التصورات الاجتماعيَّة عند سيرج موسكوفيتشي ودورها في إعادة بناء الواقع الاجتماعي

image_pdf

يهدف المقال إلى تسليط الضوء على ماهية التصورات الاجتماعية عند سيرج موسكوفيتشي Serge Moscovici  باعتبارها مجموعة من المعارف والاتجاهات، أو أنظمة تفكير حول مواضيع معينة يكون الفرد بواسطتها على اتصال بمجتمعه، وبما أن حياتنا اليومية لا تخلو من نظام التصورات الاجتماعية، فهي بدورها تملي على أفراد المجتمع سلوكيات توجههم وتعبر عن اعتقاداتهم واتجاهاتهم في الحياة الاجتماعية. قدم عالم النفس الاجتماعي سيرج موسكوفيتشي مفهوم التصور الاجتماعي في علم النفس لأول مرة في ستينيات القرن العشرين المنصرم، حيث تتكون التصورات الاجتماعية من القيم والممارسات والعادات والأفكار والمعتقدات التي يتم مشاركتها بين الأفراد في مجتمع أو مجموعة، وتأخذ نظرية التصور الاجتماعي هذا المفهوم وتطبقه على مبادئ علم النفس الاجتماعي وديناميكيات المجموعة.

بدايةً، يعتبر مصطلح التصورات الاجتماعية من بين المصطلحات المتداولة حديثاً والشائعة الاستخدام في مختلف الميادين الاجتماعية، إلا أنه ما زال يشوبه نوعاً من الغموض والإبهام لدى الكثيرين، فقد حُظي وما زال يحظى بأهمية كبرى في العديد من الدراسات الاجتماعية والإنسانية، وأصبح يعد تخصصاً قائماً بذاته يُدرس في مختلف جامعات العالم له موضوع، ووظيفة، ومنهج خاص به. حيث يسعى علم النفس المعرفي من خلاله إلى فهم الميكانيزمات العقلية (الفكرية) التي تخلق التصورات، أما علم الاجتماع فإنه يحاول دراسة وتفسير هذا المفهوم انطلاقاً من دراسة الإيديولوجيات وما تحمله من مُعتقدات وأفكار التي تؤثر على نظرتنا للعالم، كما يوضح علم التربية من خلال عملية تحليل التصورات الاجتماعية مدى تأثيرها على التعليم والتعلم وكل ما يخص المنظومة التربوية، وفي النهاية نجد أن التاريخ يهتم برصد التغيرات والتطورات التي طالت الذهنيات الفكرية: (ثقافة، تفكير، اتجاهات، سلوكيات وتصرفات جماعية)، في مجتمع ما.

يرى علماء النفس والاجتماع أن لكل مجتمع ثقافته وقيمه التي تتحكم في سلوك أفراده، ويظهر ذلك جلياً من خلال تفاعلهم مع واقعهم الاجتماعي. بمعنى آخر، يعبّر التصور الاجتماعي عن بناء مهيأ من خلال القيم والمعتقدات، التي يتقاسمها أفراد جماعة معينة، وتدور حول مواضيع مختلفة، كما أنها تؤدي إلى توحيد نظرتهم للأحداث والمواقف أثناء تفاعلهم مع الواقع الاجتماعي.

