علي وطفة وتجلياته النقديَّة في الأخلاق التربويَّة عند كانط

image_pdf

أنا من عشَّاق كانط ـ ذلك الفيلسوف الألماني الرائع الذي اتبـع في مناقشـته للمشـكلة الأخلاقيَّة بمـا يـتلاءم مـع نزعتـه العقليَّة وفلسـفته النقديَّة، فهو من الذين لم يوافـقوا على ما جاءت به الأخلاق اليونانيَّة ولا الأخلاق المسيحيَّة، ولهذا فقد قام بالبحث في طبيعة الأخلاق بعد نقاش ونقد الأخلاق عند الآخرين، وقد أظهر لنا نظريَّة أخلاقيَّة عقليَّة.

 وفكرة كانط الرئيسة في الأخلاق ظهرت فــي كتابــه النقــدي الثــاني ” نقــد العقــل العملــي ” الــذي يشــبه ” نقــد العقــل المحــض “، بــل أنــه مــن حيــث المضمون تتمة مباشرة للكتاب النقدي الأول.

 اختلف كانط مع النظريات الأخلاقيَّة، التي ترى أن فكرة الخير هي دعامة الأخلاق، في حـين أنه اعتبر الأخلاق هي ” فكـرة الواجـب “. وهكـذا أحـدث كـانط ثـورة فـي مجـال الأخـلاق. إن التحـدُّث عـن الأخلاق عنده تعني ” نظريَّة الواجب “، إذ يرى أنَّ الواجب هو ما أملاه العقل.

 وفــي البداية كــان متــأثرا بالنظريــات الأخلاقيَّة والاجتماعيَّة لــدى جان جاك روســو الــذي نــادى بــالعودة إلــى الطبيعــة أو الفطــرة، لتخلــيص الإنســان مـــن التــأثيرات الســلبيَّة للحضــارة وخــداعها وشــروطها؛ إلا أن كــانط لــم يأخــذ بهــذا الــرأي أو غيــره بــل تنــاول النظريــات الأخلاقيَّة بالنقــد.

ونظريتــه الأخلاقيَّة ظهرت بعد ظهور كتابه ” نقد العقل المحض بعـدَّة أعـوام؛ ومـا أن اسـتقر علـى منهجـه الجديـد المـنهج النقـدي حتـى رفـض تلـك النظريـات الأخلاقيَّة التـي كـان يميـل إليهـا، فقد أخـذ ينـادي بنظريَّة جديـدة تفصـل الـدين عـن الأخـلاق وتوفـِّق بـين الأخـلاق والعلـم. فهـو يريـد إيجـاد أخـلاق لا تسـتند علـى دعامـة خارجيَّة، وقد أوضح ذلك في كتابه ” تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق.

 ولم يكن كانط بكل تأكيد ليَبني على الأرضيَّة غير المتماسكة للنظريَّة الأخلاقيَّة البريطانيَّة، رغم أنه تأثَّر كثيرًا بفكرة شافتسبري القائلة إنَّ المبادئ الأخلاقيَّة الأساسيَّة لا يُمكن أن تكون مسألةً تَعتمِد على التفضيلات الذاتيَّة، بل يجب أن تكون ملزمة على نحو عامٍّ؛ إذ يؤمن كانط، شأنه شأن شافتسبري، بأن الأخلاق تتضمَّن المشاعر، والتي هي في رأيه الاحترام والغضب والحصافة والتضجُّر والتقدير والندم وما شابه، فنحن لدينا القدرة على الشعور بالسرور لتحقيق واجبنا الأخلاقي. في واقع الأمر، إن هذا الإحساس بالرضا مشروع ومرغوب معًا لكن هذه العواطف لا يمكن أن تُمثِّل دافعًا لأفعالنا. وقد اعتقد هيجل نفس الشيء؛ فالرغبة لا يمكن أن تكون عاملًا في فعل الصواب، بل إن ما نشعر به في هذه الظروف هو الألم قبل كل شيء؛ فالقانون الأخلاقي يعترض بصرامة على ميولنا الطبيعيَّة، وهذه طريقة أدركنا بها وجوده الجليل.

 كما يفسح كانط بعض المساحة في فكره الأخلاقي للسعادة؛ لكن رغم أن السعادة هي جزاء الفضيلة في الحياة الآخرة – إن لم يكن في الحياة الدنيا في أغلب الأحيان – فلا يُمكنها أن تكون الدافع المحرِّك نحوها. فالسعادة ما هي إلا فكرة تجريبيَّة وليست قيمة مثاليَّة عند العقل، وهي لا تقوم على مبادئ؛ فعلى الفرد أن يُكافح من أجل الرضا العام؛ لكن الرضا الذي يرتبط ويتَّسق مع أطهر المبادئ الأخلاقيَّة، فهو لا يؤمن بأن المبادئ الأخلاقيَّة يمكن أن تنبني على الإحساس أو العاطفة أو السعي نحو الرفاهة؛ فالحواس لا تتيح لنا الوصول إلى حقيقة أنفسنا ولا إلى جوهر الأشياء برغم ما قد يزعمه أنصار مذهب الخير عن الاتحاد البديهي بين رُوحين من أصل واحد. فالإحساس ليس أساسًا للمعرفة الذاتيَّة، فالكائن الأخلاقي ينتمي لعالم المعقول لا عالم المحسوس؛ إذ يجب علينا ألا نضع مبدأ السعادة في الاعتبار عندما يتعلَّق الأمر بالواجب؛ فحسُّ الفضيلة يجب حتمًا أن يكون أكثر من التشوّق للرضا. فعلى الإنسان أن يتصرَّف تبعًا لمبدأ وليس ما يُسميه كانط باحتقار «التعاطف المؤثر». وهو في هذا يختلف مع “تيودور أدورنو” الذي يكتب أن “الأساس الحقيقي للأخلاق موجود في الشعور الجسدي، في التماهي مع الألم الذي لا يُحتمل.”

بل إن كانط بلغ به الأمر أن رفض هذا الجهد البريطاني في الفكر الأخلاقي باعتباره محاولة فاشلة لاستخلاص مفهوم الفضيلة من التجربة؛ فالتجرِبة عنده كما هي عند اسبينوزا أساس أكثر تغيرًا واحتماليَّة من أن يُبنى عليها الحكم الأخلاقي، تمامًا مثلما أنها أساس هش في ذاته لمعرفة الحقيقة بموضوعيَّة، فهي كما يقول كانط “شيء بشع ملتبس» تعارض كل صيغة منتظمة. فالإحساس مُرشِد لا يُعتمد عليه إطلاقًا، والأخلاق أسمى من الطبيعة ولا يمكن أن يكون مصدرها الجسم أو أحواله التجريبيَّة، فالمشاعر والنزعات والميول لا يمكن أن تُوصلنا إلى أي مبادئ موضوعيَّة. يشير كانط باستخفاف — ويقصد هتشسون — في عمله «أسس ميتافيزيقا الأخلاق» إلى «حسٍّ مزروع» أو «حاسة خاصة مُفترضة» ساخرًا من أن هؤلاء الذين لا يُمكنهم «التفكير» يظنون أنهم يمكنهم مساعدة أنفسهم بالشعور.» ويصرُّ، وهو يقصد نفس المذهب الأخلاقي، على أن المحاكاة لا مكان لها إطلاقًا في قضايا الأخلاق.

   وفي الأيام الماضية صدر كتاب لأخي وصديقي الأستاذ الدكتور علي وطفه بعنوان: «التربية الأخلاقيَّة في الفلسفة الكانطيَّة: مكاشفات نقديَّة معاصرة»، عن المجلس العلمي – لجنة التأليف والتعريب والنشر بجامعة الكويتـ ويقع الكتاب في 500 صفحة من القطع الكبير ويتناول التربية الأخلاقيَّة عند «كانط» بالدراسة والوصــف والتحليــــل، ويخضعها في الوقت نفسه للنقد المنهجي في ضوء النظريات التربويَّة الحديثة والمعاصرة، وبأسلوب شائق ولغة فلسفيَّة مفهومة ومبسَّطـــة وعــرض تربوي واقعي.

  وقد اعتمد المؤلف منهج التفكيك العلمي والتنقيب “الأركيولوجــــي” فـــي استكشاف العلاقات الراسخة بين فلسفة كانط الكليَّة وبين التربية الأخلاقيَّة، ويشكِّل الكتاب محاولة علميَّة جادة كرّست للوقوف على أسرار التربية الأخلاقيَّة الكانطيَّة والكشف عن أبعادها الفلسفيَّة في سياق تفاعلها مع الواقع من جهة والفكر من جهة أخرى.

ويتناول الكتاب التربية الأخلاقيَّة عند كانط بالدراسة والوصف والتحليل، ويخضعها في الوقت نفسه للنقد المنهجي في ضوء النظريات التربويَّة الحديثة والمعاصرة. وقد اعتمد المؤلف منهج التفكيك العلميّ والتّنقيب الأركيولوجيّ في استكشاف العلاقات الراسخة بين فلسفة كانط الكليَّة وبين التربية الأخلاقيَّة. ويشكِّل الكتاب محاولة علميَّة جادة كُرّست للوقوف على أسرار التربية الأخلاقيَّة الكانطيَّة والكشف عن أبعادها الفلسفيَّة في سياق تفاعلها مع الواقع من جهة والفكر من جهة أخرى.

يتضمَّن الكتاب سبعة عشر فصلاً، إضافة إلى مقدّمة وخاتمة. وتغطّي هذه الفصول مختلف مكوّنات التربية الأخلاقيَّة الكانطيَّة ومظاهرها ضمن سياقاتها التاريخيَّة والفكريَّة. ويستعرض المؤلّف في البداية مختلف العوامل المؤثّرة في سيرة كانط وتلك المؤثرة في تشكيل فلسفته الأخلاقيَّة. ثم يتناول بالفحص المنهجي مقوّمات المشروع التربوي الكانطيّ، ويبحث في المنهجيَّة التي اعتمدها كانط في عمليَّة تجاوز الطبيعة الإنسانيَّة بالتربية الأخلاقيَّة، ثمّ يحلّل طبيعة الممارسة النقديَّة الكانطيَّة للتربية كما سادت في القرن الثّامن عشر. ويستعرض المؤلف نظريَّة كانط في التربية الأخلاقيَّة من منظوري الدين والجنس، ثمّ يستعرض الفضائل الأخلاقيَّة التي جعلها كانط في مرتبة الغايات العليا للتربية.

 وكرست الفصول الأخيرة من الكتاب للبحث في القضايا الفكريَّة التي طرحها كانط فيما يتعلق بالتنوير والتربية على التنوير، وفيما يتعلق بالتربية الأخلاقيَّة على مفهوم “السلام الدائم”، وفيما يتعلق أيضاً بتأثير كانط في الفكر الفلسفي والتربوي الحديث. وفي نهايَّة المطاف يخصِّص الكاتب الفصل الأخير لنقد التربية الكانطيَّة في ضوء التحوّلات الفكريَّة المعاصرة. وباختصار شديد كرّس هذا الكتاب ليستكشف معطيات التربية الأخلاقيَّة في فلسفة كانط في سياق تفاعلاتها الحضاريَّة والإنسانيَّة على نحو نقدي.

ولا شك في أن الأستاذ الدكتور علي أسعد واطفه (أستاذ  علم الاجتماع التربوي بجامعة الكويت) من هؤلاء الذين ينتمون إلي النمط الثاني، فهو صاحب موقف فلسفي ونقدي واضح من كل ما يقرأ ولا يكتب إلا في حول أو في قضايا معاصرة  بغرض بلورة موقف مبدع ومستقل عن كل المواقف ومختلف عن كل الآراء المطروحة حول نفس الموضوع سواء قيل من قبل.

وهنا وجدنا أن البحث في علم الاجتماع التربوي في نظر الدكتور علي أسعد وطفة، هو تعبير خالص عن الموقف الفكري المستقل الخالص بالباحث، وليس مجرد مجموعة من النقول والشروح والتعليقات المفتعلة.

علاوة علي ذلك فإن جديَّة الدكتور علي أسعد وطفة وأصالته تتكشف عندما يطرح القضايا الفكريَّة والسياسيَّة، حيث نجد الغاية من هذا الطرح ليست مجرد تكرار للأفكار، وإنما يسلط الضوء علي أفكار وقصايا بعينها، من أجل أن يكشف عن المجتمعات العربيَّة، وكذلك من أجل أن يستقي القارئ العربي منها مصادر خلاصة من مشكلاته التي تؤرّقه وخاصَّة مشكلة وجوده كإنسان له كرامته الأصليَّة.

هذا بالإضافة أيضاً إلى أنه مكافح مناضل، وتلك ظاهرة ملحوظة في حياته كلها، كافح في صباه وشبابه، كما كافح في كهولته وشيخوخته. كافح وناضل في ميدان العلم والتعليم، في ميدان التربية والاجتماع، في ميدان الوطنيَّة والسياسة، وكلفه كفاحه ما كلفه من عنت ومشقة، وقد حاول جاهداً أن يجمع أنواعا مختلفة من العلوم وضروباً من المعارف؛ وهو عالم يشار إليه بالبنان ضمن علماء الاجتماع التربويين.

وقد شهد له كل من عرفه بأنه نعم الرجل الذي في نظرته تأمل بعيد، وفي قلبه تواضع، وهو ذو شخصيَّة إنسانيَّة طاغية، حانية، حاضنة، وذو بصيرة ناقدة، وشخصيَّة بناءة إيجابيَّة متفائلة، وقلب مفعم بحب البشر، كرَّس حياته للدفاع عن الإنسان، وإبراز كرامته وقدسيته روحياً ودينياً، حضارياً وثقافياً، اجتماعياً ومادياً.

علاوة على أن علي وطفه (مع حفظ الألقاب) يعدّ قامة، وقيمة علميَّة، وأخلاقيَّة كبيرة، على المستوى العلمي، والمستوى الشخصي أيضاً، لأنه دائماً كان يمد يد العون، لمن يعرف، ولمن لا يعرف صغيراً وكبيراً؛ كما يتميز بدماثة الخلق، وحسن المعاملة مع أصدقائه وزملائه فى العمل، وأنه كان يسعى دائماً إلى تحقيق هدف سامي ونبيل، وهو جبر الخواطر، وأن يجمع بين الصدقة الجارية، والعلم الذى ينتفع به.

 لقد كان قارئا لكل الأحداث، ولم تقف قراءته هنا الحديث والمعاصر، بل أبى إلا أن يجمع بين الماضي والحاضر. ودون أن أعرض إلمامه الواسع بعلم الاجتماع التربوي، أحب أن أشير إلى تمكّنه من هذا العلم ؛ حيث عرف أصوله وأحاط بشتى جوانبه، إذ درسها في عمق وسعة، وكون فيه رأيه الخاص، ولا أظن أن من بين أقرانه من اهتم بقراءة التربية العربيَّة في معترك الحداثة، أو حضور المقدَّس في الثقافة العربيَّة، أو جان جاك روسو: فيلسوف الحريَّة والأب الروحي للتربية الحديثة، أو موت المدرسة في زمن كورنا … وهم جرا.

  وإذا ما جئنا لنكشف ما تميّز به علي وطفه من علم وافر وثقافة واسعة، وجدنا صيته في هذين المجالين يتجاوز نطاق العالم العربي والإسلامي إلى ما هو أوسع وأرحب. ولعل الذي أعان على انتشار صيته وازدياد شهرته، ومعرفته المتنامية باللغات الأجنبيَّة الحيَّة. وغني عن البيان أن هذه اللغات، التي كان يعرفها علي وطفه لها شأن كبير في تشكيل تيارات الفكر والثقافة في عصرنا الحاضر. ناهيك عن أنه كان ضليعاً بلغته العربيَّة – لغة القرآن الكريم – وعارفاً بالمصطلحات الاجتماعيَّة والتربويَّة في لغاتها الحيَّة.

صديقي العزيز الأستاذ الدكتور على وطفه تحيتي  وتقديري دوما  لما  تكتبه بقلمك الواعي وحسك الفلسفي العميق، وحتى لا يطول بنا الحديث أقول في نهاية حديثي، تحيَّة طيبة لشخصكم الكريم، الذي كان وما زال يمثِّل لنا نموذجا فذا للمفكر الموسوعي الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهيَّة الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوُّع وتعدُّد وثراء.

 وتحيَّة أخري لرجلٍ لم تستهوه السلطة، ولم يجذبه النفوذ، ولكنه آثر أن يكون صدى أميناً لضمير وطني يقظ وشعور إنساني رفيع وسوف يبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً.

________________

*الأستاذ الدكتور محمود محمد علي/أستاذ الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط.

جديدنا