التنويريسلايدرفكر وفلسفة

المنهج الاستقرائي بين جدليَّة العلم والفلسفة

مقدِّمة:

هناك مناهج للبحث العلمي يستخدمها علماء العلوم الإنسانية، ويتوقَّف استخدامها على الباحث، وطبيعة البحث، والإمكانات المتوفِّرة، ودرجة الدقَّة المطلوبة، وأغراض البحث، ولعل من أكثر الطرق المنهجية شيوعاً في الدراسات الإنسانية، المنهج التاريخي المقارن، والتجريبي، والمنهج الوصفي وغيرها، ممَّا قد تقتصر فيه النتائج على الوصف، أو تتعدَّى ذلك إلى التحليل والتفسير وقد لا يكتفي الباحث بأحد هذه المناهج، بل يتعدَّى إلى المزج بينها. ويأتي هذا البحث ليتناول موضوعا مهمًّا يتمثَّل في التعريف بالمنهج الاستقرائي ومكوّناته وتطوّره عبر تاريخ منهاج المعرفة ورصد السجال الحاصل حوله بين ثنائية العلم والفلسفة والتنويه إلى قيمته الأبستمولوجيَّة.

  1. مقاربة مفاهميَّة لمصطلح الاستقراء:
  2. التعريف اللغوي:

الاستقراء لغة من قرأ الأمر أي تتبَّعه ونظر في حاله، وهناك من يرى أنه من قرأ الشيء بمعنى جمعه وضمم بعضه إلى بعض ليرى توافقه واختلافه، وكلا الأمرين يعني التتبُّع لمعرفة أحوال شيء ما. يعني بذلك هو أن نتتبَّع جزئيات نوع معين لأجل أن نعرف الحكم الكلِّي الذي ينطبق عليها. فنؤلِّف منه قاعدة عامَّة. مثل: أن نستقرىء ونتتبَّع استعمال “الفاعل” في مختلف الجمل في اللغة العربية لنعرف حكمه الإعرابي، فنرى أن الكلمة التي تقع فاعلاً في مختلف الجمل التي استقرأناها تكون مرفوعة ننتهي إلى النتيجة التالية: وهي: إن الفاعل في لغة العرب “مرفوع”… فنؤلِّف من هذه النتيجة قاعدة عامَّة هي “كل فاعل مرفوع”.

وكلمة استقراء هي ترجمة لكلمة يونانيَّة Enay Wyn ومعناها يقود، والمقصود بها هو قيادة العقل للقيام بعمل يؤدِّي إلى الوصول لمبدأ أو قانون يتحكَّم في الجزئيات التي تخضع لإدراكنا الحسِّي.

  • التعريف الاصطلاحي:

عند المنطقيين هو الحكم على كلي بما يوجد في جزئياته الكثيرة.

عند الفلاسفة والمتصوفة هو  الاستدلال العقليّ والانتقال به من الخصوص إلى العموم.

يعرفه الإمام الغزالي بقوله: “هو أنه تتصفح جزئيات كثيرة داخلة تحت معنى كلي، حتى إذا وجدت حكما في تلك الجزئيات حكم على ذلك الكلي به “.

يعرفه الدكتور عبد الرحمن بدوي بقوله:” تعميم من حالات جزئية تتَّصف بصفة مشتركة “.

وعليه يمكن تعريف الاستقراء على أنه “عملية ملاحظة الظواهر وتجميع البيانات عنها للتوصل إلى مبادئ عامَّة وعلاقات كلية”.. ولقد استخدم علماء الحضارة الأوربية الحديثة المنهج الاستقرائي في تحقيق تقدّمهم الحضاري،ولقد استخدمه المسلمون قديما، فقد استخدمه ابن الهيثم وغيرة من علماء المسلمين في كتاباتهم[1]

  • أنواع الاستقراء:

المنهج الاستقرائي له نوعان يمكن الاعتماد عليهما حينما تبدأ في استخدام هذا المنهج في البحث العلمي، فأما النوع الأول فهو الاستقراء الكامل، وهو النوع الذي ينبغي أن تتوافر به شروط معينة حتى يمكن للباحث تعميم نتائجه وعلى رأس شروط: “انتشار المعنى في كافة الدروب المتعلقة بالمشكلة، وكذلك أن تكون نتيجة الاستقراء مكررة في الملاحظات المتعلقة بمشكلة البحث العلمي”، بينما النوع الثاني هو الاستقراء الناقص، أو كما يُطلق عليه الاستقراء الغير يقيني، واستخدام كلًا منهما كالتالي:

  • الاستقراء الكامل أو التام:

يُطلق عدد من الباحثين على هذا النوع اسم الاستقراء اليقيني، ومن خلال هذا النوع يعمل الباحث العلمي على ملاحظة كافة الظواهر المتعلقة بموضوع الدراسة الخاصة به، ومن ثم وفي النهاية يعمل على إصدار أحكام ونتائج، ولكن هذا النوع يحتاج إلى وقت أطول من الاستقراء الناقص، ولذلك نؤكد على أنه بطيء، ولكنه دقيق.[2]

 مثال:

كما لو أردنا أن نعرف: هل أن من بين الطلبة الدينيين في الجامعة الجزائرية طلاباً افريقيين. فإننا نستقرئ كل طالب موجود في الجامعة الجزائرية استقراءاً كاملاً حتى ننتهي إلى النتيجة. هذا النوع من الاستقراء الكامل الشامل لجميع جزئيات الكلي والانتهاء إلى النتيجة منه تسمى بـ “الاستقراء التام”

  • الاستقراء الناقص:

ومن خلال هذا النوع يستطيع الباحث بل وينبغي أن يخرج من الجزء إلى الكل، وعندما يبدأ الباحث بدراسة الجزء فإنه سيتمكن من دراسته من جميع الجوانب، وبالتالي يستطيع التعرف على طبيعته، ومن ثم يحصل على نتيجة وبالتالي يستطيع أن يُعممها على الكل، ولكن ما يُعيب هذا النوع أنه لا يقدِّم معلومات دقيقة.[3]

مثال:

-هذه قطعة معدن (أ) تتمدَّد بالحرارة.

– هذه قطعة معدن (ب) تتمدَّد بالحرارة.

– هذه قطعة معدن (ج) تتمدَّد بالحرارة.

وممَّا جرى إذن، المعدن لا يتمدَّد بالحرارة، وهذا ما يعرف بالاستقراء الناقص أي عدم تتبُّع كل الأفراد (ككل أفراد المعدن في المثال) أما الاستقراء التام هو عند تتبعه كل الأفراد لأنه المقدمة فيه تساوي النتيجة.

كما لو أراد العالم الكيميائي معرفة مدى تأثير الضغط على الغازات فإنه يجري التجربة على بعض الغازات. وعندما يرى أنه كلما زاد الضغط على هذه الجزئيات موضوع التجربة قَلَّ حجمها وكلما نقص الضغط زاد حجمها بنسبة معينة تحت درجة حرارة معينة، يتَّخذ من هذه الظاهرة الطبيعية التي لاحظها أثناء التجربة حكماً عاماً لجميع الغازات. فيضع – على ضوئه – قاعدته العامَّة: “كل غاز إذا زاد الضغط عليه قَلَّ حجمه وإذا نقص الضغط عنه زاد حجمه بنسبة معيَّنة تحت درجة حرارة معينة”. وهكذا العالم الرياضي متى أراد معرفة: هل أن درجة زاويتي القاعدة في المثلث متساوي الساقين متساويتان أو لا ؟… فانه يقيم البرهان على مثال واحد أو مثالين، ومنه يعمم الحكم إلى جميع جزئيات المثلث متساوي الساقين، فيضع القاعدة العامَّة التالية “كل مثلث متساوي الساقين، زاويتا القاعدة فيه متساويتان”. 

  • مشكلة مشروعيَّة تبرير الاستقراء:

 مشكلة الاستقراء هي التساؤل الفلسفي حول ما إذا كان التفكير الاستقرائي يؤدِّي إلى معرفة مثلما هي مفهومة بالمعنى الفلسفي الكلاسيكي،] ممّا يُسلِّط الضوء على الفجوة الظاهرة في تسويغ القضايا التالية: اعتماد تعميم خصائص فئة من الأشياء على عدد من الملاحظات لحالات معينة من تلك الفئة، على سبيل المثال، الاستدلال بأن “كل البجع الذي رأيناه أبيض اللون، وبالتالي كل البجع أبيض اللون»، قبل اكتشاف البجع الأسود” الافتراض بأن تتابع الأحداث في المستقبل سوف يحدث كما كان يحدث دائمًا في الماضي “على سبيل المثال، سوف تحتفظ قوانين الفيزياء ببقائها في المستقبل، كما لوحظ بقائها دائمًا في الماضي”. أطلق هيوم على ذلك مبدأ اطراد حوادث الطبيعة.

تثير المشكلة التشكُّك في كافة المزاعم التجريبية المقدمة في الحياة اليومية، أو من خلال المنهج العلمي، ولهذا السبب، قال الفيلسوف سي دي برود إن “الاستقراء هو مجد العلم وفضيحة الفلسفة”. وعلى الرغم من أن المشكلة تعود إلى المذهب البيروني في الفلسفة القديمة، وأيضًا إلى “مدرسة شارفاكا” في الفلسفة الهندية، فإن دافيد هيوم قد نشرها في منتصف القرن الثامن عشر.

  • تاريخ مشكلة مشروعية الاستقراء:
  • الفلسفة اليونانية:

سقراط:

أن المنهج السقراطي كان يعتمد بالأساس على تكتيك سقراطي فريد من نوعه “التهكم والتوليد”. خلا الناس تغضب من من كثرة أسئلته وقلة أجوبته، هذا الاعتراض يجيب عليه سقراط في موضعين، الأول في محاورة” تيتياتوس”: “إنني مثل القابلة لا ألد الحكمة، لأنه لا حكمة عندي، إنّ مهمتي هي مساعدة الآخرين على الإنجاب…”، والثاني حين قال: “إن اللوم الذي يوجّه إلى كثيرًا، وهو أني أسأل الناس أسئلة وأن ليس لدي من العقل ما أستطيع به أن أجيب عنها، لوم عادل لا اعتراض لي عليه، وسببه أنَّ الله قد أرغمني على أن أكون قابلة “أي يولد”، ونهاني عن أن ألد”.
من الناحية التاريخية الفلسفية، سقراط ساهم بشكل كبير في بناء منهج علمي يسمى “الاستقراء”، كما وضع حدا لتوجيه الفكر نحو العلم الطبيعي إلى الإنسان والأخلاق. فالأسئلة التي كان يطرحها على محاوريه انتقلت بالفكر “من السماء إلى الأرض” فأصبح متعلِّقًا بمبحثين رئيسين: الإنسان والأخلاق، فتحولت الفلسفة في عهده “الهلسنتي” من التساؤل الذي يدور حول الطبيعة والكون إلى النفس البشرية.
عن هذه الجدلية الفكرية يقول الدكتور فتح الله خليف: “الأمر المدهش حقا هو أن سقراط الذي اكتشف أهمية الاستقراء والتعريف “طرائق العلم”، هو نفسه الذي ترك العلم إلى الأخلاق التي لا يستقيم معها تعريف ولا استقراء، ولا تتطلَّب دقة علمية”[4]

أرسطو:

عرّف أرسطو الاستقراء بأنه إقامة البرهان على قضية كلية لا بإرجاعها إلى قضية أعمّ منها، بل بالاستناد إلى أمثلة جزئية تؤيد صدقها، على خلاف القياس إذا استندت إلى قضية أخرى أعم منها. لكن ماذا كان يعني أرسطو بالأمثلة الجزئية؟ وعلى ماذا أقام استدلاله؟ لنستعرض المثال الذي ساقه هو بنفسه لنفهم ما كان يقصده بالضبط. يقول: “الإنسان والحصان والبغل إلخ… طويلة العمر. الإنسان والحصان والبغل إلخ… هي كل الحيوانات التي لا مرارة لها. إذًا الحيوانات التي لا مرارة لها طويلة العمر.”
ونلحظ من المثال الماضي نقطتين بالغتي الأهمية، الأولى: هي أي أمثلة يريدنا أرسطو أن نستقصيها في الخطوة الأولى، أهي الأمثلة الجزئية بمعنى الأفراد؟ أم هي الأمثلة الجزئية بمعنى الأنواع؟ وواضح أن الإنسان والحصان… إلخ، الواردة في المقدّمات هي الأنواع، فلا هي أفراد الإنسان زيد وعمرو وخالد، ولا أفراد الحصان هذا الحصان وذاك.
والثانية: أنّي لكي أكون المقدّمة الكبرى – مثلًا – لا بد لي من عدة قضايا هي في ذاتها قضايا كلية هي: الإنسان طویل العمر والحصان طويل العمر إلخ…، وهذه القضايا لا تحتاج بدورها إلى جزئيات تؤيدها.
أطلق على هذا الاستدلال القياسي الذي تُذكَر الجزئيات في مقدماته بالقياس الاستقرائي لأنه قیاس من حيث صورته العامة واستقراء من حيث استقصاء الجزئيات في مقدماته وهو الذي عناه بيكون بمنهج أرسطو الاستنباطي أو القياسي.[5]

  • الفلسفة الإسلامية:

جابر ابن حيان:

مشكلة في الاستقراء هي تلك التي تعود الى جابر بن حيان الكوفي خلال القرن الثاني للهجرة، حيث أنه لا يرى ما يبرر اليقين في التنبؤ بالحوادث والتعميمات الاستقرائية، ويعتبر أن الدلالة عليها لا تزيد عن محض الاحتمال. فابتداءً أنه يرى أن أضعف حالات الدليل هو ذلك الذي لا يعول إلا على شاهد واحد، كمن يقول: بأن امرأة ما ستلد غلاماً وذلك اعتماداً على ما رآه أنها قد ولدت قبل ذلك ولداً واحداً لا غير. في حين أنه يعتبر أن أقوى حالات الاستدلال بالاستقراء هو ما كانت شواهد الوجود دالة عليه من غير مخالف، كمن يقول بأن ليلتنا هذه ستنكشف عن يوم يتبعها، استناداً إلى ما رآه من اضطراد في تتابع الليل والنهار. وبين هذه الحالة والحالة التي قبلها هناك حالات اخرى تتفاوت قوة وضعفاً بحسب كثرة النظائر وقلتها. وهو في جميع الأحوال لا يرى في هذه الحالات ما يفضي إلى اليقين، بل فيها ظن وحسبان تبعاً لما يدرك من نظام وشبه ومماثلة “حتى إنه لو حدث في يوم ما من السنة حادث لرجوا حدوث مثل ذلك الحادث بعينه في ذلك اليوم من السنة الأخرى، فإن حدث في ذلك اليوم بعينه من هذه السنة مثل ذلك الحادث تأكد عندهم ذلك أن سيحدث مثله في السنة الثالثة، وإن حدث في السنة الثالثة ايضاً، حتى اذا حدث ذلك مثلاً عشر مرات في عشر سنين لم يشكوا البتة في حدوثه في كل سنة”. ويزداد الوقع في النفس فيما لو زاد العدد، فكيف إذا ما كان الاضطراد على وتيرة واحدة من الحدوث؟! وقد اعتبر جابر أن هذا الحال أوهم بعض رجال العلم مثل جالينوس، فمع تمكنه من العلم وتدبره في النظر فإنه قد أخذ اعتبار مثل تلك الحالات المضطردة على أنها عقلية أولية، فقال في كتابه البرهان: “إن من المقدمات الأولية في العقل إنه إذا كان الصيف يتبعه الخريف لا محالة، فإنه لم يكن إلا بعد خروج الربيع”. وهذا ما أنكره جابر، حيث اعتبر أنه لا يُؤمّن أن يحدث هناك صيف لا يعقبه خريف ولم يتقدمه ربيع. وهو على العموم يرى أن علة عدم استطاعتنا أن نتيقن من الحوادث المستقبلية وذلك لعدم إحاطتنا بإدراك جميع الموجودات[6]

ابن الهيثم:

من هذا المنطلق نلمس التوجُّه أو النزعة الحسّية في فلسفة ‘ابن الهيثم’ ذات التشخيص المادي والواقعيّ، حيث حُجّته ملاحظة الجزء وتتبُّع الخصائص، ثم التدريج في طلب الحقّ.

لا يطلق اسم “الباحث” على شخص معيّن، إلاّ إذا تمتّعَ هذا الأخير بفكر يُفسّر، أي أنّ الباحث لابدّ أن يبذل جُهدا عقليا بُغية التوصُّل إلى  معلومات متناسِقة، دون أن يكتفي بتسجيل السلبي للواقع، ولعلّ الحقيقة وإن كانت نسبية التي يُباشر من أجلها الباحث عملية البحث العلمي هي القانون* بعد الملاحظة العلمية والتجربة، يقول ‘كلود بارنارد’:<<إنّ المجرِّب يتوخّى الكشف عن أسرار الطبيعة، ولكنَّهُ ينبغي له لكي يصِل بُغيته ألاّ يتعجّل بالتفسير، وألاّ يتأثَّر بأفكار سابقة، وأن يدَعَ الأُمور تجري في مجاريها حتّى يُمكنه أن يَصِل من تجربته إلى أقصى ما يُمكن الوصول إليه>>[7].

إنّ الغرض الذي دفعنا لتوظيف هذه الفكرة أو ذكر هذه السّمة التي يتميّز بها الباحث لبلوغ القانون هو وضع الرجل العربي المسلم في موضعه من تاريخ العلم وأنّ مساهمته تُعدُّ جزءًا من تطوُّر الفكر البشري، تتصف بمقوّمات علمية، ولعلّ كتاب ‘ابن سينا’ (370هـ) “القانون في الطب” خير مثال على ذلك، يقول ‘حسين علي’: <<يُعدُّ ابن سينا العالم العظيم والفيلسوف والطبيب من أكثر وأكبر المُؤلّفين المنتجين، ظلّت نفائسُه موضوع اهتمام أساطين العلم خلال خمسة قرون كاملة، أمَّا قانونه فيُعدّ موسوعة كاملة في الطب>>[8].

  إذا تحدّثنا بصفة عامة عن العلم والمنهجية أو الأسلوب الذي من خلاله نُعالج المواضيع، بحيث لا نصل من دونه إلى شيء أو إلى نتائج بحثية ذات قيمة يعوّل عليها نظريا أو تطبيقيا، فإنّنا نتحدّث عن أعظم ما قدّمته الحضارة العربية إلى العالم الحديث، لأنّ الفكر الإسلامي دعا إلى النّظر والتفكير والعمل والتجريب لاكتشاف قوانين الظواهر المدروس.

ابن سينا:

إذا تحدّثنا بصفة خاصة عن ‘ابن سينا’ جِدُهُ قد جعل القانون عنوانا لأشهر كُتُبه في الطب الذي أخرجه من التلفيق إلى التهذيب والترتيب أو التّصنيف[9]، يقول: <<أما الآن فإنّني أجمع هذا الكتاب وأُقسِّمُه إلى كتب خمسة على هذا المثال:

  • الكتاب الأوّل: في الأمور الكلّية في علم الطب.
  • الكتاب الثاني: في الأدوية المنفردة.
  • الكتاب الثالث: في الأمراض الجُزئية الواقعة بأعضاء الإنسان عضوا عضوا من الفرق إلى القدم ظاهرها وباطنُها.
  • الكتاب الرابع: في الأمراض الجُزئية التي إذا وقعت لم تختص بعضو وفي الزينة.
  • الكتاب الخامس: في تركيب الأدوية وهو “الأقراباذين”>>[10].

أمكن لكتاب “القانون” أن يتصدّر المراجع الطبية في الشرق والغرب، وهذه شهادة تكفي، بل توضّح الممارسة العملية في الطب عند ‘ابن سينا’، الممارسة التي لا يمكن أن نستقرأها أو أن نفهمها بالرجوع إلى خطوات المنهج الاستقرائي ودلالته خارج الملاحظة والتجربة. يقول ‘توفيق الطويل’: <<ابن سينا تمكَّن بملاحظته أن يصِف في دقة تقيّح التجويف البلوري وأن يُميّز بين الالتهاب الرئوي والالتهاب السحائي)…(وأوّل من شَخّص داء الأنكلستوما>>[11].

وأمّا التجربة، فهي تُمثّل نموذجا بين التفكير السليم المَبني على الملاحظة، يذكرها ‘حسين علي’ في: <<أنّ ‘ابن سينا’ حدّد لهما شروط يجدر بكلّ مجرّب اتّخاذها دستورا هي:

– يجب خلوّ الدواء من كيفيات مُكتسبة كالتبريد والتسخين.

– يجب إجراء التجربة على شخص مصاب بعلّة واحدة منفردة.

– يجب تجربته على علل متضادّة للحكم إن كان فعل الدواء بالعرض.

– يجب أن تكون قوّة الدواء معادلة لقوة العلّة، فقد تكون قوة الدواء أضعف من قوّة العلّة فلا تُؤثّر فيها.

– يجب تجربة الدواء على الإنسان، فإن جُرّب على غيره جاز أن يختلف>>[12].

يجب الإشارة إلى نقطة مهمّة تثبت في تاريخ الطب العربي أنّ كثيرا من الأطباء قدم القياس على التجربة واعتبره أكثر أهمية في تأليف الأدوية، إلاّ أنّ ‘ابن سينا’ جمع بينهما في منهجه العلمي، يقول: <<الأدوية تتعرّف قواها من طريقتين؛ أحدهما القياس والآخر طريق التجربة، ولتقدُّم الكلام في التجربة، فنقول: إنّ التجربة إنّما هي تهدي إلى معرفة الدواء بالثقة>>[13].

ابن طفيل:

عندما يتتبّع الباحث بأسلوب الكشف والنّقب، تاريخ العلم، وعندما يضعُ هذا الأخير نصب عينيه ما قدّمه العرب والمسلمين لتراثه من مساهمته في تطويره، خصوصا إذا تعلّق الأمر بالكشف عن الدلالة الاستقرائية من الناحية الإجرائية في كتاباتهم، سوف يجد أنّ ‘ابن طفيل’ المتوفى في مراكش عام 1185م دورا في وضع وصف منهجي لطريقة علمية من الطراز الأوّل، بل ساهم كثيرا في <<معارف شتّى كالشعر والتاريخ وعلم الكلام وحتى الرياضيات وعلم الفلك>>[14]، فما طبيعة هذه الطريقة وخصوصيتها؟

يجب أن نذكر أوّلا وقبل كلّ شيء أنّ ‘ابن طفيل’ ترك لنا قصّة روائية تُدعى “حيّ بن يقظان”، لكن بصرف النّظر عن مستلزمات المنتوج الفنّي بالنسبة لهذه القصّة الذي لم يكن ليُهمّه بقدر ما سيطرت عليه أسئلة الحقيقة العلمية بالأسلوب الفلسفي، فهَمُّ ‘ابن طفيل’ الذي التزم القصة، إذن هو همُّ كل عالم وفيلسوف، تمّ تصويره في شخص “حي بن يقضان” المجرّب والملاحظ والمُفترض، فكيف ركَّز ‘ابن طُفيل’ على دور الباحث في هذه القصّة من الناحية الإجرائية تعكِسُ حِدَّة الذِّهن والقدرة على التَّمييز والفهم العميق؟

طبّق ‘ابن طًفيل’ طريقة الاختلاف وهي واحدة من القواعد الخمس التي نجد صيغتها عند ‘ستيوارت مل’ (1873م) كما يلي: <<إذا اشتركت حالة تحدث فيها الظاهرة مع حالة لا تحدُثُ فيها الظاهرة بجميع الظُروف، غير ظرف واحد في الأولى يوجد وفي الثانية لا يوجد، تختلف به وحدة الحالتين، فيجب حينئذ أن يكون هذا الظّرف هو السبب أو الجزء غير منفك عن سبب الظاهرة>>[15]، فكيف يتمُّ تطبيق هذه الطريقة من طرف ‘ابن طفيل’؟

بدأ (حَي) التجريب على جُثّة أمّه (غزالة)، وهذا التجريب يُميِّزُ فيه ‘ابن طفيل’ بوضوح (الحادثة) التي تتجلّى فيها الظاهرة، بحيث أوَّلُ ظاهرة اندهش إليها (حيّ) هي ظاهرة الموت في حادثة (غزالة) ميتة، وتُقابلها بالطّبع ظاهرة الحياة في حادثة (غزالة) وهي حيّة، يقول ‘مدني صالح’: <<وقد بحث هذه الظاهرة كما تجلّت في حادثة موت أمِّه غزالة>>[16].

من بين الخطوات الأساسية في المنهج الاستقرائي، الملاحظة و(حي) هو الملاحظ، مع العلم أنَّ الملاحظة العلمية بدورها إما بسيطة أو مسلحة، وقد تكون كيفية أو كمّية، فكيف نُميِّز بين هذه الأنماط من الملاحظة داخل الخُطوة الواحدة عنده؟

أقبل (حي) على عزل ظروف الحادثة التي تجلّت فيها الظاهرة متّبعا الخطوات الآتية:

<<أولا: ناداها بكل الأصوات، لكن لم تستجب.

ثانيا: نظر في أذنيها وعينيها فلم يجد عطبا.

ثالثا: راح يفصح بقية الأعضاء، لكنّه لم يجد أيُّ نقص، يقول ‘ابن طفيل’ واشتدّت الرغبة إلى معرفة الجزء المعطوب على بعد أن يجده، أن يقدر على إزالة العطب، فترجع غزالة إلى حالتها الأولى)…(لكنَّه أخفق>>[17].

تحوّل بعد هذا الإخفاق إلى فحص حالة لم تحلّ بها الظاهرة… ولكي يفعل هذا بدأ بنفسه كحالة مُماثلة لحالة الغزالة قبل موتها متّبِعا الخُطوات الآتية:

<<أولا: أغمض عينيه ووجد أنّه لا يرى شيئا حتى يُزيل يديه.

ثانيا: وضع أصبعيه في أُذُنيه، فوجد أنّه لا يسمع حتى يُخرِجُهما.

ثالثا: سدّ منخريه فلم يستطِع أن يشُمّ حتى فتحهما>>[18].

إذا كان ‘ماخ’ (1916م) يرى في القضية تفسيرا لوقائع مُعيَّنة بمعزل عن امتحان الوقائع، حتى إذا ما امتحن في الوقائع، أصبح من بعد إمّا فرضا فاشلا يجب العُدُول عنه إلى غيره، وإمّا قانونا يُفسِّر مجرى الظواهر، فإنّ (حي) الذي يجِدُ عطبا في أعضاء الغزالة يفترض فرضا بأنَّ خفِيّضا داخل الجسم، وافترض أنّ سلامته ضرورية لتحقيق الحياة، إذ هو نفسه الظَّرف الذي هو متوفِّر فيه وليس متوفِّرا في حالة (الغزالة) وهي ميّتة.

من هنا يبدو أنّ ‘ابن طفيل’ ترك لنا طريقة عملية متميِّزة يجب على كل قارئ الوقوف عند أهمِّيتها أثناء فهم فلسفته بأكملها أو كغيره من العرب والمسلمين، لأنَّهُ قدّم رسالة والمتمثلة في قاعدة علمية، وهذا الاستنتاج المتوصّل إليه لم يكن عشوائيا أو من ضروب الاعتباط، بل تمّ التوصُّل إليه في حُدود المنهج الاستقرائي وحُدُود المفهوم المنهجي للطريقة العلمية، هذه الأخيرة بالرّغمِ من أنّ ‘ابن طفيل’ لم يصغها صياغة نظرية، بل قدّمها مطبقة وفق مجريات التجارب التي قام بها (حي)، إلاّ أنّنا استخلصناها وفق طريقة نعرفها باسم “الطريقة البيكونية أو القواعد الخمس عند ‘مل'”.[19]

  • الفلسفة الحديثة:
  • فرانسيس بيكون:

المنهج الاستقرائي والدليل التجريبي:

يرى ‘بيكون’ أنّه بعد تطهير العقل من الأوهام يستطيع الإنسان أن يُقبل على الطبيعة وقد خلا ذهنه من الأوهام السابقة، فيتمكّن من تفسيرها ومن السيادة عليها، ولن يكون تفسير الطبيعة عن طريق القياس، فالقياس ليس أداة للكشف عن حقائق الكون، وإنّما هو أداة لعرض الحقائق وإقناع الخُصوم بها. ومن هذا المُنطلق يرى ‘بيكون’ أنّه لا يمكن الوصول إلى العلم وإثرائه بدليل أنّه <<ليس بين العقل البشري والحقيقة أيّة قرابة طبيعية، وأنّ حدّة الذهن لا يمكن أن تُعادل دِقّة الطبيعة، فينبغي إذن أن نتّجه إلى الطبيعة ذاتها من أجل معرفتها وليس لدينا من سبيل ذلك سوى التجربة…>>[20].

إذن، من خلال هذا النص يتبيّن أنّ ‘بيكون’ يرفُض تفسير الطبيعة عن طريق الاستقراء الأرسطي، لأنّ هذا الاستقراء يرد في نهاية الأمر إلى قياس تكون مُقدّمته الكبرى نتيجة لعملية إحصاء يقوم على الأمثلة الإيجابية. وهذه الأخيرة وحدها دون الأمثلة السلبية لا تُعطينا يقينا[21].

مراحل المنهج التجريبي عند ‘بيكون’:

أ- الملاحظة والتجربة: يبدأ المنهج التجريبي بالملاحظة والتجربة كنقطة بداية ضرورية، والملاحظة التي نقصدها هي الملاحظة العلمية التي تهدف إلى كشف تفاصيل الظواهر موضوع البحث وإدراك العلاقة القائمة بين أجزائها. أما التجربة التي نعنيها فهي ملاحظة مقصودة تتضمّن تغيير بعض الظروف الطبيعية التي تحدث فيها تلك الظاهرة التي نريد البحث فيها[22].

ب- الفَرض العلمي: يُعرف الفرض العلمي بأنّه رأي يُقدّمه العالم من أجل تفسير المُلاحظات والتجارب التي قام بها من قَبْل، وعلى هذا فإنّ العالِم أثناء قيامه بالملاحظة والتجربة فتسكنُه بعض الأفكار التي ينبغي أن تُفسّر هذه الملاحظات والتجارب.

ج- إختيار الفرض العلمي: يرى ‘بيكون’ أنّ اختيار الفرض العلمي خُطوة أخيرة للمنهج التجريبي، وعلى هذا فقد اعتبر ‘بيكون’ أنّ الفرض العلمي يُمكن استبعاده إذا توفّرت حالة جُزئية تُعارضه، وذلك من خلال “منهج الاستبعاد والرفض”.

إنّ المعرفة العلمية حسب ‘بيكون’ يجب أن تبدأ من استقراء الظواهر الطبيعية كما أنّها يجب أن تبدأ من الشكّ في أقوال السابقين ولا نبدأ التسليم بها، بل ينبغي أن نُخضِع كل الأقوال لشكّ. يقول ‘فرنسيس بيكون’: <<…ليس العلم تلك الثرثرة الفارغة التي كانت الفلسفة المدرسية تُردّدها، وإنّما العلم الحقُّ هو ما أنتج فائدة للإنسانية، العلم الصحيح هو حلّ رموز كتاب الطبيعة وألغازه التي تتّضحُ إلاّ لمن يدرسها على ضوء الواقعية المُؤكّدة والمُؤَسَّسة على التجربة…>>[23]. ومن خلال هذا النص يُحاول ‘بيكون’ تطبيق المنهج التجريبي على الفلسفة، حيث جعل من التجارب والمُلاحظات طريقا للوصول إلى علم نافع شريطة أن يتخلّص العقل الإنساني من ذلك الجانب النظري الحائز على أشباح وثنية بقيت من عهد ‘أرسطو’ كونها خُرافات لا طائل منها، ولهذا يقول عنه ‘راسل’: <<…له أهمية دائمة كمُؤسس للمنهج الاستقرائي الحديث وكرائد لمُحاولة تنظيم الإجراء العلمي تنظيما علميا>>[24]، وبهذا فإنّ ‘بيكون’ لا يهدف إلى إنشاء فلسفة جديدة أو تركيب نظام فلسفي مُعيّن فقط، وإنّما كان هدفه الأساسي “إصلاح أساليب التفكير وطُرق البحث”، ولهذا انتقد ‘بيكون’ الفلاسفة العقلانيين والتجريبيين، فالأولون كالعنكبوت الذي يبني بيته من الداخل، أما الآخرون كالنملة التي تجمع زادها من الخارج، والفيلسوف هو كالنحلة التي تجمع الرحيق من الأزهار لتصنع عسل صافي[25].

من خلال من تقدّم يتّضح أنّ ‘بيكون’ قد بنا منهجه على خُطوتين أساسيتين في بحثه العلمي؛ خُطوة إيجابية تتضمن الانطلاق من الطبيعة والقيام بالتجارب وتِكرارها وتنويع طرائقها وتوزيع نتائجها في قوائم. خُطوة سلبية مُتمثِّلة باستبعاد كافة الظواهر المُخالفة لما تحويه القوائم من نتائج، وهنا لابدّ من الإشارة أنّ ما قدّمه ‘بيكون’ من إسهام، إلاّ أنّه لا يزال موضع نقد من طرف الباحثين.

إذ هو يعتمد على نزعة تأمُّلية تأخذ التجربة مكانتها الخاصة، بل تحتلُّ المرتبة الأولى في سلّم التطوّر من الناحية الإجرائية، فهذه الوِجهة الحسّية الخالصة مُستقلة عن الفروض العلمية تُقلّل من شأن العقل، وتتجاهل منهج الاستنباط الرياضي الذي استخدمه مُعاصريه، وبالتالي منهجه يمتاز هو الآخر بالجهود، يُعطّل البحث العلمي إذا ما قورِن بالمناهج المُعاصرة التي تمتاز بالثورية والتغيُّر.

لكن من الواجب على الباحثين مراعاة حَيْثيات وظروف عصر ‘بيكون’، أي أنّ مشروعية قُبول الفكر البيكوني أو نقده لابُدّ من مُراعاة الظروف التي أنتجت فِكره. يقول ‘ريشنباخ’: <<إنّ ‘بيكون’ لم يكن في موقف يسمح له بوضع نظرية في المناهج>>[26].

من المُستحسن إذن في تاريخ العلم مراعاة تغيّر مناهج العلم وتطويرها، بحيث عصر ‘بيكون’ مختلف في مُعظمه عن مناهج الفيزياء المُعاصرة، يقول ‘ريشنباخ’: <<الفيزياء الرياضية كانت لا تزال في مهدها)…(ولم يتّضح إمكان استخدام المناهج الاستنباطية مُقترنة بالاستدلالات الاستقرائية إلاّ بعد ظُهور نيوتن في الجاذبية)…(وإذن، فمن الواجب أن يُدرك مُؤرّخو الفلسفة الذين يعيبون على منطق ‘بيكون’ الاستقرائي كونه غير علمي، أنّ حُكمهم إنّما يصدر على أساس معايير لم تُعرف إلاّ في عصر مُتأخِّر>>[27]

نقد ‘مل’ لمنطق الاستقراء التقليدي

قد رأينا سابقا حملة التطهير التي قام به ‘بيكون’ من أجل إرساء التفكير العلمي والفلسفي على أُسس سليمة، لا تتمُّ إلاّ عن طريق النقد، فالنّقد كما يقول أحد الكُتّاب: “”هو روح الفلسفة، إذا خلت منه صارت كالعين التي لا تُبصر واللسان الذي لا ينطق والفؤاد الذي لا ينبض[28]، ربّما هذا القول يكون أكثر حُجّة للموقع الذي احتلّه ‘بيكون’ في الفلسفة الحديثة نقدا للمنطق القديم وكشفا لعيوبه الذي اعتبِر كأداة استخدمها الفلاسفة القُدامى للوصول إلى نظرياتهم، معتمدين على القياس الأرسطي، فالمنطق هو وسيلة العلم لتحقيق مهمّتِه، ألا وهي السيطرة على الطبيعة وتسخيرها لفائدة الجماعة، كما أنّ التجربة هي المعيار الموضوعي الحاسم للذات العارفة والموضوع المعروف بمقتضى الظروف السائدة في المرحلة البيكونية.

إذن منطق العلم كان في نظر ‘بيكون’ هو الاستقراء، بل هو السِّمة الأساسية للعلوم في مُقابل اعتماد المعارف العامة والمُعتقدات المُختلفة على أسلوب الرواية والتداعي، لكن كل هذا النقد وهذا التغيُّر في نظر الفيلسوف للطبيعة هو التغيُّر الذي يطرأ على العلم الطبيعي ووجهة نظر أصحابه مُمتدا إلى تنظير الفلاسفة، بحيث يُعدُّ ‘جون ستيوارت مل’* (1806-1879م) من بين هؤلاء بل من الفلاسفة والمناطقة الذين اهتمّ بالمنهج والطرائق العلمية في البحث خصوصا إذا تعلّق الأمر بالاستقراء يتناسب مع القدر الهائل من المعلومات والكُشوف والظواهر التي تصدّى لها العلماء ووضعوا أيديهم عليها في زمنه، لذا نتسائل، ما موقف ‘مل’ من الاستقراء التقليدي؟، وإذا كان الموقف موقفا نقديا، فيا تُرى ما هو الشيء الجديد والإيجابي الذي أضافه ‘مل’ إلى الاستقراء بتجاوز الشيء السلبي كسبب للنقد؟.

ليس ثمّة شك في أنّ تصوُّر ‘جون ستيوارت مل’ عن الغرض الحقيقي للبحث العلمي ناجم عن البيئة الفكرية التي نشأ فيها، وهي بيئة مُتأثِّرة إلى حدّ بعيد بالمذهب التجريبي في الفلسفة الإنجليزية، يقول ‘فهمي زيدان’: <<يظهر ويتّضح اتجاه ‘مل’ من خلال تأثره بـ ‘فرنسيس بيكون’…، لأنّه رفض المناهج الصورية والفلسفات الميتافيزيقية التي شاعت في الفلسفة الإغريقية القديمة وفلسفة العصر الوسيط، كما أنكر المعرفة الفطرية أو القبلية، أي كلُّ المعارف التي لا تقوم على أساس الخبرة الحسّية ولا تتّجه مُباشرة نحو الوقائع الجُزئية>>[29].

يبدو أنّ ‘مل’ من خلال ما سبق ذكره، أنّه فيلسوف المعرفة العلمية وما يُميّز هذه الأخيرة، أيّا كان مجالها أو ميدانها هو المنهج أي الطريق المُحدّد نصل به إلى حقيقة العلاقات التي تربط بين الظواهر بعضها البعض، فالعلم <<هو في صميمه معرفة منهجية>>[30]، وواضح أنّ الاستقراء كمنهج يُمكننا من الوصول إلى القوانين العامّة من خلال استخلاص العلاقات بين الظواهر، لذا وافق ‘مل’ و’بيكون’ حين انتقد القياس الأرسطي، ودعا إلى منطق استقرائي الذي يعني بالبحث في مناهج التي تتّبعها مختلف العلماء في أبحاثهم.

إنّ المنطق عند ‘أرسطو’ وبعده، بقى كأسلوب للبحث التجريدي منفصلا عن الواقع يهتم بصورة التفكير ولا يُعبِّر أيّ اهتمام إلى مادّته، لذا نجد ‘مل’ مُسايرة لمذهبه الحسّي في ربط الفكرة بمواضيعه اعتبر الأصل في المعرفة إدراك المحسوس ثم يتبعه إدراك المُجرّد، فكان منطق الاستقراء عنده هو الأصل والمنطق الصوري فرعا منه، <<وكان طبيعيا ذِكر المعاني المجرّدة والماهيات الخالصة بمعناها التّقليدي المعروفة لأنّها في نظره لا تقوم إلاّ مجسّمة للمادة>>[31]، حتى المفاهيم الرياضية هي ليست أولية سابقة على الملاحظة، وإنّما هي حقائق تجريبية ترجع إلى المصدر الحسّي، بخلاف ‘أرسطو’ الذي يسعى إلى تحديد الاستدلال القياسي على نمط الاستدلال الرياضي.

يُعلِّق ‘سالم يفوت’ عن ‘أرسطو’ قائلا: <<إنّ مصدر اليقين الرياضي في نظر ‘أرسطو’ هو أنّ الفكر لا يدرس سوى ذاته، ولا يُعالج سوى عملية تجريدية من خَلقه، فمعيار صدقها هو صوريتها>>[32]، أما ‘مل’ فالاثنان أو الثلاثة أو الأربعة ليست أعداد مجردة عن مادتها الحسّية، بل هي شيئان أو ثلاثة أو أربعة من نوع واحد، أحجارا أو تفاحات أو ليرات…، فالمعارف كلُّها إذن تقوم على الخبرة الحسّية وفق التعميم من حالات جُزئية، والقضايا المُستمدّة من الخبرة تنطوي على الصدق المُطلق يتميّز به اليقين المنطقي بخلاف ‘أرسطو’.

ينتقد ‘مل’ الاستقراء التقليدي في وجهه الأرسطي، وإن كان المناطِقة أغلبهم خصوصا ‘بيكون’ اعتبروا أعمال ‘أرسطو’ المنطقية ما هي إلاّ قياس، أي يتّضح ممّا تقدّم أنّ ‘أرسطو’ قد غال في الاعتزاز بالقياس أو في اعتباره نموذجا للاستدلال المنطقي، إذ أنّنا نُلاحظ في يُسرِ أنّ القياس يدور في دائرة مُغلقة من حيث أنّه يُقرِّر حقائق سبق اكتشافها، فهو من ثمّة لا يُضيف إلى معرفتنا جديدا، فـ ‘مل’ يُعرِّف الاستقراء: <<بأنّه الانتقال من المعلوم إلى المجهول على غرار الاستقراء الأرسطي التام الذي لا ينتقل من المجهول، وإنّما يكتفي بتلخيص ما هو معلوم>>[33]، أي أنّ الاستقراء هو الانتقال من ملاحظة بعض الصفات في بعض أفراد النّوع، إلى الحكم على جميع أفراد النوع بهذه الصفات، كملاحظتنا لسقوط الأجسام في شروط مُعيّنة، فإنّنا نُصدر حُكما عاما بمثابة قانون الذي لا يختلف بأنّ جميع الأجسام بشروط مُعيّنة تسقط نحو مركز الأرض.

يحرص ‘جون ستيوارت مل’ على تحديد خصائص الاستقراء العلمي وبالتالي بلوغ المعرفة العلمية، إذ وضع للاستقراء ثلاثة نظريات: نظرية العِلّية وهي فرض الفُروض وفي تحقيق الفُروض، فالاستدلالات الاستقرائية تمُرُّ بثلاثة مراحل: الملاحظة، فرض الفُروض، فهو يجعل من إمكانية تحقيق التجربة شرطا أساسيا لتكوين الفرض العلمي، مثل هذه الخصائص هي ما يُبرِّر موقف ‘مل’ من القياس الأرسطي.

نقد الإستقراء الشكلي:

قد يعنينا على هذا التحديد أن نتعرّف على لون من الاستقراء نُميّزه ونُفرزه حتى تتّضح لنا خصائص الاستقراء العلمي بالأصالة عند ‘مل’، وهو الاستقراء الشكلي الذي تنبّه إليه ‘أرسطو’ وساق له المثال المشهور، يذكره ‘فتحي الشنيطي’[34]:

أ)- الإنسان والحصان والبقرة…إلخ تعيش مدّة طويلة من الزمن.

ب)- الإنسان والحصان والبقرة لها مرارة.

ج)- فَطُول الحياة صفة مُلازمة للحيوان التي لها مرارة.

هذا النوع من الاستقراء يُعبّر عن صفة مُشتركة في جميع أفراد نوع مُعيّن أو جميع أنواع الجنس بالذات، ونستطيع أن نُعبّر عن هذا الاستقراء الشكلي في صورته الرمزية الآتية:

                                      أ، ب، ج، د… تشترك في صفة هي س.

                                      أ، ب، ج، د… هي أفراد نوع مُعيّن.

إذن هذه الصفة (س) موجودة في جميع أفراد هذا النوع.

يتّضح وِفق هذا النوع من الاستقراء أنّه لا يأتي بجديد بالرغم من أنّ الملاحظة كخُطوة مهمّة في العملية الاستقرائية واردة بوضوح لأنّ ‘أرسطو’ مثَّل الذات العارفة المُلاحظة التي تتّبع صفة مُعينة في مجموعة من الأفراد، ثمّ تتبّع مُلاحظا هؤلاء الأفراد في انتمائهم لنوع واحد، مُستخلصا أنّ الصّفة مُلازمة لجميع أفراد النّوع، لكن الاستقراء في حقيقته عند ‘مل’ هو الوسيلة الفعالة للوصول إلى القوانين، أي بِمُلاحظة إدراك تتابع مُتلازم ثابت مُتكرِّر بين حادثة وأُخرى.

أي أنّ الاستقراء يفترض العلِّية، غير أنّ هذا المبدأ يرجع إلى التجربة، أي إلى مُلاحظة ارتباط الظواهر وتتابعها، والانتقال من المُلاحظة إلى التعميم وُصولا إلى مبدأ العِلّية، وهذا هو الاستقراء بعينه، فكأنّ مبدأ العِلِّية والاستقراء بينهما دورا منطقيا حين أنّ أحدهما يتوقّف عن الآخر. يقول ‘مل’: <<إنّ العلّة هي المتقدِّم الثابت والكافي>>[35] لحدوث الظواهر مثل طُلوع الشمس ووُجود النهار.

الدلالة السيكولوجية للاستقراء:

كان الخِطاب الفلسفي في مُجمَلِه قبل ‘مل’ خطابا ميتافيزيقيا في أساسه وهذا الأخير كان لابُدّ عليه أن يرفُض مثل هذا الخِطاب، سواء جِهة التطورات العلمية التي شهِدها عصره أو حتى منطلقاته الأيديولوجية، أو حتى البحر الفلسفي الذي نَهَل منه فكره، أي ما يتعلّق بالفلسفة الإنجليزية بوجه الخُصوص وما يتعلّق باستراتيجيات النقد الحديث بوجه العُموم، بالرغم من عدم وُجود رفض ونقد واضح، إلاّ أنّ القارئ يصقل هذا العمل من مؤلفات ‘مل’ كضربة قاضية لتاريخ منطق ‘أرسطو’ وتجلياته في المرحلة الوُسطى.

فالمنطق الأرسطي جُهِّز كرسالة في المنهج لتقصّي الحقيقة الميتافيزيقية على أنقاض الفيزيقا أو علم الطبيعة، علما أنّ ‘أرسطو’ عرَّف الحِكمة بالبحث في مبادئ الأشياء والعلل الأولى، حتى وإن ذهب البعض في أنّ هذا التعريف لا يصدُق على الفلسفة الأرسطية بأكملها، كما يُعلّق ‘لخضر مذبوح’ قائلا: <<إنّه لا يصدُق على الفلسفة الثانية وسواها من أقسام الفلسفة الأخرى التي تبحث في المبادئ الثواني، فكان للفلسفة إذن عدّة أقسام وتختلف أوّلية المبادئ التي تبحث عنها بحسب بُعدها أو قُربها من المبادئ الأولى>>[36].

إذا اتفقنا مع هذا الرأي وأخذنا بعين الاعتبار مسألة الطبيعة التي تُقدِّم لنا الظواهر بحيث يكون دور الباحث أن يُصغي إليها دون أن يتجاوزها، نجد من جهة أنّ ‘مل’ من خلال كتابه “نسق المنطق”[37]، حين شاد  منطقه على دعامة نفسية، والدعامة الأولى هي تداعي الخواطر كظاهرة سيكولوجية تجمع بين ظاهرتين بناءا على علاقة سيكولوجية من اقتران مُطرد وتشابه وعليه، أي طبقا لهذا نجد المعلول يدور مع العلّة وُجودا وعدما بمُقتضى قانون إطراد وقوع الحوادث وهو قانون نفسي.

نجد أنّ ‘أرسطو’ تجاوز الطبيعة التي انطلق منها إلى ما بعد الطبيعة، لأنّه يرى أنّ مُعظم ما في الفلسفة معلوما بالحسّ والكائنات الحيّة مبدأها النفس <<ويكون المبدأ للوُجود في كلّ جسم يتحرّك به أو يُمكن، إما نفسا أو طبيعة، إلاّ أنّ المبدأ الذي هو نفسي لا يكون إلاّ بما هو مؤلّف من أجسام طبيعية تتحرّك بها الأجسام>>[38].

بحيث ينطلق ‘أرسطو’ من قوى النفس المُندرجة ضمن العلم الطبيعي ليصل إلى العلّة الأولى، أي الوجود الإلهي وأقسام الوجود ثلاثة[39]:

1- قسم يتحرّك ويسكُن من ذاته، وهو الموجود القابل للحركة والذي لا يُفارق المادة، أي الموجود الطبيعي.

2- قسم لا يتحرّك إلاّ أنّه لا يوجد مُفارقا للمادة وهو الوجود الرياضي.

3- قسم أزلي لا يتحرّك ولا يوجد في المادة وهو الوجود الإلهي.

عندما نرجع إلى ‘مل’ نجد أنّ فهمه للاستقراء يقوم على دعامة نفسية، بحيث عندما نقول أنّ هذا الشيء علّة لهذا الشيء الآخر، نقصد بذلك أنّه موجد له ومُحدث له كقانون نفسي، وهذا ما نقصده للقضية العلمية التي تقول أنّ الحرارة علّة التمدّد ربطا للحرارة والتمدّد لوقوعهما معا، على عكس القياس الذي يتشكّل من مُقدّمتين ونتيجة مُستخلصا منها، بحيث هنالك ثلاثة قضايا وثلاث حُدود مُختلفة كلّ منها يتكرّر مرّتين، والحدّ الذي يظهر في المقدّمتين يختفي في النتيجة هو الحدّ الأوسط، يكون القياس كنموذج منطقي منهجي إن صحّ التعبير للعلم الطبيعي عند ‘أرسطو’، المُندرجة ضمنه قوى النفس تعبيرا عن القلق الميتافيزيقي وإجابة عن سؤال العلّة الأنطولوجية، لأنّ مبادئ العقل تفرض عليه صناعة بناء معرفي شامل وكُلّي من الطبيعة إلى ما بعد الطبيعة، أي ما هو:

يتحرّك وبه نفس موجود طبيعي.

الجسم يتحرّك لأنّ به نفس.

الجسم موجود طبيعي.

لكن في أقسام الوجود الثلاثة هنالك قسم أزلي لا يتحرّك وهو الوُجود الإلهي والعلّة الأولى، فلتبرير هذه الإجابة يتناول ‘أرسطو’ النفس من حيث قواها ووظائفها الحيوية التي يشترك فيها الإنسان والحيوان، فالنفس مبدأ الحياة تُحدّد ماهيتها بثنائية المادة والصورة، القوة والفعل، والكائن الحيّ مُركّب من كلا هذين العُنصرين المُتباينين (النفس والجسد) الذين هما بمثابة (الصورة والمادة) منه إذا قيس بسائر الموجودات المُركبة. هذه الفكرة كانت بمثابة موضوع اهتمام كل المُفكرين في العصور الوسطى، خصوصا المسلمين من ضمنهم ‘ابن باجة’ (355هـ) الذي ترك رسالة غامضة بعنوان “في الاتصال بالعقل الفعّال”[40].

يبدو من كلّ ما سبق ذكره أنّ الفكر الإسلامي أو حتى الأوربي في المرحلة الوُسطى لم يستطع التحرُّر من رقبة وهيمنة الفلسفة الأرسطية إلاّ بظهور الفلسفة الاستقرائية الجديدة، تتجاوز هذه الهيمنة كفلسفة ‘بيكون’ التي تُعدّ بمثابة نُقطة انتقالية <<من الفلسفة القديمة إلى الفلسفة الحديثة>>[41]، لكن ‘جون ستيوارت مل’ رغم تأثُّره بها خصوصا ما يتعلّق بالتجربة والمُلاحظة إلاّ أنّه انتهج المعرفة غير القبلية أو الفطرية انطلاقا من قواعد منهجية سمّاها بِطُرق البحث العلمي كطريقة الاتفاق والاختلاف والتغيُّر النسبي مُناسبة لطبيعة المعرفة العلمية.

مع العلم أنّ ‘مل’ لم يُشر ولم يُصرِّح عبر كتاباته أنّه أخذ من المسلمين أو انتقدهم، لأنّ طريقة الاختلاف على سبيل المثال عند ‘ابن طفيل’ اسْتَبَقَهُ في تطبيقها مُقرّر بواسطتها الشكل النهائي لنظامه الفلسفي القائم جوهريا على مبادئ تجريبية، مُستمدّة من منطق الظواهر الطبيعية، فحتى لا نقع في تناقُض من أنفُسنا جهة أصالة منطق الاستقراء عند المسلمين، أو طغيان الفكر الأرسطي بتعاليمه المنطقية التي تخدُم الميتافيزيقا في القُرون الوُسطى ما يُبرِّر مشروعية النقد والمُجاوزة، نأخذُ بعين الاعتبار القواعد المنهجية كمُساهمة في تطوير مسار فلسفة العلُوم عند ‘مل’ رغم الاختلاف* الآراء والمواقف حول هذه القواعد

طُرق وقواعد الاستقراء عند ‘مل’

عندما يطرح العقل على نفسه السؤال الآتي: كيف أعمل؟ أو ما هو الشيء الذي أعمل به لحلّ المسائل التي تدفع بها الطبيعة؟ أي بمعنى آخر ما هو المنهج المُناسب للتفكير في الأشياء والموجودات العينية؟، نجد أنّ هذه الأسئلة ساهمت في تحليلها ولو بشكل غير عميق كما هو معروف الآن، مختلف الحضارات، إلاّ أنّ إنجازات العلم التي تحقّقت، خصوصا النهضة العلمية في أوربا خلال القرن السابع عشر وانتقادها، بل ولمجاوزتها للمناهج الكلاسيكية جعلت البعض يرى بأنّ مهمّة التحليل للعمليات الفكرية، انطلقت من ‘بيكون’ و’مل’، يقول ‘بيتر مدور’ (1916): <<إنّ مُعظم الذين حاولوا تحليل طرائق تفكير العلماء، الفلاسفة والمناطقة كـ’بيكون’ و’مل’ إلى كُتّاب القرن العشرين>>[42].

يشترك ‘جون ستيوارت مل’ مع ‘بيكون’ كفلاسفة ومَناطِقة إن صحّ التعبير في رفض مناهج الصورية والفلسفات الميتافيزيقية التي شاعت في الفلسفة الإغريقية القديمة وفلسفة العصر الوسيط، و<<إنكار المعرفة الفِطرية أو القبلية أي كل المعارف التي لا تقوم على أساس الخبرة الحسّية ولا تتّجه مُباشرة نحو الوقائع الجُزئية>>[43]، لكن الذي يشُدّ انتباهنا عند هذا المُفكّر هو غرضه من مبحث الاستقراء، فهو لا تُهمّه النتائج أو القوانين كـ’بيكون’، بل تحليل الاستقراء وضبط طُرقه؛ أي <<تحليل الطريقة التي نحصل بها على الحقائق العامّة، هي بالقوة تحليل الاستقراء كُلّه>>[44]، فكيف حلّل ‘مل’ الاستقراء؟ وما هي طبيعة الطُرُق التي قدّمها تعكس مدى خصوصية هذا التحليل الذي يختلف عن الاستقراء عند ‘بيكون’؟.

لقد رأينا سابقا أنّ الاستقراء يعتمد على التجربة والمُلاحظة، بالإضافة إلى الفَرض، فإذا أيّدَتْه التجربة في الحاضر والمستقبل يُصبح قانونا، فلا سبيل إلى اكتشاف قوانين الطبيعة إلاّ بالاستقراء، وبما أنّ القوانين ليست سوى قضايا عامّة، فإنّ الاستقراء في هذا السّياق هو عند ‘مل’: <<الوسيلة التي نكشِفُ ونُبرهن بها قضايا عامّة>>[45]، فالمنهج الاستقرائي يهدف إلى اكتشاف القوانين العامّة التي عن طريقها تُفسَّر الظواهر الطبيعية، والقوانين لا تعني إلاّ الإطرادات الموجودة في الظواهر الطبيعية، إذ أنّ ‘بيكون’ سلّم بمبدأ الاطراد؛ أي سلّم بثبات الترابط بين الظاهرتين، بحيث تكون الأولى منها متبوعة دائما بالأخرى، لكنّه <<لم يُبرّره لأنّ هذا المبدأ مستمد من النظرية العِلِّية الأرسطية التي ثارت عليها الفلسفة الحديثة>>[46].

لكن ‘مل’ يعتبره عماد العلم، وهو تصوّر لا يقوم على الاستدلال ولا على الاعتقاد الحسّي وحتى الاستعداد الطبيعي، وإنّما هو قائم على الإطراد، لأنّ الخبرة الإنسانية النابعة من ملاحظاتنا اليومية العادية تُؤكّده وتدعمُه، فهو مُرتبط بمبدأ العِلّية لأنّ <<القانون المألوف الحاصل بملاحظة عدم انتقاض التعاقب بين واقعة طبيعية وواقعة أخرى تَقدَّمتها>>[47].

إنّ دعوة ‘جون ستيوارت مل’ لإعادة الاعتبار لطلب العلّة هي الحقيقة استجابة لمُقتضيات البحث العلمي، بالرغم من العصر الذي عاش فيه ‘مل’، هو عصر النزعة الوضعية التي قامت بطلب القوانين التي تحكُم الظواهر، في مقابل رفضها لمبدأ العلّة، بحيث نجد أنّ ‘مل’، في ضوء هذه الاستجابة رغم ما تُنادي به الوضعية يرفض كل ما سمّته الفلسفات الميتافيزيقية بالعلّة الأولى، يقول: <<أنا لا أقوم بالبحث في العلّة الأولى، أو العلّة الأنطولوجية لأيّ شيء>>[48]. فالعِلّة التي هي أصل كلّ رأي في الاستقراء ليست بالعلّة الأولى أو العلّة الفاعلة، بل العلّة الطبيعية، <<بمعنى الذي يُراد منه أنّ ظاهرة ما علّة لظاهرة أخرى>>[49].

لاشكّ أنّ ‘فرنسيس بيكون’ استحق مكانته في الفلسفة عامة وفي فلسفة العلوم خاصة، لكن طُرقه في ضوء عمل ‘مل’، لا تقوم في حقيقة الأمر على أُسس علمية راسخة، لأنّه لم ينته للدور الذي تُؤيّده الفروض، بل يُمكن أن نقول أنّه أغفل هذا الدور الأساسي في البحث العلمي، أي بمعنى أنّ ‘مل’ أراد تقديم حل لمشكلة الاستقراء، لا كما تصوّرها ‘بيكون’ نفسه وفقط، بل كذلك كما أصبح العلماء يتصوّرونها في القرن التاسع عشر، بحيث صحّة الفُروض <<هي السّند الوحيد للتنبُّؤ بمستقبل الحوادث والوقائع)…(وهي مرتبطة بمبدأ الإطراد العلّي>>[50].

إنّ تحقيق الفُروض هي المرحلة الأخيرة التي يكتمل بها البحث العلمي التجريبي، وليس يكفي الأخذ بفرض من الفُروض أن تُثبته بعض التجارب والمُلاحظات، بل لا بُدّ من المُثابرة على تكرار التجربة حتى يتمّ التأكُّد تأكُّدا تاما من صحّة الفُروض ولا يصبح الفرض قانونا علميا إلاّ بعد اختبار دقيق، لهذا حرص ‘مل’ على تطوير طرائق تحقيق الفُروض.

يرى ‘محمد الشنيطي’[51] أنّ ‘مل’ عرض أربع طُرق لتحقيق الفُروض في كتابه “نسق المنطق”، وهي على التوالي:

1-طريق الاتفاق أو التلازم في الوقوع.

2- طريقة الاختلاف أو التلازم في التخلُّف.

