اجتماعالتنويريسلايدر

ماهيَّة الثقافة؛ بين الحضارة والإيديولوجيا

أثار تداول مفهومي الثقافة والتثاقف جدلاً واسعاً في الآونة الأخيرة، وخاصة بعد التطورات المتسارعة، التي نتجت عن السيطرة المتزايدة لوسائل الاتصال ومواقع التواصل الاجتماعي، حيث بات الغزو الثقافي العابر للقارات، الذي يحمل سمات وخصائص الحضارة الغازية، يهدد الكثير من الثقافات الوطنية دون أي عناء يذكر. لكن هذه المخاطر ليست موضوع نقاشنا. بل مقولة كل حضارة ثقافة، وليست كل ثقافة حضارة، التي تحمل في مضامينها الكثير من التساؤلات حول مفهومي الحضارة والثقافة وأيهما المفهوم الأشمل الذي يضم الآخر. بالإضافة إلى النظر إلى الثقافة بوصفها إيديولوجيا.

في حقيقة الأمر، وعلى خلاف العادة سنحاول طرح الإجابة أولاً، ثم نعكف على مناقشتها باختصار شديد، لأن الموضوع بحد ذاته يشكل إشكالية ويتضح ذلك من خلال الآراء والمناقشات المتضاربة حول الفرق بين مفهومي الحضارة والثقافة، وعلاقة الثقافة بالإيديولوجيا.

إن من أهم التعاريف التي وضعت حول مفهوم الثقافة هو تعريف إدوارد تايلور 1832-1917  في كتابه ” الثقافة البدائية 1871 “، حيث قال: إن الثقافة هي ذلك الكل المركب الذي يشتمل على المعارف والمعتقدات والفن والقانون والأخلاق والتقاليد وكل القابليات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان بوصفه عضواً في مجتمع. وفي كتابه الانثروبولوجيا 1881 أضاف تايلور أن الثقافة بهذا المفهوم، هي شيء لا يملكه الإنسان.

أما عن مفهوم الحضارة فهو أشمل من مفهوم الثقافة، لكن مفهوم الثقافة وتناميها هو من يؤدي إلى بناء الحضارة أي لا حضارة بدون ثقافة. والدليل على ذلك أن بعض المجتمعات بسبب ظروفها وعدم قدراتها على إنتاج المعرفة العلمية لم تطور حضارة أي معالم حضارية مثل بعض الثقافات في إفريقيا والاسكيمو. والعكس صحيح عندما تدخل الثقافة بعلاقة جدلية وتفاعلية مع الواقع الاجتماعي لتنتج المعرفة العلمية، التي ستؤدي بدوها إلى بناء المعالم الحضارية.

بمعنى آخر، إن الحضارة تتولد من ثقافة معينة، لكنها تتعدى هذه الثقافة وتتجاوزها زمانياً ومكانياً، ولا ترتبط بمجتمع معين بل يمكن أن تتعداه لتشمل جغرافيا بكاملها (تارة أخرى). والحضارة ذات طابع تراكمي، أي أنها لا تلازم المجتمع بل تستمر عبر التراكمات الثقافية والآثار على أنواعها بينما يكون المجتمع قد اندثر. أما الثقافة فتتصل بالواقع الآني للمجتمع وإن كان هذا الواقع يستند إلى عمق تاريخي، ذلك أن تاريخية الثقافة هي من تاريخية الجماعة المتصلة بها. إن الثقافة بهذا المعنى تعبّر عن الجماعات، حتى ذهب البعض إلى القول بأنها نمط معيشة الجماعة لا أكثر ولا أقل.

وفي ذات السياق، يرى بعض علماء الاجتماع والانثروبولوجيا الذين يميزون بين مفهومي الحضارة والثقافة. أن مفهوم الحضارة يستعمل للتعبير عن مجموعة من الثقافات تجمع بينها تشابهات كبيرة أولها الأصول المشتركة، وهكذا يمكن لنا أن نتحدث عن الحضارة العربية، بحيث نجد فيها الثقافة السورية، واللبنانية، والفلسطينية، والمصرية، وثقافات المغرب العربي….. إلخ، حيث إننا نلاحظ أن مفهوم الثقافة مرتبط هنا بمجتمع معين في حين أن الحضارة تشتمل على مجموعات أكثر امتداداً في الزمان والمكان. 

بناءً على ما تقدم، نرى أن مفهوم الحضارة يتكون من شقين أساسيين هما: الوسائل المادية (التكنولوجيا)، التي أنتجها الإنسان بوصفه كائن اجتماعي مبدع على الصعيد التقني والعمراني والآلي والرقمي والمادي، التي فرضتها ضرورات العمل والإنتاج (الحاجة أم الاختراع). أما الثاني فهو الثقافة التي تشمل كل ما أنتجه الإنسان على الصعيد المعنوي مثل الآداب والفنون والفلسفة والعلوم والمذاهب الفكرية والمعارف والعادات والتقاليد والقوانين والتشريعات….. إلخ. بذلك تكون الحضارة ذات طابع مادي ومعنوي بالوقت ذاته أي أنها تشتمل على كل ما أبدعه الإنسان على الصعدين (المادي والمعنوي). 

إذن، الحضارة، هي ثمرة جهد قام به الإنسان لتحسين ظروف حياته، سواءً أكان الجهد المبذول للوصول إلى تلك الثمرة مقصوداً أم غير مقصود، أو كانت تلك الثمرة مادية أم معنوية. ومن الجدير بالذكر أن الحضارة والتاريخ مرتبطان أحدهما بالآخر أشد الارتباط ولا يستطيع الإنسان أن يتحدث عن الحضارة (وليس الثقافة) حديثاً معقولاً إلا إذا عرف ماهية التاريخ معرفة معقولة أيضاً.   

وفيما يتعلق بمفهوم الثقافة بوصفها إيديولوجيا، نجد في كل عصر من العصور ( حسب كارل ماركس 1818-1883 ) أن أفكار الطبقة الحاكمة هي نفسها الأفكار الحاكمة لسياقات الواقع الاجتماعي، أي أن الطبقة الحاكمة التي تشكل القوى المادية تشكل أيضاً القوى الفكرية بهدف الدفاع عن مكاسبها وامتيازاتها ومصالحها. بذلك تكون الأفكار الحاكمة ليست سوى تعبير مثالي عن العلاقات المادية المسيطرة التي نشرتها وسوقتها على أنها أفكار المجتمع ككل.

يأتي من ضمن ادعاءات ” ماركس ” حول الإيديولوجيا السائدة الظروف المحيطة بإنتاجها وباستهلاكها. وفيما يتعلق بالاستهلاك فإن الطبقات الخاضعة التي تفتقر للقوة المادية ستفتقر حتماً وبكل تأكيد إلى القوة الثقافية أي إنتاج هويتها الثقافية. ونتيجةً لذلك لن يكون لمثل هذه الطبقات القدرة على تأكيد ذاتها وهويتها أو تأكيد أن هذه الإيديولوجيا ما هي إلا تشويه للواقع الاجتماعي وتزييف للوعي الجمعي، الذي يخدم مصالح الطبقة المسيطرة. إضافة إلى هذا، فإن هذه الطبقات عادةً ما تقبل هذا الوضع القائم وتخضع له.

وفي ذات السياق، يعتقد بيير بورديو 1930-2002 أن الطبقة المهيمنة في المجتمع تحتاج إلى رأس مال ثقافي حتى تستطيع إنتاج ما يعني لها من أفكار ومعانٍ ورموز ثقافية تمكنها من السيطرة على الطبقات الأخرى، أي الجماهير بالمعنى الواسع التي تستهلك مثل هذه المنتجات الثقافية. وتذهب نظرية رأس المال الثقافي إلى أنه بإمكان الطبقات التي تقع تحت الهيمنة أن تستثمر أيضاً في رأس المال الرمزي، وأن تكتسب ما يترتب عليه من رموزٍ ومعانٍ ودلالات ثقافية وقد يعتبرونها جزءاً من تكوينهم الثقافي.

ختاماً، نستنتج أن الثقافة هي عبارة عن إيديولوجيا بيد القوي، والإيديولوجيا تعني تحريف الواقع الاجتماعي أو تشويهه لخدمة طبقة أو فئة معينة، حيث تساعد الثقافة في إعادة إنتاج المجتمع وفق قوالب معينة وبأساليب تحجب صورتها الحقيقية عن أعين أفراد المجتمع الذي ينتمون إليه.

إن روح كل حقبة تاريخية (إيديولوجيتها) فهي المنطق الكامن وراء كل إنتاجاتها، إذا لم نكتشفه فسوف نعجز عن فهم تلك الإنتاجات والتموضعات التي وصلنا إليها. إن روح العصر – أي التصورات الذهنية التي تحكم الفكر في عصر ما – بمثابة المفتاح الذي يساعدنا على فهم كل ما يجري في المجتمع في عصر معين. ومعنى ذلك أن الإيديولوجيا تنبع من الماضي وتحن إليه، وفي موقف أخرى تعكس الحاضر والأمر الواقع، وأخيراً قد تبشر بالمستقبل والمثل الأعلى. فالإيديولوجيا لها فعالية في غاية الأهمية فهي تستطيع أن تعزل الجماهير عن الواقع في سياق ما، أو قد تبسّط لهم الواقع وتفهمهم إياه في موقف ما. لذلك فإن الإيديولوجيا تعني كل شيء وعكسه، وبوسع كلمة ” إيديولوجيا ” أن تؤدي معاني مختلفة حسب منظور المتكلم وقدرته على التعبير والمناقشة، فهي أداة طائعة في يد من يستخدمها وجب علينا الحذر منها. بذلك ينطبق التحليل السابق بشكل صريح وواضح على ما يحدث في العالم العربي من تزييف وتشويه للواقع، وذلك من خلال السيطرة على المؤسسات الثقافية لصياغة مضمونها وأطرها وتوجيه أهدافها وغاياتها لصالح الفئات التي تريد إبقاء الوضع القائم على ما هو عليه تكريساً للجهل، والتخلف، والفقر.

الثقافة الإسلامية رؤية مغايرة: نقصد بالثقافة الإسلامية ذلك النسيج الحضاري الشمولي الذي قوامه الدين الإسلامي، ليس من حيث  كونه عقيدة وشريعة فحسب، بل من حيث هو حضارة وفعل إنساني تضافر في إبداعه مجموع الشعوب التي التقى بها الإسلام عن طريق الفتح أو التجارة أو الاتصال أو تبادل العلوم، فيجب أن نفتخر باعتبار الثقافة الإسلامية كمكون أساسي في رسم خارطة الثقافة الإنسانية عموماً.

يشير مفهوم الثقافة الإسلامية لوصف جميع المظاهر الثقافية والحضارية الشائعة والمرتبطة تاريخياً بالمسلمين في جميع أنحاء العالم، ومن أهم إطلاقات الثقافة الإسلامية أنها هي العلم الذي يجمع بين التأصيل الشرعي، والوعي الواقعي بتاريخ الأمة وحاضرها ومستقبلها، أي أنها هي علم معياري وواقعي في آن واحد، وهي علم كلي شمولي ينظر للإسلام بشموليته من حيث عقيدته ومقاصده وفهمه على مر التاريخ بما أن دين الإسلام انبثق في القرن السادس الميلادي في بلاد العرب، ومع الانتشار الهائل والسريع للدول الإسلامية، فإن الثقافة الإسلامية قد أثرت وتأثرت بغيرها من الثقافات والحضارات التي دخلها الإسلام.

في حقيقة الأمر، لا يوجد تعريف محدد لمفهوم الثقافة الإسلامية، وإنما هي اجتهادات من بعض العلماء والمفكرين، حيث عرفها البعض بأنها: معرفة مقومات الأمة الإسلامية العامة بتفاعلاتها في الماضي والحاضر من دين ولغة وتاريخ وحضارة وقيم وأهداف مشتركة. ومنهم من عرفها أيضاً بأنها: معرفة التحديات المعاصرة المتعلقة بمقومات الأمة الإسلامية ومقومات الدين الإسلامي، وأخيراً هناك من عرفها بأنها: العلم بمناهج الإسلام الشمولي في القيم والنظم والفكر ونقد التراث الإنساني فيها.

نستنتج مما تقدم بأن الثقافة الإسلامية: هي نسق معرفي مركب، يتضمن المعتقدات والشرائع والآداب والمذاهب والنظم… الإسلامية، يكتسبه الإنسان المسلم من خلال انتمائه إلى مجتمع إسلامي معين، ويحدد له يكون ما ينبغي أن يكون عليه موقفه واتجاهه وسلوكه الاجتماعي، في التعامل مع الغير من الأشياء، والظواهر، والناس. كما يمكننا تعريف الثقافة الإسلامية بأنها: جملة العقائد والتشريعات والمبادئ، والقيم والعادات، والأعراف والمعارف، والعلوم والآداب، التي تشكل شخصية الفرد وهويته، وفق أسس الإسلام وضوابطه. فالثقافة الإسلامية هي فهم المسلم للحياة وشؤونها المختلفة وفق منهج يحكمه الإسلام ويوجهه، وهي نظرة المسلم للإنسان والكون والحياة وفق ما أراد الله تعالى في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وقبل ذلك كله إيمانه بخالق الكون سبحانه وتعالى، وهي بذلك تشكل شخصية الفرد المسلم، وتصبغ حياته بصبغة متميزة تميزه عن غيره كما يتميز الثوب بلونه الذي يصبغ به.

تنبثق مظاهر الثقافة الإسلامية من الدين الإسلامي باعتباره ديناً رباني، أي أن عقيدته ومنشأه وغايته من الله سبحانه وتعالى، وعقيدة الإسلام لا يمكن أن يغيرها أحد، فهي من عند الله وهو يحميها، والعبادات ربانية، أي أنها مرسلة إلينا من عند الله فلا يجوز التعبد بعبادة غير مثبتة في الكتاب أو السنة، والتشريع الرباني يعني أن الله صاحب الحدود، ولا يمكن التعديل أو التبديل فيها. وفيما يتعلق بالشمولية نجد أنها تعني أن قوانين الإسلام شاملة لجميع نواحي الحياة الدينية والاجتماعية والأخلاقية، وهو شامل لكل الأوقات والأماكن، والرسول صلى الله عليه وسلم مبعوث للناس أجمعين، ووضح للناس كل أحكام الإسلام، والدين الإسلامي يكفل التوازن الاجتماعي لكل الناس، من دون تفضيل أحد على أحد أو لون على لون. ويشكل التوازن والوسطية أحد أهم مظاهر الثقافة الإسلامية، النابعة من الدين الإسلامي، الذي يتسم بأنه لا يتشدد في شيء، ولا يتراخى في شيء، وهو يوازن بين الضوابط والرغبات، وبين الجسد والروح، وبين الحرمان والترف، ولا يميل للمادية البحتة، ولا الروحية الصرفة. الانفتاح والتجدد أي أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان، ويستوعب جميع التغييرات التي تحدث، وقادر على حل المشكلات المستجدة عبر الأزمان، وهو ملائم لكل طبائع البشر.

