رساميل الجغرافيا المتوحشة

image_pdf

لعل أبرز ملامح العملية العسكرية الروسية على أوكرانيا تغيير خارطة  أوروبا الشرقية، والعودة إلى ما قبل انهيار جمهوريات الاتحاد السوفيتي، هذا التغيير قد لا يتصل بأبعاده التاريخية وشراكة الدم والثقافة والتكوين بالقدر الذي يتصل بالضرورة إلى ترسيم جديد يعود بخريطة أوروبا السياسية إلى بداياتها الأولى في ظل تزاحم التكتلات السياسية ذات الصبغة العسكرية حينا والتوجه الثقافي الأيديولوجي الممنهج أحيانا كثيرة. وربما يغفل الغرب الأوروبي تزامنا لامع الغفلة الأمريكية مقاصد إعادة ترسيم أوروبا لاسيما وأن روسيا وبيلا روسيا وبعض الدول التي لم تعلن تضامنها الرسمي في الاندماج مجددا تحت راية سوفيتية أن إعادة ترسيم أوروبا يأتي في ظل ترنح أمريكي عقب سقوط الولاية الأمريكية البريطانية في أفغانستان وانهيار الترسانة العسكرية في كابول والصعود شبه المطلق لحركة طالبان هناك رغم هذا الدعم العسكري طيلة عشرين سنة من جانب الولايات المتحدة الأمريكية في أفغانستان.

يأتي أيضا سيناريو ترسيم أوروبا الشرقية في الوقت الذي كشرت فيه الكثير من النمور الأسيوية عن أنيابها في وجه غرب أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية عقب التدخلات المستمرة في سياسات تلك النمور وممارسة فكرة الوصاية على توجهاتها الخارجية. هذا الزعم الذي أسفر عنه العديد من التحولات العالمية سواء من خلال عقد تحالفات أو شراكات اقتصادية بين الصين وروسيا أو بين كوريا الشمالية وروسيا وإعادة السيطرة على جموح الدولار الأمريكي في ظل رفض إقليمي له.

والمستقرئ لإحداثيات العملية العسكرية الروسية في الأراضي الأوكرانية عبر الصحف الأجنبية لاسيما الأمريكية والبريطانية  على وجه الاختصاص التي تأبى الترسيم الدولي الجديد للكرة الأرضية  بحكم الهاجس التاريخي بعودة الكيان السوفيتي من جديد ـ يدرك حجم الهلع الذي تبثه حكومات الدول الأوروبية في قلوب شعوبها صوب الأحداث الأوكرانية، والتي تبلغ مداها بأن تلك العملية ربما ستؤدي إلى دمار البشرية في نهاية تلك الرحلة غير المعروف نهايتها أو توقفها. وحينما نطالع مثلا مجلة تايم الأمريكية نجد مجمل أعمدتها الصحافية تتحدث عن جرائم الحرب التي تمارسها القوة العسكرية الروسية وأن هذا التوغل غير المبرر ـ من وجهة  نظر الإدارة الأمريكية ـ هي بمثابة العودة إلى العصور المظلمة متناسية في ذلك التاريخ الصهيوني الأسود في المنطقة العربية لاسيما في فلسطين المحتلة.

وفي الوقت الذي تدعي فيه الصحف الأمريكية بأن دول الحدود الروسية تتزامن في رفضها للعدوان على روسيا مشددة بضرورة الوقوف الإيجابي تجاه الأزمة الأوكرانية، نكتشف زيفها وخداعها الإعلامي الصحافي، حيث إن دويلات صغيرة مثل مولدوفا وقفت على حيادها التام وعدم قدرتها على الإفصاح بمواقف الرفض أو التأييد تجاه المسألة الروسية الأوكرانية. فق الوقت الذي أعلنت فيه مجلة التايم أن غزو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لأوكرانيا أدى إلى العديد من الأشياء والمشاهد الاستثنائية في تاريخ المنطقة الشرقية لأوروبا مثل  إرسال مليوني لاجئ إلى الدول المجاورة، وأدى إلى قلب الهيكل الأمني ​​في أوروبا، وقطع سلاسل التوريد العالمية، وأعاد إحياء المخاوف من اندلاع حرب نووية.

وعلى حد زعم الصحافي الأمريكي ديفيد ميليياند في مقالته (  يجب أن تكون أوكرانيا الحرب الأخيرة في عصر الإفلات من العقاب ) فإن الولايات المتحدة الأمريكية تبدو منزعجة وقلقة بشأن صدمتها تجاه  الجهود الوقحة ـ على حد وصفه ـ  لتقويض سيادة أوكرانيا، وخصوصا أن الهجمات المتزايدة الآن تصوب على أهداف مدنية وليست عسكرية.  مشيرا إلى أن ما يحدث في أوكرانيا مقيت، ويعد انحرافا سياسيا عالميا.  واصفا القوة العسكرية الروسية بمجموعة  من المقاتلين الوحشيين في جميع أنحاء العالم.

المهم أن مجمل عناوين الصحافة الأمريكية التي بدت الآن أكثر قلقا وتوجسا وريبة تجاه الترسيم الجديد لأوروبا وصفت  الحرب في أوكرانيا بأنها  ذروة عصر الإفلات من العقاب الذي حدد العقد الماضي من الصراع في جميع أنحاء العالم – حقبة يعتقد الكثيرون فيها أن القواعد للمغفلين وأن قوانين الحرب اختيارية.

وتبدو مشكلة الغرب الأوروبي وربما بعض المجتمعات العربية في غيابها المستدام عن  الولع الثقافي بالجغرافيا  وكأن  العرب تحديدا وغرب أوروبا في حالة حرب غير منقطعة ضد الجغرافيا  وهي حرب قديمة وضاربة في الأزل،  لكن من الأحرى تنبيه الجغرافيين العرب إن وجدوا في أزماننا الراهنة  بحقيقة قد تكون غير طيبة أخبارها وهي أن ثمة تحديات تزلزل عرش الجغرافيا العربية لاسيما منذ السقوط السياسي الذي أعقبه سقوط تاريخي في العراق وانتهى بإعدام الرئيس العراقي صدام حسين، ومن وقتها فالجغرافيا بعدما كانت خريطة ثابتة لا يمكن محو دلالاتها صارت اليوم نقطة تائهة في فضاء سياسي وإعلامي، هذا الفضاء يكرس جهده باستعار محموم تجاه طمس معالم الخريطة التي دأب الجغرافيون على رسمها.

وربما مصطلح ” موت الجغرافيا ” لم يكن جديداً على المشهد الثقافي، فلقد تنبأ البعض بهذه الوفاة الاضطرارية، تحديداً حينما زعم توفلر في سنة 1970 في كتابه ” صدمة المستقبل ” حيث قال إن تطور تكنولوجيا النقل والمواصلات ونمو الميديا المعرفية وتدفق الأشخاص المكثف أدى إلى نتيجة وهي أن المكان لم يعد مصدراً رئيساً وأساسياً للتنوع، وهو ما يهدم المزية التاريخية لعلم الجغرافيا وهي المكان، فالجغرافيا هي إنسانية المكان.

وبفضل الثورة المعلوماتية والتطور التكنولوجي والتثوير الاقتصادي الذي عرف بعد ذلك بمصطلح العولمة والاقتصاد الحر تم اعتبار الجغرافيا حقلاً معرفياً وتنظيرياً فقط، بل إن الجغرافيين اليوم وتحديداً منذ نكسة يونيو 1967 فشلوا في تحديد دور إيجابي لهم يربطهم بالمكان والحجم والموقع لأنهم باختصار أجهدوا أنفسهم في تحليلات وطروحات فكرية وصاروا رهن ما تنبئهم به الخريطة التي لم تعد كما كانت. وبعدما كانت الجغرافيا خريطة سهلة واضحة المعالم أصبحت اليوم بفضل التدفق البشري والتغيير الثقافي المرتبط بالسلع والمنتجات جغرافيات جديدة ومعقدة يصعب فهمها وتحليلها.

والحرب التي تخوضها الجغرافيا اليوم هي حرب ضد العولمة، بل إن جل همهما التاريخي مناهضة العولمة وهي في صراع ضد العقل الذي لا يعترف بالقوميات أو بالهويات الوطنية بقدر ما يسمح بالتعدد والتنوع الثقافي المرتبط بالناحية الاقتصادية فحسب. ولا شك حينما نرى صوراً للاحتجاجات ضد العولمة تحديداً في سياتل عام 1990 نتوقع أن هذه ردة فعل تجاه طمس هوية الخريطة رغم أنها احتجاجات فوضوية وعنيفة ولم يقابلها على الشاطئ الآخر أي اكتراث أو اهتمام من الجغرافيين الأكاديميين وكأنهم استمرأوا حالات الغياب المقصودة عن مشهد الصراع.

وإذا كانت الحركة المناهضة للعولمة بدأت في سياتل 1990، أي أنها نشأت غربية إلا أن ظلالها امتدت إلى منطقتنا العربية، وصارت الخريطة العربية غير عربية، والتفاصيل التي كانت ثابتة منذ رسمها ووسمها نسبية الثبات وقطعية التحول.

إن العولمة غير المحمودة تسعى منذ ظهورها الرأسمالي إلى انضغاط المفاهيم والثقافات الشعبية في منظومة واحدة لا تقبل الانصهار إلى ثقافات مجزأة، وتستهدف خلق خريطة جديدة للعالم كونه قرية صغيرة يحكمها المال وتداولية الثقافة العالمية فقط،، لذلك وصفت هذه العولمة بالليبرالية المتوحشة التي تريد أن تغير معالم الزمان والمكان والمفاهيم الشعبية تحت مظلة الاقتصاد رغم حديثها عن الحريات واحترام حق الناس في التنوع. وينبغي أن يحذر الجغرافيون جيدا تجاه العولمة التي تقلص حرية الخريطة وتفرض مكانها اقتصاد السوق والمنافسة والتجارة، وبدلاً من أن يتفاخر الجغرافيون بالخطوط الملاحية وقنوات التجارة سنجدهم يتحولون فجأة إلى كتابة تأريخ لهذه المظاهر الجغرافية لاسيما وأن تفاصيل الخريطة بدأت بالفعل في التلاشي.

والسؤال الآني الذي يفرض نفسه اليوم: هل ماتت الجغرافيا بالفعل ؟ أو أننا بحاجة إلى علم جغرافي جديد يمكننا من مناهضة العولمة وتحدياتها التي تسعى إلى تقويض الهويات والقوميات والنعرات المحلية، وتسعى في الخريطة فساداً وخراباً لطمس ملامحها الأزلية تحديداً تلك الملامح التي تتعلق بحق العرب الفلسطينيين في أرضهم. وبحق الجغرافيا ستموت إذا ما انصرف الجغرافيون عنها واهتموا بالدراسات الاجتماعية أو السيسيولوجية واعتمدوا على الدراسات الاجتماعية الاقتصادية وغفلوا عن مجالهم الصحيح والحيوي هذه الأيام.

وحينما ظهر مصطلح العولمة في منتصف السبعينيات من القرن الماضي واستعمل المصطلح شعبياً وبقوة في التسعينيات من القرن نفسه لم يفكر الجغرافيون ساعتها أن القائمين على ظهور هذا المصطلح وتدشينه سيساهمون بذلك في إحداث ثمة ارتباك بعرش الجغرافيا، وما سا عدهم في تحقيق ذلك أنهم لم يكترثوا كثيراً بالجهود التنظيرية وبالطرح الفكري للعولمة بل طفقوا في الاستخدام العملي مباشرة، وظل الجغرافيون رهم مكاتبهم وأروراقهم القديمة بغير تطوير أو اهتمام بالنمو المعرفي المواكب لهذا التغيير الاقتصادي. ووجدنا بعد ذلك مشكلة جديدة قائمة وهي أن الجغرافيين نسوا مجالهم الحقيقي وراحوا يواكبون ظاهرة العولمة ليس بسلاحهم العتيد التقليدي والذي يمكن وصفه بالرصين والأصيل، لكن عن طريق الجغرافيا البشرية التي قد ترتبط بنحو وثيق بنقاشات العولمة، لكن للأسف لم ترتق هذه النقاشات وتوقف عند حدود المصطلح المطلق، وعلى الجانب الآخر وجدنا الإسهامات الفكرية للمنادين بالعولمة تتجاهل قصداً وطوعاً أية إشارات جغرافية قائمة. وبالقطع كانت الفجوة قائمة بينهما، لأن الجغرافيين  لاسيما العرب انتقائيون في اختياراتهم، بعكس المطالبين بالعولمة وامتداداتها الثقافية والاقتصادية لم يكونوا انتقائيين بل نادوا بالتعددية ومحو كل ثقافة تمييزية.

وها هم الجغرافيون قد عقدوا نيتهم لإنشاء فروع معرفية جديدة ضمن الجغرافيا البشرية لتناقش متطلبات العولمة تمثلت في محاور أشار إليها تايلر في عام 2002 بحيث تربط الجغرافيا بالعولمة مثل الجغرافيا والعولمة، و الجغرافيا في العولمة، وجغرافيات العولمة، وجغرافيات مع العولمة وضدها، وبذلك لم يفلحوا في مناهضتها بل أسهموا في الترويج لها وبوحشيتها وبالتغلغل الأمريكي المقرون بدوافع صهيونية في كل بقاع الأرض. ففي الوقت الذي اهتم فيه علماء الجغرافيا بسبر أغوار الكوكب الأرضي اهتم العولميون بشيوعية الكوكب والاهتمام بالترويج والنشر وليس الكشف والتنقيب.

وما أدراكم ومعيار السرعة وهو المعيار الفارق بين الجغرافيا والعولمة، فالجغرافيا تتبعت مسارات العولمة الاقتصادية بطريقة تاريخية بطيئة ووئيدة، والعولمة ليبرالية متوحشة تجري بسرعة جنونية لأنها اقترنت بالتطور التكنولوجي المتسارع، فكان من أبرز إحداثياتها جوجل إيرث وهو ما جعل الخريطة الجغرافية تحتجب بعيداً عن المعاصرة، بل أمكن صناعها من رسم ووسم ما يرغبون فيه فقط وطمس بعض البقاع الجغرافية على سطح الكرة الأرضية. وأخذ الجغرافيون يرهقون أنفسهم باختراع مصطلحات معرفية جديدة باعدت بينها وبين العولمة في صراع البقاء مثل فضاءات التدفقات وفضاءات الأماكن في الوقت الذي دشن فيه العولميون أفكاراً تتعلق بمجتمعات المعرفة ومدن الذكاء والقرى الذكية ومدن المعرفة.

والجغرافيا التي تهتم منذ بزوغها على تكريس ثقافة الوطنية وتعمل على نشر الوعي المكاني تجاه الوطن ورسم الفواصل الحدودية التي تمكن المواطن من الإحساس بقيمة بقعته الجغرافية لم تدرك وحش العولمة الذي صار أكثر توحشاً وسعى لجعل العالم أكثر تجانساً بغير حدود أو تخوم، وهو ما يمكن أن نطلق على هذا الفعل بالعولمة الاستعمارية، وهي رفض القطبية المتزايدة بين الأقاليم، وجعل العولمة الاقتصادية ثقباً في الخريطة الجغرافية لأجل تهميشها وإقصائها.

وموضوعنا هذا وهو موت الجغرافيا ليس من باب التنبؤ أو السبق الإخباري، بل إن أحدث الكتب التي صدرت هذا العام كان كتاب Geographies of Globalization  للأكاديمي النيوزلندي ورويك موراي (2013) تناول العلاقة بين الجغرافيا والعولمة، وهذا الكتاب صال وجال للبحث عن إجابة حصرية وحاسمة لسؤال: هل ماتت الجغرافيا ؟، وفي هذا الكتاب رصد حالة انخفاص الصلة بين علم الجغرافيا الأكاديمي والمحبوس في الكتب التنظيرية الجافة والأبحاث والدراسات الكاذبة التي لا تمت للواقع بصلة وبين العولمة التي تتصاعد حدتها ويتعالى نشاطها الاقتصادي والتنويري والاقتصادي. ولا شك أن الكتاب انتهى بنتائج غير سارة بالنسبة للجغرافية ومستقبلها المعاصر.

وفي المقابل هناك من يدعو إلى حياة جديدة للجغرافيا، وهؤلاء يرون أنه من الواجب التعامل بواقعية مع متغيرات العولمة التي أصبحت عقب ثورات الربيع العربي عولميات متعددة وليست واحدة، ورغم معركة البقاء تلك فإن ثورة الإنترنت الحالية تؤكد الموت الإكلينيكي للجغرافيا، وهو ما دفع الجغرافيون لممارسة عاداتهم المكرورة كرد فعل لأية ظاهرة جديدة بدراسات نظرية غير تطبيقية عن جغرافيات الفضاء الإليكتروني الناشئة، وبمجرد أن انتهى الجغرافيون من أبحاثهم وتم نشرها كان هذا الفضاء أكثر اتساعاً مما جعل الجغرافيا تقف عند حدود البدايات لأنها لم تستطع التواصل مع التغيير المتسارع.

ولتحيا الجغرافيا عن طريق الاهتمام بالبعد السياسي فيها، فإذا كانت الجغرافيا تسهم في خلق وتكوين البعد القومي والوطني لدى الشعوب، ورفض ودحض مزاعم الطموح التوسعي التقليدي عن طريق الحروب التقليدية العسكرية، فإن دورها اليوم بات ضروريا وملحاً، وعلى الجغرافيين اليوم أن يجتمعوا على هدف واحد ومهمة وطنية محددة وهي وقف الطغيان الثقافي والجغرافي غير الموثق في خرائط ثابتة و الذي جاء مع ظاهرة العولمة التي أصبحت واقعاً وليس افتراضاً تخييلياً. وإذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية تسعى إلى حرب سيسيولوجية جديدة لتلغي الثقافة الجغرافية لأنها رحم التاريخ وجوهره وتساعدها في تلك الحرب الكيانات والجيوب الصهيونية فإن أهل الجغرافيا عليهم اليوم ضخ الحياة من جديد في علومهم ومعارفهم ونقل المعرفة النظرية إلى واقع تطبيقي يتوازي مع هجمة العولمة.
___
*الدكتور بليغ حمدي إسماعيل/ أستاذ المناهج وطرائق التدريس ( م) ـ كلية التربية ـ جامعة المنيا.

جديدنا