يعتبر عالم الاجتماع والمفكر الراديكالي فرانز فانون Franz Fanon* أحد أهم أعلام المدرسة النقدية في علم الاجتماع المعاصر، لأهمية إسهاماته الفكرية المتعددة والمتشابكة مع قضايا العصر، وبالأخص فيما يتعلق بالقضايا التي تُعنى ببلدان العالم الثالث الذي قيل عنه أنه ” اكتشف ذاته وخاطب نفسه بصوت فرانز فانون “، الذي نذر نفسه وفكره لدراسة مظاهر وممارسات الاستعمار والعنصرية، وما يرتب عليها من نتائج وآثار سلبية على الشعوب المستعمَرة، بالإضافة إلى اهتمامه بدراسة قضايا التحرر الوطني، التي شكلت بؤرة اهتمامه الفكري والثوري.
فقد أثارت طبيعة أفكاره الثورية المناهضة لكل أشكال الاستعمار جدلاً واسعاً بين أوساط المثقفين من كافة الاتجاهات بين معارضين ومؤديين، إلا أن الجميع يتفقون على أن اسم فانون وفكره اقترن بكفاح الشعوب المضطهدة وبصراع العالم الثالث ضد الاستغلال والاستعمار للمطالبة بالحرية عن طريق العنف الذي اعتبره فانون بأنه ” ليس ظاهرة فردية إنما هو عنف جماعي لشعب محتل يريد أن يكسر قيود الاستعمار “([1]).
عبّر فانون عن موقفه من قوى التحول الاجتماعي في دول العالم الثالث من خلال تمجيده لقيم الريف ودور الفلاحين كقوى ثورية في قيادة عملية التحول الاجتماعي، لأنه اعتبر الفلاحين الطبقة الثورية الوحيدة القادرة على القيام بالثورة ومواصلتها دوناً عن الطبقات الأخرى بهدف القضاء على كافة أشكال الاستعمار والعنصرية وتحقيق الاستقلال الوطني، ” لأنه يؤمن بأنها الطبقة الوحيدة التي لن تخسر شيئاً بالثورة بل تكسب كل شيء “([2]).
أما عن طبيعة القوى الاجتماعية التي ستقود عملية التحول الاجتماعي عند فانون. يرى فانون بأن هناك قوى اجتماعية في دول العالم الثالث يمكن وصفها بأنها قوى ثورية، تساهم بشكل كبير في دفع عملية التحول الاجتماعي، من أجل تحقيق التحرر الوطني بمشاركتها الفعالة في مقاومة الاستعمار، بحيث تدرك تلك القوى أن السبيل الوحيد – الذي لا بديل له- للمقاومة هو الكفاح المسلح والرد على العنف الاستعماري بعنف مضاد، وأن هناك بالمقابل قوى اجتماعية تقف موقف المتشكك من جدوى المقاومة المسلحة. ويعتقد فانون في هذا السياق أن العامل الحاسم في تحديد خيارات كل قوة هو تكوينها الثقافي وأين تكمن مصالحها الشخصية ضمن البناء الاجتماعي. لذا يرى فانون أن القوى الاجتماعية التي تكون بعيدة عن التأثير الثقافي الاستعماري، ومصالحها الشخصية لا تلتقي مع المصالح الاستعمارية، فإن هذه القوى أقرب ما تكون إلى فكرة المقاومة المسلحة وأكثر جذرية في العمل من أجل التحرر والاستقلال، والعكس هو صحيح([3]).
بذلك تنحصر رؤية فانون لتلك القوى الاجتماعية، التي سيوكل إليها مهمة القيام بعملية التحول الاجتماعي في دول العالم الثالث بطبقة الفلاحين، التي تشكل برأيه القوى الرئيسية للقيام بهذه المهمة، التي لم يكن أمامها في إفريقيا ” إلا الثورة لمواجهة السياسات الاستعمارية العنصرية ولتحرير الأرض وتحرير الإنسان في العالم الثالث “([4])، ومبرر فانون في ذلك أنه يرى فلاحي تلك الدول ( العالم الثالث ) برؤية مغايرة تماماً لنظرائهم الأوروبيين في دول العالم المتقدم، التي بلغت درجة كبيرة من التصنيع، ففي بلدان العالم الصناعي تعتبر طبقة الفلاحين أقل الطبقات وعياً وانضباطاً، كما أنها توصف بمجموعة من الصفات التي تميّز السلوك الرجعي فتسود بينها قيم الفردية والفوضوية وهي غير منظمة أو على أغلب أقل تنظيماً تعيش في بيئة صدعها التقدم الصناعي، وتتراوح مشاعرها بين الغضب الشديد واليأس العميق، تعيش في عالم ساكن تفقد فيه الروح الثورية وتنتفي عندها المبادرة والرغبة في التغيير. هذه هي الصفات التي وجدها فانون لصيقة بفلاحي البلدان الصناعية المتقدمة، التي تضعهم في مقدمة القوى المعادية للتغيير الثوري والمعوقة له.
أما الفلاحون في البلدان المستعمَرة فإنهم يكونون على العكس من ذلك تماماً لأنهم يمثلون العنصر الانضباطي في المجتمع الذي يحمي التقاليد الاجتماعية والثقافية ويصونها، وعلى الرغم من أنهم يعيشون في بيئة اجتماعية وإن كانت تقليدية إلا أن بُناها ظلت سليمة لم تتصدع كما في البلدان المتقدمة صناعياً([5])، كما يرى فانون أن بنيانهم الاجتماعي يقوم على التواصل بين أفراد الجماعة، وعلى ارتباطهم ببعض ارتباطاً قوياً([6])، أي أن المسؤولية الاجتماعية الأولى للفرد في المجتمعات الريفية، أن يرضخ الفرد لمصالح الجماعة وأن يقدمها على أية مصالح ذاتية، فالفلاح هنا ليس فردياً إنه يتصف بالعفوية الانضباطية والغيرية، إنه الفرد الذائب في الجماعة([7]), بهذا يرى فانون أن طبقة الفلاحين الفقيرة في دول العالم الثالث، هي التي تشكل الطبقة الثورية الأصلية التي تعتبر ضحية عملية الإفقار التام. فهذه الطبقة تتألف، كما يرى فانون من رجال ونساء ذوي أحاسيس ومفاهيم اجتماعية ثورية. وهم فئة متلاحمة تعيش حياة راكدة ولكنها تتمسك كل التمسك بقيمها الخلقية وتكريس نفسها للحفاظ على سلامة الشعب([8]).
بهذه الصفات التي يتسم بها فلاحي دول العالم الثالث وأمام ظروف التحدي التي خلقها الاستعمار، ” تطورت إرهاصات الثورة لدى الفلاحين. فمنذ الخمسينيات أصبحت المناطق المخصصة للإفريقيين، مراكز حقيقية للمقاومة. فقد ظهرت بوادر تحول فعلي لدى السكان الإفريقيين، إذ انتصب الفلاحون في وجه الاضطهاد والتمييز العنصري وانضم عمل الفلاحين الثوري إلى جماهير المدن، بل تجاوزه في بعض الأحيان “([9]).
لأن المطلب الأساسي للفلاح برأي فانون هو الأرض التي تشكل بالنسبة له ” مركز الثقل في النظام الاقتصادي والاجتماعي، حيث تعتبر الشعوب الوطنية الأرض هبة طبيعية لا تقل في أهميتها عن الماء والهواء، كعناصر ضرورية للحياة “([10])، والتي بها يمتلك وسائل العيش والإحساس بالكرامة، ولهذا يستخلص فانون أن طبقة الفلاحين هي طبقة ثورية بحكم مطالبها، فالمطالبة بالأرض تدفع إلى تحطيم النظام الاستعماري([11]). وهذه القيمة الرفيعة التي أعطاها فانون للأرض لأنها تمثل بنظره القيمة الملموسة والثابتة الوحيدة التي تدل على هذه الأمة، فهي رمز الخبز والكرامة واستمرار النسل في عالم كولونيالي مزق فيه المستعمِر البلد لشطرين وحطّم شخصيته القومية وشوه جميع قيمه الروحية والاجتماعية المتوارثة. لذلك فالفلاح بالعالم الثالث هو فلاح ثوري يمثل العنصر الباقي من الأمة الذي يأبى أي حوار مع المستعمِر، عكس سكان المدينة التي أنشأها الاستعمار لتؤمن نوعاً من التعايش معه وتأمين وجوده بوجودهم.
خلاصة القول، إن ثورة الفلاح بشكل عام والإفريقي بشكل خاص ليست ثورة منقولة من الثورات الأخرى التي شهدها العالم، بل هي ذات أوضاع خاصة، وتطور خاص، وطريق خاص. وليس معنى ذلك أنها معزولة عن أحداث العالم، بل هي تعبير صادق عن حياة الناس في إفريقيا، وأهدافهم، وأوضاعهم، وفي الوقت نفسه هي تأخذ وتعطي، تأخذ من التراث الفكري والحضاري للعالم كله، وتعطي تجربتها وأصالتها وإبداعها لغيرها من الثورات المعاصرة.
