي قبل أنَّ تكون منهجا تربويا أيديولوجيا في المدارس والمؤسسات التربوية بعامة. وهذه الوضعية الترويضية لا تتم على نحو عفوي واعتباطي كما يخيل للبعض، بل تمثل منهجا سياسيا ثقافيًّا اجتماعيا تفرضه أنظمة القهر والاستبداد في عالمنا العربي. ويمثل التلقين إحدى أهم وأخطر الوسائل الثقافية التي تفرضها القوى الاجتماعية التي تهيمن في المجتمع، أو لنقل بأنها أفضل أدوات النخب الحاكمة في فرض حالة من التطويع والترويض والإخضاع للأفراد والجماهير في المجتمع. فالاستبداد السياسي والاجتماعي والثقافي لا يتم في مجتمعات حرة، وفي مناخات تسودها العقلانية ويحكمها العقل والتنوير، وعلى هذا النحو يأتي التلقين الترويضي تعبيرا عن حالة اجتماعية سياسية لأكثر الأنظمة الاجتماعية تسلطا وهيمنة واستبدادا. وباختصار يمكن القول: إنَّ التلقين هو مظهر من مظاهر التسلط والاستبداد السياسي الثقافي في المجتمعات المتخلفة.
فالتلقين يسود ويهمين في الثقافة العربية وفي كل مظاهر الحياة التربوية، وهو ما أكّده عبد الله عبد الدايم في قوله: “إن كل ما في الحياة العربية من كتاب ومعلم وامتحانات ومناهج وطرائق ما زال ينتسب إلى مرحلة اجترار المعرفة وخزنها، وتغليب الألفاظ على الأشياء، وتفضيل النظر على العمل، وتقديم الجدل العقلي على البحث المنهجي، وإيثار التقليد على التجديد أولا وآخرا ” (عبد الدايم، 2000، 248).
ولا يتردد سعد الدين جلال في التأكيد على هيمنة منهج التقليد في التربية العربية بالقول: إنَّ التلقين “يأخذ كآلية للتنشئة الاجتماعية أحيانا صورا مبالغا فيها في الثقافة العربية، حتى الوظيفة التحليلية والنقدية للعقل عند الفرد العربي تتعطل وتضمر وتحل مكانها وظيفة التذكر والحفظ ” (جلال، 1985، 188). يذكر الكاتب تقليدين شعبيين في مصر عند الولادة والوفاة: “في اليوم السابع للولادة يجري الاحتفال بتسمية الطفل، ويُحمل الطفل الوليد ومن ورائه الكبار والصغار بالمدقات عالية الصوت مرددين إذا كان الوليد ذكرا ” اسمع كلام أبوك ما تسمعش كلام أمك”. وعند الوفاة يجلس أحد المقرئين بعد دفن الميت يلقنه ما يقوله عندما تأتي الملائكة لحسابه فيقول له: إذا جاءك ملاكان وسألاك عن اسمك فقل اسمي عبد الله “كذا وكذا ” وعشت مؤمنا بالله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وإذا سألاك “عن كذا فقل كذا ” وهكذا دواليك ” (جلال، 1985، 188).
ويصف محمود أحمد مرسي هذه الوضعية الترويضية في التربية العربية فيقول ” إنَّ المناهج في الوطن العربي تركز على المعلومات وليس على طريقة التفكير والبحث العلمي وتسلسل الأفكار والفهم الصحيح، والخلل الأساسي في المناهج المتبعة هو الحفظ لأنَّ إنتاج الطالب يحدد بما يحفظ وليس بما يستطيع أنَّ يخلق ويبتكر، والنتيجة في النهاية لا تهدف بأي حال من الأحوال إلى غرس ملكة الابتكار والاعتماد على النفس عند المتعلم (مرسي، 1985، 142).
ويعالج المفكر المصري سعيد إسماعيل علي، المسألة الاستلابية في التربية العربية، فيؤكد على حضور التلقين السلبي في التربية العربية، وهيمنته في مختلف المؤسسات التربوية، بما في ذلك المستويات الجامعية، ذلك أنّنا نجده، كما يقول، في “البيت ونجده في المسجد، وفي الكنيسة، وفي كثير من الصحف والمجلات، وفي أجهزة الإعلام المرئية والمسموعة، حيث يسير التفكير في اتجاه واحد، من ممثل السلطة، سواء كانت هذه السلطة أبوية أو دينية، أو سياسية، أو تربوية، بغير إتاحة للطرف الآخر بأنَّ يقرأ، أو يسمح له بمراجعة والتفكير والنقد…إن هذا النمط من التربية إنما هو عملية “إخصاء” للعقل البشري تكون نتيجتها عجز هذا العقل عن أنَّ يلد أفكارا جديدة، إذ سوف تقف به قدرته عند حد الترديد أو التكرار” (علي، 1994، 19).
ويتناول محمد رؤوف حامد فتح الله الشيخ مسألة التلقين والتعليم العربي الاستلابي مؤكدا حضوره الشامل وهيمنته في مختلف مناحي الوجود التربوي والثقافي العربي، ويرى أنَّ هذا النمط من التربية يؤدي إلى كارثة اللاعقلانية في التفكير العربي وينمي حالة التخلف الشاملة بكل دلالاتها ومعانيها في المجتمعات العربية، ويعبر عن تصوراته هذه في مقالة مهمة حول المعاناة اليومية للعقل العربي فيقول: “نحن لا نعاني من طريقة بعينها يسلكها العقل العربي.. لكننا نعاني من لا عقلانية هذا العقل … هذه اللاعقلانية تمتد من المدرسة إلى الجامعة.. حيث طرائق التدريس التلقينية المتهالكة.. وحيث الامتحان هو السلطان … والحفظ والاستظهار والتكرار هو الأسلوب … ذلك كله في غيبة المنهج النقدي … وفي غيبة الشكل العلمي.. وهكذا دواليك تسير الأمور في الجامعة حتى إنَّ الجامعات العربية استنسخت من كثير من أبنائها أساتذة بعيدين عن الأسلوب العلمي في التفكير وعن الالتزام بالمنطق ومشاكل الوطن، وكذلك بعيدين عن شجاعة الممارسة لحياتهم كأساتذة” (الشيخ، 1983).
وفي مداولة أخرى يشير سامح سعيد عبود إلى مخاطر التلقين في مؤسساتنا التربوية ويرسم لنا صورة مأساوية عما يجري في هذه المدارس فيقول:” في مدارسنا يدرسون للطلاب الكيمياء والفيزياء والرياضيات في شكل معادلات مطلسمة أي غير مفسرة لكي يحفظوها عن ظهر قلب، دون أنَّ يفهم الطلاب ما يحفظونه ودون أنَّ يسألوا عما يجب أنَّ يفهموه، وهو لماذا ترتبط مثلا الذرات وكيف؟ وما الذي يربطها ويفككها عن بعضها؟، وهل من ضرورة وراء هذا أم أنَّ الأمر متوقف على إرادة ما أو هدف معين؟ وهم لا يكترثون بذكر طاقة الترابط التي تلزم لأحداث الترابط بين الذرات أو التي تنتج عن تفككها ” (عبود، 2002). ومن ثم يحدد عبود الآثار المدمرة لهذه الطريقة على العقل والإنسان فيقول: ” يُترك الطلاب الذين لم يتعودوا لا على المناقشة أو الفهم أو النقد، ولم يتدربوا على ممارسة ملكات التحليل والتركيب والربط، وإنما يقتصر الأمر لديهم على التلقي والحفظ على غير فهم بلا ثقة غالباً فيما يحفظ، وبالتالي يسهل على عقليات غير نقدية تعودت على المصدر الواحد والرأي الواحد في كل شيء بما في ذلك المعرفة والعلم، أنَّ تفسر شتى الظواهر من حولها بشكل متعسف ومتعصب، وأن تصبح أسيرة التفسيرات الجاهزة مهما بلغت درجه سذاجتها، وأن تظل طيلة حياتها أسيرة ما هو شائع ومألوف من معتقدات وآراء، وأن يظل أصحابها سجناء ذواتهم ورغباتهم وعواطفهم، مذعورين من النظر خلف جدرانها المظلمة ” (عبود، 2002).
