ـ تقديم
إنَّ العادة السائدة بين الباحثين والدارسين أن يتم اختزال العلوم الإنسانيَّة وتوصيفها بأنها تلك العلوم التي تدرس وتشتغل على الإنسان في أحد أبعاده الأساسيَّة المشكلة لذاته، ولشخصيّته، وقد ظهرت هذه العلوم في سياق خاص، يتحدَّد في ظهور النزعة الإنسانية التي عرفها العالم في مساراه التاريخي، وارتبطت العلوم الإنسانية بشكل خاص بعصر الأنوار الأوروبية، وأكبر ما تحقق للعلوم الإنسانية في مسارها التاريخي، هو استقلالها وانفصالها بشكل كلي ونهائي عن الفلسفة ومباحثها،التي كانت محتضنة لها ومتعايشة ومتداخلة معها لفترة طويلة، ثمَّ اختارت الاستقلال بكل ما له صلة بالمجال التربوي والديداكتيكي .
التربية والامتداد البعيد
لقد احتلَّت التربية في الفترة المعاصرة مقام الصدارة من حيث هي رهان أساسي في الاستجابة لمختلف مظاهر التغيرات الكونية المتسارعة والمتلاحقة التي يعرفها العالم اليوم في مختلف قطاعاته، ويبدو بديهيا أن هذا الرهان على التربية في المواجهة والتغيير والبناء شكل خيارا مشتركا وخيارا ضروريا بين جميع المشتغلين والمتدخلين والفاعلين في الفعل والمجال التربوي .
مرَّت التربية بعدد من المراحل، وقطعت عدد من الأشواط إلى أن استقرت بموضوعها، وتميزت بمناهجها، واختصَّت بجهازها المفاهيمي، وتميزت بلغتها المصطلحية.
وقبل هذا الاستقلال وتحقيق الانفصال والانتقال في الاختصاص وفي الموضوع والمنهج مع عبرها من العلوم الخادمة والمتداخلة معها، أو المحتضنة لقضاياها ولمباحثها الكبرى، كانت الممارسات التربوية متواصلة ومتعايشة مع بحوث العلوم الإنسانية خاصة:علم النفس وعلم الاجتماع والانتروبولوجيا، والاقتصاد وعلم اللسانيات العام.
فالفهم لدلالة وحقيقة التربية تبعا للمراحل التي قطعتها، والأشواط التي مرَّت منها عبر الحقب والمراحل التاريخيَّة من شأنه أن يساعد الباحث والدارس على الإدراك العلمي والاستيعاب الجاد لأهم الجوانب المهمة والأساسية في وظائف التربية، وفي أهدافها عبر مسارات الحضارات الإنسانية والبشرية.
العلوم الإنسانيَّة :الدلالة والحقيقة
لقد ظهرت العلوم الإنسانية لتأخذ موقعا خاصا بين العلوم الحديثة، ولتعبر وتشخص للتحول الكبير وللنقلة العلمية العميقة، ولتجيب على الأسئلة المركبة الذي طرأت في المجتمعات الغربية في المستوى الثقافي والفكري والاجتماعي والمؤسساتي والتربوي والقيمي من جهة،ولتجيب على أهم المشاكل الحياتية المتراكمة التي أعقبت هذا التحول العميق التي وقع في المجتمع الغربي من جهة أخرى.
وبعبارة أخرى أكثر إيجازا إن العلوم الإنسانية هى تلك العلوم التي تتناول بالدراسة النقدية والمتعددة النشاط الإنساني والبشرى في أبعاده المتعددة،ولا سيما البعد الاجتماعي والنفسي، ودوافع تلك الأنشطة وخصائصها،وكيفية الارتقاء بها نحو الأفضل.
وأكبر ما تحقق للعلوم الإنسانية في مسارها التاريخي، هو طلاقها وانفصالها بشكل نهائي عن الفلسفة، واختصاصها بموضوعها الخاص المميز لها في الموضوع والمنهج.
ما يدل بان ظهور العلوم الإنسانية بما في ذلك علم النفس وعلم الاجتماع واللسانيات، جاء نتيجة لمجموعة من المعطيات الحضارية والثقافية والقيمية التي فرضتها التحولات الحضارية التي مر منها الغرب في مساره التاريخي.
بحيث اتسع الطلب على هذه العلوم لتكون علوما خادمة للإنسان وملبية لحاجياته النفسية والسيكلوجية،ومستجيبة لأهم المشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي أحدثها التطور الكبير والتقدم السريع الذي عرفته المجتمعات البشرية اليوم بسبب تداعيات الثورة الرقمية،وما أفرزته الحضارة الغربية في حياة الإنسان من تأثيرات بعد الثورة الصناعية التي شهدتها وعرفتها اوروبا.
الممارسات التربوية والعلوم الإنسانية
لقد تطورت الممارسات التربوية في الفترة الحديثة والمعاصرة بشكل كبير، واستفادت من الثورة المعرفية التي تحققت في حقول العلوم الإنسانية والاجتماعية والبيلوجية والفزيائية،بمختلف فروعها،و بجميع تخصصاتها ومسالكها وشعبها .
فالنقلة التي تحققت لعلوم التربية كان بفضل اندماجها وتداخلها مع العلوم الإنسانية بشكل خاص،واستثماراتها لبحوث هذه العلوم وبالأخص ما تعلق بالمجالات التعليمية في جهتها التطبيقية.
وبفضل هذا التطور والتحول الكبير الذي حدث لمفهوم التربية،تغيرت الملامح والخصائص العامة لمفهوم التربية من حيث المهام والأدوار والوظائف .
إن هذا الانتقال والتحول في حقيقة التربية،و في مهامها وأدوارها، يعني للمتابع أن أكبر تحول طرأ على التربية في الفترة المعاصرة، هو عنايتها بما هو عملي تطبيقي وانصرافها على ما هو نظري، والمراهنة على المتعلم،وهذا من أبرز رهانات التربية الجديدة.
وهذا الانتقال والعبور في مباحث العلوم الإنسانية والاجتماعية إلى عنايتها بمباحث التربية ، هو ما أكده الدكتور الباحث محمد جسوس*[1] عندما قال :” لا توجد علوم تربوية،و إنما توجد علوم إنسانية اشتغلت واستحضرت المجالات والقضايا التي لها صلة وقرابة مباشرة بمجال التربية”.
ما يعني أن البحوث الإنسانية حملت أهم المباحث والقضايا ذات الصلة بالتربية .
العلوم الإنسانية والتربية عند عالم الاجتماع إميل دركايم
-تعريف إميل دركايم Émile Durkheim *1858-1917*
عرف عالم الاجتماع الفرنسي اميل دوركاي[2] التربية بقوله: ” هي الفعل الذي تمارسه الأجيال الراشدة على الأجيال الصغيرة التي لم تصبح بعد ذلك ناضجة للحياة الاجتماعية، وموضوعها إثارة وتنمية عدد من الاستعدادات الجسدية والفكرية والأخلاقية عند الطفل، والتي تطلبها المجتمع السياسي في مجمله والوسط الخاص الذي يوجه إليه”.[3]
والتربية عند دركايم تحمل بعدا اجتماعيا فهي ظاهرة اجتماعية لها نفس خصائص وتحمل مواصفات الظاهرة الاجتماعية، فهي تتميز باستقلاليتها عن الفرد وبأسبقيتها عليه،كما تتسم بخاصيتي الخارجية والقهر والضبط….**[4].
والتربية عند دركايم تحدد وظيفتها في كونها عملية تفاعل وتواصل مستمر بين الإنسان والمحيط الذي يعيش فيه إيجابا وسلبا،وعليه فان القصد من التربية هو تحقيق التوازن والتوافق والانسجام في الحياة،والتغلب على تحديات ومشاكل المجتمع بجعل الإنسان أكثر اندماجا في محيطه وبيئته.[5]
وبصفة عامة فإن التربية عند دوركايم هي تكوين الفرد وإعداده إعدادا متكاملا من أجل الاندماج في المجتمع.[6].
إن المقاربة السوسولوجية للتربية عند دركايم تجعل منه علما بارزا ورائدا متميزا من رواد سوسولوجية التربية، وهو تخصص متفرع عن علم الاجتماع مهمته إظهار العلاقة المتبادلة بين الأنظمة التربوية والأنظمة الاجتماعية،لأن التربية في حقيقتها هي ظاهرة اجتماعية ترتبط ارتباطا شديدا مع المجتمع…[7].
لقد أدرك علماء التربية والاجتماع أن رفع هذه الفوضى الاجتماعية والفكرية التي أخذت تعيشها البشرية في الآونة الأخيرة لا يتم تجاوزه، إلا بالتربية الفاعلة من خلال إعادة بناء وتركيب للمعرفة الإنسانية،و مقاربة الإنسان في أبعاده المتعددة مقاربة وضعية علمية،من خلال إحداث قطيعة مع الأفكار والآراء الفلسفية التي تشكلت حول شخصية الإنسان في جميع أبعادها.[8]
استنتاج
رغم تأخر العلوم الإنسانية من حيث النشأة، فهي علوم حديثة العهد في نشأتها، وفي تطورها مقارنة مع العلوم الأخرى، وهذا التأخر يرجع بشكل خاص إلى طبيعة موضوع هذه العلوم التي ترتبط بدراسة شخصية الإنسان في أبعاده المتعددة، وهي تتصف بالتركيب وبالبعد المتعدد، وبالتحول والتغير السريع ،وأحيانا بالمفاجئ والطارئ، لكن مع ذلك أحدثت تحولا كبير في التربية وعلومها [9].
[1] -باحث مغربي معاصر من هيئة التدريس بكلية الآداب الرباط المغرب،رئيس سابق لشعبة علم الاجتماع يبحث في السسيولوجيا له مؤلفات عديد في قضايا التربية والتعليم منها :المسالة التربوية في المغرب.
[2]-إميل دوركايم عالم اجتماعي فرنسي هو الذي أرسى القواعد المنهجي والعلمية لعلم الاجتماع، وجعل الشأن التربوي جزءا لا يتجزأ من مشروعه العلمي السوسيولوجي:من مؤلفاته-قواعد المنهج لسوسيولوجي ترجمة سعيد سبعون دار القصبة 2008.الجزائر-السسيولوجيا وعلم التربية.
– Emile Durkheim, éducation et sociologie, 1éme Ed de la nouvelle Ed, 1922
l’évolution pédagogique en France-
– David Émile Durkheim, né le 15 avril 1858 à Épinal et mort le 15 novembre 1917 à Paris, est un sociologue français considéré comme l’un des fondateurs de la sociologie moderne.
– لمزيد من التفصيل حول المشروع العلمي والسوسيولوجي والتربوي عند دركايم يراجع: الأوراق العلمية التي قدمت في الملتقى الوطني الذي عقد بالجزائر بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة بسكرة
بإشراف فريق البحث الإسهام السوسيولوجي للتربية
وكان الملتقى الوطني بعنوان: “دوركايم والمقاربة السوسولوجية للتربية”يوم: 20/04/2016 .
[3] – ما هي علوم التربية تأليف جماعي لعدد من المؤلفين صدرت هذه الدراسة ضمن سلسلة التكوين التربوي العدد-1- السنة :1999- المغرب.
[4] -أصول التربية التاريخية والاجتماعية والنفسية والفلسفية لمحمد حسن العمايرة :123.دار المسيرة الأردن :2010.
[5] – التربية والبيداغوجيا في فكر إميل دوركايم لخالدي مسعودة : ص71 –مجلة جيل للعلوم الإنسانية العدد:50السنة:2017.
[6] – علم الاجتماع التربوي للحسن إحسان محمد:56.دار وائل الأردن :2005.
[7] -رأسمالية المدرسة في عالم متغير علي اسعد:55 اتحاد كتاب العرب دمشق سوريا :2011
[8] –الابستملوجيا الوضعية عند اغست كونت لمحمد وقيدي ص:181 مجلة عالم الفكر-المجلد13العدد-1-السنة1982.
[9]Les grands penseurs des sciences humaines:Nicolas Journet:78
____________
*الدكتور محمد بنعمر.