حاول الفكر الإنساني منذ القِدم تصور مجتمع مثالي تتحقَّق فيه العدالة الاجتماعية والمساواة لكنها ظلت محاولات طوباوية لا تمت للواقع بصلة، وفي العصور الحديث سعت العلوم الإنسانية والاجتماعية إلى توضيح وتفسير قيمة المساواة وأهميتها حياة المجتمعات الإنسانية بالتوازي مع الإنجازات العلمية والاقتصادية والسياسية التي حققها الإنسان في شتى المجالات. ومعنى ذلك أن الشعوب على مر العصور تمنت تحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية، وأدخلت ذلك في مذاهبها رؤياها الطوباوية، ثم في فلسفاتها ونظمها الدينية والأخلاقية والقانونية. إلا أن المساواة والعدل ما زالا بعيدين المنال.
وفي وقتنا الراهن، نجد أن علم الاجتماع النقدي critical sociology المشبع بالنزعة الإنسانية والتحريريةلم يقف مكتوف الأيدي، بل سعى إلى دراسة وتحليل ونقد الواقع الاجتماعي المعاصر بغيةوضع مؤشرات علمية تعبر عن مظاهر المساواة واللا مساواة في الحياة الاجتماعية. فالمساواة حسب رأيه تنحصر في تحديد مستوى اندماج أفراد مجتمع ما في واقعهم على صعيد الإنتاج، والاستهلاك، والتوزيع، والعمل السياسي، والتفاعل الاجتماعي، والتمتع بحقوق الإنسان، أي على صعيد الحقوق والواجبات. أما اللا مساواة تعني التهميش والاستبعاد والحرمان والإقصاء عن هذه المشاركة والحقوق. وعلى العموم شغلت قضية التهميش بال الكثير من علماء الاجتماع لأنها تعد سبباً مباشراً لانقسام المجتمع وظهور بؤر التوتر والانقسام والعنف والاقتتال وغياب العدالة الاجتماعية بشكل أساسي.
تعتبر كلمة التهميش ( هـ م ش ) مصدر هَمَّشَ أي كتب على حاشية الكتاب: ما يدون من تعاليق وبيانات على الهامش، حاول تهميشه: جعله على الهامش، أي عدم إعطائه أهمية. ويعيش على هامش المجتمع أي خارج سياق المجتمع. والمفهوم بطبيعة الحال ليس جديداً في اللغتين العربية والإنجليزية، ففي اللغة الإنجليزية يوازي مفردتي marginalization، والتي تعنى حرفياً وضع الأشخاص أو الجماعات على هامش الأحداث والأفعال ومصطلح social exclusion، والذي يعني العزل أو الإقصاء أو الاستثناء أو عدم الشمول. أما اصطلاحياً يعتبر التهميش نمطاً اجتماعياً سياسياً سائداً في المجتمع ما طبقاً لاعتبارات تقررها وتفعلها المنظومة المسيطرة، وتعيد إنتاجها بصور مختلفة. ففي نطاق الحياة الاجتماعية واليومية للأفراد والجماعات قد يُحرم كثير منهم من فرص الوصول والمشاركة في المرافق الاجتماعية والسياسية، من خلال حرمانهم من حقوق المواطنة المتساوية على كل المستويات، مما يؤدي إلى عدم قدرة المجتمع على تفعيل كل أفراده بالدرجة التي يحققون فيها ذواتهم ويفعلون فيها مقدراتهم وقدراتهم ومواهبهم وطاقاتهم. ويوافق مفهوم التهميش مفهوم الاستبعاد الاجتماعي، الذي هو نقيض الاندماج أو الاستيعاب، فهو موضوع حيوي وكاشف لطبيعة البنية الاجتماعية في أي مجتمع، وهكذا فالاستبعاد ليس أمراً شخصياً، ولا راجعاً إلى تدني القدرات الفردية فقط بقدر ما هو حصاد بنية اجتماعية معينة ورؤى محددة ومؤشر على أداء هذه البنية لوظائفها. والنتيجة الحتمية المترتبة على التهميش هي الاضمحلال فإنه حين تهمش مجموعة من غير سبب عملي وموضوعي فإنك تدفع بها نحو الاضمحلال وذلك من خلال تحجيم فرص ارتقائها ومن خلال محاصرتها على الصعيد الثقافي.
وتتعدد مظاهر التهميش لتصل إلى أعلى مستوياتها من خلال مفهوم الإقصاء السياسي والاجتماعي والاقتصادي، إذ تتنوع بين الإبادة والتطهر العرقي وبعض الممارسات التي تظهر كراهية الغرباء في أكثر اشكالها تطرفاً، أو قد تظهر في هيئة مصاعب تتعلق بالجانب الاقتصادي والاجتماعي على المستوى الفردي أو الجماعي. كما يظهر مفهوم التهميش في لب كل مسائل الصراع الاجتماعي، التي تختلف تسمياتها باختلاف مظاهرها وتمثلاتها.
وفي النهاية يمكنا لنا تعريف التهميش الاجتماعي: بأنه جملة الإجراءات والخطوات المُنظَّمة التي على أساسها تُوضع الموانع أمام الأفراد والجماعات، حتى لا يتحصلوا على الحقوق، والفرص، والموارد، وخدمات السكن، الصحة، التوظيف، التعليم، المشاركة السياسية، وغيرها من الحقوق المتاحة للمجموعات الأخرى، والتي هي أساس التكامل والاندماج الاجتماعي.
من أهم عوامل وأسباب التهميش الاجتماعي العوامل السياسية التي تتجلى في غياب ثقافة المشاركة والديمقراطية مما يؤدي إلى انعدام مشاركة غالبية أفراد المجتمع في إدارة الشأن العام. أما الاقتصادية فإنها تقوم على نموذج الندرة الذي ينظر إلى ضحايا التهميش على أنهم أعداد فائضة من البشر أو أشخاص فاشلين يصعب تصنيفهم وهم عالة على الدخل القومي ويجب إقصائهم أو التخلص منهم نظرية مالتوس نموذجاً. وتشير العوامل الثقافية إلى أنه عندما تحدد الجماعات البشرية انتماءاتها من خلال الرجوع المطلق إلى بعض الأطر الثقافية الخاصة تكون بذلك قد أقصت وهمشت كل من لا ينتمي إلى تلك الأطر، وقد شهد التاريخ الإنساني العديد من حالات التهميش التي ارتكزت على عوامل ثقافية وأدت إلى إلغاء الآخر ونفيه مثل الهنود الحمر في أمريكا. أما اجتماعياً نجد أن بعض الأعراف والتقاليد والقيم السائد في المجتمع التي المستمدة من مفهوم التدرج الاجتماعي تلعب دوراً مهماً في تهميش بعض الفئات الاجتماعية.
ويمكن تصنيف المهمشين في مجتمعاتنا عموماً من خلال الفئات الضعيفة من أفراد المجتمع ( فقراء والمساكين في المدن والأرياف )، وفئات الأقليات المحرومة والسكان المشردين، وفئة الشباب، وأطفال الشوارع. وأغلب من يوصفون بالهامشين يتجلى العنف في شخصيتهم وسلوكهم للتعبير عن ذاتهم. فعلى سبيل المثال نجد أن الشباب العاجزون عن الاندماج بالمجتمع والعاطلون عن العمل يعانون من فراغ الذي يدفعهم إلى إتباع سلوك العنف ضد الآخر في أغلب الأحيان للتنفيس عن الاحتقان والضغوطات التي تعاني منها تلك الفئات المهمشة سيكولوجياً واجتماعياً. بالإضافة إلى تهميش مكانة المرأة في المجتمعات العربية، حيث تعاني مجمل النساء العربيات بشكل عام من مشكلة التمييز بالجنس وعدم المساواة بسبب العادات والتقاليد البالية، بالإضافة إلى عدم السعي الجاد إلى تمكين المرأة اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً على اعتبار أنها تشكل نصف المجتمع. وفي سياق متصل، يُمارس بحق المرأة العنف القائم على النوع الاجتماعي الذي يكرس في ذهنية المجتمع الذكوري مضامين إعادة إنتاج تهميشها بناءً على الفروق بين الذكور والإناث التي يُعزى وجودها لأسباب اجتماعية تنحصر بالعادات والتقاليد، وعلى الرغم من أن هذه الفوارق الاجتماعية متجذرة بعمق في جميع الثقافات، إلا أنها قابلة للتغيير مع مرور الزمن، كما أن لها تنوعات كبيرة سواء داخل الثقافات أو فيما بينها، ويحدد ” النوع الاجتماعي” ما للذكور والإناث من أدوار ومسؤوليات وفرص وامتيازات وتوقعات وقيود في كل ثقافة.
خلاصة القول إن الإنسان الهامشي هو إنسان مقهور بكافة الأبعاد مسلوب الحقوق مهدور الكرامة الإنسانية، التي هي أبسط حقوقه، كما عبرت عن ذلك الديانات السماوية والقوانين الوضعية. فعن أي إنسانية نتحدث وعن أي حقوق، فالظاهر لنا أن الإنسانية تتجزأ وهي حق مكتسب للقوي دون غيره. لذا كان التهميش الاجتماعي في عصر الإنسانية دون الإنسان ظاهرة سلبية تعتري معظم المجتمعات المعاصرة بأشكال ومظاهر مختلفة.
ولمواجهة هذه الظاهرة، سعى الاتجاه النقدي في علم الاجتماع المعاصر عبر جهده التنظيري النقدي إلى توظيف مقولاته النظرية (المفعمة بالنزعة الإنسانية) لتحليل ونقد الواقع الاجتماعي بهدف إرساء قواعد جديدة لبناء مجتمع تتحقق فيه العدالة الاجتماعية والخلاص الإنساني بتجسيد إنسانية الإنسان، للوصول إلى مجتمع لا يعرف (التهميش، الاستبعاد، الاستبداد، التناقضات، الصراعات، الاضطرابات، والقهر الإنساني والحضاري)، مما يؤدي إلى الإعلاء من شأن الإنسان كفرد والإنسانية كمفهوم سامي تحقيقاً للأهداف والغايات، التي قامت من أجلها الاتجاهات النقدية (الكلاسيكية، والحديثة، والمعاصرة) في الدفاع عن حقوق الإنسان في العيش الكريم، الذي يحفظ كرامته وكينونته بغض النظر عن انتماءاته، الإيديولوجية، والمذهبية، والطبقية، والطائفية، لأن مفهوم الإنسانية مفهوم لا يتجزأ. لكن السؤال الذي يطرح نفسه علينا: هل ستتحقق فكرة المجتمع الجديد (الفردوس الأرضي المنتظر ) يوماً ما على أرض الواقع الاجتماعي لتقضي على الشقاء الإنساني؟
_________
*د. حسام الدين فياض/الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة/ قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.