التنويريتربية وتعليمسلايدر

التربية في سوسيولوجيا دوركهايم

“بوصفي عالم اجتماع، ومن خلال علم الاجتماع أحدّثكم عن التربية، وبعيدا عن التحيز والمواربة إنني مقتنع بأنه لا يوجد منهج آخر أكثر كفاءة من منهج علم الاجتماع، في استجلاء حقيقة التربية وتحديد طبيعتها، فالتربية شيء اجتماعي بالدرجة الأولى” إميل دوركهايم

1- مقدمة:

يعد إميل دوركهايم Emile Durkheim (1858 -1917) إضافة إلى شهرته الواسعة في مجال علم الاجتماع، واحدا من كبار مفكري التربية الكلاسيكية في فرنسا، وقد قدّر له أن يترك بصمته في تاريخ الفكر التربوي تاركا ّلنا إرثا فكريا تربويا لا يقدر بثمن تجلى في ثلاثة أعمال رئيسية: التربية والمجتمع” (Education et Sociologie)[1]، و”التربية الأخلاقية” (Education Morale)، و “التطور التربوي في فرنسا” (L’évolution pédagogique en France).

أكد دوركهايم منذ البدايات الأولى في نظريته السوسيولوجية على أهمية الجوانب الاجتماعية للتربية. وقد واستطاع أن يقدم لنا نظرية متكاملة، تقوم على أسس نقدية يتعرض فيها للآراء التربوية عند كانط Kant، وسبنسر Spencer، وستيوارت ميل Stuart Mill، وهيربارت Herbart، وهي الأفكار المشحونة بالطابع السيكولوجي. فالتربية عند كانط تهدف إلى تحقيق الكمال المطلق والنمو الأمثل لملكات الفرد”([2])، وكان عليه في سياق ذلك كله أن يحرر التربية من أغلالها بوصفها عملية سيكولوجية بالدرجة الأولى تسعى إلى مجرد تفجير الطاقات النفسية الكامنة في الإنسان، وأن ينظر إليها على خلاف أسلافه ” بوصفها شيئا اجتماعيا بالدرجة الأولى“، وذلك في إطار بنيتها ووظائفها وفي مستوى العلاقة التي تربطها بالأنظمة التربوية الاجتماعية القائمة.

 لقد أحدث دوركهايم ثورة في وجهات النظر التقليدية التي تنظر إلى التربية بوصفها عملية تسعى إلى تحقيق كمال الإنسان عبر تنمية ملكاته الداخلية الأصيلة. وفي هذا الخصوص يقول دوركهايم “من أجل أن نعرف التربية يجب علينا أن نأخذ بعين الاعتبار الأنظمة التربوية القائمة والتي كانت قائمة من قبل، وأن نقارب بينها، وأن نميز خصائصها المشتركة”([3]). واستطاع دوركهايم بذلك أن يصل إلى نتيجة أساسية هي “أن علم التربية علم اجتماعي وذلك على مستوى المنهج والنظرية والتطبيق([4]).

فالتربية، كما يعلن في محاور عديدة من أعماله “ هي قبل كل شيء الوسيلة التي يجدد المجتمع عن طريقها وباستمرار، شروط حياته الخاصة”([5])، وتكمن ” وظيفتها الأساسية، على حد قوله، في تحقيق عملية التنشئة الاجتماعية المنهجية للأجيال الجديدة”.

وبناء على أفكاره تلك كان دوركهايم يعرف التربية بأنها ” تنشئة اجتماعية تمارسها الأجيال السابقة على الأجيال اللاحقة”. أما بالنسبة إلى المدرسة، فإنها لا تعدو أن تكون، كما يراها، عالما مصغرا عن المجتمع الذي توجد فيه. فالتربية تعمل بطريقة ما على أن “تكوّن في داخل كل فرد في المجتمع كائنا آخر جديدا هو الكائن الاجتماعي“. ولم ينقطع دوركهايم يوما عن تأكيد طروحاته هذه ومناقشتها وذلك كلما كانت تسنح له الفرصة. وهو في إطار مقولاته هذه يعلن الحرب على النظريات التربوية التقليدية التي كانت سائدة في عصره.

يتناول دوركهايم التربية دائما بوصفها ظاهرة اجتماعية، وفي هذا الصدد يقول ” بوصفي عالم اجتماع، ومن خلال علم الاجتماع أحدّثكم عن التربية، وبعيدا عن التحيز والمواربة إنني مقتنع بأنه لا يوجد منهج آخر أكثر كفاءة من منهج علم الاجتماع، في استجلاء حقيقة التربية وتحديد طبيعتها، فالتربية شيء اجتماعي بالدرجة الأولى“، إذ توجد في كل مجتمع نماذج تربوية مختلفة تتعدد بتعدد الأوساط الاجتماعية المختلفة. وحتى في المجتمعات الديمقراطية، فإن التربية تتباين، ويجب أن تتباين بالضرورة وفقا لتباين السلم المهني والاجتماعي السائد. ومن غير أدنى شك، فإن تعدد النماذج التربوية في المجتمع ينطلق من مبدأ اجتماعي مشترك. وهو مبدأ يتباين أيضا من مجتمع إلى آخر، إذ يشتمل كل مجتمع على نموذج مثالي للإنسان، يمثل قطب المسألة التربوية ومحورها. حيث تمثل التربية في كل مجتمع ” الوسيلة التي يعتمدها في إعداد الأطفال وفقا للشروط الأساسية الخاصة بوجوده “. ومن ثم فإن لكل شعب نظامه التربوي الخاص الذي يمكن له أن يحدد في الوقت نفسه ملامح بنيته الأخلاقية والسياسية والدينية “.

2-تعريف التربية:

وانطلاقا من ملاحظة الوقائع يمكن تعريف التربية بأنها “الفعل الذي تمارسه الأجيال الراشدة على الأجيال التي لم ترشد بعد، وذلك من أجل الحياة الاجتماعية”[6] ويكمن هدف التربية في تنمية الجوانب الفيزيائية، والعقلية، والأخلاقية عند الأطفال وتطويرها، وذلك على النحو الذي يحدده المجتمع السياسي بوصفه كلا متكاملا، ووفقا للصورة التي يعلنها الوسط الاجتماعي الخاص الذي ينتمي إليه الأطفال”. وباختصار شديد ” التربية عملية تنشئة اجتماعية منهجية للجيل الجديد”. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: لماذا تكون التربية عملية ضرورية بحد ذاتها؟” إنها كذلك لأنه يمكن القول بوجود كائنين في كل منا، لا يمكن الفصل بينهما إلا على نحو تجريدي. أحدهما نتاج لكل الحالات الذهنية الخاصة بنا وبحياتنا الشخصية وهو ما يمكن أن نطلق عليه الكائن الفردي. أما الكائن الآخر فهو نظام من الأفكار، والمشاعر والعادات التي لا تعبر عن شخصيتنا بل عن شخصية الجماعة أو الجماعات المختلفة التي تنتمي إليها، كالعقائد الدينية والممارسات الأخلاقية، والتقاليد القومية والمهنية، والمشاعر الجمعية من أي نوع، وهي في مجموعها تشكل الكائن الاجتماعي L’être Social. وبناء مثل هذا الكائن في كل منا يشكل في نهاية المطاف هدف التربية وغايتها، أي في العمل على إعداد هذا الجانب الاجتماعي وتشكيله. وهنا تتجلى، في واقع الأمر، أهمية التربية وخصوبة فعلها وحركتها، إذ لا يمكن أن يكون ذلك الكائن الاجتماعي معطى من معطيات البنية الفطرية للإنسان، ولا يمكن له – من ثمّ- أن ينمو وفق نمو عفوي.

3- علم التربية:

لقد حدد دوركهايم علم التربية Science de l’éducation على نحو بالغ الوضوح، بأنه علم اجتماعي. إن ما يعنيه دوركهايم بالبيداغوجيا Pédagogie ليس نشاطا تربويا أو علما تأمليا، بل ما يعنيه بالبيداغوجيا، هو تأثير الجانب الثاني (التأمل) في الجانب الأول (النشاط)، وهذا يعني أن المهمة الأساسية للتأمل الفكري تكون في عملية البحث، التي تجري في إطار معطيات علم النفس وعلم الاجتماع، عن المبادئ الأساسية للسلوك الإنساني، من أجل الإصلاح التربوي. فالظواهر المدرسية مثل الأطر المدرسية، والمناهج المدرسية، والتقاليد المدرسية، والعادات، والاتجاهات، والأفكار، وأفكار المعلمين، هي ظواهر يجب أن تخضع للدراسة السوسيولوجية، حيث يجب أن نكتشف السبب الذي تكون فيه كما هي، دون أن نفكر أولا في إجراءات تغييرها.

4- التربية الأخلاقية:

يرى دوركهايم أن الدين والأخلاق كانا، عبر تاريخ الحضارة، يشكلان وحدة عميقة ومتكاملة. ويترتب على ذلك صعوبة كبيرة في الفصل الضروري بينهما. وعندما نسعى إلى إفراغ الأخلاق من مضمونها الديني، فإننا نعمل على تشويهها؛ لأن الدين يعبر بطريقته الخاصة، وفي إطار لغة رمزية، عن أشياء حقيقية. ويجب ألا نهدر هذه الحقائق في أطرها الرمزية، بل يجب علينا المحافظة عليها في سياق علماني. فالأنظمة العقلانية، وبخاصة الأنظمة غير الميتافيزيقية، تقدم صورة مبسطة عن الأخلاق. وعندما ندرس هذه الأخلاق على المستوى السوسيولوجي يمكن لنا استجلاء العمق العقلاني للأخلاق، الذي ينفصل عن الدين والميتافيزياء. وهي أخلاق علمانية في غاية التعقيد، تتصف بالغنى، وذلك في إطار علاقاتها مع الأخلاق الدينية التقليدية، وبخاصة، عندما يتم التوجه نحو المصادر الأساسية التي تضفي على هذه الأخلاق سماتها الحيوية.

لقد بين دوركهايم، على سبيل المثال، أن القوى الأخلاقية التي تمارس القسر على الفرد، وتغتصب طبيعته الإنسانية، تجعله في الوقت نفسه عاشقا لها ومتيما بها، وذلك من شأنه أن يحدد لنا طبيعة مفهومي الواجب والخير. وهنا يوضح دوركهايم أن النشاط الأخلاقي يوجه نحو تحقيق هذين المبدأين الأخلاقيين اللذين يشكلان الإنسان هذا الحس الأخلاقي الذي يتميز بالحماسة والاندفاع، والذي يميل إلى تطبيق صارم للقانون الأخلاقي. ويضاف إلى ذلك أن فلسفة السعادة والمتعة تحتل مكانها في إطار الحياة الأخلاقية؛ إذ يقول دوركهايم بهذا الصدد “يجب أن يكون هناك محبون للحياة والمتعة”. ومما لا شك فيه أن التناقضات المتداخلة تذوب في إطار الغنى الذي تتميز به الثقافة الأخلاقية. هذا ويؤدي التحليل الفلسفي المجرد إلى إفقار النظام الأخلاقي؛ لأن الاتجاهات الفلسفية تحاول أن تستنتج فكرة الخير والواجب، وأن تحقق المصالحة بين مفاهيم الواجب والاستقلال. وهي في ذلك تحاول أن تستنتج على نحو منطقي بعض الأفكار البسيطة حول حقيقة بالغة التعقيد.

5-طبيعة التربية:

غالبا ما يتداخل مفهوما التربية Education والبيداغوجيا Pédagogie، ومع ذلك فإن الفصل بينهما بدقة وعناية أمر تقتضيه الضرورة المنهجية. فالتربية Education تعني الفعل الذي يمارسه الآباء والمعلمون على الأطفال، وهو فعل يتميز بديمومته وعموميته، إذ لا توجد مرحلة ما في الحياة الاجتماعية، إذا لم نقل لحظة من لحظات الحياة اليومية، لا يتعرض فيها الأطفال لعملية الاتصال مع الراشدين ولتأثيرهم التربوي. فالتأثير التربوي لا يحدث في إطار اللحظات القصيرة فحسب، والتي يتواصل فيها الآباء والمعلمون بشكل واع مع صغارهم عن طريق التعليم، وينقلون من خلاله لهؤلاء الأطفال حاصل خبراتهم الحياتية، إذ توجد هناك تربية غير مقصودة عرضية تتميز بخاصة الديمومة والاستمرار. وهذا يعني أننا نمثل نموذجا تربويا يتجلى في أحاديثنا وأفعالنا التي نقوم بها في إطار حياتنا الاجتماعية. وهو نموذج نؤثر من خلاله في عقول أطفالنا بشكل دائم. فالممارسات التربوية هي شيء آخر غير البيداغوجيا Pédagogie التي تتجسد في إطار متكامل من النظريات والآراء والأفكار التربوية، كما تتجسد في وجهات نظر تدور حول التربية، وهي شيء آخر يختلف عن الممارسة التربوية العملية. ويمكن لنا في هذا السياق تحديد مفهوم البيداغوجيا بشكل جيد عندما تتم مقابلته مع مفهوم الممارسة التربوية. فالتربية التي يعلن عنها رابليه Râblais، وهذه التي يبديها روسو Rousseau، والتي رسمها بستالوتزي Pestalozzi هي نظريات تتعارض مع التربية الواقعية التي كانت سائدة في أيامهم. فالتربية Education موضوع يخضع لدراسة البيداغوجيا Pédagogie التي تتمثل في بعض اتجاهات التفكير الخاصة بالقضايا التربوية.