وفي سياق التعايش مع الآخر نجد أن الثقافة الإسلامية لا تلغي الآخر، بل تعترف به وتتعامل معه، وهي بذلك تقدم للعالم أجمع درساً مفيداً في التعايش الفكري والديني والاجتماعي، والعناية بالعلوم الفلسفية، ومجالس المناظرة والمناقشات الفكرية، وصقل الآراء، والأخذ والاقتباس عن آداب الحكماء، ومقابلة المعارف وإظهار الحق بالتي هي أحسن، بعيداً عن التعصب والأهواء والأطماع. كما أن الثقافة الإسلامية ثقافة مرنة وخصبة، ترفض الخضوع لأي وصاية أو حجر، بل إنها اغتنت بالسؤال والنقاش، ورفضت الاعتقادات الدوغمائية اليابسة والمتحجرة والمتكلسة، حيث إن الثقافة الإسلامية لم تنشئ محاكم التفتيش، ولم تضطهد العلماء والمفكرين، بل رحبت بالعلماء ونالتهم الحظوة. بذلك يعتبر التعايش مقوم أساسي من مقومات الثقافة الإسلامية، فهي ثقافة التواصل بالجوهر وبالذات، لا بالعرض والمظهر، والدليل على ذلك أن التعايش في عصرنا الحالي أصبح بين الثقافات عملة نادرة وصعبة في عالم براغماتي، مادي، منقسم، وغير متوازن بين عالم الشمال الذي لديه مقومات المعرفة والوفرة والفائض والسيطرة على الآخر واستعماره ليحتكر الحداثة لنفسه. وعالم الجنوب الذي يتسم بالفقر، والتخلف، والعجز، والتبعية، إلا أنه بالمقابل يرفض الهيمنة الغربية ويطالب بتوزيع عادل للثروات والخروج من مأزق التخلف للمشاركة في بناء الحضارة الإنسانية. بالمقابل، نجد فالثقافة الإسلامية تملك من المقومات والأسس ما يجعلها جديرة بحيز خاص بها في عالم الحداثة المشترك المتعدد، بعيداً عن كل محاولات العالم الغربي للاستئثار بهذه الحداثة واحتكارها لنفسه واستعباد الآخر، فقد أنتجت الثقافة الإسلامية حداثتها الخاصة بها مع مفكرين عظام منذ زمن بعيد، بطرق متعددة ومنهج واحد يعتمد على أسس الدين الإسلامي، وهكذا تعتبر الثقافة الإسلامية النموذج الأمثل للتعايش بين الثقافات الإنسانية، ونشر التفاهم والمساواة والعدل بين أفراد البشرية.

خلاصة القول، إن الثقافة بطبيعة الحال تدخل في علاقة جدلية مع الواقع، فإذا كانت بناءة ومتقدمة ومتطورة بأفكارها أنتجت حضارة لا تغرب عنها الشمس وهذا ما تتمتع به الثقافة الإسلامية والتاريخ يشهد لنا بذلك. لذا يجب علينا (نحن المسلمون) الاستفادة من منجزات الحضارة الغربية على الصعيد المادي والعلمي، كما استفاد الغرب من الثقافة والحضارة العربية والإسلامية في القرون السابقة باعتبار أن العلم إرثاً إنسانياً يتجاوز حدود الأوطان، وأنه سيظل يتقدم على الرغم من الاختلافات اللغوية والمناقشات القومية، ومن ثم فهو دوماً نشاط حضاري إرث للإنسانية جمعاء. وفضلاً عن ذلك فإن العلم في مدلوله العام ومفهومه الشامل لا يقتضي وجود حكومة عالمية توحد الكل.

إلا أن تلك الاستفادة يجب أن تكون وفقاً لمبادئنا الدينية، والأخلاقية، والقيمية، والاجتماعية. وهذا يعني أن ندرك أن التقدم في مختلف العلوم والفنون والصناعات الثقيلة والتكنولوجية يمثل جانياً من جوانب الحضارة لكن ليست كل الحضارة الحقيقية. فالحضارة الحق هي التي تتكون من جانبين أساسيين: الأول الأخلاقي والروحي أما الثاني فهو العلمي المادي. فالحضارة بدون حامل أخلاقي لا تساوي شيء إذا حققت شرط المادي دون الأخلاقي. أما السبيل إلى تحقيق التوازن بينهما فينبثق من خلال إعادة النظر بمفهوم الحضارة على اعتبار أنها قدرة الإنسان على إقامة علاقة سوية مع ربه والبشر الذين يتعايش معهم بالمجتمع، وكذلك البيئة بكل ما فيها من ثروات. ونرى أنه كلما ازدادت هذه العلاقة سمواً، زادت الحضارة رقياً وتقدماً وكلما قلت هذه العلاقة وضعفت. أصبح الإنسان متخلفاً منحدراً أخلاقياً متقدماً علمياً وهذا ما لا يتماشى مع طبيعة وخصائص المجتمع الإنساني.

