تتوخى هذه المقالة بلورة مقتضيات التأسيس لمنهج معرفيّ نقدي يتاخم المبادئ المؤسِّسة للنظام الأنطولوجيّ والثقافيّ للحداثة. وانطلاقًا من هذه الغاية، تبدو المباني التي افترضناها أصولًا جوهريّة للحضارة الغربية المعاصرة، على اتصال وثيق بالميراث اليونانيّ والرومانيّ والمسيحيّ الذي سبق ظهورها بدءاً من القرن الرابع عشر الميلادي. فلو استقرأنا سيرورة هذا الاتصال، سيظهر لنا مدى تأثيرها وسطوتها على حضارة الحداثة بأطوارها الثلاثة الكبرى: النهضة – التنوير – والعصر التقني. ولسوف يتبيّن لنا من وجهٍ آخر، أنّ جلَّ فلاسفة ومفكِّري الحداثة استلهموا كلّيّاتهم المفاهيميّة مما أسَّسه الأسلاف في علم الوجود وفلسفة التاريخ. وهو التأسيس الذي قام في الأصل على مبدأ الفصل التامّ بين العالم وأصل صدوره.
تبعًا لهذه السيرورة جرى القول بوحدة العقل المعرفيّ الغربيّ في أحقابه وتحوّلاته التاريخيّة المتعاقبة، ومن هذا النحو بالذات يصير الاستفهام عن «ماهيّة الحداثة» اليوم أكثر شَبَهًا بالاستفهام عن «ماهية اليونان» قبل عشرات القرون. ومع أنّ لكلٍّ من الاستفهامين َسمْتَهُ المخصوص، إلّا أّنهما يشتركان ويتقاطعان على دعوى التأسيس لتاريخ البشريّة. لذلك بدا السؤال عن ماهيّة الغرب وجوهره ودوره الحضاريّ بمثابة استئناف للسؤال البَدئيّ والمؤسّس عن ميتافيزيقا اليونان ورؤيتها للعالم. وسيكون لهذه المعادلة الأثر المبين في مدِّ الفلسفة الأوروبيّة الحديثة بالغذاء المعرفيّ المتحدِّر من الحقل اليونانيّ الأوّل. وذاك ما نلقاه ساريًا في أعماق ما أنجزه الروَّاد المؤسِّسون للحداثة من ديكارت إلى كانط، مرورًا بهيغل وهوسرل وهايدغر، وصولًا إلى سائر المتأخِّرين. أولئك الذين تصدّوا لتظهير الدلالة الأنطولوجّية للذات الغربيّة، فجعلوا من هذه الذات معيارًا للتفكير الجوهريّ في ماهيّة الإنسان المعاصر؛ ربما لهذا الداعي سنرى كيف ترتقي الأطروحة الغربيّة لدى أكثر هؤلاء إلى رتبة مقوِّم من مقوِّمات جغرافيّة الروح على حدّ تعبير هيغل، والتي صارت تتحكّم اليوم في بنية الإنسانيّة الحاليّة.
معثرة أنطولوجية
منذ الإرهاصات الأولى للوعي الغربيّ بالحداثة، كان ثمّة استشعارٌ بخطرٍ داهمٍ يُحدِقُ بالمباني المؤسِّسة التي قامت حضارته الحديثة عليها، ومن الجدير بالذكر في هذه المنزلة، أنّ رائد فلسفة الحداثة رينيه ديكارت لم يغاير القاعدة حين اتخذ ميراث الأسلاف منهجًا لتوليف الكلّيّات الجوهريّة لمنظومته؛ ولأنّه توقّف صاغرًا تلقاء تناقضات المفاهيم الموروثة، فقد آثر الرجوع إلى ذاته، لعلّه يُؤتَى بيقين ينجيه من حَيْرته الأنطولوجيّة، ثمّ إنّه لم يكن ليهتدي إلى “الكوجيتو” لولا أنْ غَلَبته شَقْوَةُ فَقْدِ الوجود، ثمّ سعى ليعثر عليه عن طريق “الأنا” المكتفية بذاتها. الخَيارُ سيكون بالنسبة إليه شاقًّا، بل ويحتاج من المكابدة أقصاها. لقد وَقَعَ الرجلُ في معثرةِ الجمعِ المستحيلِ بين نقيضين غير قابلين للتواؤم: الإيقان بالألوهيّة الذي لزومُهُ التّسليم والإيمان، والبرهان بالفكر الذي مقتضاه الشكّ المنهجيّ من خلال السؤال، والسّببيّة، والعلَّة المفضية إلى ظهور المعلول والتعرُّف عليه. لم يجد ديكارت ما ينفذُ به إلى مجاوزةِ هذه المَعْثَرة الممتدّةِ جذورُها إلى الميراث اليونانيّ إلّا أن يلوذَ بـ “الأنا” لكي يُنجز مبتغاه. وهكذا قرّر الرّجوع إلى نقطة البداية؛ ليكشف لنا أنّ الشّيء الوحيد الذي كان واثقًا منه، أنّه هو نفسه كائن يشكُّ، وجوهرٌ يفكّر، وها هنا يمكث الظنُّ الذي سيحمله على الاعتقاد بأنّ الإنسان ذهنٌ محضٌ، وأنّ معرفتَه بنفسه وبغيره منحصرةٌ بهذا الكائن العجيب الذي يسأل عن كلّ شيء، ويشكِّك بكلّ شيء.
من مفارقات فكر ديكارت أنّه كان ناطقًا باسم الجديد ومتمثِّلًا للقديم في الآن عينه. ولمّا رغب أن يبدأ من جديد، ويشيّد الفلسفة على أساسٍ متينٍ، كانت جذوره عميقةً وراسخةً في التّقليد الفلسفيّ للَّاهوت المسيحيّ. وحقيقة الأمر، أنّ ديكارت لم يكن لينأى قيد أنملةٍ من شريعة الإغريق، وهو يستغرق هموم “الكوجيتو”. ونميل إلى القول إنّه لم يقطع مع أرسطو، بل جاءت نظريّته في المعرفة امتدادًا جوهريًّا لمنطِقِه؛ حيث خضعت لوثنيّة الأنا المفكِّرة. وسيجوز لنا أن نلاحظ، أنّ الكوجيتو الديكارتيّ إن هو إلّا استئناف مسَتحدَث لـ “دنيويّة المقولات العشر الأرسطيّة”. وبسببٍ من سطوة النّزعة الدنيويّة هذه على مجمل حداثة الغرب لم يخرج سوى “الندرة” من المفكّرين الذين تنبّهوا إلى معاثر الكوجيتو وأثره الكبير على تشكّلات وعي الغرب لذاته وللوجود. وعليه فقد جاء نقدهم للديكارتيّة ليشكّل ترجمةً مستحدثةً للميراث الأرسطيّ بمجمله.
لقدشكّل مبدأ الذاتية المؤسِّس للحداثة انعطافةً أبستمولوجيّةً نحو الأنا، الأمر الذي استلزم من ثمّة انعطافةً أنطولوجيّةً، أعقبتها انعطافةٌ أبستمولوجيّةٌ منطقيّةٌ مجَّدت الذات الفرديّة وحوَّلتها إلى ركن جوهريّ في الوعي الثقافيّ للغرب، وعلى هذا النحو من النّظر إلى “العقل الأنانيّ” المستكفي بذاته، ترسَّخت أنطولوجيا العصر الحديث وثقافاته. لقد استنبت هذا العقل الأصل الميتافيزيقيّ الذي أقامت الحداثة عليه أركانها، عنينا به الفردانيّة (individualisme) التي ستعني الإنكار لأيّ مبدأٍ أعلى منه. لقد شكّلت هذه الأخيرة إحدى أبرز الأسس والمرتكزات التي أحكمت قبضتها الصلبة على حضارة الغرب الحديث، بل جاز القول إنّها شكّلت السبب الحاسم للانحطاط الراهن للغرب، لا سيّما من جهة كونها الدافع الحصريّ لظهور المنازع السفلى للحياة الإنسانيّة المعاصرة. ومن البديهيّ حالئذٍ أن يكون إنكار الحدس العقليّ، أوّل قيمة تستهدفها الفردانيّة لكونه أساسًا، مَلَكَةً فوق فرديّة (supra-individuelle)، وبالتالي إنكار مرتبة المعرفة التي هي المجال الخاصّ بهذا الحدس.
مثل هذا الواقع سيدفع بسيرورةٍ من عدم اليقين، أفضت في كثير من الأحوال إلى ضربٍ من الضلال المعرفيّ، وسيكون لهذه السيرورة تداعياتٌ مزلزلةٌ ليس على ميتافيزيقا الحداثة وحسب، وإنّما على مجمل العلوم الإنسانيّة في العصور اللّاحقة.
* * *
الخصّيصة الأهمّ في جوهر الغرب تكمن في وضعانيّته وفلسفته ورؤاه الوجوديّة التي أخلدت نفسها إلى فيزياء التاريخ. لم يكن إيمانويل كانط ومن تلاه من فلاسفة ومفكّري الحداثة سوى امتداد لتلك الخصّيصة الجوهريّة. الوجهة الأصليّة في فكر كانط كمؤسّس ثانٍ للحداثة وجدت تمثُّلاتها في الاهتمام بالكمال الَّلامتناهي الذي يكون الله بمقتضاه تمامًا فوق العالم الذي خلقَه. لقد حصر وجهته الأساسيّة في الموارد الباطنيّة للذّات الفرديّة للإنسان، والتي تستطيع من خلالها تجاوز الوقائعيّة المجرّدة للتجربة، وتحوّلها إلى كونٍ منظّم وأخلاقيّ. وعلى الرغم من أنّ هذه النظرة تفتحُ المجال لإثبات وجود الله، لكنّها في ذاتها ظلّت تميلُ نحو اعتبار هذا الإثبات مصدرًا مُحتملًا للوهم والعزلة. وسنلاحظ كيف كشف كانط عنَ موارد الوهم والعزلة عبر ثلاثة مبادئ:1) تقديم الإلهيّات الطبيعيّة على المعرفة النظريّة بالله؛ 2) تقديم الذات الإنسانيّة بما هي الأساس، والمبدأ المحفّز للأخلاق؛ و3) نقد الاعتقادات والممارسات التقليديّة للدين.
العقلانية البتراء
مجمل الأركان المؤسِّسة لجوهر الغرب جرت على الجملة تحت ظلال مقولة العقلنة، ومدَّعى “إزالة السحر عن العالم”. (désenchantement)، وعليه لم يكن ظهور العقلانيّة سوى حصيلة منطقيّة للتأسيسات التي مرَّ ذكرها. وسيتبوَّأ هذا المكوّن الجوهريّ المرتبة الحاكمة على مجمل المكوّنات المؤلِّفة لجوهر الغرب، فالمفكّر العقلانيّ يميل إلى الموقف القائل بأنّ المعقول هو الطبيعيّ، ولا وجود لشيء خارق للطبيعة، وأقصى ما يعرف به هو المجهول الذي قد يصبح يومًا ما معلومًا، ولا مكان في مخطّـطـه الـفـكـريّ لـقـوى خـارقـة، ولا محلّ في عقله للاستسلام الغيبيّ لعقيدة ما، وإذا كانت معرفة ما يبغضـه فكر معيّن أشدّ البغض تفيدنا في تحديد معالم هذا الفكر، فإنّ أبغض شيء إلى العقلانيّ هو ذلك المزاج الفكريّ الذي تعبِّر عنه عـبـارة «أؤمـن بـه لأنّـه مستحيل” Credo Quia Impossible .
على هذا المبدأ مضت العقلانيّة إلى إسقاط كلّ ما هو خارق للطبيعة أو غيبيّ من الكون، وأبقت فقط على الطبيعيّ، الذي يؤمن الفكـر الـعـقـلانـيّ أنـّه قـابـل للفهم في النهاية، وأنّ سبيلنا إلى فهمه فـي الـغـالـب الأعـم الـوسـائـل الـتـي يعرفها أكثرنا باسم مناهج البحث العلميّ. ويبدو واضحًا من الناحية التاريخيّة أنّ نموّ المعارف العلميّة والقدرة المزايدة على استـخـدام المـنـاهـج الـعـلـمـيـّة، مرتبط ارتباطًا وثيقًا بنموّ الاتجاه في النظر إلى الكون والكوزمولوجيـا العقلانيّة. والحقيقة أنّ أغلب المفكّرين العقلانيّين كان لهم نظرة كاملة إلى العالم، وأسلوب حياة مرتبط بإيمانهم بالعقل، العلماء الممارسون كانوا عقلانيّين، وكلّ من يذهب من العلماء إلى أنّ المعارف الصحيحة هي فقط تـلـك الـتـي نصل إليها عن طريق المنهج العلميّ، إمّا أن يكون بالضرورة عقلانيًّا أو شكّاكًا، ولكن من المهمّ جدًا أن نتذكّر أنّ العلم والعقلانيّة، وإن كانا قد تداخلا وارتبطا فيما بينهما على مرَّ التاريخ، ليسا شيئًا واحدًا على الإطلاق.
وهكذا اعتُبرت النزعة العقلانيّة بالصورة التي نمت بها خلال الـقـرنـين الـسـادس عـشـر والـسـابـع عشر في الغرب نسقًا ميتافيزيقيًّا كاملًا، بل أنّها كانت وما زالت بالنسبة لقليل من الناس بمثابـة الـبـديـل لـلـديـن. ونـظـرًا لأنّ الـنـزعـة العقليّة أخذت بوضعها هذا صورة مذهب شبه دينيّ، فقد كان من الأفضل وصفها بأسماء محدَّدة مثل المادّيّة والوضعيّة وما شابه ذلك من تسـمـيـات تشير بدقّة أكثر إلى مركّب كامل من المعتقدات والعادات والتنظيم المتّصلة بذلك.
الذهنية الحصرية للحقيقة
المسألة الأكثر استدعاءً للنقاش في هذا الموضع، تتمثّل في التأسيس الميتافيزيقيّ لاستعلاء الفكر الحداثيّ حيال الغير، فقد كان للتنظير الفلسفيّ في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر مفعولًا حاسمًا في ترسيخ ثقافة الإقصاء وعدم الاعتراف بما قدّمته الحضارات غير الغربيّة من معارف. وعلى سبيل التبيين، ثمّة من المؤرّخين من يعزو اختفاء أثر فلسفة آسيا وأفريقيا من صرح الفلسفة الغربيّة إلى تضافر عاملين:
الأوّل: الذهنيّة الحصريّة لبعض مدوِّني الفلسفة لمَّا عمدوا إلى تظهير الفلسفة كخطٍّ ينتهي امتداده عند نقد المثاليّة الكانطيّة للميتافيزيقا.
العامل الثاني: التفكير الاستعلائيّ لدى مفكّري أوروبا وفلاسفتها الذين حصروا الفلسفة بالعرق الأبيض. ومما ينبغي أن يُذكر في هذا المنفسح ما انبرى إليه إيمانويل كانط حين قارَبَ مسألة الأعراق بتراتبيّةٍ هي أشبه بالطريقة التي قُوربت فيها كائنات الطبيعة، فلقد صنّف كانط المجموعات البشريّة وفق مراتبَ وصفاتٍ يمكن إجمالها كالآتي:
ـ في المرتبة الأولى، يتّصف العرق الأبيض حسب كانط بجميع المواهب والإمكانيّات.
ـ في المرتبة الثانية: يتّصفالهنود بدرجةٍ عاليةٍ من الطمأنينة والقدرة على التفلسف، وهم مفعمون بمشاعر الحبّ والكراهية، ولديهم قابليّةٌ عاليةٌ للتعلم. وأمّا طريقة تفكير الهنديّ والصينيّ، فإنّها تتّسم بحسب كانط بالجمود على الموروث، وتفتقد القدرة على التجديد والتطوير.
ـ في المرتبة الثالثة: يتّصف الزنوج بالحيويّة والقوّة والشغف للحياة والتفاخر، إلّا أّنهم عاجزون عن التعلّم رغم أنّهم يحوزون على قابليّة التدريب والتلقين.
ـ في المرتبة الرابعة والأخيرة: يأتي سكّان أميركا الأصليّون (الهنود الحمر)، وهؤلاء غير قادرين على التعلّم ولا يتّسمون بالشغف، وهم ضعفاء حتى في البيان والكلام.
هذا هو رأي كانط الذي يُعتبر بداهةً من بين أشهر أربعة أو خمسة فلاسفة في تاريخ الغرب الحديث. سوى أنّ الأمر لم يقتصر عليه أو على من وافقوه على مدرسته من بعد، بل ثمّة من يؤيّد هذا الرأي من المعاصرين الذين يجهرون بعدم وجود فلسفةٍ غير غربيّةٍ، وأنّ الموروث الفكريّ لتلك الشعوب إنّما هو محض صدفةٍ تاريخيّة.
لقد شكّلت الذهنيّة الإقصائيّة إحدى أبرز الظواهر التي أنتجها جوهر الغرب الحديث، فلو اتخذنا مسارًا تفكيريًّا مفارقًا للتقليد في النظر إلى الحداثة بأحقابها المختلفة، ربما لَظَهر لنا بيسر ما يمكن أن ننعته بالذهنيّة الإقصائيّة. فلقد شكّلت هذه الذهنيّة علامات فارقة لمجمل أزمنة الحداثة وما بعدها، بل ثمّة من يذهب أبعد من ذلك ليرى أنّ ذهنيّة الإقصاء لم تكن حالة عارضة، وإنّما تجد مرجعيّتها في القاع العميق لفلسفة التنوير. ولو كان من استدلالٍ أوّليٍّ على هذا المدّعى لتيسّر لنا ذلك في ما درج عليه عدد من الروّاد المؤسِّسين. فقد انبرى جمعٌ من فلاسفة وعلماء الطبيعة في القرن الثامن عشر من كارل فون لينيه (kARL VON LINNE) إلى هيغل (HEGEL) ، وإلى من تلاهما من فلاسفة ومفكِّري الحداثة الفائضة، ليضعوا تصنيفًا هَرَميًّا للجماعات البشريّة، على مبدأ الأرقى والأدنى وجدليّة السيّد والعبد، الشيء الذي كان له عظيم الأثر في تحويل نظريّة النشوء والارتقاء الداروينيّة -على سبيل المثال- إلى فلسفةٍ سياسيّةٍ عنصريّةٍ في الأزمنة المعاصرة. أمّا أحد أكثر التصنيفات حدّةً للمجتمعات غير الغربيّة، فهي تلك التي تزامنت مع نموّ الإمبرياليّات العابرة للحدود وتمدُّدها نحو الشرق، وتحديدًا باتجاه الجغرافيّات العربيّة والإسلاميّة. من تمظهرات هذا التمدّد على وجه الخصوص، ملحمة الاستشراق التي سرت كترجمةٍ صارخةٍ لغيريّةٍ إنكاريّة لم تشأ أن ترى إلى كلّ آخرَ حضاريٍّ إلّا بوصفه كائنًا مشوبًا بالنقص؛ لهذا ليس غريبًا أن تتحوّل هذه الغيريّة الإنكاريّة إلى عقدة «نفسٍ حضاريّةٍ» صار شفاؤها أدنى إلى مستحيل. وما جعل الحال على هذه الدرجة من الاستعصاء أنّ العقل الذي أنتج معارف الغرب ومفاهيمه، كان يعمل في أكثر وقته على خطٍّ موازٍ مع السلطة الكولونياليّة، ليعيدا معًا إنتاج أيديولوجيا كونيّة تنفي الآخر وتستعلي عليه.
فلقد تكوَّنت رؤية الغرب للغير على النظر إلى كلّ تنوّعٍ حضاريٍّ باعتباره اختلافًا جوهريًّا مع ذاته الحضاريّة، ولم تكن التجربة الاستعماريّة المديدة في الجغرافيا العربيّة والإسلاميّة سوى حاصل رؤيةٍ فلسفيّةٍ تمجّد ذاتها وتحتقر ذات الغير. من أجل ذلك سنلاحظ كيف أنشأ فلاسفة الحداثة وعلماؤها أساسًا علميًّا معرفيًّا لشرعنة الهيمنة على الغير، بذريعة تمدينه وتحديثه.
من هذا المحلّ بالذات ستساهم غيريّة الحداثة في توطيد الأساس المعرفيّ والثقافيّ لفلسفة الإنكار التي توغّلت عميقًا في الحقلين الأنطولوجيّ والتاريخيّ لثقافة الحداثة، الأمر الذي أفضى إلى تحويل الغرب الحديث إلى حضارةٍ إمبرياليّةٍ شديدة الوطأة على العالم كلّه. فلقد عُدَّتِ الحداثة الغربيّة في المخطط الأساسيّ للتاريخ وفي الإيديولوجيّات الحديثة، وحتى في معظم فلسفاتِ التاريخ بوصفها الحضارة الأخيرة والمطلقة، أي تلك التي يجب أن تعمّ العالم كلّه، وأنْ يدخلَ فيها البشر جميعًا. في فلسفة القرن التاسع عشر يوجد من الشواهد ما يعرب عن الكثير من الشك بحقّانيّة الحداثة ومشروعيّتها الحضاريّة. لكنّ هذه الشواهد ظلّت غير مرئيّةٍ بسبب من حجبها أو احتجابها في أقلّ تقديرٍ؛ ولذلك فهي لم تترك أثرًا في عجلة التاريخ الأوروبيّ، فلقد بدا من صريح الصورة أنّ التساؤلات النقديّة التي أُنجزت في النصف الأوّل من القرن العشرين، وعلى الرغم من أنّها شكّكت في مطلقيّة الحضارة الغربيّة وديمومتها، إلّا أنّها خلَت على الإجمال من أيّ إشارةٍ إلى الحضارات الأخرى المنافسة للحضارة الغربيّة. حتى إنّ توينبي وشبنغلر حين أعلنا عن اقتراب أجلِ التاريخ الغربيّ وموته، لم يتكلّما عن حضارةٍ أو حضاراتٍ في مواجهة الحداثة الغربيّة، ولم يكن بإمكانهما بحث موضوع الموجود الحضاريّ الآخر. ففي نظرهما لا وجود إلّا لحضارةٍ واحدةٍ حيّةٍ ناشطةٍ هي حضارة الغرب، وأمّا الحضارات الأخرى فهي ميتةٌ وخامدةٌ وساكنةٌ …
____________
*مفكر، وأستاذ في الفلسفة – لبنان.