 تلك هي الصورة التي تمثلها البيداغوجيا وذلك في المرحلة الماضية على الأقل، والتي اتسمت في مناحي نموها بالتقطع التاريخي، في حين استمرت التربية Education. حيث لم تشهد البيداغوجيا وجودا لها عند بعض الشعوب في مراحل معينة من تاريخ الإنسانية. وكانت ولادتها مرهونة بمراحل تاريخية محددة ومتقدمة في سلم التطور الاجتماعي. لقد ظهرت البيداغوجيا في العهد اليوناني في عصر بريكلس Périclès، في فكر أفلاطون Platon وعند كزينيفون Xénophon، وفي فلسفة أرسطو Aristote، ولكنها كادت تكون مجهولة في عهد الأمجاد الرومانية. وفي المجتمعات المسيحية لم تظهر البيداغوجيا إلا في القرن السادس عشر الذي احتضن انطلاقات فكرية تربوية مهمة، بدأت تخبو في القرن السابع العشر ; ثم بدأ مسارها يأخذ أهميته من جديد في مجرى القرن الثامن عشر. والحكمة من ذلك كله أن الإنسان لا يهب نفسه للتفكير على نحو دائم لكنه يفكر بقوة عندما تقتضي الضرورة منه ذلك. ويضاف إلى ذلك أيضا أن شروط التفكير لا توجد دائما في كل مرحلة تاريخية أو في كل مكان.

6- الإنسان والطبيعة:

يرى دوركهايم أن الإنسان الذي يجب على التربية أن تحققه فينا ليس الإنسان على غرار ما صنعته الطبيعة، ولكنه الإنسان على نحو ما يريد المجتمع أن يكون. وهو يريده كما يتطلب اقتصاده الداخلي. وما يبرهن على صحة ذلك هو التغاير الكبير الذي ينظر فيه إلى الإنسان من مجتمع إلى آخر. فالأقدمون كانوا يرغبون في أن يجعلوا من أطفالهم أناسا كما هي حالنا. وهم عندما كانوا يرفضون الاعتراف بالآخرين في مجتمعات أخرى، فإن ذلك –وبدقة- يعود لكونهم يعتقدون أن تربية المدينة وحدها قادرة على بناء الإنسان الحق في جوانبه الإنسانية. وهم بذلك ينظرون إلى الإنسانية بطريقتهم التي تختلف عن طريقتنا في النظر. فكل تغير يحدث في المجتمع يجد انعكاسا له بنفس المستوى من الأهمية في النسق الفكري عند الإنسان الخاص بتصوراته عن ذاته. وإنه كلما ازداد تقسيم العمل وازدادت حدة المنافسة ودرجة التخصص، فإن دورة الأشياء التي تتضمنها التربية تصبح أكثر تحديدا، والنموذج الإنساني أكثر افتقارا إلى خصائصه. فمنذ عهود من الزمن كانت الثقافة الأدبية تشكل عنصرا أساسيا في كل ثقافة إنسانية، وها نحن نعيش اليوم في عصر أصبحت فيه الثقافة اختصاصية. والشيء نفسه يقال، إذا كان هناك سلم أهمية تراتبي لخصائصنا الإنسانية، وإذا كنا نعطي بعض هذه الخصائص أهمية أكبر من البعض الآخر، وإنه إذا كان يترتب علينا، من أجل ذلك، أن نعمل على تطوير الخصائص المرغوبة، بدرجة أكبر من الخصائص الأخرى، فإن هذه الأهمية التي تحظى بها لا تكمن في جوهر هذه الخصائص المفضلة، وليست هي الطبيعة نفسها التي تمنح هذه الخصائص تراتبية الأهمية، بل إن سلم الأولويات يتحدد على أساس القيمة الاجتماعية التي تمثلها في المجتمع.

إذا ليس في فطرة الإنسان ما يدفعه للخضوع إلى السلطة السياسية، أو إلى قبول نظام أخلاقي، أو إلى التضحية، إذ لا يوجد في فطرتنا الأولية ما يجعلنا عبيدا للشعارات الرمزية التي يطرحها المجتمع، أو ما يدفعنا إلى جعلها أصنام عبادة، وإلى حرمان أنفسنا من أجل تقديسها، إنه المجتمع نفسه الذي أوجد هذه القوى الأخلاقية الكبرى التي يشعر الإنسان بدونيته وقصوره إزاءها. وفي هذا السياق عندما نتأمل النزعات الداخلية التي تعود إلى الوراثة، فإن الطفل عندما يدخل إلى الحياة لا يحمل في ذاته غير طبيعته الفردية. والمجتمع هنا يجد نفسه تقريبا عند ولادة كل جيل أمام صفحة بيضاء، تتطلب منه جهودا جديدة، إذ يجب على التربية، عبر قنواتها المختلفة جدا، أن تعمل على تكوين الكائن الاجتماعي وغرسه في بنية الكائن الجديد الفردي اللاجتماعي الذي يولد لتوه. وهو الكائن الذي يمكن الطفل من الولوج في إطار حياة اجتماعية أخلاقية، وتلك هي مهمة التربية. ويمكن لكم هنا معاينة عظمتها. فهي لا تتوقف عند حدود تطوير البنية الفردية التي يعبر عنها بالطبيعة، أو أن تظهر الطاقات الخفية الكامنة والتي لا تحتاج إلا إلى عملية الكشف عنها، إنها توجد في الكائن إنسانا جديدا وهو الإنسان الذي يتضمن ما هو جيد فينا وكل ما تتطلبه إرادة الحياة. ومثل هذه الخاصة المبدعة للتربية هي من جانب آخر خاصة مميزة للتربية الإنسانية. وكل ما عدا ذلك، كهذه التربية التي تتلقاها الحيوانات، إذا جازت التسمية، هي عملية تدريب متقدم لما يورث عن الأبوين. والتربية هنا يمكن لها أن تسرع في تنمية بعض الغرائز الغافية عند الكائن، ولكنها لا تعده لحياة جديدة. فهي هنا تسهل عملية نمو الوظائف الطبيعية، ولكنها لا تبدع شيئا جديدا على الإطلاق. وعندما تساعد أمهات الطيور صغارها على الطيران مبكرا، أو على بناء أعشاشها، فإن ذلك لا يعلم الصغار ما لا يستطيعون كشفه بأنفسهم وبخبرتهم الخاصة وتجربتهم الفردية. وتلك هي حال الحيوانات التي تعيش خارج إطار الحياة الاجتماعية، والتي تشكل مجتمعات بسيطة جدا، والتي تستمر في وجودها تحت تأثير عمليات آلية غريزية متأصلة في البنية الفطرية لكل فرد من أفرادها منذ اللحظة التي يولدون فيها. فالتربية هنا لا يمكنها أن تضيف أي أمر جوهري إلى الطبيعة؛ لأن البنية الفطرية تحقق كفايتها الكلية في هذا المستوى. أما عند الإنسان، فعلى خلاف ذلك؛ لأن الكفاءات المتنوعة التي تطلبها الحياة الاجتماعية بالغة التعقيد ولا يمكنها أن تسجل في بنية الإنسان الفطرية الأولى، ولا يمكن لهذه الكفاءات أن تتحول من جيل إلى آخر عبر الوراثة بل بتم هذا التحويل عن طريق التربية.

7- ما بين علم النفس وعلم الاجتماع:

إذا كان لعلم الاجتماع هذه الأهمية في تحديد الغايات التي يجب على التربية أن تحققها، فهل يحظى بالأهمية نفسها فيما يخص اختيار الوسائل؟ وهنا لا بد من الإشارة إلى أهمية الدور الذي يحتله علم النفس. وإذا كان النموذج التربوي يعبر قبل كل شيء عن الضرورات الاجتماعية، فإنه لا يمكن له أن يتحقق إلا من خلال وعبر وعي الأفراد. ومن أجل أن يكون ذلك شيئا آخر غير رؤية بسيطة للنفس، أو إيعاز بسيط بوجهة المجتمع إلى أفراده، يجب إيجاد الوسيلة التي تناسب وعي الطفل؛ لأن هناك قوانين خاصة للوعي يجب علينا إدراكها من أجل تملك القدرة على تغييرها، وبخاصة إذا كانت هناك رغبة في تجاوز وتوفير العفوية التجريبية الذي تسعى التربية إلى اختصارها ضمن حدودها الدنيا. ومن أجل إثارة النشاط وتوجيهه في اتجاه يبين التحديد، يجب أيضا معرفة نوازع حركته وطبيعته. في هذا السياق، وضمن هذه الشروط، يمكن أن نصل إلى مرحلة التطبيق، وذلك عبر معرفة العلة والفعل المناسب. وإذا كانت المسألة تعني، على سبيل المثال، إثارة حب الوطن، أو تنمية الحس الإنساني، فمن الأفضل لنا هنا أن نوجه الحس الأخلاقي لتلامذتنا في إطار هذا الاتجاه أو ذاك، وهي الاتجاهات التي نملك عنها تصورات أكثر كمالا وأكثر تحديدا، والتي تعبر عن جملة الظواهر التي نطلق عليها، نزعات وعادات ورغبات وانفعالات.. إلخ، والتي تتحدد بالشروط المختلفة لوجودها، وتعبر عن الشكل الذي تبدو فيه أمام ناظري الأطفال. وبقدر ما تكون هذه النزعات نتاجا لتجارب سارة أو غير سارة يمليها النوع الإنساني، أو على خلاف ذلك لظاهرة فطرية سابقة للحالات العاطفية التي تصاحبها، فإنه يجب اعتماد طرق مختلفة لرعاية نموها وتطورها. وفي هذا الإطار فإنه على علم النفس، وبالأحرى علم نفس الطفولة، أن يجد الحلول المناسبة لهذه المسائل. وإذا لم يكن لعلم النفس كفاءة تحديد الغاية أو بالأحرى غايات التربية، فإنه -من غير شك- مطالب بأن يسهم بدور مهم في بناء المناهج. وإذا لم يكن لأي منهج أن يطبق بطريقة واحدة على مختلف الأطفال، فإن على علم النفس أيضا أن يساعدنا على الاعتراف بأهمية الوسط الذي يحتوي على مقومات تباين الذكاء والسمات. ومن المؤسف له حقا أننا مازلنا بعيدين عن اللحظة التي يمكن فيها أن نكون في حالة مواتية لتحقيق هذه الأمنية.

إن الخدمات التي يمكن لعلم النفس أن يقدمها للتربية Pédagogie لا يمكن أن تكون موضع نقاش، وعلى هذا الأساس يؤكد دوركهايم على أهمية أن يأخذ هذا العلم دوره كاملا. ومع ذلك، وفي إطار هذه الدائرة من الإشكاليات التي يمكن فيها لعلم النفس أن ينير درب المربي، يجب عليه أن يتجاوز مرامي التنافس مع علم الاجتماع؛ لأن غايات التربية ذات طبيعة اجتماعية، ولأن الوسائل المتوخاة لتحقيق ذلك يجب أن تكون ذات طابع اجتماعي أيضا، ولأنه في واقع الأمر، لا توجد أي مؤسسة من المؤسسات التربوية التي لا تحمل سمات المجتمع الذي يحتضنها، والمؤسسة التربوية تعاود إنتاج السمات الأساسية للمجتمع على نحو مصغر. إذ يوجد نظام في المدرسة كما هي الحال في المدينة. والقوانين التي تحدد للتلاميذ وإجاباتهم تتشابه مع تلك التي تحدد للفرد سلوكه. فالعقوبات والمكافآت التي يخضع لها التلاميذ تبدو متجانسة مع تلك التي يخضع لها الراشدون. وإذا كنا نعلّم الأطفال العلوم التي وصلت إلى مرحلة النضج، فإنه يمكن لنا أن نعلمهم هذه التي لم تصل بعد، والتي ما زالت تمر في مرحلة التكوين. ومبادئ هذه العلوم لن تبقى سجينة عقول هؤلاء الذين يبدعونها، ولكنها لن تصبح فعالة إلا عندما تحقق تواصلها مع الآخرين. وفي إطار هذا التواصل الذي يقتضي وجود شبكة من العمليات الاجتماعية، فإن التعليم الذي يتلقاه الراشد لا يختلف في توجهه عن ذلك الذي يتلقاه التلميذ من معلمه. ألا يمكن أن يقال في هذا السياق إن العلماء كانوا معلمين بالنسبة لمعاصريهم؟ ألا يمكن أن نلاحظ بأن الجماعات التي التفت حولهم أخذت تسمية “مدارس”؟ ويمكن هنا أن نستعرض أمثلة كثيرة. ولما كانت الحياة المدرسية ليست سوى شكل من أشكال الحياة الاجتماعية، ولما كانت الأخيرة ليست سوى نتاج لازدهار الأولى، فإنه لمن المستحيل أن تكون العمليات الأساسية التي تجري في إحداها منفصلة عن تلك التي تنظم عمل الأخرى. ويمكن لنا هنا أن ننتظر من علم الاجتماع، علم المؤسسات الاجتماعية، أن يساعدنا على إدراك ماهية المؤسسة التربوية، وعلى تحديد الإسقاطات المستقبلية لما يجب أن تكون عليه هذه المؤسسات. وبقدر ما نستطيع أن نعرف المجتمع، يمكن لنا أن ندرك كل ما يجري في إطار ذلك العالم الصغير الذي هو المدرسة. وعلى النقيض من ذلك، يجب علينا أن نكون حذرين عندما نريد الاستفادة من معطيات علم النفس، حتى عندما يتعلق الأمر بتحديد المناهج.

علم النفس لا يستطيع بمفرده أن يقدم لنا العناصر الأساسية لبناء الإنسان، لأن بعضا منها  لا يوجد في داخل الفرد، وإنما في إطار الحياة الاجتماعية. ومن جانب آخر، فإن تأثير الوضعيات الاجتماعية التي تحدد الغايات التربوية، لا يتوقف هنا عند حدود الفعل، بل يتعدى ذلك أيضا إلى تحديد التصورات الخاصة بالمنهج؛ لأن طبيعية الغاية تتداخل مع طبيعة الوسائل. وعندما يتوجه المجتمع، على سبيل المثال، نحو تعزيز السمات الفردية، فإن الإجراءات التربوية التي يمكن لها أن تستلب الفرد، وتتجاهل شخصيته الداخلية، تصبح مرفوضة ومستهجنة. وعلى وجه التباين من ذلك، عندما يشعر المجتمع بالحاجة إلى فرض تجانس أكبر على جميع أفراده، وذلك تحت تأثير ظروف دائمة أو عابرة، فإن كل ما من شأنه أن يصعد المبادرة الفردية، يصبح مستبعدا ومحظورا.

وفي الواقع، فإنه في كل مرة تتعرض فيها المناهج للتغير العميق، فإن ذلك يحدث تحت تأثير أحد التيارات الاجتماعية، والذي يؤثر أيضا على مجرى الحياة الاجتماعية برمتها. فالمناهج الجديدة التي ظهرت في عصر النهضة لم تكن نتاجا للاكتشافات في مجال علم النفس التي ظهرت في تلك المرحلة، والتي تتعارض كليا مع تلك التي عرفت في العصور الوسطى. بل كانت تلك المناهج نتاجا للتغيرات العميقة التي شهدتها البنية الاجتماعية للمجتمعات الأوروبية في تلك المرحلة، والتي شهدت ميلاد رؤية جديدة للإنسان، وللمكان الذي يجب أن يحتله في الحياة. والشيء نفسه يمكن أن ينسحب على المربين في القرن الثامن عشر وفي بداية القرن العشرين، والذين أخذوا على عاتقهم مهمة استبدال المناهج الاستنتاجية بالمناهج المجردة، وهم في كل الأحوال يمثلون صدى لطموحات ذلك العصر.

إن مفكرين مثل باسدو Basedow، وبستالوتزي Pestalozzi، وفروبل Frobel، لم يكونوا في أي حال، علماء نفس متميزين، وهم الذين تتجسد عقيدتهم التربوية في احترام الحرية الداخلية ورفض الإكراه، والتسلط، وحب الإنسان، وعلى الخصوص حب الأطفال، وهي المبادئ التي شكلت منطلق النزعة الفردية للعصر الحديث.

فللتربية خصوصية مشتركة واحدة في مكان، تتمثل في أن الغايات التي تسعى إلى تحقيقها، والوسائل التي توظفها، مرهونة إلى حد كبير بالضرورات الاجتماعية، التي تتمثل في أفكار ومشاعر جمعية، وهي، من غير ريبة، المشاعر والأفكار التي يجد فيها الفرد خصوصيته. ألا يجب علينا – وفق دوركهايم – أن نعترف بأننا ندين للتربية بأفضل ما فينا؟ وأن ذلك يعود إلى أصول اجتماعية. وهذا يعني أن علينا أن نعود دائما إلى دراسة المجتمع، حيث يمكن للمربي أن يجد المبادئ الأساسية لتأمله وتفكيره. ويستطيع علم النفس بالتأكيد أن يوجه المربي إلى تحديد أفضل الطرائق من أجل تربية الطفل، وتلقينه هذه المبادئ المطروحة، ولكن علم النفس لا يستطيع أبدا أن يساعدنا على اكتشاف هذه المبادئ.

ويمكن أن نضيف – القول لدوركهايم – في هذا السياق، بأنه إذا كان هناك من زمان ومكان طرحت فيهما الرؤية السوسيولوجية نفسها بطريقة خاصة وملحة على المربين، فإن بلادنا وزمننا هما بالتأكيد اللذان يشكلان الإطار الموضوعي الذي احتضن هذه الرؤية. فعندما يعيش المجتمع حالة استقرار نسبي، كحال المجتمع الفرنسي في القرن السابع عشر، على سبيل المثال، وعندما يكون هناك، في الوقت نفسه، نظام تربوي متماسك، وعندما لا يكون هناك اعتراض من قبل أحد على هذين النظامين، فإن المسائل الوحيدة الضاغطة هي مسائل التطبيق بالدرجة الأولى.

فالمسألة التربوية لا تطرح نفسها علينا بالطريقة عينها التي عرفها فيها رجال القرن السابع عشر، والمشكلة هنا ليست في توظيف الأفكار المكتسبة ولكن في إيجاد أفكار توجهنا. ولكن كيف يمكن لنا العثور على هذه الأفكار واكتشافها إذا لم نتوغل بعيدا لمعرفة مصادر الحياة التربوية، أي البحث في إطار الحياة الاجتماعية؟

فالمجتمع هو المعني بالأمر، إذ يجب أن نعرف حاجاته الضرورية ونشبعها. وعندما نتوقف عند حدود النظر في دواخلنا وذواتنا، فإن ذلك يعني أننا نبتعد بأنظارنا عن الحقيقة التي نسعى لإدراكها، وهذا يعني أننا نضع أنفسنا في دائرة يستحيل علينا فيها أن نفهم الحركة التي تقود العالم من حولنا، أو أن ندرك العلاقة التي تربطنا بالعالم الخارجي. ولا نعتقد هنا أننا انطلقنا من حكم بسيط مسبق، أو استغرقنا في حب متطرف لعلم كرسنا نفسنا وحياتنا من أجله، إذ نقول بأنه ليس هناك ثقافة أكثر أهمية بالنسبة للمربي من الثقافة السوسيولوجية، وليس أمامنا سوى علم الاجتماع الذي يمكنه أن يضع في أيدينا المفاتيح المناسبة الخاصة بالإشكالية التربوية. وعلم الاجتماع هذا يمكنه أن يقدم لنا المعطيات الأكثر إلحاحا، أي نريد القول بأنه يقدم لنا نظاما من الأفكار الموجهة، والتي تمثل روح ممارستنا وتعمل على تعزيز هذه الممارسة. ويضاف إلى ذلك كله أنه يمكن لنظام الأفكار هذا أن يمنح فعلنا معناه ودلالته، وهي في نهاية المطاف تشكل الشرط الأساسي الذي يجعل فعلنا أكثر غنى وخصوبة.

8- خلاصة:

يشـعر القارئ عندما يقارب الفكر التربوي عند دوركهايم بأنـه يخـاطب إحدى أهم العبقريـات العلميـة فـي مجـال السوسـيولوجيا عامـة وفي مجال السوسيولوجية التربوية خاصة، ويجد نفسـه أمام لوحـة علميـة للفكر التربوي تبرز فيها الأصالة المنهجية التي عرف بها دوركهايم بعمق الرؤية التربوية وخصوبة الموقف في معالجة المسألة التربوية. وإذا كـانت الترجمات العربية قد أبرزت إسهامات دوركهايم الرائدة فـي مجـال علـم الاجتمـاع، فإنها لـم تـرفع الستار عن جوانب عبقريته التربوية والتي لا تقل تألقا وأصالة عن عبقريته السوسيولوجية.

 لقـد تـرك دوركهايم أعمالا علمية كبيرة في مجال الفكر التربوي لا تقـل فـي أهميتها عـن أعماله فـي مجال علم الاجتماع. وإذا كان من الصعوبـة بمكان أن نفصل بين جوانب النظرية السوسيولوجية لدوركهايم، فإن أعماله التـي كرسـها للتربيـة شـكلت المخـاض الأول لـولادة السوسيولوجية التربوية. وقد كان لدوركهايم، كأسـتاذ فـي جامعـة السـوربون، الفضـل الكبير في إكساب التربيـة طابعهـا الأكاديمي، وكان له فضل السبق بصفة عامة بين علماء الاجتمـاع الكلاسـيكيين فـي تحليلـه للعملية التربوية كجزء متكامل من نظريتـه الاجتماعية العامة. وبهذا الصدد يشير علماء الاجتمـاع، بعامـة، إلى دوركهـايم بوصفه أول من أشار بوضوح إلى الحاجة إلى مدخـل اجتماعي لدراسة التربية، وذلك في أواخر القرن الثامن عشر ومطلع القرن العشرين.

 لقـد ألح دوركهايم، منـذ الانطلاقـة الأولى لتفكـيره السوسيولوجي الـتربوي، عـلى أهمية الجـوانب الاجتماعية للعملية التربوية. وقد امتد تأثيره في الشرق والغرب، وهو يعد بحق المؤسس الأول لما يسمى علم الاجتماع التربوي الذي بدأ ينتشر ويهيمن في مختلف أصقاع الدنيا. وقد ترك أثرا كبيرا في الفكر التربوي الاجتماعي في فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، حيث انتشر الاتجاه الاجتماعي في التربية وبدأ يأخذ دورا لا نظير له في تحليل الظواهر التربوية.


[1] – ترجم هذا الكتاب من قبلنا: إميل دوركهايم، “التربية والمجتمع” (دمشق: دار الوسيم، 1991).  

[2] – غي أفانزيني، الجمود والتجديد في التربية المدرسية، ترجمة عبد الله عبد الدايم، دار العلم للملايين، بيروت، 1981، ص 324.

[3] – Emil Durkheim, Éducation et sociologie، P.U.F. Paris ,1989, p 47.

[4] – Emil Durkheim, ibid., p20.

[5] – غي أفانزيني، الجمود والتجديد في التربية المدرسية، المرجع السابق، ص 324.

[6] – E. Durkheim, Éducation et sociologie, Op.cit,  p 41
__________
*علي أسعد وطفة/ كلية التربية – جامعة الكويت.


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة