التنويريسلايدرفكر وفلسفة

في البدء .. كان الإسلام

لا يزال الماضي يحكم عالمنا العربي والإسلامي، ويتحكَّم بوعيٍ منَّا أو بدون وعي في صناعة تصوّراتنا وأحلامنا، ويضع حدودًا لآفاق مستقبلنا .. وليس من غرابة في ارتباط مجتمع ما بماضيه، لكن المشكلة تكمن في كيفيَّة حضور الماضي في الحاضر. هل نستدعي من الماضي ما يساعدنا في تطوير حياتنا والارتقاء بها؟ هل يساعدنا الماضي على التميُّز وتقديم الإضافة النوعيَّة، في عالم يعجُّ بالتعدُّد والاختلاف؟ أم أنَّ هذا الماضي حاضر فينا بصورة مرضيَّة، تثقل كاهلنا وتثبطنا عن السير والتقدُّم.

تحضرني هاته الإشكاليَّة بصدد الحديث عن موضوع الخلاف السني_الشيعي. ذلك الخلاف الذي ما انفك يجدِّد حضوره في مشاهد حياتنا اليوميَّة. من خلال ما تسجّله وقائع الأحداث الطائفيَّة الدمويَّة في بلدان عديدة، وتنقله وكالات الأنباء والقنوات الفضائيَّة المختلفة، ليتجرَّع المسلم طعما آخر من مزارات النكوص الحضاري.

 وفي اعتقادي أنَّ مـا يـقـوم بـه الـتـنـويريـّون والإصلاحيّون لرأب هذا الصدع، لن ينجح ما دامت أصول هذا النزاع ضاربة في أعماق التاريخ المشترك للطائفتين معا، ويظهر أثر هذه الأصول وما ترتَّب عنها من “تشكيلات اعتقاديَّة” حادثة عن الإسلام عندما نتتبَّع حركة، وجهود التقريب بين المذهبين التي انتهت اليوم إلى نفقٍ شبه مسدود.

 إنَّ أوَّل ما يجب الانتباه له لتصحيح تصوّرنا عن هذه المسألة هو الالتفات إلى أهميَّة الدرس التاريخي الذي يقدّمه القرآن، حتى نتحرَّر من ثقل ما صنع في تاريخنا، فمن يقرأ أصول النزاع بين الطرفين في إطارها التاريخي، سوف يتأكَّد من حقيقة مهمَّة في هذا الصدد، وهي أنَّ المذاهب حادثة بعد الإسلام، ومهما حاول كـل فـريـق لإيجاد وصفات تأويليَّة تجعله الأصح والأعمق ارتباطًا بجذور الإسلام، فإنَّ القراءة الموضوعيَّة المتعقّلة، تقول ببقاء الأصل على ما كان عليه، دون التأثّر بما استحدث وابتدع من بعده وحيث أن الخلاف حادث فلا علاقة له بجوهر الدين وصحَّة الاعتقاد، وتبادل تهم التكفير على هذا الأساس، وقد آن الأوان أن نقول بأنّ الخلاف السنّي – الشيعي هو خلاف تاريخي لأسباب سياسيَّة، ولا علاقة له بالدين، إذ لم يتعبدنا الله تعالى ما جاء بعد الرسالة وتمام التبليغ، ومن ثم يكون إدخال مثل هذا الخلاف في صحَّة الاعتقاد الديني من عدمه أمرا غير ذي بال.

فضلا عن ذلك يعلّمنا القرآن كيف نتعامل مع مثل هاته الخلافات التاريخيَّة، حين يحدّثنا بالمثل عن أقوام سابقة، وما كان منها ، وما حل بها. فيكون الدرس في قوله تعالى { تِلْكَ أُمَّة قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ }.

فالأمر إذن متعلِّق بما يجب أن تقوم به مما تعمله وما نقدّمه، وما تضيفة لتنمية حياتنا وتطويرها، فالله تعالى سيسألنا عمَّا كسبناه لا ما كسبه غيرنا، ولكن للأسف، لا يقرأ المسلمون آيات القرآن إلا عبر الوسائط المتشكِّلة ثقافيًّا في التاريخ وأهمّها الأحاديث المنسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم التي ترسّبت وترسَّخت في الأذهان حتى صارت تملك سلطة دينيَّة أعلى من القرآن نفسه، حيث لا نقرأ آياته الا في ضوئها، ولعلَّ هذا هو أُسّ المشكلة الطائفيَّة اليوم، فالمسلمون جميعا لهم قرآن واحد. ولكن كل طائفة تقرأه بأحاديثها، التي هي في حقيقة مدلولها اللغوي، مجرّد “أحاديث”. لو قُرئت في التاريخ لظهر المصنوعع منها واضحًا جليًّا، ولسقط عن معظمها زيف القداسة الوهمي، ولمّا صحّ منها سوى ما وافق العقل، الذي هو الأساس في قبول القرآن نفسه والإيمان به، فكم من آياته التي استفزّتنا ونبّهتنا إلى ضرورة التفكّر وإعمال العقل، والتخلّي عن عقليّة “ما وجدنا عليه آباءنا”. ليتنا نتعلّم من القرآن، ليس فقط مجرّد المعرفة، بل منهج المعرفة نفسه.
_________
*
*الراصد التنويري/ العدد السابع/ شتاء 2010.


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة