في صالة العرض وجاليري جودار في عمَّان عاصمة الأردن كانت فرصة جميلة لروحي لتحلق في معرض تشكيلي مختلف عما اعتدت حضوره، ففي واحدة وعشرين لوحة حلقت ريشة الفنانة والروائية دالندا الحسن بلوحات مازجت بين عبق التراث وحكايات الجدات وبين جمال اللون والفكرة، فروت الحكايات باللون والريشة وأعادت لذاكرتي طفولتي البعيدة في فترة لم نكن نعرف الكهرباء ولا الراديو ولا التلفاز، فننام ونحن نستمع للحكايات ترويها الجدة أو الأم أو الخالة، واللواتي كن يبدأنها بعد أن يطلبن منا الصلاة على النبي عليه أطيب السلام وتوحيد الله سبحانه وتعالى، يبدأن الحكاية بعبارة: “كان يا مكان في قديم الزمان”، ودالندا الفنانة بدأت تروي لنا الحكايات بالريشة واللون من لوحتها الأولى “كان يا مكان”حتى اللوحة الرابعة عشرة “حكاية قاطع ايد أبوه” متنقلة في كل لوحة بحكاية، لتنتقل بروح المشاهد والمتلقي بعدها في سبع من اللوحات في عبق التراث، مع فرصة توفير كتاب لها يحمل عنوان: “حكايات جدتي” من اعدادها ويضم الحكايات المروية مع صور اللوحات التي أبدعتها ريشتها وروحها، فوفرت من خلال الكتاب الذي بيع بسعر رمزي للمشاهد أن يمازج قراءة الحكاية لمن لم يعرف هذه الحكايات وخاصة الجيل الشاب مع الذائقة البصرية بمشاهدة اللوحة.
التراث بأشكاله المختلفة هو بعض من الموروث الذي يشكل الهوية الثقافية للشعوب، وكان التراث ملهما للمبدعين سواء بالقصة والرواية والفن التشكيلي اضافة للفنون الأخرى سواء كانت بصرية أو مكتوبة، والتراث الشعبي هو سمة تميز الشعوب عن بعضها وتبرز الاختلاف في تاريخها وهويتها، فالتراث من عوامل الابداع وهو حافز على التغيير، ومن هنا نجد دور الاحتلال الصهيوني للوطن فلسطين في محاولة سرقة التراث ونسبته زورا وبهتانا لتاريخ لهم لم يكن موجود أصلا، ومن هنا برز دور المبدعين والفنانين التشكيليين بالعودة الى التراث وإحيائه والمحافظة عليه لابراز الهوية الفلسطينية والمحافظة عليها في مواجهة الاحتلال، فنجد الفنانة دالندا الحسن لجأت إلى التراث في معرضها الأول وحولت الحكاية التراثية إلى لوحات فنية أسقطت عليها الواقع الحالي من خلال رمزيات ابدعتها بريشتها فمازجت بين الماضي والحاضر في معرض متفرد وجميل مبني على أساس تراثي ضارب العمق في التاريخ بتجديد معاصر وبصمة خاصة للفنانة وريشتها.
والفنانة لجأت لاستخدام التمازج في الأساليب الفنية في لوحاتها فقد استخدمت الألوان الزيتية الكيماوية “أكليرك” إضافة للألوان المائية ولجأت إلى أسلوب “الكولاج” وهو فن تركيب مواد مختلفة على اللوحة لتشكل عنصر إضافي، فنجد في بعض اللوحات صور لوجوه جرى لصقها، كما انها طبعت من كتب متخصصة باللباس التراثي قطع من التطريز للأثواب الفلسطينية وألصقتها على اللوحات ومازجتها مع الألوان فظهرت كأنها مرسومة بالريشة، وهذا يدلل على حجم الجهد الذي بذلته الفنانة في لوحاتها وعمق الفكرة فيها، مركزة على التأثير على الجوانب النفسية لدى المشاهد من خلال الدلالات النفسية في اللوحات، فوازنت بين الملء والفراغ والحركة كانت متوازنة والأشكال والرموز في اللوحة كانت متوضعة بشكل دقيق، مركزة بشكل كبير على التكوين اللوني والإضاءة مستغلة فضاء اللوحة بشكل جيد لم يترك فراغا غير مبرر.
