مراجعات في فكر ألكسيس دو توكفيل
ربما يكون أفضل دليل على صيرورة الأفكار الديموقراطية المعاصرة وطبيعة تكوين المجتمع الأمريكي أرستقراطي القرن التاسع عشر الفرنسي ألكسيس دو توكفيل الذي سافر في أوائل ثلاثينيات القرن التاسع عشر إلى الولايات المتحدة ليدرس الثقافة السياسية لأمة زعمت أنها أول ديموقراطية حقيقية في العالم، ومن ثم جمع أفكاره في واحدة من أعظم الأعمال الفلسفة السياسية حمل عنوان “الديمقراطية في أمريكا”، و الذي نُشر في فرنسا في عام 1835.
بالنسبة لتوكفيل، كانت الديمقراطية خياراً سياسياً غريباً وحديثاً للغاية. لقد ولد في عام 1805، عندما كان نابليون الديكتاتور الشعبي لنصف أوروبا. بعد معركة واترلو، وخسارة نابليون عاد ملوك عائلة البوربون لحكم فرنسا، وبينما كانت هناك انتخابات في فرنسا آنذاك، فقد كان حق الانتخاب محدوداً للغاية. ولكن – بحسب اعتقاد توكفيل – كانت الديمقراطية ستصبح الفكرة الكبرى للمستقبل في جميع أنحاء العالم. لقد كان طموح توكفيل هو أن يتكشف ماذا سيحدث عندما تبدأ المجتمعات التي كانت تحكمها أجيال من النخب الأرستقراطية الصغيرة والتي توارثت ثروتها وسلطتها، في اختيار قادتها في الانتخابات التي يمكن أن يصوت فيها جميع البالغين إلى حد كبير.
ولهذا السبب سافر توكفيل إلى أمريكا لكي يرى كيف سيكون المستقبل. وقد حصل هناك من باب المجاملة على منحة من الحكومة الفرنسية، التي أرادت منه أن يدرس نظام السجون الأمريكية ويجمع تقريراً يمكن أن يتعلم منه بعض الدروس. لكن توكفيل لم يكن مهتماً للغاية بالسجون، وأوضح ذلك الأمر في رسائل للأصدقاء بأن السبب الحقيقي وراء ذهابه إلى أمريكا هو دراسة الأخلاق، والعقليات، والعمليات الاقتصادية والسياسية الأمريكية. وقد وصل إلى نيويورك – مع صديقه غوستاف دي بومونت الذي كن يعمل في سلك القضاء – في مايو من عام 1831، ومن ثم شرع في رحلة طويلة حول الدولة الجديدة التي كانت ستستمر حتى فبراير 1832.
ذهب توكفيل وبومونت إلى الغرب بقدر ما يستطيعان الابتعاد حتى ميشيغان، التي كانت آنذاك دولة حدودية، وهناك وجدا شعوراً بالاتساع في المناظر الطبيعية في الغرب الأوسط الأمريكي. كما إنهما ذهبا إلى نيو أورليانز، ولكن قضوا معظم وقتهم في بوسطن ونيويورك وفيلادلفيا. ولقد التقوا بمستويات مختلفة من البشر: الرؤساء، والمحامون، والمصرفيون، والإسكافيون، ومصففو الشعر، وصافحوا حتى آخر من وقع على إعلان الاستقلال الأمريكي، وهو رجل يدعى تشارلز كارول.
الملاحظات التي أدلى بها توكفيل بشأن أمريكا لم تكن تبجيلية، ولكن كانت ساخرة، وغالباً ما تكون تهكمية، ومرراً ما تكون مثيرة للسخط للغاية، و من تلك الملاحظات:
1. بشأن نيويورك:
“بالنسبة للرجل الفرنسي، فإن منظر المدينة غريب وغير مقبول للغاية. لا يرى عمران المدن التقليدي في أوربا مما يؤدي إلى أن يتكوّن لدى المرء انطباع دائم بأنه في إحدى القرى غير المتحضرة.”.
2. بشأن الفخر الوطني:
“أشك في أن باستطاعة المرء أن يستخلص من الأمريكيين الفكرة غير الحقيقية في الواقع عن بلدهم. فمعظمهم يتفاخرون به دون تمييز، ومع وقاحة غير مقبولة تجاه الغرباء. وبشكل عام، هناك الكثير من تفاهة الجاهلين الطفوليين في تركيبهم. لم نلتق رجلاً رائعاً حقاً حتى الآن.”.
3. بشأن روح الابتذال:
“لا يبدو أن هناك أحداً في أمريكا يمتلك الأخلاق الأنيقة والأدب الراقي الموجود في أوروبا. في أمريكا يصاب المرء في الحال بداء الابتذال، واللامبالاة في الكلام والسلوك.”.
4. بشأن المواقف تجاه الأمريكيين الأصليين:
“في خضم هذا المجتمع الأمريكي، يسود بشكل عميق مبدأ حفظ النظام، والأنانية الباردة، وفقدان الحس الكامل عندما يتعلق الأمر بالسكان الأصليين للبلاد.
لا يسمح الأمريكيون في الولايات المتحدة للكلاب بمطاردة الهنود الحمر من سكان أمريكا الأصليين مثلما يفعل الأسبان في المكسيك، ولكن في الحقيقية هناك نفس شعور عدم الشفقة والذي يشرئب هنا كأي مكان آخر حل فيه الغزاة الأوربيون الذين يرون أن هذا العالم ملك لنا، وهم يخبرون أنفسهم كل يوم: إن الجنس الهندي مقدر له التدمير النهائي، وهو الأمر الذي لا يستطيع المرء منعه، وليس من المستحسن تأخيرهن فلم تخلقهم السماوات كي يكونوا متحضرين، لذا من الضروري أن يموتوا. بالإضافة إلى أنني لا أريد أن أختلط بهم. وسوف أقوم بتقديم كل ما من شأنه أن يُعجّل هلاكهم. في الوقت المناسب سوف أمتلك أراضيهم وسوف أكون بريئاً من موتهم.
ومع الرضا عن منطقه النفاقي، يذهب الأمريكي إلى الكنيسة حيث يسمع كاهن الإنجيل يكرر كل يوم بأن جميع الناس إخوة، وأن الكائن الأزلي في السماء جعل البشر جميعاً في صورة مشابهة، وقد أوصاهم بواجب لمساعدة بعضهم البعض.”.
عندما وصل توكفيل إلى نيويورك، رأى نفسه يتقدم في تحقيق دقيق للغاية ومهم عن العواقب الاجتماعية للديمقراطية؟ ما الذي ينبغي للمرء أن يتوقعه بشأن الحال التي سوف يبدو عليها المجتمع الديمقراطي؟
كان توكفيل يُدرك بشكل خاص الجوانب الإشكالية وربما المظلمة للديمقراطية بشكلها الرأسمالي الصارخ في الولايات المتحدة، وقد صعقته مجموعة قضايا على نحو خاص، من قبيل:
1. الديمقراطية الرأسمالية تولِّد الجشع
في المجتمع الذي عرفه توكفيل منذ الطفولة، لم يكن كسب المال في طليعة أهداف عقول الناس. لم يكن لدى الفقراء (الذين كانوا الأغلبية الساحقة) أي فرصة للحصول على الثروة. لذا، بينما كانوا يهتمون بالحصول على ما يكفي من الطعام، لم يكن المال على هذا النحو جزءاً من طريقة تفكيرهم في أنفسهم أو طموحاتهم. من ناحية أخرى، فإن الطبقة العليا الصغيرة من الأرستقراطيين الإقطاعيين من أصحاب الأراضي لا يحتاجون إلى جني المال، واعتبروا أنه من العار العمل مقابل المال على الإطلاق، أو المشاركة في المتاجرة أو التجارة. نتيجة لذلك، ولأسباب مختلفة للغاية، لم يكن المال هو السبيل للحكم على الحياة.
