التجارب الانفعاليَّة المبكِّرة ودورها في تشكيل هويَّة الطفل سيكولوجيا الطفولة: من فرويد إلى لاينغ
” إننا نحب ونكره، ونخاف ونشجع، ونشمئز ونقبل، ونفعل ونترك، عواطف كَمُنَت فينا منذ الطفولة، ولا ندري بها، إلا بعد التحليل الشاق ” سيغموند فرويد
مقدمة:
تسجل صدمة الولادة المشهد الاغترابي الأول للإنسان، وفي هذه اللحظة التي يتدفق فيها نور الحياة يجد الطفل نفسه في عالمٍ مدهش يضج بالغربة والاغتراب، وهنا تبدأ اللحظة الصدامية الأولى بين الإنسان والوجود بانتقال الطفل من وطن الأنس المطلق إلى عالم يفيض بالمجهول ويغص بالآلام ([1]). فالولادة هي الرحلة من وطن الحنان المطلق إلى عالم يضج بالألم ويرتجف بالأحزان، ومن كون يغدق بالعطاء إلى كون المواجهة والتحدي؛ وفي هذه النقلة الأولى يتجسد معنى الاغتراب الوجودي للإنسان في لحظة ميلاده الأولى. وتلك هي الحقيقة التي يؤكدها رانك Rank في مختلف دراساته وأبحاثه حيث يعلن بأن صدمة الولادة هي الحدث الأكثر أهمية في تاريخ الفرد في المستويين البيولوجي والسيكولوجي، لأن الولادة هي الانفصال الأول للكائن الإنساني (الجنين) عن الأم.
في مرحلة الطفولة المبكرة تكمن أسرار الوجود الإنساني، أسرار القوة وأسرار الضعف، فالشخصية الإنسانية تشكيل طفولي تحددت سماتها وملامحها في المحطات الأولى من مرحلة الطفولة المبكرة. والطفولة الإنسانية ليست فراغا بل وجودا حيويا متدفقا، وهي ليست نسيانا، بل فيضا أصيلا يتدفق في الذاكرة الوجودية. فالعلبة الأسود للوجود الإنساني مشحونة بتاريخ الطفولة، وفي كل منعطف من هذا التاريخ ترتسم ملامح الشخصية الإنسانية وتتحدد معالم وجودها. وليس غريبا أبدا أن تكون الطفولة مستودعا لطاقات النمو، وذخيرة لأسرار الحياة الإنسانية، وبذورا لسمات الشخصية للإنسان. وهذا يعني أن أسرار التصدع وعوامل التكامل مسجلة في العلب السوداء للطفولة الإنسانية ([2]).
فالمعاناة الوجودية لصدمة الولادة، التي تضع الكائن الإنساني وللوهلة الأولى في لحظة اتصاله الأول بالعالم الخارجي، تأخذ مداها وتتعاظم أهميتها في غضون السنوات الثلاثة الأولى من عمر الكائن الإنساني، وتشكل المرحلة الحاسمة التي تلعب دورا كبيرا في رسم الملامح الأولى لشخصية الكائن الإنساني لاحقا، وتلك حقيقة تكاد تحظى بإجماع العاملين في مجال علم النفس والتربية ([3]).
إنه لمن المدهش حقاً هذا الانفعال الجارف الذي يسيطر على بعض المرضى الراشدين، الذين يعانون من بعض العقد النفسية، عندما يسرّون لطبيبهم حوادث جرت لهم في مرحلة الطفولة المبكرة وذلك بعد عدة جلسات معالجة واسترخاء، وعندما تمر ذكريات الطفولة المؤلمة يجهش هؤلاء المرضى بالبكاء وهم يسترجعون ذكريات متوغلة بعيدا في مراحل طفولتهم المبكرة، وهي ذكريات قدّر لها هنا، وتحت تأثير المعالجة النفسية، أن تصعد إلى السطح من ساحة اللاشعور السحيقة، أو من العلبة السوداء بوصفها السجل التاريخي للوجود الإنساني، إلى ساحة الشعور. إنها ذكريات تعود إلى الطفولة المبكرة ما بين الثالثة والخامسة من العمر. وبعض من هذه الذكريات يرمز إلى إكراهات وإحباطات بالغة الشدة عاناها الفرد في مرحلة طفولته، إنها بالتالي تسجل نفسها في داخل الفرد نوعا من مشاعر الكراهية والحقد التي قتلت في نفس الفرد إحساسه بالسعادة وأثرت كثيرا في تصوراته وحياته العاطفية.
يؤكد علماء النفس المعروفين مثل: ميلاني كلاين Melanie klein، ووينيكوت Winnicott، وسبيتز Spitz، وموالون Wallon، على أهمية دراسة الشروط العاطفية للرضيع لإدراك التطورات النفسية اللاحقة عند الراشدين ([4])، وليست غريبة علينا اليوم هذه الأهمية الكبيرة للشروط الخاصة بحياة الأطفال الرضع، ومدى تأثيرها في نموهم وتطور سماتهم الشخصية اللاحقة. ومع ذلك يمكن القول بأن الدراسات التي أجريت وتجرى على حياة الأطفال المبكرة مازالت حديثة العهد، وما زلنا في طور مرحلة جديدة من الأبحاث والدراسات التي تأخذ اتجاهات متعددة حول الطفولة وقضاياها.
وتركز هذه الأبحاث والدراسات اليوم على دراسة الأجواء التي تحيط بعملية الولادة، وتأثير هذه الأجواء الانفعالية على صحة الأم الشابة وعلى نوعية العلاقة التي تربطها بمولودها الجديد.
ومنذ عدة سنوات بدأ علماء النفس والأطباء يهتمون بدرجة ملحوظة بحياة الأجنة ومسارات تطورها. وانطلقت الدراسات العديدة في أنحاء مختلفة من العالم تسعى اليوم إلى دراسة ذبذبات الدماغ ونشاطه عند الجنين وذلك عبر التصوير الإلكتروني المتطور.
وبينت هذه الدراسات جميعها أن الأجنة تشعر بانفعالات الأم وتتأثر بها إلى حد كبير، ويحدث للجنين تحت تأثير بعض الظروف الخارجية أن يصرخ وأن يبكي بصورة ما. وبدأت على الأثر تظهر تصورات علمية جديدة حول حياة الجنين والأم الحامل. وقد عززت هذه التصورات الآراء الشعبية التي تفيد بأنه يجب على الأم الحامل أن تتجنب جميع أشكال الخوف والقلق والاضطرابات النفسية لأن ذلك قد ينعكس سلبا على حياة جنينها ([5]).
لقد سبق للدكتور سبيتز أنه كان أول من صور خمسة وثلاثين عملية ولادة استطاع من خلالها أن يرسم بدقة ردود الأفعال والاختلاجات الأولى خلال خمس دقائق بعد الولادة مباشرة. وقد أتاحت هذه الوثائق ملاحظة التغيرات اللاحقة التي تبدو على الرضع في تواصلهم مع الشروط التي أحاطت حضورهم إلى هذا العالم.
وتأخذ المرحلة الأولى من تشكل الأنا أهمية مركزية وذلك لأنها التجربة الأولى للحياة في العالم الخارجي (خارج رحم الأم) بالنسبة للكائن الإنساني. وهنا يأخذ الطفل والأم بالإدراك بأنهما يشكلان وحدتين منفصلتين تدريجياً. وبالتالي فإن العلاقة بين الأم والرضيع تكون بالغة القوة والعمق ولاسيما خلال الأيام الخمسة عشر الأولى، وهي علاقة رهينة بعدد كبير من العوامل الداخلية والخارجية، وفي إطار هذا الحشد من المؤثرات تأخذ علاقة الأم الخاصة بأمها هي شخصياً دوراً بالغ الأهمية ويأخذ اتجاهاً معينا في مستوياته المادية والنفسية ([6]).
فالأم هي الموضوع الأول لحب الرضيع الذي يكون عند لحظة الولادة كائن لاشعوري على نحو كلي. فهو كائن نفسي وفيزيائي لا متمايز منفتح ومفرط الحساسية إزاء كل أشكال العدوانية الصادرة عن الوسط المحيط به، وهو بالإضافة إلى ذلك مجرد من إمكانيات الدفاع كلياً.
وهنا يشير وينيكوت Winnicott إلى البنية الهشة “للأنا “Le Moi عند الرضيع. وغني عن البيان أن وينيكوت كان طبيب أطفال ومحلل نفسي في الوقت نفسه ويمتلك تجربة علمية حصادها أربعون عاماً من العمل الخاص بالعلاقة بين الأمهات والأطفال الرضع ثم الأطفال. وهو في هذا الصدد يذكرنا بأن ردود فعل الأنا عند الراشد إزاء الصدمات النفسية الخارجية، أو أية صدمات أخرى، تختلف عن ردود الفعل هذه التي نجدها عند “أنا” الطفل الرضيع. وذلك لأن “أنا” الرضيع لا يستطيع أن يدافع جيداً وبالتالي فإن أناه يبدأ في التكون تحت شروط محددة: لأنه في حالة اتكالية وتبعية مطلقة كما يذكرنا وينيكوت Winnicott..
وتدريجياً وبفضل الأم ينبثق وجود الطفل السيكولوجي من اللاشعور الذي يطلق عليه هنا بالهو. Le Ça ففي كل يوم وفي كل ساعة تعلمه الأم وذلك وفقاً للحاجات التي يشعر بها بوجود قوى خيرة وقوى شريرة. وبالتالي فإن كل حركة من حركات الأم تشعر الطفل باللذة، فهو يشعر بالسعادة عندما تدغدغه، وعندما تنظفه، وعندما ترضعه.
وإذا كانت الأم في أفضل حالاتها قادرة على الاستجابة لحاجات الطفل في الوقت المناسب فإن الطفل يبدأ بإدراك اللحظات التي يتم فيها أولا إشباع حاجاته. ويلاحظ في أيامنا هذه أن الآباء الشباب يعنون اليوم بأطفالهم على نحو إيجابي وذلك يساعد على تشكّل الأنا بصورة أفضل ويأخذ المسار نفسه كما هو الحال عند الأمهات.
فالأفعال البسيطة مثل: حمام الطفل وتغذيته ومعانقته ووضعه في سريره تشكل سلسلة من الاشباعات المختلفة الصادرة عن شخص آخر مقرب من الطفل ولكنه ليس الطفل نفسه. وهنا يبدأ أنا الطفل حقاً بأخذ خطواته الأولى إلى الوجود السيكولوجي ([7]).
فالمرحلة الفموية التي تسم الشهور الأولى من حياة الرضيع ليست محددة تماماً، فهي مرهونة إلى حد كبير بالسياق الاجتماعي والثقافي والفردي الذي يحيط بالطفل. ففي بعض البلدان الإفريقية على سبيل المثال يستمر ذوبان شخصية الطفل مع الأم حتى السنة الثانية من عمره تقريباً، وذلك لان الرضاعة تتوقف في هذا العمر وهو العمر نفسه الذي تكف فيه الأم عن حمل الرضيع على ظهرها.
ويشير علم النفس الدينامي لمدرسة التحليل النفسي إلى وجود علاقة تداخل عميقة بين المرحلة الفموية وبين المراحل التي تعقبها، ولاسيما المرحلة الشرجية، والمرحلة القضيبية أو التناسلية. ويتضح أن تحليل فرويد لبنية الشخصية ينطلق من مفاهيمه الخاصة بالدوافع والرغبات والعقبات والصراعات. ولذلك فإن مستقبل هذه الدوافع الأولية هو الذي يفسر التطور النفسي عند الطفل. فالدوافع الأولية تمتلك على عمليات دينامية ذات أساس بيولوجي تدفع الفرد إلى إشباع بعض الحاجات الأساسية مثل الجوع والعطش والنوم والنشاط العاطفي. والتحليل النفسي ينظر إلى الفرد بوصفه موطناً لقوى متناقضة تتفاعل والنتيجة هي تحقيق التوازن في البنية النفسية.
فالدوافع تكون مشحونة بالطاقة التي تسعى نحو التحرر، ولذلك فهي تنتهك التوازن الفيزيولوجي وتخلق حالة من الضبط الذي يشكل بدوره مصدر اللذة. ومن هذا المنطلق فإن الدافع يسعى إلى موضوعه لتفجير الطاقة المتراكمة ثم العودة إلى تحقيق التوازن السابق. ويخضع هذا السلوك إلى ما يسميه فرويد مبدأ اللذة Le principe de plaisir.. ولكن المحيط الخارجي يمتلك متطلباته وضروراته وبالتالي فإن الجوانب الغريزية للدافع يجب أن تخمد كلياً. وينتج عن ذلك إحباطات وصراعات. فالصراعات والإحباطات لا تعارض بالضرورة عملية نمو الأنا، وبالتالي فإن إيجاد الحلول لهذه الصراعات يسهم في بناء الشخصية ويكونها.
فدوافع الجوع والعطش والنوم هي دوافع تحقق إشاعاتها في عصرنا دون صعوبات. ولكن الدافع العاطفي يواجه بقيود كبيرة تمنع من إشباعه بشكل مباشر، ولذلك غالباً ما يتم إشباعه بطرق غير مشروعة. ومن جهة أخرى فإن هذا الدافع بالغ التعقيد هنا والذي يدفع إلى تساؤل مفاده: هل يمكن لعملية الإشباع الكلية لهذا الدافع، وعلى خلاف ما يعتقده رايتش Reich، أن تؤدي إلى إطفاء الرغبة والتي تملك هي بنفسها أهمية كبيرة من أجل بناء الشخصية. والحقيقة أن التربية الإسلامية قد نوهت إلى ضبط هذه الحاجة في ظل وجود العقبات إلى ما دعا إليه رسول الله(ص) بقوله: ” يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء”. وأما ما فهمه الغرب اليوم تجاه إشباع هذه الحاجة والخشية من كبتها لكيلا تسبب خللا في عملية بناء الشخصية، وجعلها تسمح بالإباحية فهم خاطئ قادها إلى سلسلة من الأمراض الخطيرة التي فتكت وما تزال تفتك في كل من يسعى إلى ذلك السبيل.
2- “أنا” الطفل يبدأ بالتكون:
تبدأ “أنا ” الطفل بالتكون، وكما أشرنا سابقا، منذ الأيام الأولى لحياته وتستمر عمليات هذا التكون خلال مرحلة الطفولة برمتها، وهي مع ذلك تواجه صعوبات يصعب حلها. وذلك على الرغم من الأعمال الكبيرة التي وفرها لنا علماء النفس مثل سبيتز Spitz وبولبي Boulby وهارتمان Hartmann وكريس Kriss.
كرس سبيتز جهوده لدراسة العلاقة بين الأم والرضيع منذ لحظة الولادة في بداية نشاطه العلمي، ثم اتجه لاحقا إلى دراسة كيفيات تشكل هوية الطفل النفسية ولاسيما خلال السنوات الأولى من عمره، وهو يميز هنا بين ثلاث عمليات تطورية، أطلق عليها تسمية “منظمات الحياة النفسية” وهي: الابتسامة في الشهر الثالث من عمر الطفل، ثم ظهور القلق في الشهر الثامن، ثم السيطرة والقدرة على إعلان الرفض في السنة الثانية، والعملية الأخيرة كما هو بائن تؤكد على الاستقلالية النسبية للطفل وتشكل المؤشر الأول لقدرة الطفل على إصدار الكلام([8](.
وتعد أبحاث سبيتز حول هزال الرضيع واضطرابات التعددية والخمول الذي يعتري الرضع الذين وضعوا في المشافي وأبعدوا عن أمهاتهم لأوقات طويلة جداً من أشهر الأبحاث في العالم الطبي، وهي أيضا من أهم الأبحاث التي أجريت خارج مجال علم النفس المرضي من أجل دراسة التفاعل بين الوسط المحيط والطفل الطبيعي. والسؤال هو كيف يستطيع الرضيع وخلال الأسابيع المتعاقبة من ميلاده وحتى نهاية السنة الثانية تدريجيا بناء علاقاته مع موضوعاته؟ وكيف تتم التحولات من المستوى الفيزيولوجي إلى المستوى السيكولوجي؟ ومن الحياة التفاعلية في داخل الرحم إلى بناء العلاقة الاجتماعية المزدوجة بين الرضيع والأم؟ هذه هي الأسئلة التي كان سبيتز يسعى إلى الإجابة عنها في أبحاثه هذه.
فالأم هي موضوع الحب الأول بالنسبة للطفل وعليه فإن الأم تشكل الموضوع الأول لإشباع رغبة الطفل. وإذا كنا نولي علاقات الحب الأولى للرضيع إزاء أمه، فذلك لان هذه العلاقات الأولى تشكل المنطلق الأول الذي تتشكل فيه التجارب الإنسانية الأولى وقدرة الكائن الإنساني على الحب.
وتبين الدراسات العلمية والملاحظات المنهجية أن الأشخاص الذين عاشوا في أحضان أمهات قليلات الجدارة، كانوا قد سجلوا فيما بعد سيرة حياة تفتقر إلى القدرة على الحب. على مبدأ فاقد الشيء لا يعطيه والإناء ينضح بما فيه. ومن هذا المنطلق فإن الدراسة المتأنية لحالة الأفراد في مرحلتي الرضاعة والطفولة تسمح لنا أن ندرك أصل السلوك الخاص بمرحلتي المراهقة والرشد، وأنه يمكن لنا ومن خلال ملاحظة السلوك الذي يبديه الشباب تجاه المربين من أباء ومعلمين أن ندرك تأثير الانفعالات والقلق وردود الفعل الانفجارية التي تعيد إنتاج السلوك في المرحلة الطفولية الأولى.
يذكرنا فرويد بأن فهم الشخصية الإنسانية ممكن بإدراك ثلاث مراحل من مراحل تطورها وهي:
1 – نظام الهو Le Ça)) والذي يشكل قطب الدوافع اللاشعورية. والطفل في مرحلة ميلاده هو كلياً صورة عن الهو.
2- نظام الأنا Le-Moi وهو لحظة مركزية في بنية الشخصية، وهو يتشكل وفي آن واحد من خلال عملية إدراك الفرد لجسده وإدراكه لبنيته النفسية. ومجال الأنا هو تصورات الفرد وإدراكاته للعالم الخارجي. ويقوم الأنا بدور المحافظة على ذاتية الفرد. فالأنا يستقبل منبهات الوسط الخارجي ويسقط منها ما هو خطر قد يؤثر على وحدة الشخصية. فالأنا Le moi هنا يعمل وفقا لمبدأ الواقع وهو يتطابق مع تفكير موضوعي وعقلاني ومع تفكير اجتماعي أيضا. ويمكن القول في هذا الصدد إن ” أنا ” الرضع والأطفال يعاني من الضعف والهشاشة، وإن “أنا” الراشدين يجب أن يكون قوياً متماسكا.
ففي مجرى الطفولة يتطور الأنا ويصبح وبشكل تدريجي أكثر تكاملا ونضجا وحتى هذه اللحظة يكون الأنا الأعلى ضعيفا. ويشكل الأنا الأعلى Le Sur- Moi نظاما شعوريا ولاشعوريا في آن واحد وهو يتشكل تدريجيا وذلك من لحظة التنشئة الاجتماعية التي يخضع لها الطفل داخل الأسرة والمجتمع. ويتم ذلك في الوقت الذي يبدأ فيها الطفل بإدراك نماذج الحياة الخارجية، ومنذ اللحظة التي يبدأ فيها باستدخال هذه النماذج والتوحد معها. وهو إذا كان شعوريا ولاشعوريا في آن واحد فانه يعلن عن وجوده في عملية نقد ذاتية وعبر عملية بناء القيم الشخصية للفرد.
ويمكن القول في هذا الخصوص أن الأنا الأعلى والأنا عند الطفل يتميزان بالهشاشة والضعف. ويكمن دور الآباء والمربين في تطوير أنا الطفل وذلك دون أن تكون لديه أنا أعلى صلب ومشبع بالممنوعات والدفاعات. فالتربية المتوازنة تضفي على الأنا الأعلى للطفل مرونة كاملة. وهنا يجب الابتعاد عن إخجال الطفل بدرجات عالية وأن نساعده على أن يعبر عما يدور في خلده وأن يعبر عن نزعاته العاطفية حتى العدوانية منها. وتلك هي واحدة من الصعوبات التي يواجهها أكثر المربين حيث يتوجب أن يكون هناك حد فاصل بين التعبير الحر عن النزعات والدوافع من جهة، وتجليات هذه النزعات والدوافع من جهة أخرى، ويعني ذلك أنه لا بد من إجراء عملية المنع والصد. وهنا يكمن جوهر المسألة، فمن أجل فهم شخصية الطفل لا بد من إدراك الوسط الاجتماعي والعائلي الذي يعيش فيه، ومن ثم إدراك آليات دفاع الأنا لديه إذا كان ذلك ممكنا. وذلك يعني إدراك كل ما هو مكبوت لديه في دائرة اللاشعور.
فآليات الدفاع عمليات لاشعورية بالضرورة، وهي تأخذ مجراها عندما تتعرض الشخصية لخطر ما يصدر من العالم الخارجي، وهذا ما يجب علينا أن نذكره دائما، فالعالم الخارجي يتمثل في انبعاث دافع أو رغبة غير مسموح بإشباعها من قبل الآباء والمجتمع.
ومن آليات الدفاع المعروفة يمكن أن يشار إلى الكبت بالدرجة الأولى وهي العملية الأكثر أهمية وال أكثر تواترا، وهي العملية التي اكتشفها فرويد والتي أصبحت مقرونة إلى حد كبير باسم مدرسة التحليل النفسي مثلها مثل مفهوم العقد والمركبات (Complexes). فالكبت يحدث عند الراشدين كما هو الحال عند الأطفال، وذلك في كل لحظة تستحوذ عليه فكرة أو دافع لا يتوافق مع الحياة الاجتماعية والثقافية. فالطفل قد ينظر إلى أبيه نظرة يتمازج فيها الحب بالكراهية، فالطفل يدين لأبيه بمشاعر المحبة ويترتب عليه أن يكبت مشاعر الكراهية التي تعتريه تجاه أبيه. فعلى سبيل المثال: تمتلك الطفل الصغير، الذي يحب أمه إلى حد العبادة، مشاعر عدوانية تجاهها، وذلك عندما لا تعطيه الحب الذي يرغب فيه، أو عندما توجه عاطفتها نحو زوجها أو أبنائها الآخرين، وذلك في الوقت الذي يرغب الطفل فيه أن يحصل على اهتمامها وحبها متفردا بها ومنفردا بعنايتها واهتمامها. ولكن الطفل يشعر بالألم لمجرد أن تعتريه مشاعر الكراهية تجاه أمه، وهي التي يحبها ويحتاجها في آن واحد. وتحت تأثير هذه الحالة تحدث عملية كبت هذا الحقد أو هذه الكراهية في ساحة اللاشعور، ويضاف إلى ذلك كله أن الأنا الأعلى يستهجن وجود هذه الكراهية ويدينها أخلاقيا ([9]).
وتقدم لنا الحياة اليومية أمثلة متعددة لعلميات الكبت الذي يتعرض لها الأفراد. والتي يمكن ملاحظتها في مجالات الحياة المختلفة لكل منا. إن قدرا ما من الكبت الذي يتعرض له الأفراد ليس سيئا ويمكنه إن يساعد على التكيف الاجتماعي. وهناك حالات كبت ليست مفيدة فحسب بل هي ضرورية ومع ذلك لا يمكن إهمال النظر في الكبت الضار الذي يتعرض له الأفراد، فالمسألة هي مسألة الدرجة لا مسألة النوع. ولكن كيف يمكن رسم الحدود بين هذين النوعين من الكبت! وهنا يمكن القول: إن الكبت يكون ضارا عندما يؤدي إلى اضطراب الحياة الانفعالية العاطفية وعندما يؤثر على درجة فعالية نشاطنا أو على إنتاجية عملنا ([10]).
وتعد عملية الإسقاط Projection واحدة من أهم العمليات الدفاعية. وتتمثل هذه العملية في إسقاط مشاعر الفرد الداخلية ولا سيما العدوانية منها على شخص آخر أو موضوع خارجي. فالطفل الذي يشعر بالكراهية تجاه أبيه يكبت هذا الإحساس أو يسقط مشاعره هذه على الأب حيث يعتقد الطفل، هنا وبتوسط عملية الإسقاط، أن الأب هو الذي يكرهه حيث يقول في قرارة نفسه إن «أبي يكرهني بدلا من أن يقول أنا أكره أبي». وذلك يعني أن الطفل في هذه الحالة أضاف مشاعره إلى الأب أو بالأحرى أسقطها عليه، وهذا الإسقاط يحرره من عناء إحساسه بأنه يكره أباه، لأن مثل هذا الإحساس يسبب له آلاما نفسية ومخاوف شتى. وفي كل الحالات والأحوال فإن عمليات الإسقاط تأخذ هذه الصيغة وهي: هو الذي بدأ وهو الذي يكره ولست “أنا”.
ويمكن إدراج العدوانية الذاتية في سجل العمليات الدفاعية، حيث تشكل العمليات الموجهة ضد الذات العملية الثالثة من عمليات الدفاع. فالفرد في هذه العملية يرتد ضد نفسه ويدينها ويوجه إليها المشاعر العدائية التي يفترض به أن يوجهها إلى الآخرين. وهذه العملية تحميه ضد العلاقة العدوانية مع الآخر والتي يمكنها أن تكون أكثر خطورة. وحالات الانتحار خير شاهد على هذه العملية، وهي تمثل الحد الأقصى للعدوانية الذاتية. وذلك يتم عندما لا يستطيع الشخص أن يحتمل كونه عدوانيا تجاه العالم الخارجي وهذا يعني انه يوجه العدوان ضد نفسه بدلا من توجيهه ضد الآخرين.
ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى عملية التحويل المعاكس بوصفه العملية الرابعة بين عمليات الدفاع الأنوية، وقوام هذه العملية الإحساس المخالف لما هو مطلوب على سبيل المثال: عندما يلعب الأطفال يعتمدون لعبة فيها كثير من الغرابة: فالأطفال الأصغر يستخدمون هذه العملية من أجل تحويل الانتصار إلى جانبهم فالذي يصل أخيرا في مجال السباق يعد هو الرابح والمنتصر.
وفي النهاية يمكن الإشارة إلى ما يسمى بعملية “العزل” أو وضع الحدث على مبدأ الحياد، وهي العملية التي يستطيع الطفل من خلالها أن يفصل بين الحدث والسمة الانفعالية الكامنة فيه. فعندما يواجه الطفل أو الراشد حدثا مؤلما بطريقة لامبالية، فإن هذه اللامبالاة هي في أغلب الأحيان نتاج لعملية عزل لاإرادية بين الحدث والانفعال القوي الذي يرافقه وبالتالي فإن الطفل قد استطاع تحييده.
وفي هذا الصدد يمكن القول إن التشكل على أساس ردود الفعل هو آلية دفاع هامة، وهي الآلية التي يحاول فيها الفرد أن يوازن بين إحساس أو رغبة لا تتوافق مع المعطيات المثالية للأنا الأعلى. فالشفقة الزائدة يمكن أن تكون رد فعل ضد عدوانية عالية جدا وغير مقبولة. والكرم المبالغ فيه يمكن أن يكون نزعة إلى الحصول على كل شيء والاحتفاظ به.
ويجب أن ألا ننسى عملية الدورة الصغرى للانفعالات، وهي عملية التجسيد، وهذا يعني تحويل الشيء إلى مرض جسدي أي تحويل الصراعات الانفعالية التي لم تجد حلا لها إلى صورة أمراض جسدية وهذا هو مجال علم النفس الجسدي.
وتعد عملية التسامي Sublimation واحدة من العمليات الدفاعية وذلك في إطار المنظور الفرويدي. وعلى خلاف ذلك فإن هذه العملية هي عملية تحويل طبيعية من وجهة نظر يونغ وهي التي توجه النزعة أو الغريزة إلى غايتها الروحية العليا.
ومهما يكن الأمر فالتسامي عملية خلاقة وإن كان يصدر عن نزعة عاطفية أو عدوانية مكبوتة، فهو الذي يشكل منطلق الإبداع الفني والمهني حيث يعلن جان لاكان: بأن سر الحضارة الأوروبية يكمن في عقدة أوديب، فالنزعات المدفونة المكبوتة هي التي تتيح للإنسان أن يصبح فنانا وشاعرا وأديبا ومبدعا. والأفضل دائما أن يحقق المرء تساميا جيدا من أن يتعرض للأمراض العصابية القهرية.
ويجب هنا على المربي أن يدرك جميع هذه العمليات الدفاعية التي يوظفها الأنا. ومع ذلك فإن المربي سيجد نفسه في وضعية مزدوجة وهي وضعية جيده من جهة، وصعبة من جهة أخرى، وذلك في إطار فهم دور العالم الخارجي في تصليب الأنا وتعزيز مرحلة النضج والمراهقة عند الفرد ([11]).
لقد أجمعت تجارب العلماء وتأملاتهم على أهمية السنوات الأولى من حياة الأطفال باعتبارها فترة حاسمة خطيرة في تحديد شخصياتهم وتكوينها، وذلك لما يتكوّن في نفس الطفل خلالها من اتجاهات وعواطف واعتقادات تتسم بصفة الثبات النسبي الذي يصعب تغييره لاحقا. ويذهب بعض العلماء في هذا الصدد إلى الاعتقاد بأن بعض السمات التي يكتسبها الفرد في طفولته يصعب تغييرها على مدى الزمن: كالخجل، والجرأة، والعدوان أو الخضوع والاستقلال أو الاتكال على الغير، والثقة بالنفس أو عدم الثقة بها، والحرص والإهمال. وفي هذا الصدد يؤكد بيرت على أهمية العوامل الأسرية بقوله ” إن أشيع العوامل وأكثر ها خطرا وتدميرا لشخصية الفرد هي العوامل التي تدور حول حياة الأسرة في الطفولة ([12]).
فالطفل يدرك وبصورة لاشعورية خلال سنوات حياته الأولى مشاعر والديه نحوه، ويشكل إدراكه لهذه المشاعر المنطلق الأساسي لمفهوم الطفل عن نفسه، وعن العالم وعن مكانه في هذا العالم. فالطفل الذي ينظر إليه والديه بازدراء يتعلم ازدراء نفسه في المستقبل، والطفل الذي يتقبله والده من المحتمل أن يطور اتجاهات إيجابية نحو تقبله لذاته في مختلف مراحل العمر ([13]).
لقد اهتمت دراسات كثيرة بالمقارنة بين سلوك الأطفال الذين عاشوا في وسط عاطفي دافئ، وسلوك الأطفال الذين يأتون من أسر يسودها الجو الاستبدادي. وقد بينت هذه الدراسات، على الأثر، بأن الأشخاص الذين ربوا وترعرعوا في أجواء أسرية يسودها التعاون يتميزون عن الأطفال الذين ربوا بأجواء أسرية استبدادية بأنهم:
1- أكثر اعتمادا على النفس، وميلا إلى الاستقلال والمبادرة.
2- أكثر قدرة على الانهماك في نشاط عقلي تحت ظروف صعبة.
3- أكثر تعاونا مع الآخرين، ومحبوبين من قبل الغير بشكل أكبر.
4- أكثر اتصافا بالود، وأقل اتصافا بالسلوك العدواني.
5- أكثر تلقائية وأصالة وابتكار.
وقد وجد في دراسات أخرى أن كثيرا من الأنماط الثابتة في سلوك الأطفال في طفولتهم ومراهقتهم ترتبط إلى حد كبير بنوع المعاملة التي كانوا يتلقونها من أمهاتهم في طفولتهم.
وهناك دراسات كشفت عن وجود ارتباط كبير بين معدلات ذكاء الأفراد في مراحل مختلفة من الأعمار ونوع المعاملة التي كان يجدونها من أمهاتهم في مرحلة الطفولة المبكرة، حيث تبين أن استعمال الأمهات للأساليب القسرية والصرامة والشدة في معاملة أطفالهن في مرحلة الطفولة ما بين (2- 3) سنوات من العمر يرتبط بانخفاض في معدلات ذكائهم في مرحلة الرشد.
ومن الأسباب التي تزيد من تأثير الجو المنزلي بشكل كبير في تكييف الطفل من الناحية الاجتماعية أو العاطفية هو أن الطفل أو المراهق ينظر إلى ذاته ويتقبلها بنفس الدرجة التي يتقبل بها أعضاء أسرته لهذه الذات، ويلعب تقبل الذات دورا هاما في أمن الطفل العاطفي. فالأطفال الذين يعيشون في أسر يتصف جوها بعدم تقبل الطفل، ونقده نقدا حادا فإنهم يميلون إلى تقبل هذا التقدير السلبي لأنفسهم ولذا فإن لاتجاهات الآباء نحو أبنائهم في مرحلة الطفولة المبكرة تأثيرا كبيرا في تحديد الدرجة التي يستطيع الطفل بلوغها في تطوير مشاعره وتقبل ذاته.
3- فرويد وتأثير الوضعية الأوديبية.
تشكل الوضعية الأوديبية المسألة الأساسية للوجود الإنساني عند فرويد Freud وهي وضعية تعيشها الكائنات الإنسانية دون استثناء مهما تكن الثقافة التي ينتمي إليها الفرد. يرى فرويد في الوضعية الأوديبية منطلقا منهجيا في فهم الوجود الإنساني بما ينطوي عليه من تكوينات وبنى وإشارات ورموز. والوضعية الأوديبية هي الحالة العاطفية للطفل التي تبدأ من الثالثة إلى الخامسة من العمر، حيث تظهر لدى الطفل الرغبات العاطفية الموجهة نحو الأب من الجنس المخالف له. ويقابل هذا حالة من العدوانية والغيرة تجاه الأب المماثل له في الجنس حيث تولد عند الطفل رغبة يتمنى عبرها موت أبيه من الجنس نفسه.
وبالتالي فإن الطريقة التي يتم بها الخروج من هذه الوضعية تلعب (في رأي فرويد) دورا حاسما في تحديد هوية الطفل في مرحلة الرشد. ويحدد ذلك في البنية النفسية عند الطفل مفاهيم السلطة والحب والعلاقات العاطفية والجنسية. كما يؤدي ذلك إلى تحديد الأنماط السلوكية للطفل، إزاء السلطة والحب والعلاقات الجنسية، وذلك في مرحلة الرشد. وترتبط الوضعية الأوديبية هذه مع وضعية الكبت أو مع وضعية الرغبات التي تستوجب العقاب. فالطريقة التي يعتمدها الآباء في حل هذه الإشكالية والخروج بالطفل من الوضعية الأوديبية تترك آثارها النفسية وتؤثر في بناء التصور الذي يكونه الفرد عن نفسه وعن قدراته (تصوراته ومواقفه الخاصة بجنسه وأفعاله وإمكانيات تأكيد الذات). لقد حاول علم التحليل النفسي Psychanalyse وعلى نحو واسع تفسير عقدة الخصاء Complexe de Castration بوصفها عملية نفسية تؤدي إلى خلل في الشخصية، وذلك عندما يكون الأبوان متسلطين ويعمدان إلى القسر والإكراه في حرمان الطفل من حرياته ومتطلباته، وعند ذلك فإنهما يحطمان عند الطفل كل إمكانيات تأكيد الذات واستقلاليتها. وتحت تأثير ذلك يقتنع الطفل أخيرا بإيعازات الأبوين: فهو لا يصلح لشيء، ولا يستطيع أن يقوم بأي عمل جيد وليس له الحق في القيام بأي عمل ([14]).
وفي مواجهة الرغبات العدوانية والرغبات العاطفية المستهجنة عند الطفل، تعمل الأسرة على إصدار تهديدات وتوجيه عقوبات مختلفة القوة ضد الطفل الأوديبي وفقا للتقاليد الخاصة بالعائلة (التهديد بالخصاء مثلا عند فرويد). وتوجد أمام الأسرة إمكانيات متعددة للخروج من هذا المأزق الوجودي الذي يتمثل في بنية هذا الصراع الأوديبي. فعلى سبيل المثال يكون التسلط والمنع قويا في العائلات الطهرية التقليدية في مواجهته هذه الرغبات الأوديبية. وعندما يواجه الطفل هذا التسلط والمنع يعمل على إخفاء كل ما يتعلق بالجنس (عنصر من عناصر العقلية الطهرية التي توجد في شكل طبيعي في هذه العائلات). وقد شكلت رؤية فرويد لأهمية هذه المرحلة الأوديبية منطلقا منهجيا اعتمده علماء النفس في تحليل وتفسير مظاهر نفسية متعددة أهمها عقدة التمرد.
فالمتمرد هو شخص لا يستطيع أن يخرج من دائرة العقدة الأوديبية، ولذلك فهو لا يستطيع أن يواجه السلطة التي تأخذ طابعا أبويا كما أنه لا يستطيع أن يتوافق مع الحب الذي يأخذ طابعا أموميا أو صورة علاقات جنسية. فهو يعيش حالة حصار وقلق إزاء هاتين الحقيقتين وبالتالي فإن سلوكه يتميز بدرجة عالية من الآواليات الدفاعية. فالشخصية التمردية ترفض أية سلطة (الدولة – الرؤساء – المعلمون) والمتمرد يأخذ مكانه دائما إلى جانب جميع هؤلاء الذين يناضلون ضد الاستبداد، وهو يحاول أن يحقق ذاته بالانتماء إلى جماعات إنسانية هامشية.
أما فيما يتعلق بالعلاقات الجنسية فإن نرجسيته تشكل عقبة كبرى في سياق علاقاته العميقة والمتعددة فهو يعيش في المجتمع، وينظر إليه كأم سيئة تطعم طفلها بقسوة وتكاد تخنق طفلها من كثرة الطعام. ولذلك فهو يدافع عن نفسه ضد هذا الطعام. ولذلك فإن الديموقراطية هي أم سيئة تصدر عنها أخلاق الاصطفاء والغدر التي لا تلبي لديه حاجات الأنا المركزية. وباختصار فإن طريقة خروج الطفل من العقدة الأوديبية يحدد له مواقفه اللاحقة من السلطة والحب والعلاقات الجنسية كما تحدد له إمكانياته في تأكيد ذاته وهويته.
4-أدلر وتأثير الشعور بالدونية.
أما بالنسبة لأدلر فإن الوضعية الأساسية للطفل هي وضعية الشعور بالدونية. فالطفل كيان ضعيف يخضع لمعاملة الكبار والوضعية العائلية تقدم له إمكانيات متعددة للخروج من حالة الضعف هذه. وهو حسبما يكون في السلم الأسري (بكرا أو الأصغر) فإنه يقبل أو يرفض يحتضن أو يهمل من قبل هذا أو ذاك من أعضاء أسرته، ولذلك فإنه يبحث عن طريقة ما ليعوض إحساسه بالضعف والقصور. والعائلة في نهاية الأمر تزوده بطرق الاستجابة لتعويض النقص الذي يشعر به إزاء الآخرين والسلطة، وهذا يتحدد بطبيعة تصوراته عن العلاقات الإنسانية. على سبيل المثال الأخ الأصغر يشعر بالهزيمة إزاء أخيه الأكبر ومع ذلك فهو يستطيع مواجهة سلطته وذلك عندما يتحد مع أخوته وأخواته لمواجهة سلطة الأكبر ([15]).
5- هورني وتأثير القلق (Horney):
ولكن هورني K. Horney يرى أن ثقافتنا الحالية تعطي للأشخاص نموذجا واحدا من الوضعيات الأساسية الخاصة بالتنافس والإخفاق والعزلة والتحدي، وهذا النموذج يولد عند الجميع حالة من القلق التفاعلي الأساسي، ومن أجل مواجهة هذه الوضعية فإن الفرد يطور مواقف عصابية (وذلك لأنه لا يشارك بطبيعته الحقيقية، وهذا يجعله غير متناسق ولا يشعر بالراحة). ووفقا للحالات نجد عند الأفراد اتجاهات عصابية: فهم يبحثون دائما عن السلام والهدوء والتوافق وهم وفقا لذلك يرفضون أي اتصال مع الآخرين وينسحبون من الحياة الاجتماعية. وقد يكون ذلك في البحث عن الحظوة والإعجاب عند الآخرين. (عقلية الحماس وحب الظهور). وفي النهاية عقلية تأكيد السلطة وتحقيق الذات (عقلية الحماس والاحتقار).
6- لاينغ laing ودور الآخر في تشكيل الأنا:
ويعتقد لاينغ ” Laing ” أن الوضعية الأساسية في مرحلة الطفولة هي العملية التي يتم فيها تحديد الأنا بواسطة الآخر “. فالنظام العائلي في واقع الأمر (مهما كانت حدود هذا النظام) هو نظام من الأدوار وفي دائرة هذا النظام يكون الطفل تحت تأثير مشاعر الدونية ووضعية التبعية التي يعيشها ولاسيما في مرحلة الطفولة الأولى فهو لا يستطيع أن يمتلك حرية أداء الدور الذي يرغب فيه بل يجب عليه أن يخضع لدور محدد ومرسوم بصورة مسبقة، حيث يكون كائن ينتظر منه أن يؤدي نشاطا ما يرتهن بالدور المحدد له.
فهوية الطفل تتحدد من قبل هؤلاء الذين يهيمنون أي من قبل الراشدين ولاسيما عائلة الطفل على وجه التحديد. فالنظام العائلي يقترح على الطفل دورا يقوم به وشخصيه يتمثلها من أجل أن يكون مقبولا في الأسرة. والطفل لا يملك خيارات بل يخضع إلى الأوامر والتعليمات من أجل ممارسة دوره. وهنا تتبدى الأهمية الأساسية لعملية بناء الهوية من خلال تحديد الأنا كمعطى من معطيات العائلة في مرحلة الطفولة الأولى.
وهنا نلاحظ بأن الفكرة الأساسية عند لينغ Laing ومعارضي التحليل النفسي تقوم على أساس أن اضطرابات الهوية تنشأ تحت تأثير الفاعلين الاجتماعيين الذين يعانون من المرض أنفسهم (أفراد، عائلات، جماعات أو مجتمع ككل)، وهؤلاء أنفسهم هم الذين يفرضون على الآخرين نظاما من العلاقات المرضية الخاص بهم. وبعبارة أخرى يسعى هؤلاء من أجل حماية نظامهم المرضي إلى فرضه على الآخرين وإلى بناء هويات أخرى مرضية. وذلك لأنهم لا يستطيعون الاستمرار إذا لم يستجب الآخرون لتلبية حاجاتهم المرضية. ومن هنا بالذات ينطلق لينغ ليقول بأن الهوية الشخصية هي دائما شخصية متواطئة، وذلك يعني أنها تحتاج إلى رفيق يؤدي أدوارا متممة لدور الهوية المتواطئة. وعندما يتم تشكيل الهوية واقعيا فإنها تحتاج إلى نظام من العلاقات التي كونتها. ومن هنا فهي توجه النداء إلى الآخرين من أجل الدخول في نظام التوقعات والعلاقات المقترحة. وهنا تتبدى الهوية بوصفها نظاما من المقتضيات على منوال مفهوم الدور وتوقعاته.
يصف لينغ في كتابه “حول العائلة”، على سبيل المثال، نوعا من العائلات التي تكره أطفالها على قبول وصف مشوه لأنفسهم. فالطفلة “ميا “Maya لا تستطيع أن توافق على صورة الطفلة الصغيرة الخاضعة التابعة، وهي صورة مفروضة عليها من قبل ذويها في عمر الرابعة، وهي على مضض تحاول أن تأخذ صورة هوية أخرى مختلفة عن هذه التي يحددها الآخرون لها.
7-التجارب الانفعالية وتشكيل الهوية.
يجب أن نلاحظ بأن الوضعيات الأساسية التي يقترحها المنظرون ليست واحدة، وهذا يعود إلى الملاحظات المختلفة وإلى طبيعة المناهج التي يستخدمها هؤلاء المنظرين في الكشف عن هذه الوضعيات. ومن المعروف أن فرويد بالغ الحساسية فيما يتعلق بالوضعية الأوديبية، وأن هذا الاهتمام يأتي من مركزية نظرته إلى عقدة أوديب. ومع ذلك وعلى تخوم هذه الاختلافات فإن هؤلاء المنظرون يمتلكون فهما واحدا لأهمية التأثير الانفعالي لماضي الأفراد، فالجميع يؤكد بأن تجارب الحياة الماضية تشكل وتُنمذج العقليات الفردية، ويمكننا في هذا السياق أن نحدد أهم المبادئ النظرية لمرجعيات هؤلاء المنظرين وعلماء النفس كما يلي:
– يواجه كل فرد حالات ووضعيات تسمه بطابعها الخاص.
-تترك هذه الحالات والوضعيات بصماتها وآثارها الانفعالية (الانطباع الانفعالي).
–هذه الانطباعات توجّه إدراك الفرد للكون: عاداته ردود أفعاله اللاحقة (مسلمة الإسقاطات الانفعالية).
–يمكن للآثار الانفعالية أن تتشكل في هيئة مبادئ وعقائد وتصورات ومسلمات توجه حياة الفرد ورؤيته للعالم.
–الانطباعات الانفعالية التي تتركها الوضعيات السيكولوجية المعاشة تأخذ طابعا عاما عند أغلب الأفراد فهي التي تحدد أوجه الاختلافات الملاحظة بين عقليات الأفراد: العقليات الثقافية العامة، عقليات الجماعات، العقليات الفردية ([16]).
8- الطفولة واضطرابات الهوية:
ترتبط أغلب اضطرابات الهوية التي تظهر عند الكبار مع طبيعة الهوية التي تحددت في مرحلة الطفولة فالسمات الخاصة بالهوية قلما تكون متكاملة وبالتالي فإن اللاتكامل ينمي مخاطر الاضطرابات اللاحقة للهوية.
يتصف انفصام الشخصية وهو مرض نفسي Schizophrenie باضطرابات كبيرة تشوش علاقات الفرد بالوسط الاجتماعي الذي يعيش فيه، حيث يوجد الفرد في حالة قطيعة كلية مع العالم ويعيش عزلة مطلقة بعيدا عن الإحساس بالمثيرات الخارجية ومنبهات الوسط.
وفي هذا الخصوص يشير باتسون Batson بأن هذه الهوية المرضية هي نتاج لإيحاءات متناقضة وأوامر مصدرها الوسط العائلي للفرد في مراحل مختلفة من طفولته. ففي داخل العائلة تقول الأم للطفل على سبيل المثال اعتمد على نفسك وقم بجهود شخصية، وعندما تفعل ذلك فإنني سأحبك كثيرا. وعلى خلاف ذلك فإنها قد تقول للطفل دائما أبق بجانبي ولا تقم بأي عمل يجعلني أخاف عليك وسأحبك كثيرا. وقد تقول له أيضا اعمل هكذا وكن كذلك وستكون طفلي المدلل. والأب يقول له خلاف ذلك ويعين له المكافأة نفسها والخاصة بالحب العاطفي القطعي.
والمصيدة التي تكمن هنا في إطار هذه التعليمات المتناقضة هي أن الطفل يقع في دوامة مخيفة من الصراعات السيكولوجية التي تؤدي به إلى العصاب، وتلك هي طريقة بافلوف في إجراء العصاب الشرطي التجريبي عند الكلاب. ومن أجل الخروج من هذه المصيدة يقول باتسون Batson: إن الطفل يقع مكرها في مطب انفصام الشخصية Schizophrénie وهي الخندق الذي يسمح له بالتعبير عن هذا التناقض لأنه يريد أن يتصل من غير اتصال وأن يكون فاعلا من غير فعل. وذلك لأنه لا يستطيع تحقيق الاتصال والتعبير عن مشاعره في صيغ أفعال متماسكة خالية من التناقض.
