لنفكّر في التوجيه المدرسي!
يتعهّد المجتمع منظومته التربوية بالتجديد والتطوير والتعديل مع كل مرحلة يدخلها ومع كل المستجدات التي تطرأ على أهدافه واستراتيجياته الخاصة أو على المنجزات العلمية والتكنولوجية وكذلك المقاربات البيداغوجية المعتمدة للتأقلم مع هذه المنجزات والإستفادة منها. وتلك سمة المنظومة التربوية الحية التي تأبى الركود وترفض التخلف عمّا يعتمل خارجها من تجديدات لا تفتر سواء على المستوى المحلي أو الكوني ولذلك تعمد المجتمعات إلى الإصلاحات التربوية من فترة زمنية لأخرى.
والتوجيه المدرسي بما هو منظومة تربوية فرعية لا يشذّ عن هذا الاتجاه العام ولا يمكنه أن يتغاضى عمّا يطرأ من تعديلات في المنظومة التربوية الأم بجميع مستوياتها المدرسية وما قبل المدرسية وما بعدها أيضا أي المستوى الجامعي والمستوى المهني المرتبط مباشرة بسوق الشغل. وهو ما عاشته منظومة التوجيه فعلا في ماضيها البعيد لما كانت الأولوية معطاة أساسا للإستجابة لحاجيات البلاد المتراكمة من الإطارات المتوسطة، فكان التوجيه المدرسي أقرب إلى توزيع آلي للتلاميذ على مختلف الإختصاصات باعتماد المعدلات الدراسية لا غير، وفي مرحلة لاحقة مع الإصلاح التربوي الثاني الذي جاء بالمدرسة الأساسية وأعاد هيكلة التعليم بدأ الربط في توجيه التلاميذ بين النتائج الدراسية والرغبة الشخصية في إطار نسب مائوية موزعة على مختلف الإختصاصات حسب ما تتطلبه المخططات التنموية العامة وما تسمح به طاقة الإستيعاب في كل إختصاص في المستويين الثانوي والجامعي. أما المرحلة الموالية التي عرفها التوجيه المدرسي فقد اتسمت خاصة بظهور مقاربة التربية على التوجيه بما كرسته من عمل على ترسيخ آليات التربية على الإختيار والتربية على المشروع وبما أفردته من مساحة للتلميذ لتكريس حريته في رسم مستقبله بناء على تمثل واع وموضوعي لمؤهلاته وقدراته من جهة ولواقع المهن وتطورات سوق الشغل من جهة ثانية وفي أيامنا هذه يعيش واقع التعلمات زخما كبيرا من التجديد والتعديل والتطوير بفعل المستجدات العلمية والإقتصادية المتسارعة لا يمكن للتوجيه المدرسي أن يبقى بمعزل عنها وأن لا يهتم بها لأن تأثيراتها تشمله أيضا وتمس في العمق مساراته وآلياته، ومن هنالك جاءت دعوتنا إلى التفكير مجددا في التوجيه المدرسي. فماهي مبررات هذه الدعوة ؟ وكيف ترتسم آفاق التوجيه المدرسي المستقبلية ؟ وما هي استحقاقات هذه الآفاق ؟
1 – لماذا الدعوة للتفكير في التوجيه المدرسي ؟
يشهد المجال التربوي منذ عقود تغييرات عدّة تمتاز جميعا بالعمق وبمراجعة شاملة لعديد الثوابت التربوية والبيداغوجية التي بنيت عليها العملية التربوية التقليدية، خاصة منها الأدوار المعهودة لكل من المعلم والمتعلم.
أ – وفي مقدمة هذه التغييرات اعتماد البيداغوجيا الفارقية التي غيرت الموقف من التمايزات بين التلاميذ ودعت إلى التعامل معهم كل على حده حسب نسق الإستيعاب والتقدم الذي تخوله له مؤهلاته الذهنية وإمكانياته البدنية. كما دعمت أيضا المقاربة بالكفايات باعتبار “الكفاية هي القدرة على الإستخدام الناجح لمجموعة مندمجة من المعارف ومن المهارات والسلوكيات المستفادة من العملية التربوية لمواجهة وضعية جديدة أو غير مألوفة وللتكيف معها ” (1). وماذا لو كانت هذه الوضعية هي التوجيه المدرسي وما يبسطه أمام التلميذ من صعوبات يجب التعامل معها وتجاوزها بنجاح، فعلى أية مهارات وأية معارف سيعوّل التلميذ حينها ؟ ألا يبني العمل التوجيهي الذي ينجزه المستشار كفاية أيضا تمكن المتعلم من الوعي بمؤهلاته الشخصية ومن تنمية وتطوير مهاراته قصد بناء مشروعه المستقبلي ؟ أي له أهداف اندماجية مدققة وحاسمة.
في مجال الكفايات يقع التمييز عادة بين الكفايات الأفقية وكفايات المجال. الأولى تعني القدرة على الإستخدام الناجح لمجموعة المهارات المستفادة بشكل مشترك بين كل التعلمات والنشاطات والثانية تعني توظيف المكتسبات الخاصة بأحد مجالات التعلم فقط لإنجاح هذه المواجهة. ففيما يشترك التوجيه المدرسي من كفايات أفقية مع بقية المجالات ؟ وما هي كفايات المجال الخاصة به التي يجب بناؤها وتثبيتها خلال حصص التوجيه المدرسي ؟
ب – واتساقا مع المقاربة بالكفايات راجت أيضا بيداغوجيا العمل بالمشروع وما يسودها من فرص للتعلم عبر الممارسة توظف فيها جميع المهارات والمعارف المكتسبة من أجل إنجاز المشروع الشخصي ورفع كل العوائق التي تحول دونه أو تعطّل إنجازه. فالمشروع يتدرّج من مستوى لآخر، أي من الفكرة وتشخيصها، إلى تخطيطها وبرمجتها، فإعداد آلياتها ومستلزماتها الضرورية ثم المرور إلى إنجازها وتجسيمها باعتماد تقييمات مرحلية ونهائية دقيقة. ومع هذا التدرج تنمو المعارف وتتدعم الكفايات إذ ليس أفضل من الممارسة الفعلية لتوطيد المكتسبات وإثرائها وتنميتها، وفي كل خطوة تقوى شخصية التلميذ الباحث وتزداد ثقته بنفسه وبمكتسباته كما تتدقق قدراته المنهجية والعملية وتصبح مجدية أكثر. أما معلمه فسيكون المرافق الميسر الذي يوجه خطواته ويدقق أسلوبه ويبعث فيه الحماس باستمرار ليتجدد إصراره على النجاح والتميّز. فماذا لما يكون المشروع هو الرسم الدراسي المستقبلي للتلميذ، كيف سيتدرج فيه صاحبه ووفق أية مراحل ؟ وكيف ستكون مرافقة المستشار له في هذا المسار ؟
ج – أمّا السمة الموالية في تعليمنا الحديث فتتمثل في التعليم عن بعد أي تلقّي الدروس ومتابعة المقررات دون الحاجة إلى التنقل إلى المدرسة وملازمة القسم بما عرفت عنه من طقوس تقليدية. ولإنجاز ذلك يقع توظيف جميع الوسائط الألكترونية المعروفة وتستعمل التكنولوجيات الحديثة مع ملازمة المنزل دون عناء التنقل وتجشم مخاطر الطريق. وفي ذلك تلعب الشبكة العنكبوتية ومواقع التواصل الاجتماعي والبرمجيات الرقمية دور الوسيط الضامن لهذا الضرب من التعليم. وقد وفرت جائحة كورونا فرصة سانحة لمزيد تدعيم هذا التمشي والإقناع به واختبار آلياته فوفر حلولا عملية لاستحالة تنقل التلاميذ إلى المؤسسات التربوية خوفا من العدوى ومزيد تفشي الجائحة. ” بل أصبح التعليم عن بعد ضرورة لا مفرّ منها، وعمّت الدعوة إلى تأصيله لدى النشء بمجرد دخولهم المدرسة بعد أن تأكدت قدرته على استيعاب متغيرات العصر وتوفير الحلول لها مثل الجوائح والإنفجار السكاني والمعرفي والتكنولوجي ” (2). وتدعمت بذلك المناداة التي ظهرت منذ سنوات إلى اعتماد خيار التعلم بدلا من التدريس والتركيز على اكساب الطالب القدرة على التعلم وأساليبه. وهو ما تدعمت معه بيداغوجيا التعليم الذاتي أي الذي يعتمد فيه المتعلم على ذاته عبر مزاولة البحث والإجتهاد ممّا يكسبه ثقة بقدراته في عملية التعلم هذه ويعزّز لديه استقلال شخصيته والإستعداد لتحمل المسؤولية.