ولأنه ليس بالامكان في قراءة نقدية ومقال واحد التحدث عن كل اللوحات القصصية التي عرضت بالمعرض اضافة للوحات التراثية بالتفصيل والرمزية فيها والقصة والاسقاطات على الواقع الحالي من خلال التراث وحكاياته، لذا أخترت بعض النماذج من اللوحات للحديث عبارة عن أربع لوحات من الحكايات القصصية وثلاث أخرى من لوحات التراث، والتي هي معبرة عن فكرة المعرض بالكامل:
اللوحة الأولى: وهذه اللوحة هي بداية المعرض وإن لم ترو أي من الحكايات الخرافية، فالهدف منها البدء في الحكاية فنجد الفنانة اعتمدت مشهد لفتاة شقراء الشعر مغمضة العينين وكأنها تحاول استعادة الحكايات من الذاكرة، والخلفية تسعة أشكال وكأنها جدائل وضفائر شعر ولكن من خلال تعبير رمزي وهو استخدام رموز التطريز بالثوب الفلسطيني، وهذه الرموز تعود للبدايات التاريخية حين بدأ الكنعانيون الاستقرار في فلسطين حيث أسسوا مدينة القمر “أريحا” قبل ما يزيد عن عشرة الآف وخمسمئة عام كأول مدينة حضرية في التاريخ حسب التقديرات والدراسات الأثرية، وفي اسفل يمين اللوحة كتبت عبارة “كان يا مكان” وعلى يسار اللوحة عبارة “في قديم الزمان” وهذه هي العبارات التي كانت الجدات تبدأ بها رواية الحكايات بعد عبارتي “وحدوا الله” وبعدها “صلوا على النبي” لتبدأ بعدها الحكايات حتى يغلبنا النوم، والتي كنا نسميها “خراريف أو خريفة” وهي مشتقة من “خرافة” وكنا بفترتها لا نعرف الكهرباء وكانت الانارة عبارة عن “نواسة أو لمبة الجاز”، ونلاحظ أن الفنانة لجأت للرمزية في لوحتها الأولى حيث وضعت على صدر الراوية للحكايات وردة حمراء تشبه الساعة وبتلاتها كأنها عقربي الساعة وكنا نسميها ساعة، وعلى كتف الراوية رسمت وعل وغزالة بإشارة للأطفال المستمعين ذكور وأناث، وأحاطت المشهد على شكل اطار داخلي للوحة به ورود ومأذنة ووجهين لذكر وأنثى على اليمين واليسار مغمضة العيون برمزية للنعاس بعد الحكاية والنوم، فكانت اللوحة رمزية ومعبرة.
اللوحة الثانية: وهي مستمدة من حكاية “جُبينة” الخرافية فكانت الحكاية الأولى بعد المقدمة في اللوحة الأولى مرسومة بالريشة والألوان، ونلاحظ في هذه اللوحة استخدام الرمزيات بالاشارات واللونيات بشكل كبير، فكان التكوين الفني معتمد بشكل كبير على الرمز اللوني والإشارة، والرمزيات المستخدمة يمكن ربطها بتاريخ الشعب الفلسطيني وإسقاطها على الحاضر، فخلفية اللوحة اعتمدت التمازج بين اللونين البرتقالي والأحمر على شكل نيران مشتعلة، كما هو الواقع في الوطن المحتل ما بين نيران الاحتلال وما بين نيران الغضب والثورة لدى الشعب، ومن بين هذه النيران تأتي فجوات صفراء بلون الشمس التي لا بد أن تشرق فجر الحرية، بينما قاعدة اللوحة اعتمدت لون الخصب الأخضر اشارة لخصب الوطن والغد الأجمل، مع تمازج للأخضر بالأزرق وكأنها مياه تتولد الحياة منها، ويلاحظ ما بين الأخضر والأحمر التطريز الفلسطيني برموزه الكنعانية على شكل أبنية وسنابل بإشارة لتاربخ البلدات الفلسطينية، مع ربطها بجذور تمتد في الأرض كما لو أنها اشجار برمزية لتجذر هذه البلدات عبر التاريخ، فنادرا أن تجد في فلسطين بلدات لا تمتد جذورها الى الفترة الكنعانية المؤسسة لتاريخ فلسطين، وفي الوسط مساحة باللون الأبيض اشارة التفاؤل والأمل والفرح في علم اللونيات بإشارة للفرح القادم.