ومع ذلك، فإن الأمريكيين الذين قابلهم توكفيل كانوا جميعاً يعتقدون بسهولة بأنه من خلال العمل الجاد كان من الممكن تحقيق ثروة لا حدود لها بحيث يصبح جمع الثروة هدفاً بحد ذاته وليس وسيلة لتحقيق هدف آخر، وأن القيام بذلك كان أمر رائعاً وصحيحاً.. لقد بدا جمع المال كما لو أنه الإنجاز الوحيد الذي اعتقد الأمريكيون أنه يستحق الاحترام. على سبيل المثال، في أمريكا، لاحظ توكفيل أن الكتاب الذي لا يحقق ربحاً – لأنه لا يُباع جيداً – لا يمكن أن يكون جيداً، لأن اختبار كل خير هو بقيمته المالية. وأي شيء يحقق ربح يجب أن يكون رائعاً بكل الطرق. لقد كانت وجهة نظر غير مستوية وغير مألوفة، جعلت توكفيل يرى مزايا أنظمة الحالة متعدد الأطوار الأكثر دهاء نسبياً في أوروبا، حيث يمكن اعتبار الفرد في ظرف ما مبجلاً وناجحاً على الرغم من كونه فقيراً، أو غنياً، لكنه مبتذل ورخيص.
خلقت الديمقراطية الرأسمالية على الطريقة الأمريكية مجتمعاً ظاهرة الإنصاف، ولكن أيضاً بطريقة مسطحة جداً وقمعية للبشر للحكم على بعضهم البعض.
2. الديمقراطية الرأسمالية تولد الحسد والعار
أثناء السفر حول الولايات المتحدة، اكتشف توكفيل سوءاً غير متوقع يفسد أرواح مواطني الجمهورية الجديدة. كان لدى الأميركيين الكثير، لكن هذا الثراء لم يمنعهم من الرغبة في المزيد الدائم، ومن مصادر المعاناة لهم رؤية شخص آخر يمتلك ما يفتقرون إليه، ولذلك الموضوع خصص فصلاً من كتابه الديمقراطية في أمريكا حمل عنوان “أسباب روح الأمريكيين المضطربة في خضم رخاءهم”، وفيه رسم تحليلاً دائماً للعلاقة بين عدم الرضا والرغبة المستمر بمراكمة الثروة، وبين الحسد.
3. الديمقراطية الرأسمالية تفضي لطغيان الأغلبية
عادةً، نعتقد أن الديمقراطية هي عكس الطغيان. في ظل الديمقراطية، لم يعد من الممكن لجماعة أن تتحكم في الآخرين بحكم القوة؛ على القادة أن يحكموا بموافقة المحكومين. لكن توكفيل لاحظ أن الديمقراطية يمكن أن تخلق بسهولة نوعها الخاص من الطغيان: أي ذلك المتعلق بالأغلبية. يمكن لمجموعة الأغلبية – من حيث المبدأ – أن تكون شديدة العدائية والوحشية تجاه الأقليات. لم يكن توكفيل يفكر ببساطة في الاضطهاد السياسي العلني، ولكن في نوع من الطغيان أقل دراماتيكية، لكنه لا يزال حقيقياً، مشخصاً بإهمال حقوق الأقليات المجتمعية سوا كانت فكرية أو إثنية بشكل لا يغيب عن بصيرة أي مدقق في سيرة الديمقراطيات الرأسمالية الحديثة والمعاصرة، والتي يمثل التمييز بحق الأقليات أحد سماتها الطاغية.
___________
*تعريب فريق دار الأكاديمية للطباعة والنشر والتوزيع لملخص محاضرة قدمها الطبيب مصعب قاسم عزاوي باللغة الإنجليزية في مركز دار الأكاديمية الثقافي في لندن.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.