10انبناء الهوية وتقمص الآخر Identification a autrui:
التقمص Identification عملية نفسية يتمثل الفرد بوساطتها جانبا أو خاصية أو سمة من جوانب الآخر أو خواصه أو سماته. وقد يأخذ التقمص صيغة التوحد الكلي أو الجزئي مع الآخر. فالشخصية تتكون وتتباين في سياق سلسة من عمليات التوحد والتقمص.
وتعد عملية التقمص صيرورة سيكولوجية أساسية لتشكيل الشخصية ونموها. ويعتقد علماء نفس الطفل أن الفترة الحساسة لتحديد نموذج التوحد الأول يكون بين الخامسة والسادسة من العمر. وهي المرحلة الأوديبية عند فرويدFreud حيث يبدأ حب الطفل لأبيه من الجنس الآخر. وبالتالي فإن الشروط النفسية والتربوية التي تحيط الطفل في هذه المرحلة والتي ترسم حدود عملية توحده وتقمصه هي التي تحدد في المرحلة اللاحقة وبشكل نهائي مواقف الفرد إزاء مجموعة من المسائل الأساسية: من السلطة والحب والتعبير عن الذات.
وتشرف هذه المرحلة على نهايتها مع بداية مرحلة أزمة ما قبل البلوغ، أي حوالي الحادية عشرة أو الثانية عشرة من العمر. حيث يتأصل الإحساس بالذات في هذه المرحلة. فالمراهق، في هذه المرحلة يسعى إلى تحقيق ذاته، ويخضع إمكانياته للتجربة الواقعية. وهنا تبدأ مرحلة أخرى من التقمصات الجديدة ولاسيما في نهاية مرحلة المراهقة أو في مجراها. وهي المرحلة التي يطلق عليه دوبيسM.Debess أزمة الشباب.
ويمكن للشروط السيكولوجية التي تحيط بالفرد أو ما يمكن أن نطلق عليه “المناخ السيكولوجي ” ولاسيما الإخفاقات العاطفية التي يعاني منها أن تحدد الشخصية في كل مرحلة من مراحل تطورها. إذ يمكن لبعض الراشدين أن يعيش تقمصات طفولية وذلك لأن نضجه العاطفي قد توقف في مرحلة معينة.
في سياق تحليله لظاهرة التمرد في مراحل العمر المختلفة، يشير ستيفان Stephane إلى قصور في مستوى نضج الهوية المتمردة، وذلك لأن نموها سجل في مرحلة محددة تقع في وضعية النمو الأوديبية التي وجهت بطريقة سيئة وكان تجاوزه لها محاطا بالصعوبات. فالشخصية المتمردة تعارض كل أشكال السلطة وتشكل مصدرا للسلطة بذاتها. ولا يمكنها أن تأخذ بعين الاعتبار الإكراه الطبيعي الذي يفرزه الواقع. إذ يتميز فعل الشخص بالنزعة النقدية والتدميرية. فالاحتجاج والتمرد يشيران إلى نقص يعتري الثقة بالنفس وإلى نرجسية ذات طابع خاص. ويتبدى ذلك عندما يعلن ذلك الشخص وبطريقة معقدة عن تملك قدرات غير موجودة فيه. وهو يلعب السيناريو نفسه في مختلف مراحل حياته. وتلك هي وضعية تعزى إلى ذلك الطفل في مرحلته الأوديبية الصعبة والتي لم يستطع تجاوزها حتى في هذه المرحلة من نضجه، ولاسيما معاناته لإجحافات السلطة الأبوية في المرحلة الأوديبية.
ويمكن لبعض الاضطرابات في الشخصية أن تظهر عندما لا تتحقق الشروط الطبيعية لعملية التوحد مع الأب من الجنس الآخر أو مع من يمكن أن يحل محله. ويعود الإخفاق في تحقيق التوحد ربما إلى عملية رفض عاطفي من قبل النموذج التقمصي (الشخص المرغوب) وإلى الإحساس بالذنب والقهر والكبت وإلى علاقة عاطفية متموجة لا استقرار فيها، أو إلى غياب النموذج نفسه. فالشخصية المعقدة المشكلة هي في نهاية المطاف شخصية مقهورة نفسيا، وذلك تحت تأثير مشكلات تتعلق بالنماذج التوحدية، وهي شخصية غير قادرة بالفعل على تأكيد الذات خارج إطار السلوك المتصلب الذي يوظف إزاء وضعيات تثير حالة اللاتكيف وتوقظها.
تتعين عقدة الخصاء في صعوبة تأكيد الذات بطريقة مستقلة ومسؤولية. وتكون الشخصية المقهورة في هذه الحالة نتاجا للعنف الخصائي الذي يمارسه الأبوان، واللذان يمنعان الطفل من أية ممارسة فعالة طبيعية ويحافظون عليه في وضعية طفولية من التبعية المطلقة التي تسودها مشاعر حب قلق مفرط ومشاعر خوف من فقدان ذلك الحب. ولذلك فإن أية محاولة يبذلها الطفل لتحقيق ذاته تعد ممنوعة يعاقب عليها ويصد، وهي عقوبات تبدو غير موضوعية أو عقلانية بالنسبة للطفل وذلك على مبدأ (سأحبك أكثر إذا فعلت ذلك).
وإذا كانت عمليات التوحد الطفولي أساسية في عملية تشكل الشخصية الراشدة فهي ليست العمليات الوحيدة الممكنة لبناء الشخصية. إذ توجد بالإضافة إلى ذلك نماذج توحد متجددة تستمر طيلة حياة الفرد. ففي كل مرحلة، وفي كل عمر، وفي كل وضعية، يتبنى الفرد نماذج توحدية تقمصية جزئية أو كلية. بعض الأفراد، وعلى مدى حياتهم المهنية، يتقمصون سمة ما من سمات أحد أصدقائهم أو يجعل من هوية ذلك الصديق نموذجا مثاليا نموذجا مرغوبا ويحاول أن يتطابق مع شخصه ويتقمصه كليا. ويعد الاتزان من السمات الأساسية التي تشير إلى نضج الهوية وتكاملها. وهي سمة تشير أيضا إلى قدرة المرء على التعبير عن نفسه وتأكيد ذاته دون صعوبة تذكر.
فالطفل في النهاية يتأثر بما يسود جو أسرته من هدوء أو خصام، فإذا كان جو محاطا بالمحبة والهدوء نشأ الطفل هادئا وادعا، وأما إذا كان الجو الذي يعيش فيه الطفل مشحونا بالمشاجرات والانفعالات القاسية فإنه ينشأ عصبيا مضطربا معقدا، وقد ثبت أن هذه الأجواء في مرحلة الطفولة المبكرة تشكل مرجعية لجنوح واضطرابات الشخصية في المستقبل. وقد دلت الدراسات العلمية التي أجريت على الأطفال الجانحين على أن أكثرية هؤلاء الأطفال يأتون من بيوت تكون فيها الأم مطلقة، أو يكون الأب سكيرا أو قليل العناية ببيته و أطفاله، و سريع الغضب كثير الضرب، ظالما، قاسيا، أو أنهم يأتون من بيوت تكون فيها الأم مهملة لشؤون منزلها، و كثيرة الخروج من المنزل، و قليلة العناية بأولادها، أو غير ذلك من مظاهر التحلل العائلي، كما أن فقدان الطفل للمحبة الذي ينشأ في حالات كثيرة بسبب الاضطرابات التي تسود العلاقات بين أفراد الأسرة هو سبب هام من أسباب الاضطرابات النفسية والانفعالية وخروج الطفل عن المجتمع وانحرافه([17]).
هذا يتفق علماء النفس، باختلاف مدارسهم ومشاربهم، على أهمية التأثير الذي تتركه التجارب الانفعالية للطفولة المبكرة في بناء هوية الفرد وتكوين شخصيته. وهم في سياق هذه الرؤية يؤكدون أن الآثار الانفعالية لهذه الخبرات تترك بصماتها الدامغة في التكوين العقلي والذهني للإنسان وفي بنية إدراكه للعالم وفي تشكيل هويته العقلية.
