من ليفربول إلى مصر؛ سيرة شاهد عيان على مصر

image_pdf

منذ سنوات وأنا أبحث عن إجابات لأسئلة حول مصر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين، ولعلَّ أكثر هذه الأسئلة هي من أين أتت فوبيا كره المصريين لأي تدخّلٍ أجنبي، وصعود نبرة مصر للمصريّين إلى حدِّ الهوس، وكيف هزم أحمد عرابي في وقتٍ كان لديه ميّزات نسبيَّة على قوات الاحتلال الإنجليزي ؟ وغيرها من الأسئلة التي ما زلت أبحث عن اجابات عليها، ثمَّ اقتنيت كتابًا صدر من دار إشراقة عنوانه ( ربع قرن في مصر) وهي مذكرات إنجليزي من ليفربول قدم إلى مصر ليعمل وهو في بدايات مرحلة الشباب في محلج قطن قرب الزقازيق، ليمكث في مصر من 1863 إلى 1887م، إذا نحن هنا أمام شاهد عيان شارك في بعض الأحداث، المذكرات ترجمها محمد علي ثابت في لغة جعلتني لا أشعر أنها ترجمة بل قرأت نصًّا سلسًا متدفقًا، وقدَّم المذكرات وليد كساب الذي درس شخصية كاتب المذكرات وعصره بصورة وافية كما قام بالتعليق على النص في هوامش جاءت لتشرح وتضيف وتصحِّح الكثير، إذا نحن هنا أمام جهد متكامل، صموئيل سيليج كوسيل ولد في ليفربول في 12 يونية 1848 من أبوين من ألمانيا تجنسا بالجنسية البريطانية وفد إلى مصر عام 1863 م ليعمل في محالج القطن حيث كانت مصر تصدر القطن عالي الجودة لمصانع العالم، ثم انتقل إلى الإسكندرية عام 1865م حيث عمل في عدّة شركات، ثم عمل بالجمارك المصرية بالإسكندرية، وظلَّ بها إلى أن ترك الخدمة في الحكومة المصرية 1884 م، ثم اختير لفترة قصيرة قنصلا أمريكيا بالإسكندرية ليغادر مصر ثم يستقر به المقام في بريطانيا.

الكتاب به العديد من المعلومات التاريخيَّة المهمَّة، فالمؤلِّف يقرّ أنَّ الأجانب حصلوا على امتيازات حرم منها المصريين كحقِّ المثول العادل أمام القضاء، الإعفاء من الضرائب، وهو ما مكَّن الأجانب بموجب الامتيازات التي منحتها الدولة العثمانيَّة لهم من تكوين ثروات طائلة، فضلا عن الاستعانة بالأجانب على حساب المصريّين في عددٍ من الوظائف ممّا زاد من حنق المصريين تجاههم.

قدم كوسيل لنا وصفا مسهبا لحفل افتتاح قناة السويس حيث كان من بين المدعوين وذلك في 16 نوفمبر 1869 م قدَّر المؤلف تكاليف حفر القناة بـ 17 مليون جنية استرليني لكن تقديره هذا لم يحتسب المصريين الذين عملوا بالسخرة في حفر القناة فضلا عن التسهيلات التي قدَّمت من الحكومة المصريَّة والتي لم يتم تقديرها، تكلَّف حقل الافتتاح الذي شاركت فيه النخب الأوروبيَّة مليون وأربعمائة ألف جنية وبلغ بذخ الخديوي إسماعيل في رأي كوسيل بدفعه تكاليف مكوث مئات الضيوف لفترة من أسبوعين لثلاث أسابيع كاملة بعد الحفل ليشاهدوا تراث القاهرة ونظّمت لهم رحلات لمناطق مختلفة في مصر.

 أدرك كوسيل مأساة مصر مع قناة السويس ومأساة المصريين في بلدهم وهو ما لخّصه في العبارة التالية : ( كثيرًا ما يتفوَّق الضئيل على الضخم الكبير، وبالتأكيد كانت هذه الثمانون ميلا من القناة مسؤولة عن كثير، وقد قدت من أجلها الكثير من الأرواح بشكل غير مباشر، لكن خسارة الأرواح دائما رخيصة حين تقاس بخسارة كثير من المال، والذي يزن أكثر من الأرواح، ولقد كانت القناة مسؤولة عن توسّع الإمبراطورية البريطانية، وتدمير سلطة الأسرة الحاكمة لمصر…. حتى النيل تغيَّر، لكن الفلاحين فحسب هم من ظلّوا على حالهم، برغباتهم وعاداتهم وتقاليدهم التي امتلكوها لقرون في ظل الغزاة المتعاقبين، وهي الموروثات التي ستظلّ لديهم لقرون قادمة بغض النظر عن الأمة التي تهيمن على أرضهم ).

ورأيه هذا في حقيقة الأمر مواكب للمرحلة التي عاش فيها في مصر، ومن المظالم التي كان يتعرَّض لها المصريين من الطبقة الحاكمة هي الضرب بالكرباج وكان كوسيل يعاني من قسوة ضربهم حتى نراه يقول : ( كانت صرخات أولئك المساكين طلبا للرحمة تحفّزني على التشفّع لهم قبل انتهاء نصف عقوبتهم، وكانت شفاعتي لهم مقبولة في تخفيض ما ينالونه من ضربات).

وفي حقيقة الأمر أنّ انتشار التعليم بين المصريين والبعثات، خلقت وعيا بحقوق المصريين وهو ما مثَّل ضغطا على السلطة لإجبارها على إلغاء الجلد بالكرباج ورضخت لهذا، ونسب اللورد كرومر المعتمد البريطاني على مصر الفضل له في إلغائها، وفي الواقع إنه استغلَّ هذا في كسب ود المصريين وإن ظلَّ الكرباج كعقوبة مستخدمًا في مصر بالرغم من القرارات الرسمية، فقد استخدمة الانجليز كعقوبه خاصَّة في السجون.

حفلت سيرة كوسيل بالعديد من التفاصيل حول الثورة العرابية لعل أبرزها منعه وصول ألغام بحرية لجيش عرابي جرى جلبها من الولايات المتّحدة وذلك عبر وظيفته في الجمارك، إذ قام بإخفاء هذه الألغام التي لو كانت استخدمت لدمّرت جانبًا من الأسطول البريطاني الذي احتلَّ مصر في 1882 م، وهو ذاته عمل في خدمة قوات الاحتلال بمدّها بالمعلومات وهو ما قدّره له قائد الأسطول البريطاني، لكن الجديد الذي كشف النقاب عنه هو مشاركة البحرية الأمريكية في دعم الإنجليز عند احتلالهم مصر بالقيام بعدد من الأدوار المساندة، فضلا عن أنه قدَّم معلومات عن مشاركة قوّات الدولة العثمانيَّة في دعم الإنجليز لهزيمة أحمد عرابي وهو ما يفسِّر لاحقًا بقاء هيمنة الدولة العثمانيَّة الإسميَّة على مصر في ظل الاحتلال البريطاني الذي ألغى هذه الهيمنة بإعلان الحماية البريطانيَّة على مصر في 1914 م.

قدَّم كوسيل معلومات ضافية عن الجاليات الأجنبيَّة في مصر، وركَّز بصورة خاصَّة على الجالية الإيطاليَّة في الإسكندرية حيث كانت اللغة الايطاليَّة هي اللغة الأجنبيَّة الأولى في المدينة واضطر إلى تعلّمها في ظل عمله في شركة ملاحة إيطاليَّة بالمدينة ثم تعلَّم الفرنسيَّة إلى جانب العربيَّة، التي اكتسبها من خلال التعلّم ومعايشة المصريين،لكنّه حين  يذكر مدى تغلغل الإيطاليَّة في الحياة اليوميَّة في الاسكندرية يقدِّم لنا تفسيرا منطقيًّا لانتشار العديد من الكلمات الإيطاليَّة في العاميّة المصريَّة حتى إلى يومنا هذا، رصد كوسيل التطوّر الحادث في مصر في القرن 19 م وهو كان شاهد عيان عليه فيذكر عن التطوّر في القاهرة : ( والأمر اختلف الآن، حيث يوجد في الوقت الحاضر جسران عبر النيل، ويمتد الآن خط ترام كهربائي حتى سفح الأهرامات، يوجد أيضا فندق رائع يسمى: مينا هاوس يقع قبالتها مباشرة ).

الحياة اليومية كانت حاضرة بقوَّة في السيرة حياة الفلاحين البائسة أو حياة المدن فالكتاب سجّل للحياة اليوميَّة في مصر مثل يوميات انتشار الكوليرا التي حصدت 60 ألف مصر، وخناقات المقاهي في الإسكندرية والمشاهد التي يصفها تماثل تلك التي كنا نشاهدها في السينما المصريَّة بدءًا من القرن العشرين.

___________
*دكتور خالد عزب.

جديدنا