فالحضارة بذلك هي ناتج التفاعل بين الإنسان وربه وبين الإنسان وبقية أفراد مجتمعه على اختلاف درجاتهم وصفاتهم من ناحية ثانية، وأخيراً بين الإنسان والبيئة بما فيها من مخلوقات كالحيوانات، والطيور، والأسماك، وكذلك من أشجار وأراضيٍ ومعادن وكنوز وغير ذلك من الموجودات من ناحية ثالثة.

وقمة الحضارة أن يستطيع الإنسان إقامة علاقة بين هذه المحاور وقمة التخلف أن ينجح بمحور على حساب الآخر، أو أن يفشل فيها جميعاً، وهي مرتبة من الأعلى إلى الأدنى، وتتفاوت درجة الحضارة من مجتمع إلى آخر بتفاوت طبيعة هذه العلاقات مجتمعةً.

فالإنسان الذي يستطيع أن يسخر المادة حوله لتحقق له الراحة، وتضمن له السعادة، فيبتكر الآلات، ويخترع الأجهزة، ويطور الاختراعات ويُحْسِن استخدام كل ذلك دون أن يتعرض لبقية عناصر البيئة بالأذى أو الضرر فهو إنسان متحضر في هذه العلاقة، وهي علاقة في المحور الثالث كما ذكرنا سابقاً اي علاقة الإنسان بالبيئة، بينما يمكن أن نجد نفس الإنسان المتحضر ولكنه ينكر وجود الخالق عز وجل أو يهمل التوجه إليه والاعتماد عليه، وفق المطلوب من الإنسان لتحقيق العلاقة السوية بين الله كرب خالق وبين الإنسان كعبد، فهذا الإنسان بهذه الصورة شديد التخلف في هذا السياق. ومن ناحية أخرى نجد أن الإنسان قد يحسن التعامل بعلاقته مع أسرته وأقاربه وجيرانه وأصدقائه ومجتمعه، لكنه قد يسيء التعامل بالاعتداء على المجتمعات الأخرى من بني البشر كما فعل الاستعمار الغربي، فهو بهذه الحالة متخلف وبربري بقدر ظلمه وعدوانه نحو الآخر.

كذلك نجد أن الإنسان عندما يخترع سلاحاً متطوراً يكون في قمة التحضر إذا استخدمه في الدفاع عن نفسه وفي إقرار الحق والعدل وفي تحقيق الحرية والخير، أما استخدم هذا السلاح في الظلم والبغي، فهو إنسان متخلف، وإن بلغ قمة السمو الإنساني في الاختراع والابتكار.

وهكذا نجد أن الحضارة الحق هي الحضارة التي يجب أن تحقق الترابط التوازن والتكامل بين المقاييس السابقة حسب مقتضيات العلاقة وأولوياتها حتى لا تطغى إحداها على أخرى فتصبح حضارة ناقصة لا هدف لها إلا إرضاء وإشباع غرائزها البهيمية والحيوانية. وهو ما تحققه العلاقة الجدلية بين مفهومي الثقافة والحضارة بأسسها الإسلامية.

__________
*د. حسام الدين فياض/ الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة/ قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً.


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

حسام الدين فياض

د. حسام الدين فياض الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة قسم علم الاجتماع - كلية الآداب في جامعة ماردين - حلب سابقاً.

مقالات ذات صلة