بينما تجلس امرأة وهي ترتدي ملابس تراثية وخلفها وكأنها الأفكار في رأسها بفجر آت من خلف السحاب وحولها مجموعة من الطيور وفي الأسفل شكل عين بشرية والتي تستخدم في التراث على شكل خرز وتمائم لرد الحسد، إضافة لشكل مارد كما في حكايات مصباح علاء الدين يقف وكأنه مارد الشعب الثائر الذي سيحقق حلم المرأة، وفي أعلى اللون الأبيض كان هناك شكل عصا بالعرض كما عصا الميزان التراثي معلق عليها مجموعة من النقوش التراثية الفلسطينية للأثواب والتطريز التراثي، وفي الوسط وأعلى العصا الصليب بإشارة للإنصهار بين الشعب الواحد وتآخيه هلالا وصليبا في مواجهة المحتل، والميزان رمز للحق الذي سيعود لأصحابه لحظة الحرية للشعب والوطن، وفي زاوية المساحة البيضاء أخذت من حكاية جبيبنة عبارة “يا طيور طايرة، يا وحوش سايرة، قولوا جبينة راعية وبتقيل تحت الدالية”، باسقاط رمزي على الواقع الفلسطيني حيث تمكن الاحتلال من تزوير التاريخ للعالم وكأنه هو صاحب الحق كما فعلت خادمة جبينة بتزوير شخصية لها مسروقة من جبينة، وأصبح الشعب الفلسطيني في البراري والمخيمات، ودالية العنب بعض من رموز الشعب الفلسطيني فنادرا ان وجدت الأرض أن لا نجد دالية مزروعة في البيوت وفي الحدائق اضافة طبعا لحقول العنب، ومن عادات الشعب الفلسطيني أن تكون جلسات السمر والسهر العائلية وسهرات الأصدقاء تحت معرشات الدوالي.
اللوحة الثالثة: وهي اللوحة الحادية عشرة في اللوحات القصصية للفنانة واعتمدت على حكاية عدلة الخرافية التي تمكنت من الاحتيال على الغولة وقتلتها بعد أن كانت تسبب الرعب للناس، وفي هذه اللوحة اعتمدت الفنانة الأسلوب الحلزوني الذي يبدأ من المنتصف على شكل حلزوني حتى الأطراف، حيث مساحة من اللون الأصفر الفاتح رمز للنهار، محاطة من الأعلى بإشارات صفراء ذهبية وكأنها الفجر القادم مع شعاع الشمس، ونرى عدلة تقف بشموخ بعد أن طعنت وقتلت الغولة، ومن هنا تبدأ الرمزيات في اللوحة فعدلة ترمز للشعب الفلسطيني الذي لا بد أن ينهي الاحتلال “الغولة”، حيث عدلة تقف بشموخ بملابس الفرح التي اعتمدت الرمزية اللونية فالثوب بلون السهول وهو لباس منطقة قلقيلية التي تنحدر منها الفنانة، وغطاء الرأس بلون أزرق متماوج برمزية لصفاء سماء الوطن بعد الانتصار وبين يديها خيوط الشمس رمز للفجر القادم، والغولة مقتولة وهي مزورة وجهها البشع بوجه تظهره للعالم انه وجه جميل، وعلى أعلى المساحة الصفراء الفاتحة اللون وعبر مساحة زرقاء نجد رمزيات للقدس على شكل مساجد وكنائس مستمدة أشكالها من التطريز التراثي للثوب الفلسطيني برموزه الكنعانية، مع ملاحظة أن القدس أسسها اليبوسيين أبناء كنعان، وتظهر المساحة الزرقاء أشبه بقبة عريضة وكأنها تشير أن السماء تحيط بالقدس وتحميها فهذا وعد الله الذي بارك القدس وما حولها في القرآن الكريم، ومن القبة تتمازج الألوان مع مساحة سماء اللوحة حيث الأزرق متمازج مع الأحمر والبرتقالي رمز للثورة مع بقع صفراء تتناثر في السماء ومحيط اللوحة اشارة للنور القادم، وعلى يمين ويسار البقعة الصفراء نجد وجوه لنساء ورجال فرحة بيوم الانتصار، وقاعدة اللوحة وكأنها ألسنة براكين ونيران رمز للثورة المنبعثة من القدس قلب الأرض المحتلة، وعلى أسفل يسار اللوحة بالنسبة للمشاهد تظهر ثلاثة أشكال لأدوات الاضاءة التراثية التي كانت تستخدم قبل عهد الكهرباء منقوشة بالتطريز الفلسطيني، وقاعدتها اللون الأخضر رمز للخصب الذي سيعود للأرض من جديد، ومنها يخرج النور على شكل ورود الفرح والتي تستخدم أيضا في التطريز للثوب الفلسطيني متجهة لمكان مقتل الغولة لتزيل ظلامها.
اللوحة الرابعة: وهي اللوحة الرابعة عشرة والأخيرة من اللوحات القصصية التي رسمتها في اربع عشرة لوحة وانتقلت بعدها إلى سبع لوحات تراثية، واللوحة رافقت حكاية “قاطع ايد أبوه” من الحكايات التراثية الخرافية والتي تشير لوصية أب يطلب من ابنه أن يقطع يده بعد موته ويزرعها في فناء البيت لتثمر له جواهر ثمينة، وهنا في هذه اللوحة نجد الفنانة أسقطت الحكاية التراثية على فلسطين، فنرى باللوحة التي أخذت أسلوب التتابع من الأسفل باتجاه الأعلى مشهد لثوب تراثي على شكل مستطيل بلون أصفر فاتح، وعلى جوانبه وعلى شكل معين بلون بنفسجي يتدرج باللون من الغامق بالأسفل الى الفاتح بالأعلى ذو قاعدة عريضة بالأسفل ورفيعة بالأعلى جوانب الثوب، وفي اعلى قاعدة الثوب أشكال بشرية بشكل رمزي ذات جذور تمتد نحو الأرض ويخرج من كل شكل يد بشرية مرسومة بخط أصفر أكثر دكانة من لون الأرضية، وبالكاد يراها من يدقق باللوحة وهي تلامس بأصابعها العمود في منتصف الثوب والمستنبط من جذع شجرة الجواهر بالحكاية التراثية ولكن على شكل تطريز فلسطيني تراثي كنعاني الجذور، والثلث الأعلى من اللوحة وهو الواقع من تحت صدر المرأة التي ترتدي الثوب حتى الرقبة وهي أعلى اللوحة، تكون الخلفية باللون البنفسجي الداكن وأغصان الشجرة تطريز فلسطيني وأوراقها عبارة عن الجواهر بالحكاية التراثية لكن على شكل الرموز والأشكال الكنعانية بالتطريز، فتحولت المرأة الفلسطينية إلى شجرة منغرسة الجذور وتحولت الشجرة إلى مرأة فلسطينية تنتج الجواهر من الأبناء الصامدين والمنغرسين في الأرض المحتلة، وخلفية اغصان وأوراق الشجرة باللون الأحمر يغطي منطقة الصدر برمزية لونية للثورة التي تتأجج بالصدور، بينما نرى جوانب اللوحة بالمساحة التي تأخذ مساحة ثلثي اللوحة وعلى جوانب الثوب باللون الأصفر الذهبي مع توشيحات بلون أكثر دكانة فظهرت وكأنها حقول قمح أينعت للحصاد، وأعلى اللوحة مساحة صفراء وكأنها منطقة أعلى الصدر والرقبة كانت كما أشعة الشمس في إشارة للفرح القادم.
وهكذا نرى الفنانة تمكنت من استخدام الحكاية التراثية واسقاطها على الواقع الحالي وربطها بالجذور التي تعود إلى الآف الأعوام وربطها بالحلم القادم بالحرية والفرح، مستخدمة الرمزية اللونية من خلال استخدام عناصر الدائرة اللونية وتدرج ألوانها ومشتقاتها مع المقابلة اللونية، مع ضرورة ملاحظة أن هذه الألوان هي بعض من المتوارث في تطريز الأثواب والمطرزات الأخرى، ونرى أن فكرة الحكاية التراثية ورمزيات النقوش الكنعانية المتوارثة بكل لوحاتها القصصية قدمتها بطريقة مميزة وفكرة جديدة وأسلوب مختلف، فنرى الفنانة تعتمد على احساسها بالتعبير من خلال الريشة دون استخدام البعد الثالث في لوحاتها.
القسم الثاني من المعرض والمكون من سبع لوحات اعتمدت فيه الفنانة على التعبير عن الفكرة التي تدور بروحها بأكثر من أسلوب، ولكن في اللوحات السبعة لم تبتعد عن فكرة ممازجة التكوين اللوني مع تراث التطريز وفكرة فن التركيب “الكولاج”مع استخدام الرمزية الواقعية أحيانا، وإن ابتعدت عن أساليب الفنانين الآخرين الذين استخدموا التراث أو الحكاية التراثية سواء كانت خرافية أو حقيقية أو أسطورة بشكل محدود رغم أن هذا التراث يشكل نبع متدفق للفنان، بينما كان استخدام الأبنية التراثية والتاريخية كما المساجد والكنائس والأمكنة في أعمالهم بشكل تقليدي ومكرر، فكانت التراث مصدر الهام تشكيلي للفنانة مازجت به الزمان والمكان والحكاية مع الخرافة وأسقطتها من خلال فكرة جمالية على الواقع الحالي، ومن الفنانين الذين استخدموا الأسطورة التاريخية في أعمالهم كان الفنان بشير أحمد من العراق باستخدام أسطورة حكاية الطائر “مدغود” في عشرة لوحات في معرضه “الحراك المصمت”، وكذلك الفنانة لينا الناصري من العراق والتي يغلب التراث على أعمالها ومنها أسطورة “إنانا”، والفنان العراقي ماهود أحمد وخاصة بلوحته المستمدة من أسطورة جلجامش، والفنان مصطفى الرزاز من مصر والذي استخدم شخصية عنترة بن شداد في معرضه “عنترة”، والفنان عبد الهادي الجزار من مصر حيث كانت الحكاية الشعبية التراثية حاضرة في أعماله، والفنان عبد الله المحرقي من البحرين والذي مازج الخيال مع التراث وخاصة الغواصين وحكاياتهم والأسطورة، وغيرهم العديد من الفنانين وإن لم يكن بالعدد الكبير.
من لوحات التراث اخترت ثلاث لوحات لتعبر عن أساليب وفكرة التراث في أعمال الفنانة دالندا الحسن، مع الاشارة أن باقي اللوحات كان لها جمالها وتعابيرها الخاصة:
لوحة “تراث 1”: نجد الفنانة لجأت للأشكال الهندسية المتداخلة واللغة اللونية المستمدة من ألوان التطريز الفلسطيني إضافة لبعض القطع من التطريز، معتمدة رسم الأزهار والنباتات الداخلية على إطار نافذة وزاوية من بيت، فكان الانصهار اللوني مع الرمزية في النباتات وقطع التراث المطرزة إشارة لطبيعة البيوت التراثية التي كانت تضم هذه الأشكال ووسائل الزينة في البيوت، فالفلسطيني مرتبط بتراثه ومطرزاته اضافة لعشق النبات والأزهار داخل بيته وخارجه، ممازجة الألوان بشكل يثير الفرح مع تأثيرات اللون الأحمر الذي يطغي على المشهد الخارجي كما أنه اشارة للنار التي تشتعل في مقاومة الاحتلال.
لوحة “تراث 2”: وهذه اللوحة مثلت درة اللوحات التراثية التي تألقت بها الفنانة، واستخدمت بها الأسلوب الحلزوني من البؤرة حتى الأطراف، وكانت بؤرة اللوحة وقلبها صورة ملصقة لفلسطينية ترتدي الثوب التراثي المطرز وتلقي على كتفها الشال الفلسطيني المطرز، وعلى رأسها “الوقاة” المزينة بالدراهم الذهبية وعلى صدرها قلادة الدراهم الذهبية وتجلس كما المليكة على عرشها، وقد حفلت اللوحة بالرمزيات فكانت هناك أربعة زوايا قائمة تحمل أشكال مختلفة من أشكال التطريز الفلسطيني، اضافة لعنزة بيضاء اشارة للريف وديك ملون بالنقش التراثي رمز للفجر القادم وطيور وأزهار، وقد ركزت الفنانة على الرمزية اللونية والتكوين اللوني وعلى عتمة السماء في ظل الاحتلال مع طاقات نور ستتسع حتى إشراقة الفجر.
لوحة “تراث 4”: وهذه اللوحة اعتمدت بها الفنانة الرمزية الواقعية فرسمت ثوب فلسطيني تراثي على شكل يقارب شكل خيمة عالية تمتد أطرافها لقاعدة اللوحة، ومن قاعدة اللوحة رسمت شجرة زيتون وهي رمز للشعب الفلسطيني وعماد اقتصاد الريف في الوطن المحتل، وعلى اليمين واليسار من الشجرة العملاقة بيتين تراثيين على شكل تطريز فلسطيني، وتحت الشجرة صورة ملصقة لثلاث نساء بالزي التراثي المطرز الوسطى تغني وتصفق وبجوارها امرأة تصفق والأخرى تدق على الطبلة، وخلف وحول الشجرة بستان برمزيات للأشجار والزهور الحمراء وحول الثوب من الأعلى رموز لونية احداها لطفلة، وخلفية اللوحة باللون الأزرق السماوي برمزية لصفاء سماء الوطن بعد الحرية تمثله فرحة النساء والغناء. معتمدة باللوحة الألوان المشرقة برمزيتها متراوحة بين البني لون للثوب وهو لون الأرض واللون الأصفر المشع كما أشعة الشمس اضافة للون الأحمر والبرتقالي مع توشيحات الأخضر لشجرة الزيتون والأزرق لأعلى الثوب.
والخلاصة أن الفنانة تمكنت من أن تحول الحكايات الخرافية والتراثية وحكايات الجدات وما حوته من خيال وأساطير إلى لوحات فن تشكيلي ممازجة التراث والتاريخ فجمعت بين المتخيل والواقع الحالي، مخالفة من ينظرون للأسطورة بأنها مجرد حكايات رويت شفاها حتى أصبحت نصوصا أدبية مكتوبة، وحولتها إلى لوحات فنية تحمل مقومات ابداعية تسقطها على واقع معاصر ومعبرة عنه، واقع مرتبط بالتاريخ الكنعاني منذ نشأته منذ قرابة أحد عشر الف عام، تسعى من خلالها لإعادة الإرتباط بالتراث واحياءه وإحياء الوعي الفردي والجمعي لأهمية التراث بالتعبير عن هوية الشعب من جانب وسلاح مقاوم من جانب آخر، فالفنان المبدع من يتمكن من تحويل مقدراته التقنية والموهبية والثقافية والفكرية لتحقيق فكرة ابداعية متميزة تخدم وطنه وتعبر عن واقعه، فالفن الذي يحمي الرموز والتراث من الإندثار ويعمل على تثبيته وتأصيل هويته من خلال اللوحة وغيرها من الفنون، هو سلاح مقاوم وموجها البوصلة نحو التراث باعتباره مخزن يلهم المبدعين.
____________
*بقلم وعدسة: زياد جيوسي.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.