” في واقعنا المعاصر يتعرض الإنسان في مجتمعاتنا، كغيره من المجتمعات الإنسانية، إلى مجموعة من الخطابات في حياته اليومية. وتزداد الخطابات كثافة في أوقات الأزمات. ولا نستطيع الجزم ببراءة الخطابات من أغراض الهيمنة على وعي متلقيها، لا سيما إذا كان منتج الخطاب من حائزي السلطة أو ممن يسعون إلى حيازتها، وخصوصاً إذا كان سياق إنتاج الخطاب وتداوله سياق أزمة يبلغ فيها الاستقطاب بين الأطراف ذروته “([1]).
لقد ظهر التحليل النقدي للخطاب critical discourse analysis منذ تسعينيات القرن العشرين بوصفه توجهاً جديداً في تحليل الخطاب في الأوساط الأكاديمية في أوروبا الغربية. ومع نهاية القرن كان يمثل أحد أكثر توجهات تحليل الخطاب استقطاباً للباحثين. ويحدد فان دايك (أحد مؤسسي التحليل النقدي للخطاب) موضوع التحليل النقدي للخطاب بأنه دراسة الكيفية التي يقوم بها النص والكلام بتقنين وإنتاج ومقاومة اعتداءات السلطة الاجتماعية وهيمنتها ولا مساواتها. وأن المحلل النقدي للخطاب يسعى إلى فهم اللامساواة الاجتماعية والكشف عنها تمهيداً لمقاومتها. ومن ثم فإن التحليل النقدي للخطاب له توجه عام يستهدف توعية البشر بالتأثيرات المتبادلة بين اللغة والبنى الاجتماعية، تلك التأثيرات التي لا يعيها البشر غالباً([2]).
وفي ذات السياق، كتب نورمان فيركلف عام 1985 مقالاً بعنوان: الأهداف النقدية والوصفية في تحليل الخطاب، داعياً إلى نزع الألفة عن الإيديولوجيات التي تتجسد غالباً في تشكيلات خطابية إيديولوجية، وذلك بتبني تحليل خطاب ذي أهداف نقدية، يبرز كيفية تحديد البنيات الاجتماعية لسمات الخطاب، وكيفية إسهام الخطاب بدوره في تحديد البنيات الاجتماعية. وبعد عدة سنوات، يؤلف فيركلف كتابه المؤسس لمقاربة الجدلية العلائقية في التحليل النقدي للخطاب تحت عنوان: اللغة والسلطة عام 1989، وفيه تظهر النزعة النقدية في دراسة اللغة واضحة، خاصةً في دراسة العلاقات غير المتساوية في السلطة الاجتماعية. ويظهر كذلك البعد النضالي المقاوم لهذه العلاقات غير المتساوية في السلطة([3]).
تعتبر اللغة جزء من المجتمع، وليست خارجة عنه بصورة ما، كما أن اللغة عملية اجتماعية، يتحكم فيها المجتمع، أي إنها تخضع لتحكم جوانب أخرى (غير لغوية) في المجتمع، فأما الظواهر اللغوية فهي اجتماعية، بمعنى أنه حيثما تكلم الناس أو أنصتوا أو كتبوا أو قرؤوا، فإنما يفعلون ذلك بطرائق يحددها المجتمع، ولها آثار اجتماعية، وحتى حين يصل وعي الناس بفرديتهم إلى ذروته ويتصورون أنهم برئوا إلى أقصى حد من الآثار الاجتماعية – في أحضان الأسرة على سبيل المثل – فإنهم يستخدمون اللغة أيضاً بطرائق تخضع للأعراف الاجتماعية، والظواهر الاجتماعية لغوية، من ناحية أخرى، بمعنى أن النشاط اللغوي الذى يجري في السياقات الاجتماعية – شأن جميع ألوان النشاط اللغوي- ليس مجرد انعكاس أو تعبير عن العمليات والممارسات الاجتماعية، بل يمثل جزءاً من هذه العمليات والممارسات، كالمنازعات حول معنى بعض العبارات السياسية([4]).
في حقيقة الأمر بات مصطلح ” الخطاب ” مصطلحاً شائعاً في عديد من أفرع المعرفة، منها النظرية النقدية وعلم الاجتماع وعلم اللغة والفلسفة وعلم النفس الاجتماعي وغير ذلك حتى إنه أصبح يترك دون تعريف كأنه صار من المسلمات. وهو يرد بكثرة في تحليل النصوص الأدبية وغير الأدبية، وربما كان له النطاق الأوسع من الدلالات الممكنة بين المصطلحات النظرية الأدبية والثقافية([5]).
يشار إلى الخطاب عموماً بأنه وحدة تواصلية إبلاغية، متعددة المعاني، ناتجة عن مُخاطِب معين، وموجهة إلى مُخاطَب معين، عبر سياق معين. وهو يفترض وجود سامع يتلقاه، مرتبط بلحظة إنتاجه، لا يتجاوز سامعه إلى غيره، وهو يدرس ضمن لسانيات الخطاب، وفي معجم أكسفورد يعرّف الخطاب بأنه: عملية الفهم التي تمر بنا من المقدمة حتى النتيجة اللاحقة، وهو أيضاً الاتصال عبر الكلام أو المحادثة، القدرة على المناقشة. ويعتقد اللساني الفرنسي إيميل بينفينيست بأن الخطاب هو كل تلفّظ يفترض متحدثاً وسامعاً يكون للطرف الأول نيّة التأثير في الطرف الثاني بطريقة ما، ومن ثمة فهو يميز بين نظامين من التلفظ هما الخطاب والحكاية التاريخية. فالخطاب قوامه جملة الخطابات الشفوية المتنوعة ذات المستويات العديدة وجملة الكتابات التي تنقل خطابات شفوية أو تستعير طبيعتها وهدفها شأن المراسلات والمذكرات والمسرح والأعمال التعليمية، ويختلف عن الحكاية التاريخية في مستويين اثنين هما الزمن وصيغ الضمائر([6]). ويعرف جيوفري ليتش ومايكل شورت الخطاب بأنه ” تواصل لغوي يُنظر إليه باعتباره عملية تجري بين متكلم ومستمع، أو تفاعل شخصي يحدد شكله غرضه الاجتماعي. والنص تواصل لغوي (سواء شفاهي أو مكتوب) ينظر إليه باعتباره رسالة مشفرة في أداتها السمعية أو البصرية “. ومن المفكرين من يضعون الخطاب في تضاد مع الإيديولوجيا، فيقول روجر فاولر على سبيل المثال: ” الخطاب كلام أو كتابة ينظر إليه من منظور المعتقدات والقيم والمقولات التي يجسدها، فهذه المعتقدات والقيم تمثل طريقة للنظر للكون، تنظيم للتجربة أو عرضها – الإيديولوجيا- بالمعنى المحايد غير الازدرائي. وأنماط الخطاب تحيل مختلف صور عرض التجربة رموزاً، ومصدر صور العرض هذه هو السياق الصريح الذي يرد الخطاب ضمنه “([7]).
كما يعرف فوكو الخطاب بأنه النطاق العام لكل الجمل، أحياناً باعتباره مجموعة متفردة من الجمل، وفي أحيان أخرى باعتباره عملية منضبطة تفسر عدداً من الجمل. أي إن كل كلام أو نصوص ذات معنى وتأثير في عالم الواقع تعد خطاباً([8]). وأخيراً الخطاب في البحث النقدي هو فعل النطق أو فاعلية تقول، وتصوغ في نظام ما يريد المتحدث قوله، هو كتلة نطقية لها طابع الفوضى، وحرارة النفس، ورغبة النطق بشيء ليس هو تماماً الجملة، ولا هو تماماً النص بل هو يريد أن يقول. انطلاقاً من هذا، فالنص غير الجملة، والجملة عبر الخطاب غير الخطاب، لأن الخطاب هو فاعلية يمارسها مخاطب يعيش في مكان، وفي زمان تاريخي تسود فيه العلاقات الاجتماعية بين الناس([9]). وتحليل الخطاب النقدي حسب فيركلف هو تحليل النصوص والحوار بالاستعانة بعلم اللغة من منظور ملتزم سياسياً([10]).
يعتبر التحليل النقدي للخطاب أحدث مقاربات تحليل الخطاب ذي التوجه اللساني. وتعني بدراسة العلاقات الجدلية بين اللغة والخطاب والمجتمع، والسلطة التي تكرسها تلك العلاقات على صعيد الممارسة الاجتماعية، وما تحدثه من تغيرات اجتماعية. طبيعي أن تتعدد الرؤى وزوايا النظر لدى المتخصصين الأوائل داخل هذه المقاربة، لأن الممارسات الاجتماعية، وسياقاتها الفعلية متعددة ومتقاطعة ( عنصرية، تربية، تعليم، سياسة، إعلام، فن، تاريخ، فلسفة، العالم الرأسمالي، العولمة… ). ويعزى هذا التعدد إلى الطابع البيني الذي تتسم به هذه المقاربة، إذ إن ارتباط الدراسة اللغوية الناقدة للخطاب بالممارسات الاجتماعية جعل المقاربة منفتحة على حقول معرفية شتى، وأجبر الباحثين على استحضار أجهزة مفهومية ونظريات ونماذج فلسفية ونفسية وتربوية واجتماعية في مناهج التحليل([11]).
بذلك ينظر إلى ” الخطاب ” باعتباره مصطلح يستخدم في مجموعة متنوعة من الحقول المعرفية المختلفة، ويمكن أن يدل على كثير من الدلالات المتباينة. إذ يمكن أن يعني الخصائص الشكلية للمنتجات السيموطيقية التي تجعلها ” تتضام معاً ” كأنماط معينة من ” النصوص “، كما يمكن أن يدل على طرق الناس في استخدام اللغة والأنظمة السيميائية لإنجاز أفعال اجتماعية بعينها. أو أن يدل على نظم المعرفة العامة التي تنظم ما يقوله الناس ويكتبونه أو يفكرون فيه. وتحقيقاً لفهم موضوع المقال نعرّف الخطاب تعريفاً عاماً باعتباره طرق الناس في إنشاء وإدارة حياتهم الاجتماعية باستخدام مختلف الأنظمة السيميائية. هذا التعريف، بالطبع، يضع الخطاب في علاقة لصيقة مع الممارسات الاجتماعية. فمن ناحية، تنتقل الممارسات الاجتماعية نوعاً ما من خلال الخطاب – أي إن الخطاب يستخدم كأداة لإنجاز الممارسات الاجتماعية. ومن ناحية أخرى، يلعب الخطاب دوراً هاماً في الحفاظ على الممارسات الاجتماعية وإعادة إنتاجها ونقلها. ومن ثم يكون ” تحليل الخطاب ” من خلال هذا التعريف هو دراسة طرق تأثير مختلف ” تقنيات صناعة النصوص ” ( بما في ذلك أنظمة سيميائية مثل اللغات، وكذلك وسائل الإعلام مثل التلفزيون وأجهزة الكمبيوتر) على المعاني التي يصنعها الناس في مواقف مختلفة، وعلى كافة الأفعال التي يقومون بها، وعلى أنواع العلاقات التي ينشئونها، وعلى الهويات التي يصبحون عليها. ولكي يستطيع محلل الخطاب أن يجري هذا النوع من الدراسات، فعليه أن يلتفت عادة إلى أربعة أمور([12]):
– النصوص: كيف تعيننا تقنيات صناعة النصوص المختلفة في التوليف بين العناصر السيميائية لتشكيل نصوص معترف بها اجتماعياً ويمكن استخدامها للقيام بأنواع مختلفة من الأفعال المعترف بها اجتماعياً.
– السياقات: وهي الأوضاع الاجتماعية والمادية التي تؤلف في إطارها النصوص وتستهلك، ويتم تبادلها وتمتلك.
– الأفعال والتفاعلات: ما يفعله الناس مع النصوص، وخاصة ما يقومون مع بعضهم البعض.
– السلطة والإيديولوجيا: كيف يستخدم الناس النصوص للهيمنة والسيطرة على الآخرين وصياغة رؤية بعينها للواقع.
وبطبيعة الحال تركز مختلف مقاربات الخطاب على هذه الأبعاد بدرجات مختلفة، ولكنها كلها، بطريقة أو بأخرى، تأخذها بعين الاعتبار، وتسعى لفهم طريقة عملها معاً: أي، كيف يؤثر السياق على شكل النص ومعناه، وكيف تشكل النصوص مختلفة الأشكال أفعالاً وتفاعلات متباينة الأنماط، وكيف يعكس استخدام الناس للنصوص في الفعل والتفاعل داخل سياقات محددة الإيديولوجيات وعلاقات القوة، ويسهم في إعادة إنتاجها. وبعبارة أخرى، تسعى كل مقاربات الخطاب لفهم العلاقة بين المستوى ” الجزئي ” للخطاب الذي يتصل بطريقة تضافر النصوص واستخدامها في ممارسة أفعال بعينها في حالات محددة، والمستوى ” الكلي ” للخطاب الذي يتصل بالطريقة التي تعكس بها النصوص نظماً اجتماعية بعينها وتساعد في تكريسها([13]).
ويمكن النظر إلى مفهوم النقد في التحليل النقدي للخطاب من حيث نقد معياري (قيمي) وآخر تفسيري، فهو نقد معياري بمعنى أنه لا يصف الوقائع القائمة بوضوح فحسب، ولكن أيضاً يُقيّمها بحيث يقيّم إلى أي مدى تتوافق مع القيم المختلفة التي تكون نوعاً ما موضوعاً للنزاع تُقبل باعتبارها أساسية للمجتمعات العادلة أو الراقية مثال: معايير محددة لرفاهية الإنسان سواء مادية أو سياسية أو ثقافية. وهو أيضاً تفسيري يسعى إلى تفسير كيف ولماذا أصبحت تلك الوقائع (ممارسات الخطاب) على ما هي عليه في مجتمع ما وفي ظل ظروف اجتماعية وإيديولوجية معينة، وبالتالي اقتراح الأساس لتغيير تلك الممارسات. فعلى سبيل المثال: يفترض المحلل أن تلك الوقائع نتائج للبنى أو الميكانيزمات أو القوى التي يسعى لاختبار واقعيتها مثال ذلك: يمكن تفسير أشكال اللامساواة في الثروة والدخل والحق في الوصول لجميع السلع الاجتماعية والحق في التعليم من حيث هي نتيجة للميكانيزمات والقوى المرتبطة بالرأسمالية أو بأنماط معينة من الرأسمالية.
إن النظرية النقدية ليست مجموعة موحدة من المنظورات، بدلاً من ذلك فهي تشكل: مدرسة فرانكفورت وما بعد البنيوية وما بعد الحداثة ودراسات الاقتصاد السياسي والدراسات الاستعمارية الجديدة والنظرية النقدية العرق والدراسات النسوية وما إلى ذلك. وتهتم النظريات النقدية عادةً بقضايا السلطة والعدالة والأساليب التي يبني الاقتصاد السياسي والإيديولوجيات حول العرق والطبقة والنوع الاجتماعي والدين والتربية والتوجهات الجنسية من خلال النظم الاجتماعية وإعادة إنتاجها أو تغييرها. وينطلق المنظرون النقديون من بعض الفرضيات حول العالم الاجتماعي، والتي تتمثل في:
- إن الفكر تتوسطه علاقات السلطة التي تتشكل تاريخياً.
- إن الوقائع ليست محايدة، ودائماً ما تكون متضمنة في السياقات.
- إن بعض الفئات الاجتماعية تحظى بامتيازات دون غيرها، مما يؤدي إلى تفاوتات في حق الحصول على الخدمات والسلع والنتائج([14]).
إن هناك نمط سائد من ” الهيمنة السياسية ” المرتبطة بالرأي العام، بعبارة أخرى، إنها نقطة الاتصال بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي، بين القبول والإكراه. فعندما تريد الدولة الشروع في عمل غير شائع، فإنها تستعد لتثير الرأي العام المطلوب مسبقاً، أي تركز على حالات معينة من المجتمع المدني وتنظمها.
لذا تعتبر اللغة العامل المركزي في تشكيل الذوات والقهر، هذا إلى جانب أن التحليل النقدي للخطاب يهدف إلى استكشاف خصوصيات الهيمنة من خلال السلطة، والتي تأخذ أنماطاً عديدة: إيديولوجية وفيزيائية ولغوية ومادية وسيكولوجية وثقافية. ويبدأ المحللون النقديون باهتمام نحو فهم أوضاع اللامساواة وكشفها وتغييرها، وتختلف نقطة البدء في التحليل استناداً إلى أين يموضع المحلل السلطة ويُعرفها، حيث يموضعها المحلل النقدي للخطاب في اللغة من حيث هي ممارسة اجتماعية، وكذلك أين يموضع الهيمنة، في العرقية أو البنى الرأسمالية أو الخطاب ” نظم الحقيقة ” أو النظام الأبوي أو الطبقية. وعلى الرغم من ذلك، قد تتخذ السلطة أنماطاً تحريرية أو قمعية، والتي تشمل الأبعاد التاريخية والمادية والخطابية ويتم تشريعها عبر الزمن والناس والسياقات.
أما فيما يتعلق بمفهوم الخطاب في إطار التحليل النقدي للخطاب نجد أن المنظور المثالي الامبيريقي للغة لم يستطع أن يأخذ في الاعتبار أن اللغة نفسها تعتبر مجال للممارسة الاجتماعية، والتي بالضرورة قد تشكلت بواسطة الظروف المادية التي تحدث فيها تلك الممارسة. وهذا يتطلب مفهوماً بديلاً للغة، والذي يدرك أن الألفاظ سواء في أفعال الكلام أو النصوص، تؤدي أكثر من مجرد تسمية الأشياء أو الأفكار الموجودة بالفعل، كما يتطلب تصوراً لكيف يمكن أن ينتج استخدام اللغة آثاراً اجتماعية واقعية، وكيف يمكن أن تكون سياسية وإيديولوجية، ليس فقط من خلال الإشارة للأحداث السياسية، لكن تصبح اللغة نفسها أداة لممارسة السلطة وموضوعاً لها. وهكذا يمكن تعريف مفهوم الخطاب من حيث هو استخدام اللغة كممارسة اجتماعية، أي إن الخطاب يتحرك ذهاباً وإياباً بين البناء العالم الاجتماعي وانعكاسه. في هذا السياق، لا يمكن اعتبار اللغة محايدة، لأنها منغمسة في التشكيل السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي([15]).
– تحليل الخطاب عند نورمان فيركلف: يرى فيركلف أن الدراسات النقدية للخطاب تقوم على ثلاثة مفاهيم أساسية هي النقد والتفسير والفعل السياسي. ويرى أن التفسير هو الجسر الرابط بين النقد والفعل السياسي. ويقصد فيركلف بالتفسير إبراز العلاقات السببية والجدلية بين الخطاب والعناصر الأخرى المشكلة للحياة الاجتماعية، وهو أمر يسمح في نظره بتوضيح ما يحتاج إلى التغيير وكيفية القيام بتغييره. ويقسم فيركلف مقاربته التي امتدت على مدار ثلاثين سنة إلى ثلاث مراحل، عُنيت كل مرحلة بانشغالات معينة، وتعرضها لها كالآتي:
المرحلة الأولى: يُمثلها كتاب فيركلف اللغة والسلطة الصادر عام 1989، وقد انصرف في هذا الكتاب إلى نقد الخطاب الإيديولوجي لكونه يعمل على إعادة إنتاج النظام الاجتماعي الموجود وهدف إلى التوعية بكيفية إسهام اللغة في هيمنة بعض الأفراد على الآخرين، وذلك رغبة في التحرر الاجتماعي ويعتبر فيركلف هذه المرحلة راديكالية وأن مناطها نقد الإيديولوجية والسلطة في الخطاب وخلف الخطاب. ” أو بمزيد من الدقة، الروابط بين استعمال اللغة وعلاقات السلطة غير المتكافئة، خصوصاً في بريطانيا الحديثة، ويقول فيركلف في هذا السياق كتبت هذا الكتاب لغرضين أساسيين: الأول نظري، وهو المساعدة على تصحيح ظاهرة واسعة الانتشار ألا وهي التقليل من أهمية دور الذي تضطلع به اللغة في إنشاء علاقات السلطة الاجتماعية والحفاظ عليها وتغييرها. والثاني عملي، وهو المساعدة على زيادة الوعي بالأسلوب الذي تسهم به اللغة في تمكين بعض الناس من السيطرة على البعض الآخر، لأن الوعي يمثل الخطوة الأولى على طريق التحرر“([16]).
المرحلة الثانية: يُمثلها كتاب الخطاب والتغير الاجتماعي عام 1992([17])، الذي ركز فيه على نقد الخطاب بوصفه جزءاً من التغيير الاجتماعي من أعلى إلى أسفل. ويرجع تطوير هذه النسخة من التحليل النقدي للخطاب في هذا الكتاب إلى ما شهدته بريطانيا من انتقال إلى الليبرالية الجديدة، وقد اهتم فيركلف في هذه المرحلة بكيفية إعادة بَنْيَنَةِ الخدمات العامة وفق نموذج السوق الذي تقوده الليبرالية الجديدة، واهتم بصورة خاصة بكيفية توظيف الخطاب في إشاعة مفاهيم الرأسمالية الجديدة في الجامعات، وذلك باعتبار الطلبة مستهلكين، والجامعات، مقاولات وتقييم النتائج من حيث الجودة، إلى غير ذلك من المفاهيم الاقتصادية. وبدأ فيركلف بتجسير العلاقة بين البعد اللغوي والبعدين الاجتماعي والاقتصادي وذلك بتطوير مفاهيم إجرائية من قبيل: نظام الخطاب الذي اقتبسه من ميشيل فوكو، والتناص الظاهر الذي استعاره من جوليا كريستيفا. ونظر إلى التغير انطلاقاً من إعادة وضع نظام خطاب معين في سياق نظام خطاب آخر كما يتجلى ذلك في دمج نظام خطاب الاقتصاد الرأسمالي الجديد بخطاب التربية بالجامعات والنتيجة هي تغير في مستوى الخطابات والأجناس (أجناس جديدة أو أجناس هجينة) والأساليب (الهويات والكينونات الخطابية كالمستهلكين والمقاولة إلى غير ذلك).
المرحلة الثالثة: يُمثلها كتاب تحليل الخطاب السياسي: منهج لطلبة الدراسات العليا (2012)، وترتبط هذه المرحلة بالأزمة المالية والاقتصادية لسنة 2007 التي أصابت بريطانيا والعالم بأسره. ويركز فيركلف في هذه النسخة من الدراسات النقدية للخطاب على نقد الخطب الاستشارية التي ألقيت لتجاوز الأزمة الاقتصادية. وتتميز هذه المرحلة بمعالجة المفاهيم الأساس للمرحلتين السابقتين معالجة مختلفة، فالإيديولوجيا تدرس انطلاقاً من المقدمات والنتائج، والنوع (الفعل) يُنظر إليه بوصفه مظهراً أولياً للخطاب، والخطابات والأساليب (التمثيل والهوية) يعاملان بوصفهما مظهرين من مظاهر الفعل. وفي هذا الإطار تقيم الحجج العملية التي يستند إليها السياسيون في خطبهم تنتقد أسسها وتفسر بنياتها وغاياتها.
ويشير فيركلف إلى أن هذه المراحل يُكمل بعضها بعضاً بطريقة تُدمج فيها الاهتمامات الأولى بالفرضيات الجديدة. ولو أردنا أن نوجز هذه التغيرات قلنا إن فيركلف ابتدأ أولاً بدراسة علاقة السلطة بالخطاب ثم تخصص في دراسة هذه العلاقة بالتركيز على بُعد التغير، أي كيف يسهم التغير الخطابي عن طريق مزج أنظمة الخطاب في تعزيز علاقات السلطة بل تكريس اللامساواة في المجتمع وترسيخها([18]).
إن الهدف الأساسي لهذه المقاربة هو دراسة الروابط بين استعمال اللغة والممارسة الاجتماعية، إذ يركز فيركلف على دور الممارسات الخطابية في الحفاظ على النظام الاجتماعي، وفي التغيير الاجتماعي. كما أن هذا الإطار التحليلي لتحليل الخطاب يعزز مبدأ أن النصوص لا يمكن أن تفهم أو تُحلل في عزلة، فهي تفهم فقط في ارتباط بشبكات النصوص الأخرى وبالارتباط بالسياق الاجتماعي. ويدرس فيركلف الخطاب انطلاقاً من ثلاثة أبعاد:
1- بُعد الممارسة الخطابية: تُعنى مرحلة تحليل الممارسة الخطابية في مقاربة فيركلف الجدلية العلائقية بدراسة إنتاج النص واستهلاكه. ويمكن تقسيمها إلى مرحلتين فرعيتين هما: المرحلة الفرعية الأولى مرحلة إنتاج النص، وتُدرس فيها ظاهرتان خطابيتان هما: ” التناص والبيخطابية “، حيث يشير التناص إلى ظاهرة اقتباس كلام الآخرين وأساليبهم في تلفظاتنا، ولكل اقتباس آثار اجتماعية وثقافية وسياسية، وهو ما يدعو إلى الوقوف بالتناصات الموجودة في النصوص ودراسة تاريخ استعمالها. وقد ميّز فيركلف بين التناص الظاهر (الاعتماد الواضح على نصوص أخرى) والتناص المُكوّنِ (البيخطابية). كما اهتم بالخصوص بدراسة البيخطابية، وميز فيها بين نوعين: بيخطابية إبداعية تمزج بطرق جديدة ومعقدة خطابات مختلفة مؤدية إلى تغير خطابي ومن ثم تغير اجتماعي وثقافي، وبيخطابية تقليدية تمزج الخطابات بطرق متعارف عليها، وتعمل على تثبيت نظام الخطاب المهيمن. أما المرحلة الفرعية الثانية تُعنى باستهلاك النص، وتُدرس فيها ظاهرة الانسجام ويضيف إليها فيركلف أيضاً شروط ممارسة الخطاب. ويُعنى الانسجام بدراسة التضمينات التأويلية للسمات التناصية والبيخطابية لعينة الخطاب، أي تأثيرات هذه الظواهر الخطابية في الجمهور، ويدعو في هذا السياق إلى دراسة استجابة الجمهور، وإن كان لا يقوم بذلك في أبحاثه ويكتفي بإسقاط تأويلاته على استجابة الجمهور. أما شروط ممارسة الخطاب فتهتم بدراسة نوعية النصوص وتأثيرها في الجمهور.
2- بُعد تحليل النص: وتُعنى هذه المرحلة بوصف أنظمة الخطاب المحدّدة في الممارسة الخطابية، ويتبع الوصف مقاربة تبدأ بالبعد الفكري وتنتقل إلى البعد البيشخصي ثم تنتهي بالبعد النصي. وتتضمن الوظيفة الفكرية أربع مقولات عامة هي: نحو التعدية، ونحو التصنيف والاستعارة، وإخفاء الفاعلية. أما الوظيفة البيشخصية فتتضمن مقولات التحكم في التفاعل، ونحو الصيغة والأفعال الكلامية، والضمائر. وتُعنى الوظيفة النصية بدراسة علاقات الاتساق والانسجام، وكل ما من شأنه أن يحقق وحدة للخطاب سواء أكان لغوياً (اتساق، انسجام) أم معرفياً (استعارة، إيديولوجية).
3- بُعد الممارسة الاجتماعية: ويدرس أثر نظام الخطاب في المجتمع: هل يقوم بإعادة إنتاج المجتمع، محافظاً بذلك على الوضع القائم كما هو، أم يعمل على تثوير المجتمع ومحاولة تغييره. وتدرس ضمن هذا البعد الآثار الإيديولوجية والسياسية للخطاب في المجتمع([19]).
– الخطاب والإيديولوجيا والهيمنة: كما ذكرنا سابقاً، تأثر فيركلف في هذا السياق إلى حدٍ ما بتصور (فوكو) للسلطة، بوصفها منتجة ومقيدة في آن واحد، وأنها ليست محض قمع واستبداد، أو شيء يمكن امتلاكه بل فعل يُمارس، ويقول إنه يمكن تصور السلطة من حيث عدم التماثل بين المشاركين في الأحداث الاجتماعية وكذلك من حيث عدم المساواة بينهم في القدرة على التحكم في كيفية إنتاج النصوص وتوزيعها واستهلاكها في سياقات اجتماعية معينة. كما ركز على جانبين أساسيين لعلاقة السلطة / اللغة هما: السلطة داخل الخطاب والسلطة وراء الخطاب. ويتناول البعد الأول الخطاب باعتباره موضع تُمارس فيه علاقات السلطة وتتجسد فعلياً، أما البعد الثاني فيتناول نظم الخطاب باعتبارها تتشكل بواسطة علاقات السلطة، حيث تعتبر ” السلطة من وراء الخطاب “، هي الغاية في الصراع على السلطة، لأن السيطرة على نظم الخطاب تعد آلية قوية إلى حدٍ كبيرٍ تساعد في الإبقاء على السلطة بشكل مؤقت.
لا تنحصر السلطة في اللغة وحسب، بل قائمة في أشكال وأوضاع مختلفة، ومن بينها النمط المادي بمعنى استخدام القوة المادية لإرغام الآخرين على الانصياع للسلطة، ويشير ذلك إلى أهمية التمييز بين ممارسة السلطة من خلال القسر بشتى أنواعه وممارسة خلق القبول أو على الأقل الإذعان للسلطة، حيث تعتمد علاقات السلطة في الواقع العملي على كليهما، وإن كان ذلك بنسب متفاوتة في كل حالة، لكن بإمكان الكتلة المهيمنة السيطرة وممارسة السلطة بتكلفة ومخاطرة أقل، إذا استطاعت إيجاد قبول جماهيري لها وتعتبر الإيديولوجيا الآلية الأساسية لإنتاج هذا القبول، وبالتالي فإن للخطاب أهمية اجتماعية كبيرة في ممارسة السلطة. يقول فيركلف في هذا السياق ” إن الإيديولوجيات ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالسلطة، لأن طبيعة الافتراضات الإيديولوجية الكامنة في أعراف محددة تعتمد على علاقات السلطة التي ترتكز عليها الأعراف، ولأنها وسيلة لإضفاء الشرعية على العلاقات الاجتماعية القائمة ومظاهر التفاوت في السلطة، خلال التواتر وحسب لطرائق السلوك العادية المألوفة، وهي التي تقبل دون مناقشة وجود هذه العلاقات وأوجه التفاوت في السلطة. ويعني ذلك أن الإيديولوجيات وثيقة الارتباط باللغة، لأن استعمال اللغة أشد صور السلوك الاجتماعي شيوعاً، كما أنها صورة السلوك الاجتماعي الذي نعتمد فيه أكثر من غيره على الافتراضات المنطقية “([20]).
استعان فيركلف بمفهوم ” الهيمنة ” عند ” غرامشي “، وهو مفهوم سياسي متجذر في التمييز بين القمع والتأييد كآليات بديلة للسلطة الاجتماعية وفقاً لمنظور غرامشي فإنه يمكن اعتبار السياسة صراع من أجل الهيمنة، ويشير هذا المفهوم إلى نمط ما للسلطة الاجتماعية والصراع على السلطة في المجتمعات الرأسمالية، والذي تعتمد فيه الكتلة المهيمنة في ممارستها للسلطة على الطوعية والمشاركة لخلق التوافق أو على الأقل الاذعان للسلطة، بدلاً من استخدام مصادر القوة المادية فقط([21])، ويركز أيضاً على أهمية الإيديولوجيا في الحفاظ على علاقات السلطة. ويعد الخطاب، بما في ذلك هيمنة وتطبيع تمثيلات معينة، بعداً هاماً للهيمنة، وأن الصراع داخل الخطاب أو من وراء الخطاب هو صراع من أجل الهيمنة([22]).
يمكن استخدام مفهوم الهيمنة أيضاً بفاعلية في تحليل الدور الإيديولوجي الذي تؤديه نظم الخطاب في الحفاظ على علاقات السلطة غير أن يصبح تشكيل اجتماعي معين للاختلاف السيميائي / الخطابي (تمثيلات وأنماط خطابية وأساليب معينة) مهيمناً، بحيث يتم قمع أو احتواء تمثيلات وأنماط خطابية وأساليب أخرى بديلة داخل نظام خطابي معين بشكل كامل بدرجة أكثر أو أقل، وبالتالي لن ينظر إليها بوصفها قسرية – بمعنى أن هذا التشكيل الاجتماعي المهيمن يجسد أحد أنماط التشكيلات الاجتماعية الممكنة لرؤية العالم – بل تبدو طبيعية وشرعية ومحايدة، وقد أشار فيركلف إلى هذا بمصطلح التطبيع وفي موضع آخر التعميم، أي تصبح تمثيلات وأنواع خطابية وأساليب معينة في سياق نظام خطابي محدد جزءاً من الحس المشترك الذي يضفي الشرعية على بقاء علاقات الهيمنة.
لقد وجهت مقاربة التحليل النقدي للخطاب أهمية كبيرة للتأثيرات الإيديولوجية للممارسات الخطابية، باعتبار أن الإيديولوجيات تمثيلات للعالم، وأن السلطة الإيديولوجية تتمثل في إمكانية تطبيع تلك التمثيلات لتصبح جزءاً من ” الحس المشترك ” اليومي المسلم به من قِبل مجتمع ما أو على مستوى عالمي. تأثر فيركلف بمفهوم الهيمنة الذي يقترن وفقاً لغرامشي بسيرورات صناعة المعنى، والتفاوض خلالها من أجل هيمنة وتطبيع تمثيلات معينة وتهميش غيرها دون استخدام القوة المادية، وبالتالي تكون هناك كتلة اجتماعية مهيمنة تمارس السلطة، وتسعى باستمرار لتأكيد سلطتها، وكتلة اجتماعية تظل تقاوم من أجل هيمنة تمثيلاتها، حتى تتمكن من ممارسة السلطة، وذلك لأن وضعية الهيمنة ليست بوضعية تامة أو أبدية. هكذا يحدد فيركلف مفهوم الإيديولوجيا بطريقة تمكنه من تحديد علاقات السلطة المستبدة ونقدها([23]).
بذلك يمنح مفهوم الهيمنة الوسيلة التي من خلالها يمكن تصور السلطة باعتبار أنه يتم التفاوض عليها، وذلك فيما يتعلق بقدرة الناس على التصرف – إلى حد ما – كفاعلين اجتماعيين لديهم إمكانيات المقاومة، وكذلك تحليل الممارسة الخطابية كونها جزء من ممارسة اجتماعية أكثر شمولاً تتضمن علاقات السلطة. يمكن اعتبار الممارسة الخطابية جانباً من جوانب الصراع من أجل الهيمنة الذي يساهم في إعادة إنتاج نظام الخطاب أو تغييره، الذي هو جزء من الممارسة الاجتماعية، وبالتالي إعادة إنتاج علاقات السلطة القائمة أو تغييرها. فعندما تصاغ العناصر الخطابية التي تشكل نظام الخطاب وفق أنسقة جديدة، يحدث التغيير الخطابي الذي يعد ركيزة لإحداث التغيير الاجتماعي. يقول فيركلف ” الإيديولوجيات ممثليات لجوانب من العالم، ويمكن إبانة إسهامها في إقامة العلاقات الاجتماعية المرتبطة بالسلطة والسيطرة والاستغلال، وصياغة هذه العلاقات أو تغييرها “([24]).