وهذا التعلم الذاتي يخفف من مسؤولية المؤسسة الرسمية للتعليم، أي المدرسة، ويوزع العبئ على بقية البيآت والمؤسسات أيضا. فكيف سيتنزّل التوجيه المدرسي في هذا الخضم من الوقائع والمقاربات ؟ بالتأكيد لن يكون تقليديا كما عهدناه.
د – أما المتغير الموالي الذي بدأ يجتاح العالم من سنوات ويعمق الأثر فيه بدفع من العولمة فيخص سوق الشغل وما يطرأ عليها من تحولات متلاحقة رسمت ملامح مغايرة كليا للمهن والأعمال. وتوجّه ذلك التغيرات التكنولوجية الكبيرة التي تسودها الرقمنة في التصنيع والتسيير وتلعب فيها الريبوتات والآلات الذكية الدور الحاسم. وهذا الأمر جعل من اختيار مهنة ما حاليا خاضعا لتقييمات عميقة ولاستقراء دقيق لمستقبليات سوق الشغل. فالمهن تولد وتموت ويتجدد بعضها ويندثر غيره بشكل متسارع يجعل من التنبؤ بهذه المستقبليات مرتبطا بوعي كامل بما يتم من متغيرات تكنولوجية وعلمية. كما أن الكم المعرفي في كل مهنة أصبح كبيرا جدا، يعتمد الذكاء ويتجاوز الجهد العضلي، ويستدعي التعديل والتطوير والتعهد باستمرار. فظهر العمل عن بعد والمؤسسات والمكاتب الإفتراضية، وكبرت الحاجة إلى تخصصات الإعلامية والتكنولوجيات الرقمية الحديثة، إضافة إلى تخصصات المالية والتجارة المتعلقة بالتسويق والدعاية والإشهار والتسيير الإداري الحديث المبني على الإستشراف والمخاطرة. أما التخصصات الإستشارية والقانونية فلها مكانتها الهامة أيضا في خضم هذه التجديدات المهنية التي تعيشها أسواق العمل. ويبقى على التوجيه المدرسي أن ينقل كل ذلك إلى التلاميذ وأوليائهم وأن يعدل خطابه لهم ويجدده باستمرار مع كل طارئ يمسّ أي من هذه الميادين كلها.
وهنا توجد مسألة هامة لابد من أخذها بعين الإعتبار، فالمتغيرات التي تطرأ على سوق الشغل بتجدد التكنولوجيات والمعارف وظهور المؤسسات واندثارها بسرعة كبيرة أحيانا، تلزم الجميع بالتهيؤ لتغيير العمل مع أي طارئ وهو ما يتطلب منه اتقان عديد التخصصات وليس واحدا فقط. بل إن الخبراء المطلعين على ميكانيزمات سوق العمل وعلى مستقبلياته ينصحون بأن يكون كل إنسان متمكنا من ثلاثة اختصاصات على الأقل وأن يكون قادرا على التنقل بينها والتأقلم معها بسرعة عند كل طارئ. وهنا تظهر قيمة المهارات البديلة أو الإضافية في تدعيم أو حتى الإستيعاض عن الإختصاص الأصلي الذي حصّل فيه الطالب المعارف وكسب الشهادة. فالكثيرون حاليا لا يشتغلون في المهن التي تخصصوا فيها في الجامعة بل إقتحموا مجالات أخرى معوّلين على مهارات إضافية اكتسبوها من أنشطة جانبية واجتهادات موازية لما بذلوه من تعامل مع المقررات الرسمية. فكيف سيقنع التوجيه المدرسي تلاميذه بأهمية المهارات التي يمكن أن يكتسبوها من المواد الإختيارية مثلا ومن الأنشطة الفنية والجمالية والرياضية داخل النوادي المدرسية المختلفة ؟ فيغيروا رؤيتهم لها ويصححوا مواقفهم منها ويستغلوا أوقات فراغهم بشكل مفيد فعلا لتكوينهم ولمستقبلهم. فالمهارات البديلة التي يطلبها سوق الشغل ولا تقدمها المقررات الرسمية أصبحت ضرورية اليوم ويجب أن تدخل في اعتبارات الجميع، تلاميذ وأولياء ومسؤولي التوجيه المدرسي. بل ” إن المهارات التي يتمّ التركيز عليها راهنا لن يكون لها وجود في المستقبل. العلم من جهته يبشّر بمنصات تزيل الفوارق المعرفية ويتيح تعليما معززا بالواقع الإفتراضي، وباتت المنصّات هي المدارس الحقيقية، لا المباني، ومن لا يتواكب مع مثل هذه المستجدات والتطورات سيفني ” (3)، ذلك ما يجب أن يعي به الجميع وأن يجتهد التوجيه المدرسي في إيجاد الصيغ الفعالة لنقله إلى الدّارسين.
2 – التوجيه المدرسي واستحقاقات الوضع الراهن :
أ – في معنى التوجيه المدرسي :
التوجيه المدرسي هو خدمة نقدمها للتلميذ لمساعدته على حسن اختيار مستقبله الدراسي وذلك بإقداره على التمثل الصحيح لمؤهلاته ولقدراته وللوعي بشروط النجاح في كل مسار دراسي وبآفاقه الجامعية والمهنية. وأصبحت للتوجيه المدرسي حاليا أدبيات ومناهج ومتخصصين وتقاليد علمية جعلت منه فرعا من فروع علم النفس يسمى بعلم النفس التوجيه. واعتمادا على ذلك ” يتحدد التوجيه بشكل عام على أنه خدمة معرفية ونفسية وتربوية تقدم للأفراد من طرف مختصين بهدف مساعدتهم على الوعي بقدراتهم وإمكانياتهم واستعداداتهم وميولهم في تفاعلاتها مع الواقع بمختلف عناصره بهدف رسم معالم المستقبل الشخصي والإستعداد لكل تطوراته الدراسية والمهنية والإجتماعية ” (4). وبهذا يبرز التوجيه المدرسي على أنه عملية هامة لجميع المسارات، الدراسي منها والمهني والإجتماعي، ولا يمكن الإستهانة به بأي وجه من الوجوه. ولهذا النشاط تمظهران : إداري ينجزه مجلس التوجيه بالمعهد تمهيديا ثم نهائيا في آخر السنة الدراسية، وتربوي يكون مع التلاميذ مباشرة بأقسامهم ينجزه معهم مستشار التوجيه المدرسي والأساتذة المكلفون بالتوجيه على مستوى كل معهد. ويتم هذا التوجيه التربوي عبر مجموعة من الأنشطة الموزعة على مدى السنة الدراسية والتي تطور عديد المهارات لدى التلميذ وتقدم له المساعدة اللازمة لحسم اختياره الدراسي ورسم مشروعه الشخصي. ويخضع محتوى هذا العمل لاجتهادات مقدمه ولتكوينه وكذلك للمناخات الموضوعية المهيئة له من فضاءات وحيز زمني وأدوات تيسر تقديمه. وفي كل الحالات يبقى التوجيه المدرسي ضروريا للتلميذ ولا يمكن الإستغناء عن حصصه أو التعهد به لغير المختصين فيه نظرا لمحتواه العلمي الدقيق والمهم جدا لتوعية التلميذ بعديد المسائل التي ترشّد اختياره وتضعه على طريق النجاح الحقيقي. هذا فضلا عن الديناميكية التي يدخلها التوجيه المدرسي على الحياة المدرسية وتصحيحه للكثر من خطاها وأنشطتها فتتقدم به درجات على طريق الجودة التربوية. ومسار التوجيه المدرسي موضوعي أيضا يتكيف مع جميع المستجدات التربوية والتكنولوجية والبيداغوجية التي ذكرنا ومنفتح على كل المبادرات والتطويرات العلمية.
ب – كيف ننجز التوجيه ؟
إن نموّ المنظومة التربوية المتعدد المرجعيات والمصادر وخضوعها للإصلاح والتطوير باستمرار يخضع المنظومات الفرعية أيضا لنفس الوقائع ويلزمها بنفس الخيارات، فالفرع يتغذّى من الأصل وينمو بنموّه، وهو ما يصدق بالتالي على منظومة التوجيه المدرسي ذاتها المتفرعة عن المنظومة التربوية والمتأثرة بها.
التوجيه المدرسي مشكلة فعلية تعترض التلاميذ يبنى عليها كل مساره اللاحق في بقية مشواره الثانوي ثم الجامعي الذي ينعكس على المستقبل المهني والإجتماعي كله للتلميذ وإذا تعثّر مسار التوجيه أو أخفق فإن ذلك ينفذ إلى بقية المشوار كله. لذلك لابد من امتلاك التلميذ لكفاية حل هذا المشكل وتجاوز كل عقباته بيسر وبنجاح تام من شأنه أن يدعم ثقته بنفسه ويكون له حافزا على النجاح والتميّز والمرور بسلام من بقية مضيقات المسار التي كثيرا ما يحتد فيها التنافس، وامتلاك هذه الكفاية لا يكون دون تنمية المهارات الملحقة بها لدى التلميذ مثل مهارة التخطيط للمستقبل، مهارة التقييم الذاتي للوعي بحقيقة المؤهلات الذهنية والإمكانيات الدراسية والقدرات الموضوعية. وتضاف إلى ذلك مهارات التوثيق والتعامل مع المراجع الضرورية، ثم تكون مهارة الإختيار والموازنة بين الفرص والمقترحات بشكل موضوعي يؤسس للنجاح. وتكون مهارة القرار بعد ذلك وحسم الموقف دون تردد وبكل ثقة بالنفس وبمسؤولية لا تترك للتعلات وللتواكل منفذا. وهو ما يعني نموّا كاملا في شخصية التلميذ يرتقي بها درجات في سلم الإكتمال.
وبذلك يكون التوجيه المدرسي تربية فعلا تستفيد من المقاربة بالكفايات المعمول بها في مباشرة المواد ومتناسقة مع بقية خيارات المنظومة التربوية، ومركزة على تنمية المهارات لدى التلميذ وليس على تلقينه مجموعة من الإجراءات الميكانيكية التي هي إلى العمل الإداري وملئ الإستمارات أقرب. إنه ” تطبيق المقاربة بالكفاءات للوصول إلى نظام الجودة الشاملة، وهذا بتمكين المتعلم من إدراك وتنمية كفاءاته قصد بناء وتحقيق مشروعه المستقبلي “(5). وحتى تكون هذه التربية على التوجيه مكتملة فلابد لها من اعتماد بيداغوجيا المشروع التي توظّف فيها جميع المهارات المذكورة ويستفيد فيها التلميذ من جميع آليات التعلّم عبر الممارسة. فيبني مساره المستقبلي بنفسه، يخطط له ويؤثثه بالمدعمات والبراهين، ويوظف فيه جميع مؤهلاته ويقتنع به ويقنع فيحوز ترضية نفسه ودعم الآخرين. يرافقه مستشار التوجيه في بناء هذا المشروع، يقدم له المشورة وييسر تقدمه ويراجع معه كل خطوة في تقييمات مرحلية مضبوطة حتى يكتمل المشروع وينضج. ويكون التلميذ حينها قد ألمّ بكل جوانب مشروعه وأدرك بشكل فعلي عناصر ومكونات شخصيته، وأدرك وضعية المهن في سوق الشغل وعلم بكل مستلزمات المسار حتى نهايته. التوجيه المدرسي موضوع تعليم وتعلم فعلا فيه استفادة وتوظيف للمكتسبات وفق المقاربة بالكفايات، ويقع التأليف فيه بين البيداغوجيا الفارقية التي تأخذ الخصوصيات الذاتية بعين الإعتبار وبيداغوجيا المشروع التي تميّز التمثل العام والمسار المكتمل على الجزئيات المحدودة والرؤى الظرفية، وبذلك يكون هذا التوجيه مسألة ديداكتيكية فعلا لها روافدها البيداغوجية والمنهجية والنفسية أيضا.
قد يضيق زمن تبليغ هذه المضامين كما هو الحال الآن بالمؤسسات التربوية أو ينقطع كليا أحيانا مثلما حدث فعلا أثناء جائحة كورونا التي فرضت غلق المؤسسات التربوية فانطفأت معها كل الأنشطة المباشرة الخاصة بالتوجيه المدرسي داخل الأقسام وخارجها واستحالت بالتالي اللقاءات بمستشاري التوجيه وبأساتذته لإنجاز المراحل المعهودة للتوجيه المدرسي كالمرحلة التحسيسية والمرحلة النهائية. هذا الواقع يلزم التوجيه المدرسي باستغلال كل الفرص التي تتاح له لتبليغ مضامينه، ومن هذه الفرص تبرز مباشرة الوسائل التكنولوجية والتقنيات الرقمية والإتصالية الحديثة في ما عرف بالتوجيه عن بعد. ولقد جُرّبت هذه الآلية في بعض المناسبات التي فرضتها الجائحة الأخيرة والوقائع المتصلة بها في التوجيه الجامعي. ووفر الهاتف والأنترنيت والمواقع الاجتماعية والتقنيات الإتصالية الأخرى حلاّ لتجاوز الإغلاق الذي دام زمنا طويلا وتمّت مرافقة التلاميذ المترشحين للتوجيه الجامعي، عن بعد بشكل استجاب لكل طلباتهم. وليس أمام التوجيه المدرسي إلا التفاعل إيجابيا مع هذه الآلية وتوظيفها في انجاز جميع خطواته من استكشاف ميول التلاميذ واهتماماتهم، إلى تقييم إمكانياتهم ومؤهلاتهم فبناء وصياغة مشاريعهم ثم الإختيار النهائي وحسم رغباتهم. وعبر هذه الآلية يمكن أيضا بث المداخلات وتصوير الوثائق ونقل المعارض وإنجاز مرافقة افتراضية لجميع المسترشدين تكون متحررة من العوائق الزمنية والمكانية. ولقد بدأ المستشارون في اعتماد هذه الآلية وتجربتها عبر بعث الصفحات والمواقع الخاصة بالتوجيه على الفايسبوك وتحرير المدونات الألكترونية، لكن دون مأسستها واعتمادها من طرف السلطة بشكل رسمي صريح في انجاز استحقاقات التوجيه المدرسي المعتادة. ونحن نجزم أن التوجيه عن بعد مكمل للتوجيه العادي ومدعم له وليس بديلا عنه أو معوّضا له إلا في الأوقات التي يستحيل فيها الفعل المباشر للتوجيه.
ج – شروط إنجاز التوجيه المستقبلي :
جليّ مما تقدم أنه على التوجيه المدرسي الإرتقاء إلى مرحلة أخرى بعد مرحلة التأسيس والتثبيت ضمن فروع المنظومة التربوية، ويكون مدار هذه المرحلة الجديدة تطوير هذه المنظومة الفرعية والإرتقاء بها إلى مستوى يؤهلها للتفاعل الإيجابي مع المستجدات التربوية المرتبطة بالمقاربات التربوية والمنهجيات البيداغوجية والتكنولوجيات المستجلبة إلى الحقل التربوي. وهذا لن يكون سهلا بالتأكيد إذ أنه يستدعي تنظيمات بيداغوجية تعيد النظر في الزمن المدرسي وتخص التوجيه بحيّز ثابت منه يمكن المستشار من الإلتقاء بجميع الأقسام في شكل فرق محدودة العدد في أوقات دورية قارّة تسمح له ببرمجة مكتملة لمختلف الأنشطة معهم. وعمل كهذا يتطلب وثائق خاصة على محامل متنوعة توفر جميع الأدلة التي يحتاجها التلميذ منذ بداية السنة الدراسية باستثناء بطاقة الرغبات التي توزع لاحقا عندما يحين موعد الإختيار وتثبيت القرار النهائي. كما يجب أن يمسك كل تلميذ ملفا خاصا بالتوجيه المدرسي يضمنه الإستمارات والإستبيانات الدراسية والمهنية التي توضح مؤهلاته ومهاراته ومخططات مشروعه الشخصي، ويكون كل ذلك متابعا دوريا ووقعت مراجعته من قبل المستشار. وعمل كهذا دقيق ومعمق دون شك ينجزه من اختص في علم النفس التوجيه دون غيره، ويكون قادرا أيضا على الإستفادة من مكتسبات التنمية البشرية وتوظيف ما جاءت به من تمارين وآليات لتطوير المهارات والذكاءات. وهو ما يستدعي الحاجة إلى أعداد كبيرة من المستشارين لا تقل عن مستشار بكل معهد تهيؤ له جميع الظروف وتوفر جميع حاجيات الإشتغال العلمي السليم. وهذا يستوجب تكوين العدد الكافي منهم وإنهاء العمل بتجربة الأستاذ المكلف بالتوجيه لعدم تخصصه ولمحدودية تدخلاته على جميع الأصعدة. فسلك المستشارين ” هو الجهة الوحيدة التي يلجأ إليها الطلبة الجدد وأولياؤهم لطرح أسئلتهم الدقيقة واستفساراتهم المتعددة التي تفترض سعة إطلاع ودراية عميقة بالمضامين المدرسة هنا وهناك لا مجرد أفكار عامة حول عائلات الشعب في التعليم العالي “(6). وهذا يستدعي أيضا تحيينا للنصوص القانونية الخاصة بالتوجيه المدرسي وتعديل ما استوجب منها. أما على المستوى المادي فلابد من توفير كل التجهيزات التكنولوجية من حواسيب ولوحات ألكترونية ومحامل مختلفة ومساعدة التلاميذ على اقتنائها والتزود بها باعتبارها آلية تجسيم التوجيه عن بعد. كما يجب تجهيز كل معهد بفضاء خاص بالتوجيه يقابل فيه المستشار تلاميذه فرادى ومجموعات، وتحفظ فيه كل الملفات والوثائق والأدلة والمراجع الخاصة بالتوجيه المدرسي والتي تيسر إنجاز مختلف أعماله وأنشطته.
هذا فيما يخص المستوى الخارجي للتوجيه وهو جانب إعدادي تقع فيه تهيئة التلاميذ لحسم اختياراتهم بشكل موضوعي مقنع عبر عمل تربوي بيداغوجي مكتمل يتدرّج من بداية السنة الدراسية إلى بداية الثلاثي الأخير منها. لكن هنالك المستوى الداخلي للتوجيه ويشمل العمل الإداري التنفيذي في مجلسي التوجيه التمهيدي والنهائي الذين تجب مواكبتهما على جميع الأعضاء إلزاميا حسب ما تنص عليه الصيغ القانونية ومن تضطرّه ظروفه القاهرة للتغيب ” فإنه يتعين عليه تبرير غيابه باتباع التراتيب الجاري بها العمل، وموافاة مدير المعهد قبل انعقاد مجلس التوجيه بملاحظاته واقتراحاته المتعلقة بتلاميذه الذين سينظر المجلس في توجيههم ” وفق ما أكد عليه أحد المناشير القديمة للتوجيه المدرسي (7)، لا تمييز في ذلك بين أساتذة المواد الأساسية في التوجيه والمواد الأخرى. فأساتذة التربية الدينية أو المدنية لهم مجال تدخلهم أيضا في متابعة قدرة التلميذ على الحفظ والإستذكار وعلى درجة ذكائه وحدة ذاكرته، وأساتذة التربية البدنية لهم تقييمهم لشخصية التلميذ وشدّة عزمه ومدى إصراره على النجاح وحبه للتفوق والمضي قدما في تحقيق أهدافه، وأساتذة التربية الفنية يعلمون الكثير عن مواهب التلاميذ الإضافية. فجميع هذه المؤشرات هامة جدّا لتقدير قدرة التلميذ على النجاح وعلى نسق تقدمه في مساره الدراسي. وتحجج أساتذة هذه المواد بغير ذلك لإعفاء أنفسهم من حضور مجالس التوجيه دليل على عدم إدراكهم لمجمل عناصر وظيفتهم التربوية. وهو ما يجب تلافيه عبر الرسكلة والتكوين في التوجيه المدرسي خلال السنة الدراسية من طرف مستشار التوجيه.
كما يكون مجلس التوجيه تحت رقابة المستشار في متابعة أشغاله وتوجيهها والمصادقة عليها حتى وإن كانت إدارته وإعداده من مشمولات مدير المعهد. يحضر المستشار المجلس ويحق له إرجاؤه وتأجيل أشغاله إن لاحظ خللا في إعداده أو تقاعسا في مواكبته من طرف أعضائه، كما يشرح إختيارات التلاميذ ويبين للمجلس مسار إعدادها وصياغتها حتى لا يتم القفز عليها من طرف بعض الأساتذة الذين يقومون أحيانا بعملية إنتقاء أو إنتداب لفائدة إختصاصاتهم العلمية غيرة عليها وسعيا إلى تجميع المتميزين بها دون مراعاة لاختيارات التلاميذ ذاتها. ولخلق ديناميكية في التوجيه أساسها الإمتياز والجدارة لابد من ضبط مرجعيات تنافسية معلومة من قبل التلاميذ منذ الإنطلاق، يكون ذلك إما عبر إعادة العمل بالنسب المائوية التي تفتح الإختصاص للأجدر دائما عبر شروط علنية ومعلومة من الجميع، ولا نمنع منطقيا في التوجيه المدرسي ما هو معمول به في التوجيه الجامعي الذي يلزم التلميذ بمجموع أدنى في كل اختصاص، أو عبر رسم شروط ومعدلات فاصلة بين التعليم العام بالتميز في جميع المواد أو المواد المرجع للإختصاص على الأقل والتعليم التقني لمن هم دون ذلك بمراكز التكوين المهني. ونظرا لكثرة عدد المستشارين المنتظرة، باعتبار مستشار لكل معهد، فلابد من تنسيق أعمالهم على مستوى المندوبية من قبل مكتب للتوجيه المدرسي يديره مستشار عام خبير، يتابع آداءهم ويوجه بحوثهم حسب مقتضيات المنظومة التربوية، كما يبرمج دورات رسكلتهم ولقاءاتهم ويوزع عليهم المهام الخاصة بتكوين الإطار التربوي مثلا وحضور الملتقيات الوطنية بالتداول وحسب إهتمامات كل مستشار وتخصصه. وتستدعي هذه الهيكلة في التنظيم إدارة مركزية للتوجيه المدرسي على مستوى الوزارة تكون ملحقة بإدارة الحياة المدرسية يديرها مستشار عام خبير له تميزه في المجال، يشرف أيضا على مركز وطني للتوجيه المدرسي يشتغل على توفير كل مستلزمات العمل اللوجستية والتوثيقية للمستشارين وينسق ملتقياتهم وتربصاتهم عند التكوين والرسكلة التي يخضعون لها من حين لآخر.
على سبيل الخاتمة
بهذه الإجراءات المقترحة نرى أن مستقبل منظومة التوجيه المدرسي سيكون أفضل مما هي عليه الآن وستدخلها في مسار إصلاحي يطوّر كثيرا آلياتها وإجراءاتها المعهودة التي بقيت تراوح وضعها منذ ربع قرن من الزمن جرى فيه ما جرى من تجديدات بيداغوجية وتكنولوجية عميقة التأثير في المسألة التربوية برمتها مثل مسألة المقاربة بالكفايات، التنمية البشرية واشتغالها على تطوير المهارات، البيداغوجيا الفارقية، بيداغوجيا المشروع، التدريس عن بعد، التكنولوجيات الرقمية والتعليم الألكتروني، تطورات سوق الشغل وعلاقاتها بالتخصصات الدراسية… الخ. ولا يمكن للتوجيه المدرسي أن يتغاضى عن هذه المسائل وأن لا يحسم فيها القول أو أن لا يستفيد منها في تطوير آدائه وتجويد خدماته. ونؤكد أخيرا أن عملنا هذا لا يرمي إلى تقديم أجوبة قاطعة أو أن يقرر في مسائل نعلم جيدا أنها لا تحسم إلاّ جماعيا وبمشاركة الباحثين والمختصين وأهل المهنة، بل غايته أن يطرح أسئلة ويثير إشكاليات نرى أنه لا مناص من الاهتمام بها والإشتغال عليها حتى نضمن لمنظومة التوجيه المدرسي المواكبة والتجديد.
المراجع
1 – يونس جبوري، القدرة والكفاية والمهارة، أية علاقة ؟ موقع الحوار المتمدن العدد 4843، في 28 /01 / 2022
2 – د شمسان بن عبد الله المناعي، تعليم المستقبل هو التعليم الذاتي، صحيفة الوطن في 19 / 10 / 2021
3 – د على أسعد وطفة، من مداخلته بندوة سياسات التعليم ونظمه في ظل جائحة فيروس كورونا المستجد : تساؤلات وآفاق، مجلة حكامة عدد 2 مارس 2021، ص 195.
4 – محمد رحومة العزّي، التوجيه المدرسي، مسارات وآليات – الدار للنشر والتوزيع، مصر 2021.
5 – د. شوشان زهرة وأ. بغدادي خيرة، المقاربة بالكفاءات في التوجيه والإرشاد المدرسي والمهني، https://www.asjp.cerist.dz/en/article/13759
6 – من التقرير الوطني حول التوجيه الجامعي لسنة 2021، ص 13، إعداد الجمعية التونسية للإعلام والتوجيه المدرسي والجامعي والمهني.
7 – منشور عدد 20 / 93 صادر عن الإدارة العامة للتعليم الثانوي بتاريخ 18 فيفري 1993 ص 2.
______
*الأستاذ محمد رحومة العزي/ قابس في 08 مارس 2022.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.