3- الدور الاستلابي للتلقين:
إنّ السؤال الذي يطرح نفسه في هذا المستوى من البحث هو: لماذا يحاول الطغاة تبديد القدرة العقلية عند الأجيال والطلبة؟ والإجابة، ولا شك، يسيرة؛ فالمجتمعات القائمة على أساس الاستبداد والاستغلال والتسلط تسعى إلى بناء الإنسان المستلب المدجن الذي قتلت فيه إمكانات النقد وحرية البحث والقدرة على التفكير والكشف، تسعى إلى بناء إنسان بمواصفات العبيد الذي يؤمنون بأهمية الحفاظ على امتيازات أسيادهم ويفاخرون بها.
لقد أعلن حكماء الإنسانية وفلاسفتها، على مرِّ الأزمان، أنَّ العقل والعبودية لا يجتمعان، وأن العقل توأم الحرية فحيثما ازدهرت ازدهر، وحيثما وجد العقل تألقت الحرية. ولذلك عرف جلادو التاريخ بنشوة الميل إلى اغتيال العقل الإنساني أينما وجدوه، وإلى استئصال شأفة التفكير في كل مكان وزمان. وعلى هذا الأساس يؤدي اغتيال العقل عند الأطفال، في صورة التلقين والتعليم البنكي، دور السادن الذي يسهر على توليد منطق العبودية في عقول الأطفال والناشئة. ومن هذا المنطلق “يشجع القاهرون مفهوم التعليم البنكي ويفرضون سيطرة أبوية على النظام الاجتماعي الذي يتلقى فيه المقهور تعليمه” (علي، 1995، 204).
والتلقين هنا بوصفه طريقة في العيش ومنهجا في التأمل وموقفا في الحياة يؤدي إلى التخلف في مختلف مظاهر الوجود والحياة، وهذا الربط العميق بين التخلف الثقافي والتلقين الترويضي يتجلى واضحاً في منظور فيليب كومز (Philip combs) الذي يقول “إن طرق التدريس المتبعة تعتمد أساسا على أسلوب التلقين من قبل المعلم، وإن شيوع مثل هذه الطريقة يمثل أحد الأسباب التي أدت إلى التخلف الثقافي للدول النامية، فالمعلم الذي يفضل مثل هذه الطريقة يلحق الأذى بطلابه ومريديه، ويبدو لنا أنّ السبب الذي يجعله يعتمد هذا النمط من التّعليم، هو أولا، وبكل بساطة الرّكون إلى ما اعتاد عليه، ولأنّه ثانيا يبدو أكثر سهولة في عملية ضبط التلاميذ والسيطرة عليهم، كما أنَّ الطالب يفضل مثل هذه الطريقة أيضًا لأنها اعتادها، ولأنها في الوقت نفسه تخفف عنه أعباء البحث والتعلم الذاتي” (كومز، 1971).
ومع أنَّ التلقين والتعليم التلقيني قديم قدم التاريخ كوسيلة في تطويع الشعوب وترويضها، فإنَّ هذا التلقين كان يشهد طفرات من التطور في أساليبه ومضامينه ومحتوياته الأيديولوجية. ويعد الشكل الذي تم تطويره على يد بيل لانكستر (Bill Lancaster) من أكثر الأشكال خطورة وفظاعة في قدرته على تجهيل الشعوب ووضعها في دائرة العبودية والقهر والاستلاب. وليس من المصادفة في شيء أنَّ يبدأ هذا المنهج في الهند في كنف شركة الهند الشرقية سنة 1795 علي يد الدكتور بل، ومن ثم في إنكلترا علي يد جوزيف لانكسر، وفي فرنسا في المدارس الصغيرة (petites écoles) وعلى يد البروفسور أندريه جندوره بين سنوات 1800-1835 ونجد وصفا دقيقا له في كتاب تيموثي ميشيل Timothy Michael)) عن الاستعمار الثقافي للهند ومصر وبقية المستعمرات، باعتماد هذا المنهج المطور والأكثر قدرة على تدمير العقول والاستلاب الثقافي للشعوب (ميشيل، 1990). وفي هذا الكتاب نجد إقرارا واضحاً بأنَّ الاستعمار البريطاني قد عمل، بعد الاستيلاء على أجساد المصريين والهنود، ومقدرات وجودهم بطريقة ممنهجة على امتلاك أرواحهم بإدخال منهج بل/لانكستر إلى كل منهما (النقيب، 1993، 9). وهذا يعني أنَّ الاستعمار اعتمد التلقين في الغزو الثقافي للبلدان التي استولى عليها، واعتمدت الحكومات الاستبدادية فيما بعد الاستقلال المنهج ذاته في تدمير البنية الثقافية لمجتمعاتها، وترسيخ الهيمنة السياسية وضمان الرضوخ الثقافي والأيديولوجي في مجتمعاتها. ويؤكد خلدون النقيب هذا التوجه الاستلابي للتربية العربية، فيقول في هذا الصدد: إنَّ المدرسة العربية تسعى إلى تلقين الطالب مبدأ الطاعة العمياء والمحافظة على قيم ومعايير المجتمع التي تحافظ على وضعية المجتمع الراهنة…. فجزء كبير مما يتعلمه الطالب ليس له علاقة بمحتويات الكتب والدروس، وإنما هو سعي لتلقين الطالب الطاعة، وجعل التلميذ يستهلك سلبيا كل التجهيزات القيمية والأيديولوجية التي يزخر بها أي مجتمع (النقيب، 1993، 70).
ونجد تأكيدا لهذا التصور فيما ذهب إليه عبد الهادي عبد الرحمن بقوله: “إن الوسائل التربوية المعتمدة في التربية العربية تشبه كثيرًا وسائل غسل الدماغ، أي إنها وسائل ترديدية تعتمد أساسا على حشو الرؤوس بمادة كثيفة ثقيلة تزرع زرعا في المخزون الذاكري لأطفالنا وتلاميذنا وطلابنا ” (عبد الرحمن، 1993، 16). ومما لا شك فيه أنَّ هذه المادة المكثفة تشكل المضمون الحيوي للسيطرة الثقافية والهيمنة على مقدرات الشعوب العربية بوضعها في دائرة الاغتراب والاستلاب في مختلف مستوياته وتجلياته. وهذا يعني أنَّ المدرسة العربية لا تعدو أنَّ تكون مؤسسة أيديولوجية تهدف إلى ترويض شعوبها وتطويعهم لإرادة النخب السياسية والاجتماعية القائمة. وهذا ما يؤكده الباحث القطري علي الكواري، إذ يقول منددا بالوظيفة الاستبدادية للتلقين في العالم العربي: “إن النظام التربوي لدول المنطقة يغرس ويؤكد روح الاستسلام والطاعة والسكوت عن الخطأ وتقبل كلّ الآراء دون اقتناع” (الكواري، 1985، 99). وباختصار شديد نقول مع رضا بأن: “النظم التربوية العربية التلقينية تسعى إلى الضبط الاجتماعي بدلا من تكريس الحرية المترتبة على المعرفة، وإلى توليد المسايرة والانصياع لمعايير الجماعة للمحافظة على الوضع القائم بدلا من زرع روح التمرد المبدع البناء” (النقيب، 1993، 68).
4- حضور التلقين في الجامعات العربية:
ليس على المرء أنَّ يبحث كثيرًا عن أدلّة تؤكّد حضور التلقين كمنهج للتجهيل في الجامعات العربية، ولئن كان التلقين في المدارس التعلمية ما قبل الجامعية خطيرا، فهو أكثر خطورة وأشد فتكا في الجامعات العربية. وليس من المبالغة القول بأنَّ التلقين في جامعاتنا يشكل ظاهرة خطيرة ومأساوية، فالجامعات العربية تكرس التلقين وتعزز التعليم البنكي، الذي عرفناه في المؤسسات المدرسية، ومن ثم تضفي عليه صبغة علمية، فتعمل على تجميله وترسيخه كمنهج أساسي في مختلف مناحي العمل العلمي والتربوي في الجامعة. ومن حيث المبدأ نقول بأنَّ جامعاتنا العربية تخلت عن دورها في البحث العلمي ووظفت نفسها في عملية التلقين والتدريس بالدرجة الأولى. وإذا كان التلقين في المدارس يتمّ وفق مناهج محددة وقواعد واضحة فإنَّ التلقين في الجامعات يأخذ طابعا حرا لا ضوابط له ولا حدود. وهذا يعني أنَّ التلقين الذي نراه في الجامعات أشد وأدهى بكثير من مثيله في المؤسسات المدرسية التي تخضع لإدارات وزارية يتم فيها ما يجب أنَّ يلقن ضمن حدود معلومة وقواعد مرسومة. في الجامعة ربما تكون السمة الأساسية للحرية الأكاديمية في حرية الأستاذ الجامعي بممارسة التلقين والترويض ضمن ضوابط التجهيل والتدمير الممنهج للعقل، وذلك في الوقت الذي يمنع فيه هذا الأستاذ الجامعي من أنَّ يمارس دورا تنويريًّا في الجامعة أو أنَّ يبدي مثل هذه التوجهات الثقافية التي تشكل خطراً على الأنظمة الاجتماعية القائمة. وتتويجا لإرادة التجهيل يمنح الأساتذة الحق بانتهاك حرية العقل والعقلانية في الجامعة. ومن ينظر في الحياة الجامعية سيرى أنَّ الجزء الأهم من وسائلها وطرقها التعليميّة هي المذكرات والمختصرات والامتحانات والحفظ والاعتباط الثقافي، والأستاذ الذي يملي نصوصه وأوامره على الطلبة الذين لا يسمح لهم أبدا بإبداء الرأي والخروج على مبدأ الطاعة المطلقة للأستاذ الجامعي.
وضمن هذا التصور يمكننا أنَّ نقول: إنَّ الجامعة، بوصفها حرم الحرية والضمير، قد تحولت في مجتمعاتنا إلى فضاء للتلقين والتجهيل، حيث يكون العلم حفظا، والمعرفة طاعة، والمنهج مذكرات، والنتيجة أمية ثقافية تطبق على العقل والقلب، ويتضاءل معها الضمير والوجدان، حيث يكون الحصول على الشهادة والدبلوم هو الغاية المطلقة الأولى والأخيرة للطلبة، وتكون وسيلتهم في تحقيق ذلك الحفظ والاستظهار والطاعة والإذعان لمذكرات فارغة من المعنى والدلالة.
ويمكننا القول، استنادا إلى تجربة شخصية في التعليم امتدت على مدار خمس وثلاثين سنة في جامعات عربيّة كثيرة: بأنَّ التلقين يشكل المنهج الأساسي الذي يعتمد في جامعاتنا العربية بلا منازع، وأن هذا التلقين هو أخطر بكثير من هذا الذي نراه في المدارس والمؤسسات التعليمية المختلفة ما قبل المرحلة الجامعية، لأنَّ التلقين في الجامعة ليس له ضوابط أو حدود، فالتلقين هو الحقل الذي يستطيع فيه الأستاذ الجامعي ممارسة هيمنته وإشباع غروره ونزعات التسلّط فيه. وغني عن البيان أنَّ التلقين يفرز مظاهر كثيرة تعززه ويعززها مثل الغش والخداع والجهل والفساد، فالتلقين لا يمكنه أنَّ يوجد دون مساندة من هذه الأمراض القاتلة في الجامعة. وقد لاحظنا، خلال تجربتنا المديدة في التعليم، أنَّ كثيرًا من الأسئلة الامتحانية التي تسمى “موضوعية” وتقتضي إجابة بالنفي أو التأكيد لا تحمل أي معنى، وليس فيها أي دلالة منطقية، ولا يمكن فهمها من قبل طالب أو أستاذ جامعي، وأجزم أنَّ واضعيها لا يفقهون ما تنطوي عليه هذه العبارات الامتحانية إلا بما تصوره لهم أوهامهم الخاصّة.
لن أسهب في سرد تجربتي الأكاديمية الشخصية، إذ تعضدها تجارب كثير من أساتذة الجامعات والأكاديميين الذي عرفوا بإنتاجهم العلمي وحضورهم الفكري في العالم العربي، وهم نخبة من المفكرين أسهموا أيّما إسهام في نقد الظَّاهرة الجامعية وتحليل مساراتها وإشكالياتها ونقائصها،
يقول شبل بدران وهو من الباحثين المخضرمين في مجال البحث العلمي في كتابه الموسوم (التعليم الجامعي وتحديات المستقبل): “يمكننا أنَّ نؤكد بدرجة عالية من الثقة أنَّ تعليمنا الجامعي يعيش في ثقافة الذاكرة ويكرسها ويدعمها، وتلك الثقافة تعتمد بالدرجة الأولى على مفاهيم مغلوطة عن الذكاء والقدرات العقلية، وتختزل التعليم في عمليات التذكر والاستذكار، وتلك العمليات ترتبط بالدرجة الأولى بنمط وأسلوب من التدريس هو التلقين، وكل من ثقافة الذاكرة وتقنية التلقين في غرس المعارف والعلوم في عقول شبابنا تكرس نمطا من التعليم الجامعي لا يسعى ولا يعرف طريق تغيير الواقع أو الاستجابة لمستجدات العصر على الصعيد السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي (بدران، 1999، 24).
وتتجلى أزمة الجامعة – كما يقول عمر كوش – في عدة ظواهر: “منها ما بات يُعرف بظاهرة سلطة المدرجات، حيث يقوم الأستاذ بجمع طلابه في المدرج، ويلقي عليهم محاضرته العصماء، غير القابلة للحوار والنقاش، ولا يتقبل ملقيها أي نقد أو اعتراض، ويمنع الأسئلة. وهذه السلطة تجعل المعرفة أحادية، ومنغلقة على صاحبها، وتقتل علاقة التفاعل بين الأستاذ والطالب، وتدعم نهج التلقين والقضاء على البحث والتقصي، وتحجم العلم والمعرفة، وتؤسس لسلطة أخرى هي سلطة المقرر الجامعي، حيث يتحول المقرر إلى أداة لتحجيم العلم والعقل العلمي، وتثبط من همة الأستاذ والطالب في الوقت نفسه، وتحدّ من قدراتهما. وفي أغلبية الكليات يتحول المقرر إلى ملخص هزيل، يباع في الأسواق، ويحبل بالسرقات العلمية ” (كوش، 2010).
هذه هي الحقيقة المرة التي يجب أنَّ نعترف بها وهي هيمنة التلقين بوصفها ممارسة ضد العقل والعقلانية في الجامعة وفي مؤسساتنا التعليمية بصورة شاملة، فالتعليم العربي في مختلف تكويناته الجامعية وما قبلها يعاني من وباء التلقين وتغييب العقل، وفي هذا المعنى يقول سروري “إن التعليم العربي وادٍ غير ذي زرع، ظلّ بناؤه التحتيّ ظلاميّاً كما هو، منذ عصر الانحطاط الذي ساد فيه فكرٌ سلفيٌّ أحاديّ الاتجاه في الثقافة العربية الإسلامية، أطاح بالتراث العقليّ لِلعصر الذهبي، لاسيَّما الفكر المعتزلي. لا يُعلّم الطالب النقد والرفض والتساؤل ومبادئ السببية والبرهنة، ولا يُنمّي فيه العقلية العلمية الصارمة المنتِجة. بالعكس من ذلك، يُعلّمه بامتياز كيف لا يفكر، كيف يلغي الإرادة والعقل، ويعيش حياة الاستهلاك والتقوقع!” (سروري، 2009).
ويصف مرسي موريس هذه الوضعية بقوله: إنَّ أكثر ما يضايق الأستاذ الجامعي هو نقد الطالب لمعلومة جاءت في كتابه؟!! وبدلاً من أنَّ يشجعه على النقد والتحليل كان يعاقبه على ذلك، ويمكن للطالب أنَّ يرسب في المقرر لمجرد أنه عارض الأستاذ الجامعي في معلومة خاطئة؟ (موريس، 2019).
ومن الأردن يحيل الطراونة، ضعف جودة التعليم الجامعي في الجامعات العربية وضعف مخرجاتها إلى ممارسة الأستاذ الجامعي للتلقين المدمر للعملية التربوية. يقول الطراونة في هذا السياق: إنَّ اعتماد منهجية التلقين في الجامعات، وعدم تشجيع الإبداع والابتكار، هو الأمر الذي يحوّل الطالب إلى متلقٍ، ويجعله غريباً عن أي تفاعل أو إيجابية. كما أشار إلى أنَّ دول العالم العربي تهتم بتخريج معلمين أكثر من تخريج مفكرين وباحثين، والجامعات لا تؤدي دورها الأساسي كمنصة لتزاوج الأفكار، إذ تركز على التلقين في مسار فعالياتها الأكاديمية (محرر البيان، 2015).
ويعبر السيد يسين عن هذا الحضور المكثف للتلقين في الأكاديميات العربية بقوله: ” النظام التعليمي العربي يقوم على التلقين، ولا يقوم على ما أسميه العقل النقدي، وهذا جزء من مشكلتنا الحقيقية في الوطن العربي، وهذا ما يسهل على عدد كبير من المتعلمين الجامعيين الانخراط في جماعات إسلامية يقودهم أميون وجهلة. بحيث إنك تجد مهندسا أو طبيبا يقوده نجار أو حداد جاهل لا يجيد قراءة آية قرآنية باللغة السليمة، ويجري وراءه. والسؤال كيف دخل مثل هذا الخريج الجامعة وكيف تخرج منها؟ فالجامعة يفترض بها أنَّ تعمل على تكوين العقل النقدي حتى يكون الاختيار رشيدا وبصيرا. وهذه مشكلة من المشكلات الحقيقية” (يسين، 1998، 446).
ويرى الباحث الأردني سورطي: “أن أسلوب المحاضرة الذي يقوم على التلقين يكاد يكون هو النمط التدريسي الوحيد المتبع في غالبية جامعاتنا العربية، ولذلك أصبح كثير من الطلاب الجامعيين العرب يجنحون إلى الاعتماد على الذاكرة في دراستهم، ويميلون إلى تقبل ما يتلقونه أو يقرؤونه في الكتب دون نقد أو تحليل أو تمحيص، وتحول التعليم الجامعي بشكل عام إلى مجرد استذكار وحفظ وتكرار آلي للحقائق المحفوظة بدلا من أنَّ يكون أداة لتنمية الذكاء والتفكير العلمي” (سورطي، 1998، 239).
ويؤكد الكاتب والباحث ماجد مغامس على الحضور المؤلم للتلقين في الجامعات العربية فيقول: ” بنظرة شمولية لوضع التعليم الجامعي لدينا نجد أننا ما زلنا نقبع خلف قضبان سجن نظام التعليم البنكي الذي هجره العالم منذ أكثر من أربعين عاما! (مغامس، 2015). ويلفت مغامس النظر إلى هيمنة التلقين بين أساتذة الجامعات وهو النظام التقليدي البالي الذي وصفه (فرايري) بنظام العصور الوسطى. فيقول: “من أهم ما يؤمن به الأستاذ التقليدي كجزء من هويته هو سلطته المطلقة على الطالب، ولأن النظام التعليمي الجامعي في أية ثقافة يؤثر ويتأثر بتلك الثقافة، نجد أنَّ هذه السلطوية تمثل انعكاسا لثقافة حب السلطة المسيطرة على فكرنا. من هنا يأتي الأستاذ الجامعي ليقدم نفسه للطالب على أنه السلطة التي لا تجادل ولا تناقش أكاديميا وشخصيا. تلك الصورة التي تجعل الأستاذ يظهر بصوره تتعدى حاجز طبيعته البشرية ليغدو وكأنه قادم من كوكب آخر” (مغامس، 2015).
ويصف مغامس الغرور الأكاديمي لأساتذة الجامعات وهو نوع من الغرور المعرفي الذي يدفع الأستاذ الجامعي إلى الاعتقاد الوهمي بأنه كلي المعرفة في مجاله “فلا تفوته فائتة من قبل ومن بعد، ولا يعتريه الخطأ في أي معلومة يقدمها ولا تأتيه سنة من نسيان، والأخطر من ذلك اعتقاد الأستاذ الجامعي بفوقيته على الطلبة، فيرفض أي رأي علمي أو فكري يخالف رأيه، ويعتبر ذلك تحديا ومن ثم يواجه ذلك بشتى طرق إطباق فم الطالب” (مغامس، 2015).
ويختتم مغامس رأيه بإدانة التلقين الجامعي والتسلط الجاهل لأستاذ الجامعة ومخاطر هذا التلقين بقوله: “أعتقد أنه قد حان الوقت لنمارس نحن أساتذة الجامعات نوعا من جلد الذات البناء. فنحن لا نقدم علماً فقط. نحن نقدم أنموذجا للطالب يحتذيه في شتى مناحي حياته. من هنا، إذا استمرت عقلية العصور الوسطى في أسلوبنا التعليمي فلا يجب أنَّ نتوقع حدوث التغيير الذي نأمله لا على مستوى الجامعة ولا المجتمع” (مغامس، 2015).
5- دورة التلقين الكبرى للأستاذ الجامعي:
لا يمكن للجامعة أنَّ تنفصل عن أرومتها الثقافية والاجتماعية، ولا يمكن للجامعة أنَّ تتحول إلى أبراج عاجية كما يرى بعض الباحثين بعيدا عما يجري في مجتمعاتها، فالجامعات متأصلة الوجود في المجتمع الذي يكتنفها والثقافة التي تحتضنها، وهي، مع أهمية دورها التنويريّ، لا يمكنها إلا أنَّ تكون نتاجا للمجتمع الذي تحيا فيه ويحيا في أعماقها. فالجامعة مؤسسة تنتمي بالأصالة إلى أهلها، وقد تكون أكثر المؤسسات العلمية إنتاجا للثقافة المجتمعية السائدة، إذ تعمل على إنتاج وإعادة إنتاج الثقافة الاجتماعية التي تحيط بها، فالأساتذة والطلبة والعاملون في الجامعة ينتسبون إلى مجتمعهم ويعبرون عن ثقافته، ويحملون في وعيهم وفي عقولهم البطينة الغامضة – أي في اللاشعور الجمعي والفردي- منظومة القيم الثقافية والمعايير الأخلاقية وهم بالتالي يستبطنون أعمق دلالات هذه الثقافة وأكثرها تأثيرا في حياة الفرد والجماعة. وفوق ذلك كله يحملون إرث المدارس التي تكفلت بتدمير عقولهم وتحويلهم إلى كائنات مطواع خارج نطاق القدرة على الاستبطان النقدي للوجود الإنساني والأخلاقي.
وتأسيسا على هذا التفاعل بين الفرد والثقافة، بين الفرد والمؤسسات التعليمية، يشكل التلقين التربوي بدورته المستمرة من مرحلة الطفولة إلى المراحل التعليمية الجامعية العليا المنهجية الأساسية التي تعتمد في تعليم الأجيال. وهذه المنهجية، كما سبق أنَّ أكّدنا، تؤدي إلى توليد الجهالة الثقافية في الجامعة التي تواكب هذا التوجه وتعتمد التلقين الاغترابي والاستلابي في مناهجها وأساليب عملها، وهذا التلقين نفسه يشكل المدخل الأساسي الذي يؤدي إلى الأميَّة الأكاديمية في الجامعات والمؤسسات التعليمية العليا. فالتلقين – كما أشرنا في مقدمة هذا البحث – هو سبب في الأميَّة الثقافية ونتيجة لها. فالأستاذ الجامعي لا يمكنه أنَّ ينفصل عن الدورة المستمرة لتاريخه التربوي وعن بيئته الثقافية المتجذرة في أعماقه، فالفرد يستبطن بقوة المنظومة الثقافية الذهنية السائدة في المجتمع ويعيد إنتاجها. وهذا يعني أنَّ كل فرد في المجتمع لا يمكن أنَّ يكون في جوهره إلا نتاجا ثقافيًّا وذهنيا للثقافة التي نشأ فيها والقيم التي تشكل أخلاقيا واجتماعيا بموجبها.
ومن المهمّ أنَّ ننظر إلى الدورة الثقافية التربوية العامة التي تشكلت فيها شخصية الأستاذ الجامعي أو أي شخص آخر. فالأستاذ الجامعي وليد البيئة المحملة بأثقال الثقافة الاغترابية منذ مرحلة الطفولة حتى مرحلة الانتهاء من الدراسات الجامعية. وإذا كان الأستاذ الجامعي نفسه قد نشأ في أسرة تعتمد التلقين والتطويع والترويض منهجا في التربية، وتعلم في مدرسة قد أبدعت في تدمير العقل والعقلانية وتجهيل التلاميذ بالتلقين والترويض، وإذ كان قد عاش في مجتمع تنحو فيه أغلب المؤسسات الفاعلة نحوا اغترابيا، وتعمل على تلقين الفرد واستلابه وتفريغه من الطاقة النقدية، سواء في المدارس الابتدائية والإعدادية والثانوية أو في المعسكرات والإعلام وفي الجامعات والمؤسسات الأكاديمية، فما الذي ننتظره من هذا الأستاذ الجامعي الذي يفترض أنَّ يكون مدججا بالعلم والثقافة والمعرفة؟ هل يمكن لمثل هذا الأستاذ الجامعي الذي تفوق في دراسته بالتلقين والحفظ وحصد أعلى الشهادات العلمية بالاعتماد على الذاكرة والتلقين، هل يمكن له أنَّ يكون مبدعا خلاقا وفاعلا في المستوى الثقافي والفكري؟ أم أنه سيكون بالضرورة منتجا للتلقين، بما ينطوي عليه هذا التلقين من جهالة وتجهيل؟
قد يرى بعضهم فيما ذهبنا إليه ضربا من جعل الأستاذ الجامعي خاضعا إلى نوع من الحتمية السوسيولوجية، وبناء على ذلك لا يوجد هناك مجال أبدا لوجود الأستاذ الجامعي المبدع الخلاق والفاعل في مصير أمته ومجتمعه! والإجابة أنَّ هذا التعميم يشمل النسب العالية من خريجي الجامعة وأساتذتها بفعل عوامل موضوعية متعددة وكثيرة، مثل داء التلقين والتطبيع والترويض في أغلب مؤسسات التنشئة الاجتماعيّة المختلفة. ومن البداهة القول إنّ هذا الحكم لا ينسحب على بعض النخب التي تنفلت من عقال هذا التعميم الخطير لأسباب عديدة يفرضها الواقع، فهناك دائما استثناءات وطفرات أشبه بالنّبت البري العنيد في الصحاري القاحلة. نعم هناك نخب متميزة لكنها محدودة جدا. وهذا رهين بعدد من المتغيرات الموضوعية التي تمكن بعض النخب من تسنم معارج العلم والثقافة. ولكن في المنظور العام وضمن الإحصائيات السائدة، فإنَّ عدد العلماء العرب المميزين قليل جداً بالمقاييس العالمية، ومدى ضلوع أساتذة الجامعة في مجال الإبداع الفكري محدود جداً بالقياس إلى الإبداع الفكري الذي نشهده في الجامعات العريقة المتقدمة. وسنحاول في هذا الكتاب أنَّ نبرهن على هذه الرؤية من حيث تخلف النخب الأكاديمية عن ركب الإبداع العلمي وسقوطها بين مخالب الأميَّة الأكاديمية المحكومة بعدة عناصر ومتغيرات ثقيلة الوزن في تأثيرها القطعي. نعم، هناك نخب نادرة بالمعنى الدقيق للكلمة، وكنتيجة طبيعية لندرتها فإنها لم تستطع أنَّ تشكل قوة حضارية ثقافية في مجتمعاتها، فالقليل من المثقفين الأكاديميين استطاعوا أنَّ ينتزعوا أنفسهم من الاختناق الحضاري لجامعاتهم بأدوائها وأمراضها، فخرجوا إلى عالم النور والتنوير. وقد يكون الحوار التاريخي الشهير الذي جرى بين الإمام محمد عبده والشيخ محمد البحيري عضو مجلس إدارة الأزهر حول تدريس العلوم الحديثة في جامعة الأزهر شاهدا صارخا لتوضيح مآل هذه الرؤية التي صبّ فيها الإمام المتنور جام غضبه على التعليم التلقيني في الأزهر:
– “الشيخ البحيري: إننا نعلّم طلاب الأزهر كما تعلّمنا.
– الشيخ محمد عبده: وهذا الذي أخاف منه.
– البحيري: ألم تتعلم أنت في الأزهر وقد بلغت ما بلغت من مراقي العلم وصرت فيه العلم الفرد؟
– الشيخ محمد عبده: إنَّ كان لي حظ من العلم الصحيح الذي تذكر، فإني لم أحصّله إلا بعد أنَّ مكثت عشر سنين أكنس من دماغي ما علق فيه من وساخة الأزهر وهو الآن لم يبلغ ما أريد له من النظافة“(عبده، 1993، 194).
وكما يبدو من الحوار أعلاه فإنَّ محمد عبده رائد الإصلاح والتنوير لم يستطع أنَّ يكون على هذه الدرجة من العلم والتنوير لو لم يستطع أنَّ يخرج من عباءة الأزهر القائمة على التلقين والترديد ويحطم هذه التقاليد المدمرة للعقل والعلم. فكيف بالأستاذ الجامعي اليوم الذي لم يستطع أنَّ ينتزع من نفسه أمراض التعليم التلقيني من المهد إلى اللحد.
وكثير من المفكرين المبدعين يرون أنَّ عوامل نجاحهم الفكري لم تكن في مثل هذه الجامعات التي تقوم على التسلط والترهيب والتلقين، فكثير منهم تعلم بطاقته الذاتية وقدرته على تثقيف مواهبه وتطلعاته الفكرية. وفي هذا يقول الكاتب الإيرلندي المعروف جورج مور (George Edward Moore) قوله المشهور: “إنني لم التحق بجامعة أوكسفورد ولا بجامعة كمبردج ولكنني التحقت بمقهى أثينا الجديدة، فمن أراد أنَّ يعرف شيئا عن حياتي ينبغي أنَّ يعرف شيئا عن أكاديمية الفنون الرفيعة هذه لا تلك الأكاديمية الرسمية الغبية التي تقرأ عنها في الصحف”، ويبدو أنَّ مور يصف بعضًا من هذه الجامعات بالجامعات الغبية نظرا لما تعانيه من آفات التلقين والترويض في التربية والتعليم.
كثير من الأساتذة الجامعيين تخرجوا في مدارس وجامعات تقليدية متهالكة مفككة، تعتمد التلقين والتسلط والجمود المعرفي، وقد تلقوا علومهم وفق مناهج وطرائق أكاديمية لا تختلف عن هذه التي عرفناها في القرون الوسطى. وبعبارة أدق، لقد تخرجوا في جامعات تملي عليهم حفظ المذكرات والمختصرات، ثم مكنتهم من منهجية النسخ والنقل ورسخت فيهم العداوة لكل ما هو نقدي وجديد ومبتكر وإبداعي وأصيل. لذا تجدهم يعانون من الهشاشة والسطحية في تكوينهم المعرفي والأكاديمي، وهم يحملون في رؤوسهم معارف مغلقة وتلقينات قديمة خاطئة، ولا يحملون في ذواتهم أي قدرة على التفكير النقدي أو التأمل المنهجي في مجالات اختصاصاتهم، وكيف لهم أنَّ يكونوا قادرين على تطوير الطلبة والأخذ بيدهم، وهم عاجزون حتّى عن تطوير أنفسهم، وكيف يكون ذلك وهم يعانون من كارثة الأميَّة والجمود الذهني والانغلاق المعرفي؟
ويعلل الباحث العراقي معن خليل العمر وضعية التلقين في الجامعة والمجتمع، ويرى أنَّ التلقين هو نتاج طبيعي لغياب الأجواء العلمية في الجامعة. وينطلق من هذه الرؤية ليعلن بأنَّ معلوماتنا العربية هي كارتونية –إعلامية تسطح الثقافة عند طلبتها ولا تغرس فيهم روح التفكير بل تكرس عندهم آلية التحفيظ والترديد عن غيب، فلا تسمح لهم بالتفكير واستخدام عقولهم للاستنتاج والاستدلال. والأدهى من كلّ ذلك، كما يقول العمر، أنّ “ هذا العمل الذي يقوم به أصحاب الشهادات العليا والألقاب العلمية الرفيعة إنما يوضح لنا بأنَّ هؤلاء المسؤولين من أصحاب الشهادات الرفيعة والألقاب العلمية الراقية وصلوا إلى ما وصلوا إليه بنفس الأسلوب الذي يقومون به، أي إنهم يكررون ما قد تعلموه، وهذه أكبر كارثة تفرضها المؤسسات الجامعية في الوطن العربي “(العمر، 2009، 167).
ويعدّ التلقين أحد أبرز مؤشرات الأميَّة الثقافية والتربوية في الجامعة، فاعتماد التلقين من قبل الأستاذ الجامعي يعني بالضرورة نقصا كبيرا في الشرط الثقافي للأستاذ الجامعي، لأنَّ الثقافة نقد وتفكير وتحليل وتفكيك وتأمل. والتلقين حفظ واستظهار وتسلط، وهو ستار يغطي به الأستاذ الجامعي عورته الثقافية. فالتلقين يعني عدم القدرة على الحوار والتفكير والتأمل، ونقص علميّ فاضح ينال من كفاءة الأستاذ الجامعي ومن جدارته بهذا اللقب. وأعني “بالتلقين أنَّ يُمسِك الأستاذ بكتابٍ في المادة التي يُلقيها فيقرأ منه بتؤدة ورويّة والطلاب يكتبون. وهذا كلّ ما في الأمر. وما على الطالب في نهاية السنة إلاّ أنَّ يُعيد ما لُقِّن بالطريقة التي يختارها: أنَّ يحفظ حفظاً أصمَّ لا يفهم منه شيئاً، أو أنَّ يغش” (الأعرجي، 2003، 364).
ويتحدث أحد الكتاب العرب عن ظاهرة الأكاديمي الملقن، ويميز بينه وبين الأكاديمي العارف فيقول: “إن الأكاديمي الملقن الذي هو أشبه بخزان معلومات، فهو كالتقنيّ، لا يحوّل معرفته إلى أساس لقول جديد. هذا التقنيّ الأكاديميّ، رغم ضرورة وجوده في الجامعة، لكنّه ليس ابناً للحياة، فيما الأكاديمي الذي يملك المعرفة، ويستطيع أنَّ يجعل من المعرفة أساساً لقول جديد: قول في العالم المعيش، هو الذي ينتمي إلى الحياة امتثالاً لحاجة الحياة، وأنا هنا أستخدم مفهوم الحياة بالمعنى الشامل للكلمة: بالمعنى السياسيّ والفكري والمجتمعي والشعري والأدبي والمستقبلي والمشروع. وهذا هو الذي يساعد في تحقيق الأكاديمي معادلة الأكاديميّ والمثقف معاً، فالأكاديمي الذي يبقى داخل أسوار الجامعة، ولا يقدّم للحياة، بالمعنى الذي أشرت إليه، لا ينتمي إلى صنف المثقفين” (برقاوي، 2018).
فالأستاذ الجامعي لا يولد جاهلا أو أميا لكنه محكوم بمنظومة من المتغيرات والظروف التي تدفعه إلى هذا المقام السلبي في الحياة الفكرية والعلمية. وسنعتمد في دراستنا هذه على شهادات إمبيريقية نشطة علميا وأكاديميا في استقراء هذا التصور الافتراضي حول أمية الأكاديمي كمنتج للتعليم التلقيني في دورته الكبرى، بدءا من الأسرة حتى الحصول على شهادة الدكتوراه، وانتهاء بالممارسة المهنية للعمل الأكاديمي في الجامعات العربية. وفي هذا الفصل علينا أنَّ نقرّ ونعترف بأنَّ التلقين يشكل سمة أساسية في التعليم الجامعي والعالي في العالم العربي، وهذا يفسر جانبا كبيرا من جوانب توليد الجهل والأمية الأكاديمية بين صفوف العاملين في الأكاديميات العربية.
والتلقين في كل الأحوال يمثل حالة ضعف ثقافي ومعرفي كبير عند الأستاذ الجامعي الذي يوظفه في أدائه الأكاديمي، فالأستاذ يلجأ إلى التلقين لأنه اعتاد عليه وتشكل في بوتقته بداية، ولأنه لا يمتلك أفقا معرفيا يمكنه من التفاعل المعرفي الحرّ مع الطلبة. لأنَّ التعليم القائم على التفكير والاستجواب الحر قد يكشف ضعف المدرس ثقافيًّا وعلميا أمام طلبته، ويفضح ضعفه اللامتناهي في مجال الفكر والمعرفة، والتلقين بالتالي هو الوسيلة الأنجع التي يعتمدها الأستاذ الجامعي للتغطية على ضعفه ووهنه الثقافي والمعرفي. فالتلقين وسيلة بسيطة تمنح المعلم أو الأستاذ الجامعي سلطة مطلقة نهائية يستطيع بموجبها أنَّ يقوم بتوزيع النصوص، وتوجيه الأوامر إلى طلبته بحفظها واستظهارها دون أي اعتراض، وهذا يعفي المدرس من مغبة الحوار والمناقشة المفتوحة مع الطلبة اللّذين يمكنان الطالب من الخوض في الأصول الفلسفية للمعرفة.
وتبين التجارب التربوية أنَّ الأستاذ الجامعي المتمكن معرفيا وثقافيا لا يلجأ أبدا إلى التلقين بل يسعى، على خلاف ذلك، إلى اعتماد الأساليب الاستبصارية الحوارية والنقدية في التفاعل العلمي مع الطلبة، ويجدها طريقة شفافة جميلة ماتعة. كما يجد في هذا الأسلوب النقدي الحواري وسيلة لتطوير الطلبة معرفيا وثقافيا ومنهجيا. وهو، يجد أنَّ المنهج الاستبصاري الحواري مع الطلبة يساعده أيضًا في تطوير نفسه فكريا وفلسفيا. فعندما يعتمد الأستاذ الجامعي الحوار النقدي مع الطلبة تتفجر ينابيع المعرفة لديه ولديهم، ويُقبل الطلبة بشوق وفعالية على التعليم والاكتساب، لأنَّ الأساليب الحوارية الاستبصارية النقدية تجعل الطالب يعيش حالة نشوة علمية عارمة. ومن المؤكد أنَّ هذه الأساليب الاستبصارية البنائية، تحتاج إلى أستاذ متمكن من اختصاصه أولا، ومتبحر في الممارسة الثقافية ثانيا. وهذا النمط من المدرسين قليل جداً في مؤسساتنا التعليمية. وهذا يعود إلى أسباب كثيرة منها التكوين البيداغوجي للأستاذ الجامعي، الذي اعتمد في الأصل على التلقين في مراحل مختلفة من مراحل إعداده وتعليمه.
6- الخاتمة
جاء في الأثر أنَّ المعلمين أربعة لا خامس لهم: المعلم العادي الذي يعلم ويلقن، والمعلم الجيد الذي يفسر ويشرح، والمعلم المتميز الذي يشرح بالأدلة والبراهين، والمعلم العظيم الذي يلهم طلبته فيقوم بعملية التنوير وتفجير الطاقات الذهنية والعقلية عندهم. وكم هو مؤسف القول بأنَّ معظم أساتذة الجامعات العربية اليوم ينتمون إلى الصنف الأول. وسنستعرض، في الفصول المقبلة من هذا الكتاب، ما يؤكد هذه الحقيقة في الشهادات الميدانية لعدد كبير من أساتذة الجامعة العرب
ومن نافلة القول أنّنا اليوم بحاجة ملحّة إلى الصنف الذي يلهم طلبته وينورهم ويأخذ بأيديهم إلى غاية العلم الحقيقية، وإلى السدرة العالية للثقافة والمعرفة النقدية. فالمعلم بصيغته الأولى يجهل الأجيال ويضخّم الجهل وينشره دون وعي منه غالبا، فهو، نظرا لانعدام كفاءته النّقديّة، لا يدرك ما يفعل، ولا يعدو أنَّ يكون واحدا من القطيع الذي لا يعرف إلى أين هو ذاهب، ولا خطورة ما يفعله. ومثل هذا الأستاذ لا يمثل أكثر من منتوج لعملية التلقين ودورة التجهيل التي تشكل في مطاحنها ليكون الخلية التي يجد فيها الجهل غايته حتّى يستمرّ في دورته اللامتناهية. وكم نحن اليوم بحاجة إلى الأكاديمي المثقف، الذي ينور ويحلل ويفسر، ويدفع طلبته إلى الاتحاد التنويري مع المعرفة والثقافة والعلم في مواجهة هذا التردي في مستنقعات الجهل والتلقين.
فالتلقين – كما أشرنا – ليس مفردة بسيطة، أو بذرة هائمة تنتج جهلا بحكم قوانين المصادفة، بل هو بيئة خصبة حاضنة للجهل، فيها ينمو ويترعرع ـ ويجد غايته، وهذا يعني أنَّ التلقين هو تعبير عن نظام فكري أيديولوجي قد تمت تهيئته ورعايته من قبل السدنة القائمين على الأمر والنهي في المجتمع، ليتم لهم إخضاع المجتمع لسطوتهم وسيطرتهم. فالتلقين هو المدخل إلى الأميَّة والتجهيل وصناعة التفاهة في مجتمعاتنا.
إن التلقين هو واحد من المتغيرات والعوامل التي تتداخل لتشكل قوة ضاربة وحتمية اجتماعية في نشر الأميَّة الأكاديمية والجهل في المجتمع، وما هو في النهاية إلا محور من محاور الدورة الكبرى في صناعة الجهل وتسييد الأميَّة الأكاديمية والمجتمعية. فالجامعة بكل ما فيها من عوامل ومتغيرات تشكل الحاضن الأكبر لحضور التلقين والتسلط والفساد الأكاديمي الذي يؤدي إلى تهاوي المجتمع وسقوطه.
ومن المؤسف القول إنَّ حياتنا الجامعية لا تحتمل اليوم أكاديمياً متنورا مثقفاً يجيد الحوار ويمتلك القدرة على التنوير ويشارك طلبته في الهم المعرفي والفلسفي، الأستاذ المثقَّف البارع في اختصاصه، الأستاذ الذي نذر نفسه للمعرفة والتساؤل المعرفي، الأستاذ الذي يستنير بالمناهج الفلسفية والمعرفية الكبرى، لأنَّ أمثالهم يشكلون خطراً على الأنظمة الاجتماعية القائمة. وكم نحن اليوم في أمس الحاجة إلى المثقَّف الأكاديمي لا إلى الأكاديمي الملقن الذي يستظل بأسوار الجامعة ويحتمي بحصونها بعيدا عن الحاضن الفكري والثقافي القائم على هواجس الفكر النقدي. فهناك اليوم “فرق كبير بين أكاديميي التذكر وأكاديميي الإبداع؛ فأكاديميّو التذكّر ليسوا سوى حفظة لمعرفة كانوا تعرفوا عليها دراسةً، ثمّ راحوا يتذكرونها لتقديمها إلى الطلاب، حتى كتبهم لم تكن سوى تذكّر وإحالات، بعضها بين قوسين وبعضها بلا أقواس، وهذا ما أطلقت العرب عليه مصطلح “التقميش” (برقاوي، 2018). أمّا “الأكاديمي المبدع؛ فهو الذي ينتج المعرفة استناداً إلى مبدأ القطيعة، إنّه الذي يقرأ وينسى ليجدّد، وبئس جامعة لا تهب لصاحبها أجنحة للطيران خارج أسوارها، فحياتنا تحتاج إلى الأكاديمي المثقف، لا إلى الأكاديمي الصنم” (برقاوي، 2018).
وتأسيسا على ما تقدّم من حقائق مريرة تتعلّق بانتشار التلقين بين مدرسي الجامعة لا نستطيع أنَّ نتحدث عن الأستاذ الجامعي المثقَّف المبدع، إذ لا يمكن لأي مثقف وإن لم يكن جامعيًّا أنَّ يمارس التلقين لأنَّ هذه الممارسة تخرج المدرس أيا كانت صفته من دائرة الثقافة ومعناها الإنساني العميق، أي بوصفها نوعا من التفاعل النقدي بين الإنسان والعالم الذي يعيش فيه.
فالحرية ” ليست شيئا إضافيا يودع في عقول المواطنين بل هي ممارسة أو استجابة واعية نحو العالم، ولذلك فإنَّ هؤلاء الذين يستهدفون تحرير الإنسان حقا لا يمكنهم أنَّ يقبلوا المنهج الآلي (البنكي أو التلقيني) الذي يحول الإنسان إلى إناء يتوجب ملؤه، بل يعملون على تحويل التعليم إلى أداة لتحرير الإنسان من خلال توجيه هذا التعليم نحو مشكلات المتعلمين وتبني منهج الحوار والتغذية الراجعة وأساليب الديمقراطية في العملية التربوية” (علي، 1995، 216).
ومن المؤكد أنَّ النظام القائم على التلقين يروض، ولكنه لا يهذب ولا يربي (عبد الدايم،1978، 529). “فالترويض هو تقنية تكافئ فعل التربية في عالم الحيوانات، ولكن هذه التقنية يمكن أنَّ تمارس على الإنسان، ويحدث الترويض عندما يتم تطويع الأفراد، عبر أواليات التهديد والمكافأة، على تنفيذ ما يطلب منهم وما ينتظر، بصورة عفوية وآلية”(عبد الدايم،1978، 529).
إن هذه الأسباب غير كافية لجعل بعض المدارس والجامعات مراكز للتلقين والترويض والإخضاع وإكساب السلبية واللامبالاة والخنوع، ولذلك أصبحت بعض مؤسساتنا التعليمية معرضة للتسلط، حيث يسودها الطابع الاستبدادي إلى حد كبير، فلا يعرف طلبتها الحرية والشورى بل يمارسون الطاعة والخضوع والاستبداد، وأصبح دورهم الرئيسي التقبل السلبي والانقياد، فتعليمنا بشكل عام لا يبنى على مطالب البحث والتنقيب والاكتشاف وإنما يعتمد غالباً على الاستقبال القائم على الخضوع والتنفيذ الآلي (عبد الموجود، 1981).
وختاما نخلص إلى القول: إنه لا أمل كبير في الجامعات القائمة على التلقين وثقافة النقل والاجترار، وثقافة الإيداع لا الإبداع والحوار ” إنَّ التحصين الداخلي للمتعلم لا يكون إلا بترسيخ التفكير الناقد وتأصيل التفكير الحر في مختلف مستويات التعليم ومراحله المختلفة، ولا يكون إلا من خلال العمل على بناء ثقافة السؤال، ومنهج الحوار والنقد والتحليل والكشف الإبداعي ” (عبد الحميد، 2004).
مراجع البحث :
الأعرجي، محمد حسين (2003). في الأدب وما إليه، دمشق: المدى، 2003.
بدران، شبل (1999). التعليم الجامعي وتحديات المستقبل، الهلال، يناير.
بدوي، عبد الرحمن (1980). فلسفة الدين والتربية عند كنت، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
برقاوي، أحمد (2018). الحاجة إلى الأكاديمي المثقف، لا إلى الأكاديمي الصنم!، حفريات، 2018-01-31. https://www.hafryat.com/en/node/1083
جلال، سعد الدين (1985). الأسرة والمجتمع والإبداع في الوطن العربي، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ندوة تهيئة الإنسان العربي للعطاء العلمي.
ربول، أوليفيه (1986). فلسفة التربية، ترجمة جهاد نعمان، بيروت: عويدات.
رضا، محمد جواد (1987). الطفل من الفردانية إلى الشخصانية، الجمعية الكويتية لتقدم الطفولة العربية، الأطفال العرب ومعوقات التنشئة السوية، الكتاب السنوي الرابع، 1986 _ 1987.
رضا، محمد جواد (1991). أزمات الحقيقة والحرّيّة والضرورة، الجمعية الكويتية لتقدم الطفولة العربية، سلسلة الدراسات العلمية والموسمية المتخصصة، العدد 22، يناير، الكويت.
سروري، حبيب عبد الرب (2009). اللغة العربية اللغةُ العربية في مهبِّ العولمة.. مشروع إنهاض
سورطي، يزيد عيسى (1998). السلطوية في التربية العربية المظاهر والأسباب والنتائج، المجلة التربوية، العدد47، المجلد12، الكويت.
شرابي، هشام (1991). مقدمات لدراسة المجتمع العربي، بيروت: دار الطليعة.
الشيخ، محمد رؤوف حامد فتح الله (1983). المعاناة اليومية للعقل العربي، المعرفة السورية، السنة 22، العدد 258، آب/ أغسطس.
عبد الحميد، طلعت (2004) تربية العولمة: وتحديث المجتمع، القاهرة: دار فرحة.
عبد الدايم، عبد الله (1978). التربية عبر التاريخ، دار العلم للملايين، بيروت.
عبد الدايم، عبد الله (2000). نحو فلسفة تربوية عربية، الفلسفة التربوية ومستقبل الوطن العربي، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.
عبد الرحمن، عبد الهادي (1993). الذهنية العربية: منظور لغوي، دراسات عربية، العدد 3/4 كانون الثاني /شباط.
عبد الموجود، محمد عزت (1981). أساسيات المنهج وتنظيماته، القاهرة: دار الثقافة.
عبده، محمد (1993). الأعمال الكاملة، تحقيق محمد عمارة، الجزء 3، القاهرة: دار الشروق.
عبود، سامح سعيد (2002). تقدم علمي تأخر فكري: فيض المعرفة اللامتناهي، الحوار المتمدن-العدد: 331، 8/12/2002، شوهد 15/2/2020: http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=4261&r=0
علي، سعيد إسماعيل (1995). فلسفات تربوية، عالم المعرفة، العدد 198، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، يونيو/حزيران.
العمر، معن خليل (2009). علم اجتماع المثقفين، دار الشروق للنشر والتوزيع، ط 1، عمان، الأردن.
فرايري، باولو (1980). تعليم المقهورين، ترجمة يوسف نور عوض، بيروت: دار القلم.
فيلو، جان كلود (1996). اللاشعور، ترجمة على وطفة، دمشق: دار معد.
الكواري، علي خليفة (1985). نحو استراتيجية بديلة للتنمية الاجتماعية، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.
كوش، عمر (2010). تراجع الجامعات العربية.. الأسباب متعددة والحلول معلومة!، مجلة الاقتصادية، الجمعة 25 يونيو 2010. http://www.aleqt.com/2010/06/25/article_411132.html
كومز، فيليب (1971). أزمة التعليم في عالمنا المعاصر، ترجمة أحمد خيري كاظم وخالد عبد الحميد، القاهرة، دار النهضة.
محرر البيان (2015). التلقين منهجية طغت في الجامعات العربية فقتلت الابتكار والإبداع، البيان، استطلاع الرأي، التاريخ: 02 أبريل 2015، https://www.albayan.ae/five-senses/culture/2015-04-02-1.2345328
مرسي، محمود أحمد (1985). دور التعليم العالي في إعداد الكفاءات من القوى العاملة، مجلة العلوم الاجتماعية، المجلد13، العدد4، شتاء 1985، صص (129-153).
مغامس، ماجد (2015). سلطوية الأستاذ الجامعي، مركز الدراسات والأبحاث العلمانية في العالم العربي:
خيارات وأدوات، 4/6/2015. http://www.ssrcaw.org/ar/show.art.asp?aid=470942
موريس، منسي (2019). التعليم المصري بوابة تؤدي إلى الجهل، مركز الدراسات والأبحاث العلمانية في العالم العربي، 019 / 4 / 15. http://www.ssrcaw.org/ar/show.art.asp?t=2&aid=634272
ميشيل، تيموثي (1990). استعمار مصر، ترجمة بشير السباعي وأحمد حسان، القاهرة: سينا للنشر.
النقيب، خلدون حسن (1993). المشكل التربوي والثورة الصامتة: دراسة في سوسيولوجيا الثقافة، الجمعية الكويتية لتقدم الطفولة العربية، سلسلة الدراسات العلمية الموسمية المتخصصة، العدد 19، يوليو/ حزيران، الكويت.
يسين، السيد (1998). الفكر العربي والزمن، أين نحن الآن من نهضة مطلع القرن؟، المجلد السادس والعشرون، العددان الثالث والرابع، يناير/ مارس – إبريل/ يونيو..
Klein , Melanie (1964). Contribution to Psycho-analysis,1921-1945(New York)
Klein , Melanie( 1959). La psychanalyses des enfants, Paris: P.U.F.,.
قائمة المراجع المرومنة بالإنكليزية:
List of roman references in English:
Al-Araji, Muhammad Husayn (2003). In literature, etc., Damascus: Al-Madda, 2003.
Badran, Shebel (1999). University education and future challenges, Al-Hilal, January.
Badawi, Abd al-Rahman (1980). Kent’s Philosophy of Religion and Education, Beirut: The Arab Foundation for Studies and Publishing.
Bargawi, Ahmed (2018). The need for the educated academic, not the fetish academic!, Excavations, 01-31-2018. https://www.hafriat.com/en/node/1083
Galal, Saad Eddin (1985). Family, Society and Creativity in the Arab World, Beirut: Center for Arab Unity Studies, Symposium on Preparing the Arab Person for Scientific Giving.
Rabull, Olivier (1986). Philosophy of Education, translated by Jihad Noaman, Beirut: Oweidat.
Reda, Muhammad Jawad (1987). The Child from Individuality to Personality, Kuwait Association for the Advancement of Arab Childhood, Arab Children and Obstacles to Normal Upbringing, Fourth Yearbook, 1986-1987.
Reda, Muhammad Jawad (1991). Crises of Truth, Freedom and Necessity, Kuwait Association for the Advancement of Arab Childhood, Series of Specialized Scientific and Seasonal Studies, Issue 22, January, Kuwait.
Soruri, Habib Abd al-Rab (2009). The Arabic language The Arabic language in the midst of globalization.. A project for revival
Surti, Yazid Issa (1998). Authoritarianism in Arab Education: Appearances, Causes and Results, The Educational Journal, No. 47, Volume 12, Kuwait.
Sharabi, Hisham (1991). Introductions to the Study of Arab Society, Beirut: Dar Al-Tali`ah.
Sheikh, Muhammad Raouf Hamid Fathallah (1983). The Daily Suffering of the Arab Mind, Syrian Knowledge, Year 22, Number 258, August.
Abdel Hamid, Talaat (2004) Globalization Education: and Modernizing Society, Cairo: Dar Farha.
Abdel-Dayem, Abdullah (1978). Education through history, House of Science for Millions, Beirut.
Abdel-Dayem, Abdullah (2000). Towards an Arab educational philosophy, educational philosophy and the future of the Arab world, Beirut: Center for Arab Unity Studies.
Abd al-Rahman, Abd al-Hadi (1993). The Arab Mind: A Linguistic Perspective, Arabic Studies, Issue 3/4 January/February.
Abdel Mawgoed, Mohamed Ezzat (1981). Fundamentals of Curriculum and its Regulations, Cairo: House of Culture.
Abdo, Muhammad (1993). Complete Works, investigated by Muhammad Emara, Part 3, Cairo: Dar Al-Shorouk.
Abboud, Sameh Saeed (2002). Scientific progress Intellectual delay: the infinite abundance of knowledge, Al-Hiwar Al-Modden – Issue: 331, 8/12/2002, accessed 15/2/2020: http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=4261&r =0
Ali, Saeed Ismail (1995). Educational Philosophies, The World of Knowledge, No. 198, National Council for Culture, Arts and Letters, June.
Al-Omar, Maan Khalil (2009). Sociology of Intellectuals, Dar Al-Shorouk for Publishing and Distribution, 1st Edition, Amman, Jordan.
Freire, Paolo (1980). Teaching the Oppressed, translated by Youssef Nour Awad, Beirut: Dar Al-Qalam.
Philo, Jean-Claude (1996). The Unconscious, translated by Ali Watfa, Damascus: Dar Maad.
Al-Kuwari, Ali Khalifa (1985). Towards an alternative strategy for social development, Beirut: Center for Arab Unity Studies.
Koch, Omar (2010). The decline of Arab universities.. The reasons are multiple, and the solutions are known!, Al-Eqtisadiah Journal, Friday, June 25, 2010. http://www.aleqt.com/2010/06/25/article_4111132.html
Combs, Philip (1971). The Education Crisis in Our Contemporary World, translated by Ahmed Khairy Kazem and Khaled Abdel Hamid, Cairo, Dar Al-Nahda.
Manifesto Editor (2015). Indoctrination is a methodology that overwhelmed Arab universities and killed innovation and creativity, Al-Bayan, opinion poll, date: April 02, 2015, https://www.albayan.ae/five-senses/culture/2015-04-02-1.2345328
Morsi, Mahmoud Ahmed (1985). The Role of Higher Education in Preparing Competencies from the Workforce, Journal of Social Sciences, Volume 13, No. 4, Winter 1985, pp. (129-153).
Maghames, Majid (2015). Authoritarian University Professor, Center for Secular Studies and Research in the Arab World:
Options and Tools, 4/6/2015. http://www.ssrcaw.org/ar/show.art.asp?aid=470942
Morris, Mansi (2019). Egyptian Education: A Gateway to Ignorance, Center for Secular Studies and Research in the Arab World, 4/15/019. http://www.ssrcaw.org/ar/show.art.asp?t=2&aid=634272.
Michel, Timothy (1990). The Colonization of Egypt, translated by Bashir El Sebaei and Ahmed Hassan, Cairo: Sina Publishing.
Al-Naqeeb, Khaldoun Hassan (1993). The Educational Problem and the Silent Revolution: A Study in the Sociology of Culture, Kuwait Association for the Advancement of Arab Childhood, Seasonal Specialized Scientific Studies Series, Issue 19, July / June, Kuwait.
Yesen, Mr. (1998). Arab Thought and Time, Where Are We Now From the Renaissance of the Beginning of the Century?, Volume Twenty-six, Issues Three and Four, January/March-April/June..
Klein, Melanie (1964). Contribution to Psycho-analysis,1921-1945(New York)
Klein, Melanie (1959). La psychanalyses des enfants, Paris: P.U.F.,.
_________
*علي أسعد وطفة/ كلية التربية – جامعة الكويت.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.