– الخطاب باعتباره ممارسة اجتماعية: في حقيقة الأمر، نظر فيركلف إلى اللغة من وجهة نظر الخطاب من خلال المقولة التالية: ” اللغة باعتبارها شكلاً من أشكال الممارسة الاجتماعية “، فما هو المعنى الدقيق الذي تحمله هذه العبارة؟ أولاً: إن اللغة جزء من المجتمع وليست خارجة عنه بصورة ما، وثانياً: إن اللغة عملية اجتماعية، وثالثاً: إن اللغة عملية يتحكم فيها المجتمع، أي إنها تخضع لتحكم جوانب أخرى (غير لغوية) في المجتمع.
بناءً على ذلك، يرى فيركلف أنه لا توجد علاقة خارجية بين اللغة والمجتمع بل علاقة داخلية وجدلية. فاللغة جزء من المجتمع، والظواهر اللغوية ظواهر اجتماعية فعلاً، وإن تكن من نوع خاص، والظواهر الاجتماعية ظواهر لغوية (إلى حد ما). فأما الظواهر اللغوية فهي اجتماعية بمعنى أنه حيثما تكلم الناس أو أنصتوا أو كتبوا أو قرؤوا، فإنما يفعلون ذلك بطرائق يحددها المجتمع ولها آثار اجتماعية. وحتى حين يصل وعي الناس بفرديتهم إلى ذروته ويتصورون أنهم برئوا إلى أقصى حد من الآثار الاجتماعية – في أحضان الأسرة على سبيل المثال – فإنهم يستخدمون اللغة أيضاً بطرائق تخضع للأعراف الاجتماعية. كما إن الطرائق التي يستخدم الناس اللغة بها في أشد لقاءاتهم خصوصية وحميمية لا تقتصر على الخضوع للعلاقات الاجتماعية التي تحدد صبغتها الاجتماعية بل إن لها أيضاً آثاراً اجتماعية بمعنى الحفاظ على هذه العلاقات (أو في الواقع تغييرها)([25]).
كما أن الظواهر الاجتماعية لغوية، من ناحية أخرى، بمعنى أن النشاط اللغوي الذي يجرى في السياقات الاجتماعية (شأن جميع ألوان النشاط اللغوي) ليس مجرد انعكاس أو تعبير عن العمليات والممارسات الاجتماعية، بل إنه يمثل جزءاً من هذه العمليات والممارسات. فالمنازعات حول معنى بعض العبارات السياسية مثلاً من الجوانب الثابتة المألوفة في السياسة. فالناس أحياناً يتجادلون صراحة حول معاني بعض الألفاظ مثل: الديموقراطية، أو التأميم، أو الإمبريالية، أو الاشتراكية، أو التحرر، أو الإرهاب. وكثيراً ما يستخدمون الألفاظ في معانٍ بارزة الاختلاف والتضاد إلى حدٍ ما، وما أيسر العثور على نماذج ذلك في المناقشات بين زعماء الأحزاب السياسية، أو بين الاتحاد السوفييتي السابق والولايات المتحدة الأمريكية. وتعتبر هذه المنازعات أحياناً مجرد مقدمات أو فروع شجرة من العمليات والممارسات الفعلية للسياسة، ولكنني أقول إنها ليست كذلك، بل إنها في ذاتها سياسة، إذ يتمثل جانب من السياسة في المنازعات والصراعات التي تحدث داخل اللغة وحول اللغة([26]).
ولكن المسألة ليست مسألة علاقة متناظرة بين اللغة والمجتمع باعتبارهما وجهين متكافئين لكيان كل واحد. فأما الكيان الكلي فهو المجتمع، واللغة عنصر من عناصره. وإذا كانت جميع الظواهر اللغوية اجتماعية، فليست جميع الظواهر الاجتماعية لغوية، وذلك على الرغم من وجود عنصر لغوي كبير عادة، وإن كان كثيراً ما لا يلقى التقدير الصحيح، حتى في الظواهر الاجتماعية التي تقتصر على كونها لغوية محضة (مثل الإنتاج الاقتصادي).
والنتيجة الثانية المترتبة على اعتبار اللغة ممارسة اجتماعية، ترى أن اللغة عملية اجتماعية يتم فيها تمييز الخطاب عن النص، على اعتبار أن النص مُنتَجٌ لا عملية، فهو منتج لعملية إنتاج النص. ولكن فيركلف يصر على استخدام مصطلح الخطاب في الإشارة إلى عملية التفاعل الاجتماعي برمتها، التي لا يمثل النص إلا جزءاً منها. وهذه العملية تتضمن إلى جانب النص عملية الإنتاج، التي يعتبر النص من نواتجها وعملية التفسير التي يعتبر النص من مواردها. ومن ثم فإن تحليل النص لا يمثل إلا جزءاً من تحليل الخطاب، الذى يتضمن أيضاً عمليتي الإنتاج والتفسير. النتيجة الثالثة المترتبة على النظر إلى اللغة باعتبارها ممارسة اجتماعية، أي إنها تخضع لتحكم جوانب اجتماعية أخرى غير لغوية. فموارد الأعضاء التي ينهل منها الأفراد حتى يتمكنوا من إنتاج النصوص وتفسيرها موارد معرفية بمعنى أنها توجد في رؤوسهم، ولكنها اجتماعية بمعنى أن لها أصولاً اجتماعية، فهي وليدة المجتمع، وطبيعتها تعتمد على العلاقات والصراعات الاجتماعية التي ولدتها، كما إن طرائق انتقالها جماعية، وتتسم في مجتمعنا بالتفاوت في توزيعها. والناس يستوعبون ويتمثلون ما أنتجه المجتمع وأتاحه لهم، ويستخدمون هذه الموارد المستوعبة في ممارساتهم الاجتماعية، ومن بينها الخطاب([27]). وهذا يتيح للقوى التي تشكل المجتمعات موقعاً ذا أهمية حيوية داخل نفس الفرد، ولكن فاعلية هذا الموقع تعتمد على كونه غير ظاهر بصفة عامة. أضف إلى ذلك أن التحكم الاجتماعي لا يقتصر على طبيعة هذه الموارد المعرفية، ولكنه يسري أيضاً على أحوال استخدامها، فعلى سبيل المثال، نجد أن الاستراتيجيات المعرفية المتوقعة في إطار الأعراف تختلف عندما يقرأ المرء قصيدة عنها عندما يقرأ إعلاناً في إحدى المجلات. ومن المهم أن نسحب حساب أمثال هذه الاختلافات عند تحليل الخطاب من منظور نقدي. وهذا يعني باختصار شديد أن الخطاب يتضمن الأحوال الاجتماعية وهكذا فعندما ننظر للغة باعتبارها خطاباً وممارسة اجتماعية، فإننا نلتزم لا بتحليل النصوص وحسب، ولا بتحليل عمليتي الإنتاج والتفسير وحسب، بل بتحليل العلاقة بين النصوص والعمليتين وأحوالهما الاجتماعية.
د. حسام الدين فياض
([1]) بسمة عبد العزيز : سطوة النص: خطاب الأزهر وأزمة الحكم، صفصافة للنشر والتوزيع، ط1، 2016 (بتصرف). بالرجوع إلى مجلة بدايات، العدد: 15، بيروت، خريف 2016. https://bidayatmag.com/node/781
([2]) عماد عبد اللطيف: من الوعي إلى الفعل: مقاربات معاصرة في مقاومة الخطاب السلطوي، مجلة ثقافات، مجلة علمية محكمة تعنى بالدراسات الثقافية تصدرها كلية الآداب بجامعة البحرين، 2009، ص (69).
([3]) سعيد بكار: التحليل النقدي للخطاب: مفهوماته ومقارباته، مجلة الخطاب، المجلد: 16، العدد: 2، الجزائر، جوان 2021، ص(446).
([4]) عبد الخالق مرزوقي: أحاديث نورمان فيركلف حول اللغة والسلطة، موقع ساقية، 15 أغسطس 2021.
([5]) سارة ميلز: الخطاب، ترجمة: عبد الوهاب علوب، المركز القومي للترجمة، القاهرة، العدد: 2581، ط1، 2016، ص(13).
([6]) سعيد يقطين: تحليل الخطاب الروائي، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط3، 1997، ص(19).
([7]) سارة ميلز: الخطاب، مرجع سبق ذكره، ص(15- 17).
([8]) المرجع السابق نفسه، ص(18).
([9]) عبد الحليم سحالية: الخطاب بين الدرس اللغوي العربي القديم واللسانيات، مجلة حوليات التراث، جامعة مستغانم، الجزائر، العدد: 09، 2009، ص(169). وعيسى بوفسيو: النظريات اللسانية الحديثة وتحليل الخطاب، مجلة دفاتر مخبر الشعرية الجزائرية، الجزائر، المجلد: 5، العدد:2، 2020، ص(10).
([10]) سارة ميلز: الخطاب، مرجع سبق ذكره، ص(177).
([11]) مؤلف جماعي: التحليل النقدي للخطاب: مفاهيم ومجالات وتطبيقات، إشراف وتحرير: محمد يطاوي، المركز الديمقراطي العربي، ألمانيا (برلين)، ط1، 2019، ص(10).
([12]) ودني هـ. جونز، وأليس شيك، وكريستوف أ. هافنر: تحليل الخطاب والممارسات الخطابية، ترجمة: محمود أحمد عبد الله، مجلة الحكمة، 21/ 09/2017.
-Rodney H. Jones, Alice Chik and Christoph A Hafner (eds.): Discourse and Digital Practices: Doing discourse analysis in the digital age, Routledge press, 2015.
([14]) دينا سعيد سيد متولي: سياسة التعليم من منظور التحليل النقدي للخطاب، مجلة دراسات تربوية واجتماعية، كلية التربية، جامعة حلوان، المجلد: 27، العدد: ديسمبر 2021، ص(56-57).
([15]) المرجع السابق نفسه، ص(58-59)
([16]) نورمان فيركلف: اللغة والسلطة، ترجمة: محمد عناني، المركز القومي للترجمة، القاهرة، العدد: 2555، ط1، 2016، ص(15).
([17]) لمزيد من القراءة والاطلاع انظر: نورمان فيركلف: الخطاب والتغير الاجتماعي، ترجمة: محمد عناني، المركز القومي للترجمة، القاهرة، العدد: 2593، ط1، 2015.
([18]) سعيد بكار: التحليل النقدي للخطاب: مفهوماته ومقارباته، مرجع سبق ذكره، ص(453-454).
([19]) المرجع السابق نفسه، ص(456-457). ولمزيد من القراءة والاطلاع في هذا البُعد انظر: نورمان فاركلوف: تحليل الخطاب ( التحليل النصي في البحث الاجتماعي)، ترجمة: طلال وهبه، مراجعة: نجوى نصر، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط1، 2009، ص(63 وما بعدها).
([20]) نورمان فيركلف: اللغة والسلطة، مرجع سبق ذكره، ص(16).
([21]) انظر فقرة (الهيمنة والعالمي والخاص): نورمان فاركلوف: تحليل الخطاب ( التحليل النصي في البحث الاجتماعي)، مرجع سبق ذكره، ص(101 وما بعدها).
([22]) دينا سعيد سيد متولي: سياسة التعليم من منظور التحليل النقدي للخطاب، مرجع سبق ذكره، ص(71-72).
([23]) المرجع السابق نفسه، ص(72-73).
([24]) نورمان فاركلوف: تحليل الخطاب ( التحليل النصي في البحث الاجتماعي)، مرجع سبق ذكره، ص(35).
([25]) نورمان فيركلف: اللغة والسلطة، مرجع سبق ذكره، ص(42).
([26]) المرجع السابق نفسه، ص(43).
([27]) المرجع السابق نفسه، ص(44).
___________
*د. حسام الدين فياض/ الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة/ قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.