التنويريسلايدرفكر وفلسفة

المفكِّر محمد أركون رمز منهجيَّة النقد المزدوج

المفكِّر محمد أركون صاحب مشروع فكري رائد في التداول الفكري، عرب-إسلاميا وغربيا، مشروع صريح في دفاعه عن قيم الحداثة في بعدها العلمي والفكري، لا الإيديولوجي، وهو يمتلك وعيا معرفيا مؤسسا نأى به عن الانشغال بسؤال التحديث التقني المجرد من المرجعية الفكرية. هذا الوعي المعرفي للحداثة وضع أركون في صراع ممتد ضد اتجاهين إيديولوجيين منغلقين، يمثلان تحديا أمام قيم الحداثة والتنوير.

-من جهة، كان يواجه الفكر الاستشراقي الغربي المؤدلج الذي يبخس الفعل الحضاري العربي الإسلامي، وفي ذلك خاض صراعا ممتدا ضد الأذرع الاستشراقية/الاستعمارية من داخل الحرم الجامعي بأعرق الجامعات الأوربية (السوربون).

-ومن جهة أخرى، كان يواجه ما يسميه ب”الأرتودوكسية الفقهية” التي تحارب قيم العقلنة والتنوير من داخل المنظومة الثقافية العربية الإسلامية، وفي ذلك خاض نفس الصراع ضد المؤسسة الفقهية وتيارات الإسلام السياسي التي تؤدلج الفعل الديني، وتوظفه لأغراض غير روحية .

 وبناء على روح النقد المزدوج هذه، نجح أركون في التأسيس لتقليد بحثي جديد متحرر من أدران الإيديولوجيا، أطلق عليه اسم “الإسلاميات التطبيقية” islamologie appliquée  وهو مبحث علمي يهتم ببناء أطروحة بديلة للاستشراق الكلاسيكي، الذي تعامل مع الحقل الإسلامي من منظور المركزية الأوربية eurocentrisme. ومن منظور هذا المبحث الجديد، اقتحم أركون حقل ألغام فكري قابل للتفجير، ملتزما برصانته الفكرية المعهودة، دون التفات نحو رموز التزيبف الإيديولوجي، سواء في العالم الغربي أو في العالم العربي الإسلامي. 

 ذكرنا أن أركون اقتحم حقل ألغام فكري، وقد كنا نقصد بذلك الحقل التجريبي الذي اختاره لتنزيل نموذجه التفسيري، وهو حقل ألغام متفجرة، بالتأكيد، سواء في جزء كبير من التداول الغربي، أو في التداول العربي الإسلامي. فمن خلال بحثه العلمي في تاريخية الفصل بين المكون الديني/الروحي وبين المكون الدنيوي/المادي، وجد أن الفصل قد اتخذ بعدين مختلفين: بعد معرفي أطلق عليه مفهوم العلمانية laïcité وبعد إيديولوجي أطلق عليه أركون مفهوم العلمانوية laïcisme

-على مستوى البعد المعرفي، يؤكد أركون أنه بعد فكري واجتماعي أصيل طبع حركية الإصلاح الديني الأوربي، وهذا البعد كان نتيجة اجتهادات علمية صرفة حاول من خلالها المصلحون الدينيون (كالفن، لوثر) إحداث تحول روحي وقيمي في المنظومة الدينية حتى يتأتى إحداث تحولات مماثلة على مستوى التفكير، وذلك في أفق إحداث التغيير المنشود على مستوى الممارسة العملية، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا. ولعل هذا، هو ما تحقق ضمن مسار الحداثة الغربية، حيث ساهمت العقلنة الدينية في التأثير على مستوى القيم الفكرية، وكذلك على مستوى الممارسة العملية. وهذا ما حلله، بذكاء علمي ناذر، المفكر ( ماكس فيبر) في كتابه ( الاخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية).

-على مستوى البعد الإيديولوجي، يؤكد أركون أنه بعد سياسي طارئ طبع مسار الصراع بين التيارات الإيديولوجية وبين الكنييسة، وقد حدث هذا في اتجاهين مختلفين لكنهما متكاملين في تصورهما الإيديولوجي:

*على مستوى الاتجاه الإيديولوجي الفرنسي، فقد ارتبط بالثورة على الإكليروس كممثلين لسلطة الكنيسة في فرض هيمنتهم على الدولة والمجتمع، وهذا ما جعل رد الفعل ضد الدين عنيفا حيث تم تهميشه في الحياة المدنية عبر قرارات صارمة فرضتها الدولة على المواطنين وعلى المؤسسات. 

*وهناك الاتجاه الإيديولوجي المرتبط بالأدبيات الإيديولوجية الماركسية التي تنهل منها مجموع دول المعسكر الشرقي، من الاتحاد السوفييتي، إلى أوروبا الشرقية، إلى أمريكا اللاتينية، وبعض الأحزاب الشيوعية العربية. وقد تم التعامل مع العلمانية في هذه الأدبيات الإيديولوجية باعتبارها نفيا للمكون الديني الذي اعتبر، باعتماد لغة ماركسية مصكوكة، أفيون الشعوب يخدرها ويمنعها من النضال ضد الاستغلال والعبودية !

 لقد كان المفكر محمد أركون مصرا على فصل المقال فيما بين الحابل المعرفي والنابل الإيديولوجي من انفصال، وذلك من خلال دراسة وتحليل الخلفية التاريخية الخاصة بالفصل بين المكون المادي وبين المكون الروحي. وهذا الفرز حاجة ملحة لترسيخ البعد المعرفي للعلمانية من خلال ترسيخ تقاليد علمية رائدة وأصيلة في الاجتهاد الديني، وذلك من أجل تحقيق المواءمة بين تحولات العصر وبين روح الدين. وحاجة ملحة كذلك من أجل محاصرة كل نزعة إيديولوجية تسعى إلى الاستثمار في محاربة القيم الدينية من أجل تحقيق مشروعها الإيديولوجي العابر. 

 هذا هو محمد أركون، كما عرفته بعد طول قراءة ومراس، مفكر أصيل متمكن من أدواته الفكرية ومنفتح على مختلف الحقول المعرفية، ومهووس بحجز مقعد للنموذج الفكري العربي الإسلامي ضمن التداول الفكري العالمي، وهذا ما أرساه في كتابه الرائد  L’humanisme arabe الذي نظّر فيه للنموذج الإنساني/الأنواري العربي الإسلامي، في وسط أكاديمي استشراقي دوغمائي كان ينظر للعرب أعرابا رعاة جمال وسكان خيام !

رحم الله محمد أركون وجزاه خير الجزاء عما قدمه لأمته، وليعذرنا إذا لم نوفه حقه، فمنتهى قدرتنا ألا نمارس لعبة الصمت حينما تُهان رموزنا الفكرية على أيدي سفهائنا.

__________
*د. إدريس جنداري.


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة