في مقال له بعنوان: “الربط القار وعلى الفور” نشرته مجلَّة زمان الفرنكفونيَّة، في نسختها المُعرَّبة لغة المفرنسة منهجًا، ( عدد 25 مارس 2021) يستعجل حسن أوريد ربط المغرب بأوروبا، ذهنيًّا، وعلى الفور !!! على شاكلة ما يوهم به السحرة والدجَّالون من (إعجاز) ! وعلى مسار المثقَّف البريكولور، يزعم أوريد القدرة على حلِّ إشكاليَّات فكريَّة عويصة بجرَّة قلم حالمة، وهو يتصوَّر أنَّ الحداثة لا تعدو أن تكون عمليَّة نسخ ولصق لنموذجٍ موجود مسبقًا.
تحدَّث أوريد عن الطموح الثقافي لطه حسين بأوْرٓبة (من أوربا) مصر، وتحدَّث عن الطموح السياسي لأتاتورك بأوربة تركيا، قارن بين ليبيا (الأصالة) التي فشلت في الأوربة الذهنيَّة ! وبين إمارات (المعاصرة) التي نجحت في الأوربة الذهنيَّة ! لا تهمّ هذه المقارنات، لأنها تحطب على نهج حاطب الليل الذي يجمع الحجر مع الحطب ! لكن، ما يهم أكثر لم يذكره مثقّفنا الحاطب.
لم يذكر أوريد، مثلا، النموذج الصيني الذي ينافس القوى العالميَّة وتجاوز، منفردًا، كل ما أنتجه الأوربيون مجتمعون بكل قومياتهم وفلسفاتهم ولغاتهم. لم يحدِّثنا عن الطفرة التي عرفتها تركيا، خلال العقدين الأخيرين، وعلاقة ذلك بتراجع النموذج العلمانوي الأتاتوركي المُؤٓورٓب، لم يحدِّثنا عن إندونيسيا وماليزيا وعن التنينات الآسيويَّة… هذه النماذج، التي يتجنَّب أوريد ذكرها باعتبارها إمكانيَّات جديدة للحداثة، تهدِّد نموذجه التفسيري التقليدي الذي ما زال حبيس تصوّر أوربوي -إن لم يكن فرنسوي- النزعة، وذلك لأنَّ هذه النماذج استطاعت أن تؤسِّس حداثتها من خارج النموذج المُؤٓورٓب.
يريد أوريد أن يوهم القارئ الهاوي بأنَّ الحداثة مشروع إيديولوجي يمكن تحقيقه عبر ترسيخ الاعتقاد بالانتماء إليه ( النيَّة أفضل العمل ) ولذلك، يجب على المغاربة أن يتأوربوا ذهنيًّا ( أي أن يهدموا/يحطموا خصوصيتهم الحضارية) لكي ينجحوا في تحقيق الأثر السحري للحداثة !
أوريد، مرة أخرى، يريد أن يوهم القارئ الهاوي بأنَّ الحداثة ليست مشروعًا معرفيًّا يتأسَّس من داخل البراديغم الحضاري، وباعتماد الخصوصيَّة الحضاريَّة، لغة وثقافة وقيما روحية. إنَّ هيمنة الإيديولوجي على المعرفي، في مقاربة أوريد، تحوّلها إلى دعاية سياسيَّة رخيصة لنموذج التغريب، في صيغته المفرنسة، كبديل لنموذج الحداثة في صيغته الكونيَّة المتعدِّدة.
الحداثة كتصوّر إيديولوجي.. من الخصوصية إلى الأوربة
حينما يستعجل أوريد أوربة المغرب فورًا دون إعارة أي قيمة لمنجزه الحضاري العربي الإسلامي، فإنه بذلك يستعيد المكبوت الكولونيالي، بطريقة لا واعية، خصوصا وأنه فاعل عرق-كولونيالي بارز في الساحة الثقافيَّة والسياسيَّة المغربية، يسعى إلى استعادة أصل ثقافي ولغوي أمازيغوي موهوم لا أثر له في التدوين الكتابي، إلا ما خطَّته الأقلام السوسيولوجيَّة والتاريخيَّة الكولونياليَّة، التي كانت تسعى إلى استئصال المغرب من امتداده الحضاري العربي الإسلامي، والزج به في متاهات التاريخ الروماني القديم .
لقد كان المتن/المنهج التاريخي والسوسيولوجي الكولونيالي يتعامل مع المغرب باعتباره جزءا لا يتجزأ من شمال إفريقيا، كمستوطنة رومانية قديمة تمكَّن العرب المسلمون من (احتلالها) بعد طرد المستوطنين الرومان. لذلك، فإنَّ مهمّة الاستعمار الفرنسي هي وصل ما انفصل، واستعادة الارتباط بين المستوطنة الشمال-إفريقية وانتمائها الروماني، ولا يمكن تحقيق هذا المشروع إلا من خلال التوجّه مباشرة إلى استئصال كل ما يمت إلى الإسلام والعروبة بصلة.
لذلك، فمن واجب الحملة الاستعماريَّة أن تعيد الرموز الدينيَّة والثقافيَّة واللغويَّة إلى المستوطنة الرومانية السابقة. وفي هذا السياق الإيديولوجي الملغوم، فقد تمَّ الترويج للأصل الأوربي للبربر قصد تسهيل المهمَّة الاستعماريَّة، فالنظريَّة القائلة بأن أصل البربر من أوربا –حسب عبد الله العروي- روّجها عسكريون وموظفون فرنسيون بإعانة بعض المترسلين. ويعلق العروي: هذه نظرية متفرِّعة، في الحقيقة، عن سياسة إدماج إفريقيا الشمالية في المجموعة الفرنسية. ( مجمل تاريخ المغرب- ص:47). ولا يمكن تحقيق هذا المشروع إلا من خلال التوجه مباشرة إلى استئصال كل ما يمت إلى الإسلام والعروبة بصلة:
-على مستوى الإسلام، تمَّ الترويج للانتماء الديني المسيحي لشمال إفريقيا، فساكنة هذا الامتداد الجغرافي، حسب التصور الكولونيالي، كانت تدين بدين المسيح الذي فرضته السلطة المركزية في روما باعتباره الدين الرسمي للإمبراطورية ومستوطناتها. ولذلك، فقد حضر الإسلام باعتباره دينا دخيلا وغازيا يجب استئصاله من الجذور.
-على مستوى العروبة، تمّ الاستناد إلى المتن الخلدوني من خلال ترجمة إيديولوجية لمفاهيمه، وذلك بهدف تحقيق الخلط بين مفهومين مختلفين في بعدهما الاصطلاحي وفي مجالهما التداولي. الأول هو ” العروبة” كإحالة على حضارة إنسانية متعدِّدة المشارب الثقافيَّة تتجاوز البعد العرقي إلى البعد الثقافي والديني. والمفهوم الثاني هو ” الأعراب” كإحالة على نمط اجتماعي يقوم على الترحال وهو لا يخص العرب بل يتجاوزهم إلى باقي الشعوب عبر العالم . ومن خلال هذا الخلط بين ” العرب” و” الأعراب” في الترجمة الإيديولوجية للمتن الخلدوني تمكن المتن الكولونالي من ربط العروبة كحضارة، بخصائص اجتماعية وسياسية تقوم على أساس النهب والاستغلال والقتل. ومن خلال ذلك تمكن المتن الإيديولوجي الكولونيالي من رسم صورة استعمارية غازية للعرب الفاتحين المؤسسين لأول دولة مغربية مستقلة في تاريخ شمال إفريقيا، وذلك في أفق صياغة أسطورة الشعب البربري الأصلي المستعمر.
هكذا، لا يمكننا استيعاب الكثير من الأوهام الثقافوية التي يروج لها أوريد، إلا من خلال ربطها بالأصل الكولونيالي الذي صنعها في مختبراته ووظَّفها في حربه العسكريَّة والثقافيَّة، ولذلك فإنه لا يضيف جديدا حينما يروج لأوربة المغرب بادّعاء الحداثة والانفتاح الثقافي واللغوي، وذلك لأنه ينهل، بشكل أعمى، من المتن/المنهج الإيديولوجي الكولونيالي الذي صنع هذه الأوهام وروّجها.
الحداثة كتصور معرفي ..إمكانية توطين المنهجية الحداثية.. نموذج مُقارَن
إن استحضار سيرورة الحداثة، من منظور معرفي، لا يعني الدعوة إلى استنساخ التجربة الفكرية والعلمية الغربية، بشكل حرفي، ولكن الأمر يتعدى ذلك، بكثير، وذلك لأن الحداثة هي تصور منهجي حديث، على مستوى التفكير، وليست مُتونا علمية ونماذج اقتصادية وسياسية واجتماعية جاهزة. لذلك، تظل الدعوة إلى الحداثة، جوهريا، دعوة إلى العقلنة في التفكير، وإلى التعددية والاختلاف في المجتمع، وإلى الاحتكام للإرادة الشعبية في السياسة، وإلى تكريس نموذج إنتاجي معقلن في الاقتصاد. إن الحداثة، بهذا المعنى، تجسد صورة نسق اجتماعي متكامل، وملامح نسق صناعي منظم وآمن، وكلاهما يقوم على أساس العقلانية في مختلف المستويات والاتجاهات.
Jean-Pierre pourtois et Huguette desmet- l’éducation post-moderne- p.u.f- paris 1997 – p : 26
ولعل هذا، هو ما يدفعنا إلى الحديث عن وحدة التصور المنهجي الحداثي، باعتباره يمثل مرحلة متقدمة من تاريخ الإنسانية ساهمت في بنائه مختلف التجارب الحضارية السابقة، ويبقى التجسيد الغربي الحديث منتوجا متطورا لهذه التجارب. وهذا المنظور، في التحليل، يفتح أمامنا المجال واسعا للحديث عن إمكانية التعدد والاختلاف في تجسيد النموذج المنهجي الحداثي، ولعل هذا هو ما وعت به مجتمعات آسيوية كثيرة، كانت سباقة إلى الانفتاج على هذا النموذج المنهجي الحديث، محاولة تبيئته في علاقة بتصورها الحضاري. ويمكن الحديث هنا عن التجربتين اليابانية والصينية، وهما تجربتان غنيتان بالدلالة، خصوصا وأن كل تجربة منهما تمثل تصورا منهجيا خاصا للحداثة.
-التجربة اليابانية، في علاقتها بالتصور الليبرالي الغربي، وهي تجربة حاولت استنبات الحداثة الفكرية والتحديث التقني، في التربة اليابانبة، من دون السقوط في التغريب. فقد كانت ثورة الميجي موجهة بالأساس إلى استلهام التجربة الغربية، فكريا وعلميا، لكن من خلال رؤية خاصة للعالم تتحكم فيها الخصوصية اليابانية. ولذلك، فإننا، اليوم، نتحدث، بشكل موضوعي، عن النموذج الحداثي/الليبرالي الياباني الذي يمتلك خصوصيته التي تميزه عن النموذج الأورو-أمريكي.
-التجربة الصينية، في علاقتها بالتصور الاشتراكي، وهي تجربة استلهمت النموذج الياباني، ابستمولوجيا، رغم التعارض الإيديولوجي معه. فقد عمل ماو تسي تونغ على محاولة استنبات النموذج الاشتراكي في التربة الصينية، لكن من خلال رؤية خاصة للعالم، ولذلك فإن التجربة الاشتراكية الصينية ليست استنساخا للتجربة السوفييتية، وهي مختلفة عن تجارب أمريكا اللاتينية وأوربا الشرقية، بل إنها تمثل نموذجا خاصا ضمن التصور الاشتراكي.
إن المشترك، بين التجربتين، هو اعتمادهما معا لمقاربة ابستمولوجية في تعاملهما مع الحداثة الغربية، فكل من الميجي وماو تسي تونغ لم ينشغلا في الحداثة الغربية بمضمونها الإيديولوجي لأن سؤال الخصوصية الحضارية كان محسوما لديهما، منذ البداية، لقد كان الاهتمام بتوطين التصور الحداثي، علميا وفكريا، يمر عبر اعتماد منظورهما الحضاري الخاص، ولذلك نجحا معا في استنبات شكلين مختلفين للحداثة في تربة آسيوية مختلفة عن التربة الغربية، وقد تمكنا بذلك من تحويل هذا الاستنبات إلى شجرة أصيلة تمتد جذورها في التربة الحضارية للذات الحضارية، أكثر من امتدادها في التربة الحضارية للآخر الحضاري.
ولعل المدخل الرئيسي لنجاح هاتين التجربتين، ليكمن في اقتناع اليابانيين والصينيين، بأن العملية التحديثية، تقنيا، تحتاج إلى روح منهجية حداثية، لذلك انفتح كل منهما على تصور خاص للحداثة محاولا استيعابه، من منظور ابستمولوجي، وبعد ذلك تم الانتقال إلى تجسيد هذا التصور، اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا، بشكل يجمع، بإبداع، بين الخصوصية التاريخية والثقافية من جهة، وبين التصور المنهجي الحداثي في امتداده الكوني من جهة أخرى.
إن ما ميز تجربتي الحداثة، في علاقة بالنموذجين الصيني والياباني، هو اعتمادهما الطابع الخاص للمجتمع الشرقي، لكن على أرضية التواصل مع الكوني. وقد تحقق هذا النجاح نظرا لتوفر مجموعة من الشروط يلخصها الباحث عبد اللطيف الخمسي ( مجلة فكر ونقد، ع: 43، نونبر 2001) في توفر إنتلجنسيا عقلانية، وطبقات صاعدة وحركات قومية متنورة، ودين منفتح يكثف رؤية فلسفية للعالم. وقد ساهم توفر هذه الشروط، حسب الباحث، في تأسيس حداثة نوعية عميقة، أصبحت نموذجا يحتذى يبدأ بالوعي التاريخي والنقد العلمي لواقع التخلف، وينتقل إلى ترجمة فلسفة الأصالة، ليس كجواهر وماهيات وأساطير بل كقدرة على بناء علمي للقديم وفق الجديد .
__________________
*د.إدريس جنداري – باحث.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.