يتصف التصور (بشكلٍ عام) بأنه نظام ذو منطق، ولغة مختلف عن الرأي، والصورة، والاعتقاد، والإدراك، والتفكير…، وغيره من التعابير القريبة منه، ويبقى دوره كسائر النظريات ينحصر في ترجمة ونقل الواقع وإعادة بناءه، ويعتبر منتوج وسيرورة في نفس الوقت، حيث يمكن أن نختصره في عملية إعادة بناء الواقع حتى يتمكن الفرد من إدراك الموضوع المتصور بتكيف ليصبح هذا التصور فيما بعد عنصراً من عناصر شخصية الفرد يحمل قيمة إيجابية أو سلبية وذلك تبعاً لمعاشه وخبراته وتجاربه وتفاعلاته ومع الآخرين من أفراد مجتمعه. فلسفياً يتعلق التصور بالنسبة لبعض الفلاسفة، بفعل معرفي يربط شيئاً ما بموضوع ما مكوناً بذلك تصوراً، حيث يصبح التصور بهذا المعنى، عملاً فكرياً ديناميكياً “ لخلق ” و ” إعادة خلق ” حقيقة تربط بين موضوع مفكر فيه وبين محتوى خارجي ملموس، فتصورنا لشجرة مثلاً هو ربط قمنا به بين صورة هذه الأخيرة في فكرنا وبين الشجرة الملموسة (الحقيقة) الموجودة في الحديقة، فالواقع إذن لا يوجد إلا من خلال النظرة التي يكونها الإنسان حوله. باختصار شديد هو كل ما يمكن أن يتصور من طرف الفكر، أي مجموعة من الأفكار التي يتصورها الإنسان حول الكون والحياة.

بذلك يطرح علينا هذا المقال التساؤل المركزي التالي: ما هو مفهوم التصورات الاجتماعية، وما هو دورها في إعادة بناء الواقع الاجتماعي؟

1- مفهوم التصورات الاجتماعية: ترجع كلمة التصور لغوياً إلى الفعل صوَّرَ / تصوَّرَ لـ يتصوَّر، تصوُّراً ، فهو مُتصوِّر، والمفعول مُتصوَّر. تَصَوَّرَ أن البيت يهتز: تخيل، وتوهم. تصوَّر الشيء: توهمه، تخيله واستحضر صُورتَه في ذهنه. تَصَوَّرَ له المنظر: صار له في ذهنه صورة وشكلاً. لا يتَصوّره عقل: لا يصدق. معنى ذلك أن التصور هو استحضار صورة شيء محسوس في العقل دون التصرف فيه، أي تصورت الشيء بمعنى توهمت صورته فتصور لي ومنه، فالتصور هو عملية إعادة بناء. ويستعمل في اللغة العربية إلى جانب مصطلح التصور مصطلح التمثيل.

بدأ توظيف مفهوم التصور في ميدان العلوم الاجتماعية على يد عالم الاجتماع الفرنسي اميل دوركايم 1898، حيث استخدم عبارة التصورفي الإطار الاجتماعي لإبراز الطابع الخاص للفكر الجماعي مقابل الفكر الفردي، ويرى دوركايم أن الجماعة الاجتماعية تمثل الوحدة القاعدية لهذا العلم، فقد تم اعتبار التصورات الجماعية أشكالاً عقلية مجتمعية، لها ديمومة تستمر لأجيال، وبالرغم من اعتراف دوركايم بالتصورات الفردية فقد رأى بأن دورها في التصورات الجماعية يبقى سلبياً، فهي غير ذات أهمية كبيرة لأنها محدودة في الزمان (تختفي باختفاء صاحبها)، ولأنها لا تعكس جيداً التصورات الجماعية التي تخضع لقوانين جماعية مختلفة.

يرى دوركايم أن الجماعة ليست مجرد حاصل لمجموع الأفراد الذين يكونونها، بل كيان مستقل كامل الأوجه، ولهذا يجب دراستها انطلاقاً من هذا الأساس، وبالتالي يرى أن التصورات الجماعية خارجة  عن وعي الأفراد، فهي لا تنبثق عن أفراد مأخوذين بشكل معزول، ولكن من توافقهم وهذا أمر مختلف. فالتصورات تكون مختلفة وعابرة ويومية عندما تكون فردية، في حين أنها مستقرة وصلبة ومتقاسمة عندما تكون جماعية.

بعد غياب طويلاً عاد هذا المفهوم إلى الساحة الأكاديمية ولكن ضمن مقاربة سيكولوجية من خلال عالم النفس الاجتماعي الفرنسي سيرج موسكوفيتشي 1961 من خلال كتابه ( التحليل النفسي: إنه صورة وعامPsychoanalysis: Its Image and Its Public  )، الذي يقدم التصورات على اعتبارها ديناميكية ومتطورة، كما أنها منحصرة على بنى صغيرة، فهي إذن كثيرة من حيث العدد وأكثر تنوعاً ومحدودية وتجزئة، ولهذا السبب تتغير بشكل أسهل وأسرع مقارنة بالتصورات الجماعية، فعلماء النفس الاجتماعيون يرون بأن التصورات الاجتماعية من صنع الفرد، ولكنها مكتسبة ومتقاسمة أيضاً مع الجماعة، لكن الجماعة في تصور موسكوفيتشي ليست هي المجتمع الأصلي، وإنما هي الجماعات الصغيرة التي ينتمي إليها الأفراد.

إذا كانت المعلومة العلمية دقيقة ومنطقية فهي معقدة جداً، إذ يصعب على الأفراد الاحتفاظ بها، فينتج عن ذلك تحولها من خلال المحاورات والاتصالات ومختلف أنماط التفاعل الاجتماعي إلى شكل خاص جديد من المعرفة المعقدة اجتماعياً.

ويمكن القول إن نظرية هذا المفهوم بنيت في علم النفس الاجتماعي على أمرين: الأول وهو اجتماعي محض كون أن التصور في حد ذاته شكل من أشكال التفكير الاجتماعي، وهو في هذه الحالة يصبح حالة من المعرفة الاجتماعية، والأمر الثاني ما للجانب السيكولوجي من أهمية في تكوين التصور عند الفرد والذي يجعله بهذا يختلف من فرد لآخر وما دعم هذا الجانب الاعتماد على نتائج الدراسات في علم النفس الطفل.

اقترح موسكوفيتشي تعريفاً لتصورات الاجتماعية على اعتبارها شكل من أشكال المعرفة الخاصة بالمجتمع تعمل على بناء واقع مشترك لوحدة أو مجموعة اجتماعية، دورها إنشاء نظام يعطي الأفراد إمكانية التوجه في المحيط الاجتماعي والمادي ومن تم التحكم فيه. وبمعنى أدق هو ” جهاز من القيم والأفكار والممارسات المتعلقة بمواضيع معينة، ومظاهر وأبعاد للوسط الاجتماعي، فهي لا تسمح فقط باستقرار إطار حياة الأفراد والجماعات، ولكن تكون أداة لتوجيه إدراك الوضعيات وإعداد الإجابات “.

بذلك يكون هذا النظام هو نظام تأويلي إذ يشرف على توجيه وتنظيم الاتصالات الاجتماعية بين الأفراد فتصورات الاجتماعية عبارة عن محتوى من الأفكار وفي نفس الوقت عملية دينامية يتم بواسطتها بناء الواقع، واقع لا نستطيع مقاربته دون تلك التصورات. فهي تبرز في أشكال متنوعة معقدة نسبياً وهي صور تكثف المعاني أو أنساق مرجعية تسمح بترجمة ما يحدث وإعطاء معنى غير المتوقع، وفي النهاية تمكننا من وضع أطر لتصنيف مواضيع الأفراد والظواهر التي تصادفنا بشكل يومي في الحياة الاجتماعية.

ويرى موسكوفيتشي أن التصورات الاجتماعية للمجتمعات المعاصرة تناظر الأساطير والاعتقادات التي كانت تحملها المجتمعات القديمة، وما هي بذلك إلا الصيغة الراهنة للمنطق العام المأخوذ به في الوقت الحاضر وتوضح هذه التصورات كيف يصبح ما هو غير مألوف (من المعلومات والظواهر) مألوفاً مع الوقت، وبذلك فإن التصورات الاجتماعية تشكل جوهر المعرفة الاجتماعية لأنها تساعدنا على التمكن المعرفي من العالم وفهمه كما أنها تعزز قدرتنا على التواصل مع الآخرين بشأنه.

خلاصة القول، التصور الاجتماعيعبارة عن منتوج أو سيرورة خاصة بنشاط عقلي، والذي بواسطته يقوم الفرد أو الجماعة ببناء وتشكيل الواقع الذي يواجههم وكذا منحه معنى نوعياً “. فالتصورات الاجتماعية هي أنظمة تفكير حول مواضيع معينة يكون الفرد بواسطتها على اتصال بمجتمعه، تختلف عن الآراء والاتجاهات، وهي نوع من المعرفة العامية والمشتركة بين كل أفراد المجتمع حيث إنها تكون مهيأة ومقسمة اجتماعياً بينهم، وهذا باختلاف معايير معينة (ثقافة، إيديولوجية) وهي اعطائه معنى أو تصوراً خاصاً، وهي حصيلة نشاط عقلي يعتمد على إعادة بناء الواقع واعطائه معنى خاص أو تصور، كما أنها مرنة وليست ثابتة، فهي تختلف من عصر لآخر ومن مجتمع لآخر تبعاً لظروف المجتمع الحالية، وهي متداولة بين كل أطرافه كالتصورات الاجتماعية حول المرض والصحة، أو حول المرض النفسي، أو الإرهاق، أو الجنون، أو الإبداع، أو العدل، أو الظلم، أو مواضيع أخرى كالإعلام الالكتروني.

2- خصائص التصورات الاجتماعية: يُنظر إلى التصورات الاجتماعية باعتبارها من المفاهيم الغنية والمعقدة للغاية، وإذا أردنا أن نفهم التصورات الاجتماعية المجسدة لكل التصورات الفردية داخل المجتمع، يجب علينا أن نحدد صفاتها وخصائصه، وهي كالآتي:

أ- هي دوماً تصورات لهدفٍ ما: لا توجد تصورات بدون هدف، مهما كانت طبيعتها مختلفة، وهذا الهدف يمكن أن يكون طبيعة مجردة مثل: الإبداع والإعلام والجنون، أو ممكن أن يكون فئة من الأشخاص مثل: الأساتذة، الصحفيون، والموضوع يكون دائماً في اتصال مع الفاعل أو الشخص، فالتصور هو السيرورة التي من خلالها يؤسس علاقاته، كما أنه يكون هناك تفاعل بين الموضوع والفاعل وكل واحد منهما يؤثر في الآخر.

ب-  لها صفة (معنى) تمثيلية صورية: وهي أهم صفة للتصورات، حيث تكون متلازمة للمعنى الدلالي لأي بنية تصورية، وكما يقول موسكوفيتشي: تبدو ازدواجية، ولها وجهين منفصلين مثل وجه وظهر الورقة، وجهة تمثيلية وأخرى رمزية، ونكتب: التصورات تساوي تمثيل (صورة) ومعنى، بحيث إن لكل صورة معنى ولكل معنى صورة (تمثيل). أي إن موسكوفيتشي يرى بأن التصورات تظهر بوجهين متلازمين، ولكن منفصلين، ويشبه ذلك بوجهي ورقة، فالصورة والمعنى كلاهما يشكلان التصور الاجتماعي ولا غنى عنهما.  

ج- لها معنى رمزي ودلالي: يذهب موسكوفيتشي إلى أن التصور هو إعادة استذكار أو تقديم شيء غائب إلى الوعي، وذلك يكون من خلال احتفاظ الموضوع برموز تعبر عن كثير من المواضيع خصوصاً المجردة وبواسطة الاستذكار إنما يحاول إعطائها المعنى والدلالة التي تفي بشرحها.

د- لها صفة بنائية: هذه الصفة في التصورات الاجتماعية تحدث عندما يستدخل الفرد موضوعاً على المستوى الذاتي، فإنه يقوم بربطه مع مواضيع متواجدة من قبل في هذه الدائرة الفكرية، فينزع منه بعض الخصائص ويضيف له أخرى، وهذا يميز التصور عن باقي العمليات النفسية، فهو لا يعتبره مجرد تكرار أو إعادة إنتاج سلبي للموضوع، بل عملية تركيب وبناء ذهني.

ه- لها صفة الاستقلالية والإبداعية: يعتبر التصور ليس إنتاجاً بسيطاً، لكنه يستلزم لحدوث الاتصال جزءاً مستقلاً للإبداع الفردي أو الجماعي. فمثلاً في التصور الخارجي لعمل مسرحي يُقدِم بالصوت والصورة أفعالاً وكلمات تعيد تقديم بعض الأشياء غير المرئية الموجودة في النص مثل: الموت، القدر، الحب،… . فكل فرد من خلال تصوراته الاجتماعية  يضفي عليها جزء فردي وهو الذاتية وجزء آخر يجعلها مختلفة عن تصورات الآخرين وهو عامل الإبداع. حيث إن التصورات تتدفق في شكل سلوكيات وعادات، أي من خلال التصورات تنتج سلوكيات فردية واجتماعية تتجسد في شكل قيم اجتماعية. بذلك تمتلك التصورات الاجتماعية صفة الاستقلالية والإبداعية خلال عملية إنتاجها.

و- لها صفة اجتماعية: إن كل تصور اجتماعي مرتبط بموضوع وبجماعة لأنه عبارة عن مجموعة من المعطيات المتعلقة بموضوع اجتماعي معين، وقد تكون متعددة وغنية نوعاً ما بحيث تكتسي طابعاً معرفياً وآخر اجتماعي، فالمكون المعرفي يستوجب موضوعاً نشطاً يحتوي مجموعة من المعلومات الاجتماعية خاضع للقوانين التي تكون بنية السيرورات المعرفية، أما المكون الاجتماعي فيضم السيرورات المعرفية المكونة للتصور وفقاً لشروط اجتماعية خاصة، فهذا البعد الاجتماعي ينتج من مجموع قواعد تختلف عن المنطق المعرفي. بمعنى آخر، يتحدد التصور تبعاً لبيئة المجتمع الذي يتطور فيه، فعندما نتوضع في مستوى اجتماعي معين لتحليل فعل الذات الذي يصور الموضوع، يظهر أن التصور يستوجب دائماً بعض الأشياء الاجتماعية. ولأن الفرد في مجتمعه يتفاعل مع غيره، فإن هذه التصورات تكتسي طابعاً اجتماعياً، بالإضافة إلى الطابع النفسي الذي يمثل آرائه ووجهة نظر خاصة، ويعبر عن انفعالاته وتفكيره. وفي هذا الصدد فإن التصور هو عملية بنائية وإنتاج اجتماعي، حيث يتم بناؤه خلال التفاعل والاتصال الاجتماعي.

3– شروط التصورات الاجتماعية: يجب أن تتوفر ثلاثة شروط لظهور التصورات الاجتماعية، وهي كالآتي:

أ- نشر المعلومة: لأسباب مرتبطة بتعقد الموضوع الاجتماعي وأيضاً بسبب الحواجز الاجتماعية أو الثقافية، فإن الأفراد لا يستطيعون الوصول إلى المعلومات الضرورية لمعرفة الموضوع.

ب- التركيز في بؤرة: تتعلق بالوضعية الخاصة التي تكون عليها الجماعة الاجتماعية اتجاه موضوع المتصور (موضوع الدراسة). فالشيء الذي يعيق الأفراد في الحصول على نظر شمولية (كلية) للموضوع سيؤدي إلى التركيز عليه لتكوين تصور عنه.

ج- ضغط الاستدلال: ضرورة شعور الأفراد بتطور في السلوكيات والخطابات المتناسقة حول الموضوع الذي لا يعرفونه جيداً. من هذا المنطلق فإن الموضوع الاجتماعي هو موضوع غير معروف بالنسبة لنا (نشر) والذي نهتم به بدرجات مختلفة (بؤرة) ومن خلاله نأخذ موقف (ضغط الاستدلال).

4- محتوى التصورات الاجتماعية: ينقسم محتوى التصورات الاجتماعية إلى ثلاثة أبعاد أساسية، وهي كالآتي:

أ- المعلومة: يشير هذا المحتوى إلى مجمل المعارف المرتبطة بالموضوع، فالفرد يحتفظ بالمعلومات الكمية والكيفية للموضع المتصور، والتي يتحصل عليها عن طريق حواسه وهذا من خلال احتكاك الفرد بمحيطه الاجتماعي، وكذا ما يواجهه من خبرات وتجارب شخصية، أما محتوى هذه المعلومات قد يكون معارف عامة، نظريات عامة أو معارف حول أنواع الأشياء وخصائصها وكذا التغيرات التي تطرأ عليها، ولذلك تختلف المعلومات التي تخص موضوع ما باختلاف الأفراد، وتنتقل هذه المعلومات عن طريق الاتصال بين الأفراد والجماعات وكذا عن طريق مختلف وسائل الإعلام.

ب- حقل التصور: أي إنه وحدة منظمة من الآراء المتكونة حول الموضوع المتصور ولحقل التصور أهمية في دراسة التصورات، لأن غنى هذا المحتوى يعني توافر مجموعة معينة من المعلومات القابلة للتنظيم وهو أيضا يختلف بالاختلاف الأفراد والجماعات ويرجع هذا الاختلاف إلى تباين المعلومات الموجودة عند الأفراد. إن حقل التصورات هو بالضرورة حقل اجتماعي إذ نجد فيه مختلف الحقائق الاجتماعية التي تؤسس التصورات فكل تصور إنما هو تصور جماعة ما لموضوع ما، وعليه كل تصور أكيد وراءه دافع اجتماعي حتى وإن كان خارج الإطار الاجتماعي، كأن يكون موضوع المتصور عبارة عن موضوع بيولوجي، فيزيائي… أياً كانت طبيعة هذا الموضوع كون أن التحكم فيه هو رهان الجماعة ومدى معرفتها بالموضوع.

ج- الموقف أو الاتجاه: يتعلق هذا البعد بالاتجاهات النفسية وهو عبارة عن وضعية تقديرية تجاه الموضوع المتصور وهذا التقدير أو التوجه قد يكون إيجابي أو سلبي. على اعتبار أن الاتجاه عبارة عن إدراك عقلي دائم، يحتوي على المعتقدات المتعلقة بمجموعة من الأطر المرجعية التي تمكن الفرد من التصرف إيجابياً أو سلبياً إزاء الموضوع المتصور.

إن الأبعاد الثلاثة تسمح بالتحليل محتوى التصورات، فهي إذن تسمح بمقارنة التصورات المتباينة، هذا التصنيف يقدم ميزة إدخال الأفكار في بناء المحتويات، لا سيما عند طرحنا للمفهوم الحقل الذي يؤثر على التنظيم (تنظيم المحتوى)، وفي دراسته لاحظ موسكوفيتشي عندما وصف استجابات الأفراد الملائمة وغير الملائمة للتحليل النفسي أن مستوى المعلومات يتغير من فرد إلى آخر، ومن مجموعة إلى أخرى وهذا وفقاً لبعض المعايير (الاقتصادية، الاجتماعية، الثقافية …) فمثلاً إن الأفراد الذين يتقاسمون مهن معينة أعمال حرة، فإن حقل تصور التحليل النفسي لهم يكون مشترك في بعض المظاهر ولكن هذا لا يمنع وجود الاختلاف داخل نفس المجموعة وفقاً لمحكات إيديولوجية حول التحليل النفسي أي الموضوع المتصور.

5- وظائف التصورات الاجتماعية: تلعب التصورات دوراً هاماً في تحديد سلوكيات الأفراد وكذلك ممارساتهم، ويمكننا القول في هذا السياق أن التصور عبارة عن دليل للأفعال فهو يوجه علاقاتنا الاجتماعية. ولهذا اعتبره البعض كنظام تشفير لرموز الواقع، كما تتيح التصورات الاجتماعية الربط بين المنتوج المعرفي واللغوي والتنظيم الدال للواقع، حيث يتعلق الأمر بالطريقة التي يصبح بها الواقع مفهوماً ووظيفياً وعلمياً، فالتصورات الاجتماعية إذن وسيلة لفهم وتوجيه السلوكيات. وقد تم تحديد وظائف التصورات الاجتماعية في خمسة وظائف أساسية، وهي كالآتي:

أ- الوظيفة المعرفية: تسمح بفهم الواقع ومعرفة نشاط الحس المشترك، فهي تمكن الفاعلين الاجتماعيين  social actors من اكتساب المعارف وإدماجها في إطار قابل للاستيعاب والفهم بالنسبة لهم، والذي يكون ملائم مع السير المعرفي والقيم التي يلتزمون بها .

ب- وظيفة الهوية: تساهم التصورات الاجتماعية في الانتماء الاجتماعي للأفراد كما تسمح بالحفاظ على خصوصيات الجماعة، وعلى مساعدة الأفراد على تمركزهم في الحقل الاجتماعي، فهي تعبر عن الاشتراك في الأفكار العامة واللغة اللذان يعتبران دعم للروابط الاجتماعية، كما تسمح هذه الوظيفة بالاحتفاظ على خصوصية الجماعة.

ج- وظيفة تفسير وبناء الواقع: تسمح التصورات بشرح وفهم الواقع من خلال تنظيم المعارف العامة حول المواضيع المتصورة والتي غالباً ما تكون معارف بسيطة، فهي تلك المواضيع التي نصادفها في حياتنا اليومية وهنا يتم الرجوع إلى القيم والمعايير السائدة في المجتمع، فمن خلال هذه الوظيفة يتمكن الفرد من السيطرة على المحيط الاجتماعي للفرد. إن إدراج الموضوع الجديد داخل الإطار التفكيري المسبق يمر ببعض التعديلات على مستوى العناصر المكونة له لتقارب مع التصنيفات الموجودة سابقاً، مما يسهل فهم الموضوع، إذاً التصورات الاجتماعية تعمل على تفسير وإعادة بناء وتنظيم الواقع بطريقة ملائمة للمرجعية الثقافية والإيديولوجية .

د- وظيفة التوجيه: تعمل التصورات على توجيه السلوكيات والتصرفات وهذا في حد ذاته يحمل وظيفة اجتماعية فهي تساعد الأفراد على التواصل في محيطهم وكذا ممارسة نشاطاتهم هذا من جهة، ومن جهة أخرى تعمل التصورات الاجتماعية على تحديد ما يجب فعله وما يجب تركه، أي تحديد ما هو مسموح وما هو ممنوع في مجتمع ما وفي زمن ما.

ه- وظيفة التبرير: لا يتوقف دور التصور على تحديد السلوكيات والممارسات بل يسمح أيضاً بالتبرير البعدي لتلك المواقف والسلوكيات داخل جماعة الانتماء، إن تبرير السلوكيات التي وصلت إلى درجة القناعات يعمل على محافظة المواقف الاجتماعية للجماعة، ومن وجهة النظر هذه يظهر دور جديد للتصورات وهو دعم أو حفاظ وكذا تقوية الوضعية الاجتماعية لتلك الجماعة. كما أن لتصور وظيفة إبقاء أو تبرير التباين الاجتماعي، والذي يهدف إلى تميز والحفاظ على البعد الاجتماعي بين مختلف الجماعات.

خلاصة القول يمكننا اعتبار التصور في معنى واسع كطريقة لتنظيم معرفتنا للحقيقة الاجتماعية والتكوين الاجتماعي. مثل هذه المعرفة تُنتج إطلاقاً من قوانيننا الخاصة. وبما أن الحياة اليومية لا تخلو من نظام التصورات الاجتماعية فهي بدورها تملي على الفرد سلوكيات توجهه وتعبر أيضاً عن اعتقاداته واتجاهاته وإيديولوجياته في الحياة الاجتماعية. كما أن التصور يندرج ما بين سلسلة من المفاهيم السوسيولوجية والمفاهيم النفسية، لأن يتميز بوضعية مزدوجة (نفسي/ اجتماعي)، مما يجعله نظاماً نظرياً معقداً بنفسه لكونه يأخذ بعين الاعتبار من جهة العمل المعرفي الخاص بالجهاز النفسي، ومن جهة أخرى عمل الجهاز الاجتماعي الخاص بالجماعات، وبالتفاعلات التي تؤثر على كل من النشوء، والبنية، والتطور، فالتصورات الاجتماعية يحب أن تدرس مع الأخذ بعين الاعتبار كل من العوامل الوجدانية، والمعرفية، والاجتماعية.

إن الهدف المحوري من دراسة التصورات الاجتماعية هو فهم وتحليل كيف تنتشر ظاهرة جديدة أو نظرية علمية أو سياسية في ثقافة ما داخل المجتمع وكيف أنها تتحول في سياق هذه السيرورات وكيف تغير نظرتنا لأنفسنا وللعالم الذي نعيش فيه.

بذلك تعتبر التصورات الاجتماعية بمثابة جسر ضيق بين ما هو نفسي وما هو اجتماعي، وهذه الفكرة يؤيدها المختصون في علم النفس الاجتماعي، حيث يرون بأن التصورات الاجتماعية موجهة من طرف الأفراد، ولكنها أيضاً مكتسبة من المجتمع الذي ينتجها اجتماعياً، وفي هذا الصدد يقول دوركايم: ” إن التصورات الاجتماعية هي منتجة اجتماعياً وتتأثر بالتجديد والتطور“.  وهكذا تقوم التصورات الاجتماعية بدور هام في إعادة بناء وتشكيل رؤيتنا للواقع الاجتماعي.

– المراجع المعتمدة:

1- Serge Moscovici: Psychoanalysis: Its Image and Its Public, Polity, 1st Edition-)En-translation(, 2008.  

2- بدران بن لحسن وآخرون: التصورات الاجتماعية للدين – مراجعة نقدية للمفاهيم والأبعاد والأطر النظرية، مجلة العلوم القانونية والاجتماعية، المجلد: 7، العدد: 3، جامعة زيان عاشور بالجفلة، الجزائر، سبتمبر 2022.

3- جردير فيروز: التصورات الاجتماعية للأساتذة اتجاه ظاهرة الفشل في التعليم الثانوي – دراسة ميدانية بولاية جيجل، رسالة ماجستير، قسم علم النفس والعلوم التربوية، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة منتوري قسنطينة، الجزائر، للعام 2010-2011.

4- عادل بوطاجين، سليمان بومدين: التصورات الاجتماعية – مدخل نظري، مجلة الدراسات والبحوث الاجتماعية، جامعة الوادي، العدد:6، أبريل 2014.

5- زينة طاهري: التصورات الاجتماعية للطبلة الجامعيين حول العمل في القطاع الخاص، رسالة ماجستير، قسم العلوم الاجتماعية، كلية الآداب واللغات والعلوم الاجتماعية والإنسانية، جامعة العربي بن مهيدي، 2012-2013.

6- نورة عامر: التصورات الاجتماعية للعنف الرمزي من خلال الكتابات الجدارية، رسالة ماجستير، قسم علم النفس وعلوم التربية، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة الإخوة منتوري قسنطينة، الجزائر، 2005-2006.

7- سعيد رحال، عبد السلام مخلوف: التصورات الاجتماعية لمفهوم المرض النفسي لدى عينة من ذوي الشهادات الجامعية، مذكرة مكملة لنيل درجة الماجستير، قسم العلوم الاجتماعية (شعبة علم النفس)، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية جامعة محمد خيضر (بسكرة)، الجزائر، 2010- 2011.

8- فنور بشرى وآخرون: تصورات معلمي الابتدائي للمستقبل الدراسي لذوي صعوبات التعلم، مذكرة مكملة لنيل درجة الماجستير، قسم علم النفس وعلوم التربية، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة محمد الصديق بن يحيى، الجزائر، 2018-2019.

___________
*د. حسام الدين فياض/ الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة/ قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقا.

جديدنا