بذلك تصبح صورة الفلاح الإفريقي الثائر والمناضل، المتسلح بالمدفع، مدافعاً عن شعبه وأرضه ودياره، متزوداً بالوعي الكامل لمتطلبات الثورة، مدركاً أبعاد المعركة التي يخوضها ضد الاستعمار الدخيل، حيث إن هذه الصورة الحقيقة التي لا زيف فيها. أثبت بطلان الآراء السطحية التي تردد عدم ثورية الفلاح وتزعم أن الفلاح غير قادر على العطاء الثوري. وكما هو معروف أن الفلاحين قد شاركوا قبل ذلك في عدد من الثورات السياسية والاجتماعية الكبرى في القرن العشرين. إلا أنها في الجانب الآخر ليست صورة منعزلة عن صورة العامل الإفريقي الثائر، وصورة المثقف الإفريقي الثائر، وصورة الطبقات الكادحة في إفريقيا. باعتبار هؤلاء جمعياً قوى الشعب، التي تقود الثورة وتجني ثمارها.
* ولد ” فرانز فانون ” في 23 تموز/ يوليو1925 بجزيرة المارتينيك في جزر الأنتيل الصغرى، الواقعة في بحر الكاريبي بأمريكا الوسطى، وهي جزر تابعة للسيادة الفرنسية. نشأ فانون في أسرة زنجية مكونة من ثمانية أفراد، وكان الخامس بين إخوته. سكن فرانز في مدينة ” فور دي فرانس ” بالمارتينيك، وهي نفس المدينة التي ولد وعاش فيها الشاعر والمفكر العالمي الكبير ” إيميه سيزير ” مؤسس ” حركة الزنوجة العالمية “. درس فرانز في مدرسة سيزير، الذي علمه كيف يفتخر بزنوجته، وكيف يطالب بحقوقه ويدافع عنها كفرد، من خلال الدفاع عن حقوق الجماعة، أي حقوق الزنوج في المارتينيك، وعلى رأسها مطلب المساواة مع البيض الفرنسيين، الذين احتكروا كل شيء وسيطروا على مختلف مناحي الحياة في الجزيرة الصغيرة لصالحهم. استطاع خمسة أبناء من أسرة فانون المثقفة، الالتحاق بالجامعة ومواصلة الدراسات العليا في الجامعات الفرنسية، وواصل فرانز فانون تعليمه في الجامعة كإخوته، واستطاع أن يحقق حلمه بأن يصبح طبيباً نفسياً ممارساً للمهنة، كما درس الفلسفة وبرع في تحليل العديد من الظواهر الإنسانية التي قابلته، باعتباره طبيباً مختصاً في تفسير السلوك النفسي الإنساني وعلاجه من جهة، وباعتباره أيضاً مناضلاً تحررياً ضد قوى الاستعمار القديم من جهة أخرى.
[1] – أزواج عمر: قراءة في ذاكرة حركات التحرر الوطني ” العنف ظاهرة استعمارية “… العنف والعنف المضاد، جريد العرب العالمية، العدد: 8056، السنة الحادية والثلاثون، تاريخ 13/10/2008، ص(9).
[2] – Frantz Fanon: The Wretched of The Earth, Translated by: Constance Farrington, Preface by: Jean- Paul Sartre, Grove Press, New York, without date, p.(61).
[3] – طه عبد الجواد مجمد طنطاوي: مقاومة الاستعمار في فكر فرانز فانون، رسالة ماجستير، معهد البحوث والدراسات الإفريقية، قسم السياسة والاقتصاد، 2009، ص(74).
[4] – أحمد يوسف القرعي: ثورة الفلاحين في إفريقيا ضد بقايا الاستعمار، سلسلة اخترنا للفلاح، القاهرة، العدد: 62، السنة السادسة، أغسطس، 1971، ص(7).
[5] – فرانز فانون: معذبو الأرض، ترجمة: منور، تقديم: ك. شولي، وزارة الثقافة، الجزائر، 2007، ص(77).
[6] – المرجع السبق نفسه، ص(77-78).
[7] – المرجع السبق نفسه، ص(78).
[8] – دافيد كوت: فرانز فانون، ترجمة: عدنان كيالي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 1971، ص(122-123).
[9] – أحمد يوسف القرعي: ثورة الفلاحين في إفريقيا ضد بقايا الاستعمار، مرجع سبق ذكره، ص(20-21).
[10] – المرجع السابق نفسه، ص(5).
[11] -Jock McCulloch: Black soul White Artifact Fanon’s Clinical psychology and Social Theory, Cambridge, Cambridge university Press, 1983, p.(148).
______________
د. حسـام الـدين فـيـاض الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة/ قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- جامعة حلب سابقاً.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.