فالأطفال الجانحون الذين يعانون من اضطرابات نفسية غالبا ما يكون جناحهم ناجما عن طفولة شقية مفككة محطمة الأركان، فمن يحرم الأمن في طفولته لا يستطيعا أن ينعم به أو يمنحه للآخرين في رجولته. أما هؤلاء الذين يتصفون بثبات وتكامل في الشخصية فهم على الأغلب الذين عاشوا طفولتهم في بيوت عامرة بروابط الاحترام والتفاهم وتبادل الثقة.
ويتعلم الطفل الاتجاهات والقيم الأساسية خلال السنوات الأولى من حياته، ومثل هذه القيم والاتجاهات تدخل في كل مظهر من مظاهر خبرته في الحياة مثل الاتجاهات نحو النجاح والمنافسة والتعبير عن الذات، وكذلك فإن اكتساب الطفل للقيم مثل الأمانة والتعاون والطاعة والشجاعة والصدق يعتمد على ما يسود الأسرة من قيم وعلى أنماط السلوك التي يعززها الوالدان.
فالأجواء العاطفية للأسرة تؤثر تأثيرا بالغا في بناء شخصية الطفل وفي تكوينه. ويشير مفهوم الأجواء العاطفية إلى مشاعر الأمن الحب والكراهية والعطف والحنان والتقدير والازدراء التي تسود بين أعضاء الأسرة. وبالتالي فإن البنية العاطفية للطفل في الأسرة غالبا ما تعكس وإلى حد كبير الصورة العامة للحياة العاطفية في الأسرة. وعندما تسود مشاعر الأمن والحب في إطار الحياة الشرسة فإن ذلك يدفع الطفل إلى رحاب شخصية هادئة آمنة تساعده على مواجهة مهام الحياة ومصاعبها وإلى تحقيق مستويات تكيف اجتماعية متميزة. وعلى خلاف ذلك عندما تسود أجواء الأسرة مشاعر الكراهية والصراع والقسوة فإن ذلك ينعكس على شخصية الطفل بصورة سلبية، ويقلل إلى حد كبير من فرص نجاحه وتوفقه الاجتماعي والنفسي هذا إذا لم تؤد هذه الأجواء إلى دفعه إلى دائرة مركبات النقص والدونية ([18]). فالمناخ النفسي للأسرة هو أكثر العوامل أهمية في عملية نمو الطفل وتكامل شخصيته. فالبيت المفعم بالمودة والمحبة والعطف ووضوح العلاقات وثباتها ينتج أطفالا أقوياء يثقون بأنفسهم، وعلى العكس فالبيت المضطرب في علاقاته والذي تشيع في أجوائه روح الشك وريبة وعدم الثقة يخلق أطفالا تنقصهم الثقة بالنفس، لأن الطفل له إحساسات مرهفة شديدة القدرة على التمييز.
11-خاتمة:
وخير ما نختتم به هو تجربة علمية كان لها صدى كبير في الكشف عن استمرار تأثير مرحلة الطفولة في تشكيل هوية الأفراد في مرحلة نضجهم. ففي عام 1930 أجريت دراسة في جامعة “مينسوتا” حيث قامت الباحثة ماري م شيرلي Mary. M. sherley بدراسة شهيرة طولانية حول مجموعة من الأطفال وقد عرفت الدراسة باسم ” أطفال شيري ” بحثت الدراسة في عينة مكونة من 25 طفلا اخضعوا للمراقبة منذ اليوم الأول لميلادهم ولمدة عامين كاملين، وقد أخضع أفراد العينة من قبل شيري لجملة من الاختبارات التي تهدف إلى معرفة مخطط نموهم الأساسي. واستطاعت الباحثة في النهاية أن تضع مخططا وصفيا لكل طفل من الأطفال من أفراد العينة، واستخدمت لهذه الغاية أسماء مستعارة من أجل التعرف إليهم في المستقبل. وفيما بعد خمسة عشر عاما من التجربة أي عندما بلغ الأطفال السابعة عشرة من العمر أخضع هؤلاء الشباب( أطفال شيري بالأمس) إلى اختبارات أعدت لدراسة الشخصية، وقد تمكن الباحثون من الحصول من الجامعة على السجلات الخاصة لهؤلاء الشباب التي سجلتها شيرلي، ثم طُلب من أعضاء الهيئة التدريسية في جامعة مينسوتا إجراء المقارنة بين معطيات دراسته لهؤلاء الشباب ومعطيات الدراسة التي قامت بها شيرلي حيثما كانوا أطفالا، ومن الجدير بالذكر أن أحدا من الباحثين لا يعرف ما هي الأسماء المستعارة التي أعطيت للأطفال من قبل الدكتورة شيرلي سابقا وذلك قبل الوصول إلى النتائج. لقد أظهرت نتائج هذه الدراسة نوعا من الاستمرارية في السمات التي تميز كل شاب في مرحلة طفولته مع بعض الاستثناءات. ومما أظهرته التجربة هو التطابق بين سجلات هؤلاء الشباب وسماتهم الشخصية وبين سجلاتهم وسماتهم الشخصية التي دونتها الدكتورة شيري قبل سبعة عشر عاما، أي عندما كان هؤلاء الأطفال في مرحلة الطفولة المبكرة ولاسيما في مرحلة المهد. وهذه التجربة تؤكد على نحو علمي أن سمات الراشدين الشخصية تتحدد دفعة واحدة في مراحل الطفولة المبكرة من العمر ([19]).
[1]– Mina Swaminathan: Les Trois première année, un ouvrage de référence sur les soins et le développement du jeune enfants, Unesco- Unicef, paris 1990.
[2]– Maurice Debesse: L’adolescence, Que sais-Je, P.U.F, Paris 1955.
[3]– Mina Swaminathan, Ibid.
[4]– Wallon (H.): L’évolution psychologique de l’enfant, Collin, Paris, 1941.
[5] – علي أسعد وطفة، علم نفس الجنين، العربي، عدد 443، أكتوبر 1995.
[6]– Martine Vanandruel: La socialisation de soi Approche psy sociale: Le sentiment de la valeur personnelle, dans: Pierre Tap: la socialisation de l’enfance a l’adolescence, P.U.F, Paris 1991. (pp129-160).
[7]– Martine Vanandruel: La socialisation de soi Approche psy sociale ,Même source.
[8] – Konard Lorenz: Trois essais sur le comportement animal et Humain, Seuil, Paris, 1965.
[9] -Mina swaminathan. ibid.
[10] – Pierre Janet: L’évolution psychologique de la personnalité, Payot, Paris, 1984.
[11]– Pierre Tap: La socialisation de l’enfance a l’adolescence, P.U.F, Paris 1991.
[12] – جمال حسين الألوسي، مشكلات الطفل في المرحلة الابتدائية أسبابها وطرق علاجها، جامعة البصرة، 1979.
[13] – عبد الرحيم صالح عبد الله، الأسرة كعامل تربوي وتعاونها مع المدرسة، مرجع سابق. ص 70.
[14]– Regarde: MATTHEY, Marie-Paule. – Les courants de la pédagogie contempo-raine. Vol. I: La pédagogie institutionnelle. – Neuchâtel: Université, Sciences de l’éducation, 1998.
[15]– DEVELAY, Michel. – Parents, comment aider votre enfant? Paris: ESF éditeur, 1998.
[16] -Regarde: PLAISANCE Eric, l’enfant, la maternelle, la société, Paris, Presses universitaires de France, 1986.
[17]– Plaisance Eric, L’enfant, la maternelle, la société, Même source.
[18]-علي أسعد وطفة، علم الاجتماع التربوي وقضايا الحياة التربوية المعاصرة، مكتبة الفلاح، الكويت، 1998، ص 144.
[19]-Regarde: Mélanie Klein, La psychanalyse des l’enfants, P.U.F., Paris, 2001.
___________
*علي أسعد وطفة/ جامعة الكويت – كلية التربية.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
تحليل عميق، واضاءات مهمة
دائما د.علي مصدر الهام معرفي وعقلي لنا جميعا