3- طريقة التغيُّر النسبي.

طريقة البواقي.

وقد اختلفت نظرة المَناطقة في تحديد الطريقة الرابعة، فيرى البعض أنها هي الطريقة الأولى والثانية مُجتمعتان، ويرى البعض الآخر أنّها تكرار للتغيّر النسبي.   

  • طريقة الاتفاق أو التلازُم في الوقوع:

لابدّ أن يكون ‘مل’ قد اقتنع أكثر من غيره ممن عاصره من المُفكّرين في أصول البحث العلمي، بأنّه لا تنبُّؤ بدون علم بالعِلّة، فلو نظرنا مثلا إلى أُسس الاستقراء عند ‘بيكون’ نجده ينطلق من قائمة الحضور، أو بمعنى قائمة الوقوع، والتي يُقصد بها الأمثلة التي توجد فيها الظاهرة مع تنوُّع هذه الأمثلة واختلافها، لكن ‘مل’ كما أشرنا يُؤكّد على تحقيق الفرض، بحيث تكون العلّة أساسه حينها تكون طريقة الاتفاق تعتمد على الحوادث لمُلاحظة الظواهر والعلاقة بينها.

أي؛ إذا لاحظنا أنّ الظاهرة (أ) تتبعها دائما الظاهرة (ب) في أشكالها المختلفة (بَ، بَ)، استنتجنا من هذا التلازُم  في الحضور أو الوجود معا أنّ (أ) هي علّة (ب). يقول ‘محمد الشنيطي’: <<طريقة الاتفاق مفادُها أنّه إذا اشتركت حالتان أو أكثر للظاهرة المُراد بحثها في عامل واحد، كان هذا العامل الذي يثبُتُ في جميع الحالات هو علّة الظاهرة أو معلولها>>[52].

مثال على ذلك ما فعل ‘باسكال’ (1822-1895م) عندما راح يتحقّق من فرض ‘تورشلي’ (1608-1697م) في الضغط الجوي، فغيّر أشكال الظاهرة (ب) باستعماله لسوائل مُختلفة (زئبق- ماء -كحول) ولأنابيب مختلفة الأشكال، ولم تتغيّر نتيجة الضغط الجوّي الظاهرة (أ) بتغيُّر أشكال الظاهرة (ب)، وبهذا تحقّق ‘باسكال’ من صحّة فرض ‘تورشلي’. يقول ‘مل’: <<إذا اشتركت حالتان أو أكثر من حالات الظاهرة التي هي موضوع البحث في أمر، فإنّ الأمر الوحيد الذي يتّـفق فيه هو علّـة الظاهرة أو معلولها>>[53].

  • طريقة الاختلاف:

إذا لاحظنا أنّ الظاهرة (ب) تحدث كُلّما حدثت الظاهرة (أ) وتغيب كلّما غابت، استنتجنا أنّ (أ) علّة (ب)، يقول ‘مل’: <<إذا كانت الحالة التي توجد فيها الظاهرة والحالة التي لا توجد فيها الظاهرة تشتركان في جميع الأُمور ما عدا أمر واحد، بحيث لا يوجد هذا الأمر إلاّ في الحالة الأولى، فإنّ الأمر الذي تختلف فيه الحالتان وحده هو معلول الظاهرة أو علّتها أو جزء ضروري من العلّة>>[54].

ومثال ذلك ما قام به ‘باسكال’ أيضا عندما أراد أن يُبرهن على أنّ الضغط الجوي هو علّة ارتفاع الزئبق في الأنبوب المُفرغ من الهواء، فعمد إلى إزالة مفعول الضغط الجوّي على سطح وعاء الزئبق بوضع الأنبوب والوعاء داخل أنبوب أكبر وأفرغه من الهواء، فوجد أنّ الزئبق لا يرتفع في الأنبوب، ممّا تبيّن معه أنّ الارتفاع (ب) وُجد عند وُجود الضغط الجوّي (أ) وغاب عند غيابه، فالضغط الجوّي هو علّة الارتفاع.

  • طريقة التغيُّر النسبي:

إذا لاحظنا ظاهرتين (أ) و(ب)، بحيث كُلّما تغيّرت (أ) بنسبة تغيّرت (ب) بنسبة مُعيّنة أيضا، استنتجنا أنّ (أ) علّة (ب)، إذ هي طريقة يلجأ إليها الباحث متى تعذّر عليه الوُصول إلى مطلوبه باستعمال طريقة الاتفـاق أو الاختلاف، و<<ذلك في بعض الاقترانات العلية الدائمة التي لا يُمكن بحال من الأحوال أن نفصل فيها بين عوامل الطبيعة بعضها البعض)…(كما هو الشأن بالنسبة إلى الحرارة والجسم، إذ لا حرارة بدون جسم، ولا جسم بدون حرارة>>[55].

إذن، هي طريقة لا تستلزم إيجاد علاقة بين ظاهرتين، وإنّما تستهدف فقط تحديد العلاقة بينهما تحديدا كمّيا، إذ أنّنا لا نستطيع أن نُخرج الحرارة تماما من الجسم، ولكن يُمكننا أن نُغيّر كمّيتها فيه بالزيادة أو النُّقصان، يقول ‘مل’: إنّ الظاهرة التي تتغـيّر كما تتغيّر ظاهرة أخرى هي إما علّة هذه الظاهـرة أو معلولها أو هي ذات صلة علّية بها[56].

  • طريقة البواقي:

إذا ما استطعنا في سلسلة من الظواهر أن نربط مجموعة من التوالي إلاّ تاليا واحدا هو (ب) بمجموعة من المُقدّمات إلاّ مُقدّما واحدا هو (أ)، استنتجنا أنّ الباقي (أ) هو علّة الباقي (ب). ولقد أورد ‘مل’ المثال التالي: إذا علّقنا إبرة مُمغنطة بخيط من الحرير، ثم حركناها فوق وعاء من النّحاس لشاهدنا أنّ رجوعها إلى السكون أسرع، وليس أمامنا إلاّ عاملان يُمكن اعتبارهما علّة لهذه الظاهرة، وهما مُقاومة الهواء ومُقاومة الخيط، فإذا أسقطنا تأثير هذين العاملين لم يعُد لدينا إلاّ سبب واحد وهو وعاء النُّحاس، فهو المُعوِّق لحركة الإبرة، وتقول هذه القاعدة عند ‘مل’: <<إذا حُذفت من ظاهرة ما يُعرف بالاستقراءات السابقة أنّه معلول بعض المُقدمات من ظاهرة هو معلول المُقدمات الباقية>>[57].

إنّه لا يوجد واحد منّا يُنكر مُحاولات ‘بيكون’ و’جون ستيوارت مل’ في قصدهما لوضع منطق الاستقراء الذي يحُلُّ محلّ المنطق الاستنتاجي الذي وضعه ‘أرسطو’، لكن قيمة الاستقراء عند ‘بيكون’ بالنسبة للبحث العلمي لم توضع في موقعها المُناسب، بل هي أقل خُطوة من ‘مل’ لأنّ هذا الأخير وضع طُرقه للبحث عن العلّة في عالم الظواهر الطبيعية، وقد يترتّب على ذلك أنّ <<المنطق الاستقرائي أصبحت له مكانة مُماثلة للمكانة المُعترف بها منذ ‘أرسطو’ للمنطق الاستنتاجي>>[58]، ومعنى هذا أنّ شُهرة ‘جون ستيوارت مل’ بين الفلاسفة منبعها مؤلّفه الذي وضعه، إذ الطرائق الأربع الخاصة بالبحث التجريبي التي تُمثّل أشهر قسم من الكتاب الثالث الذي بحث الاستقراء القصد منها على وجه الخصوص كما يُلِح على ذلك ‘مل’ هو البحث عن روابط العلّية، وبالتالي إعطاء صورة واضحة لتحقيق الفُروض.

لكن هناك بعض الملاحظات على طُرق تحقيق الفُروض عند ‘مل’ تقدّم بها ‘فتحي الشنيطي’[59] فيما يلي:  طريقة الاختلاف هي بمثابة القياس الشرطي المُنفصل، فإذا كان ‘مل’ يعرض لنا تحقيق الفُروض على أساس استقرائي مستبعدا القياس من حيث هو وسيلة عقيمة للبحث، فإنّ ‘مل’ يُواجه على ذلك الإحراج الآتي: فإما أن يتنازل عن نقده للقياس فيُقوّض الدعامة الأولى لطريقة البحث العلمي، وإما أن يتشبّت بهذا النقد فيقع في التناقض.

إنّ الصورة القياسية هي على الوجه التالي:

علّة (س) إما أن تكون (أ) أو (ب) أو (ج)

لكن علّة (س) ليست (ب) أو (ج)

إذن علّة (س) هي (أ).

دافيد هيوم:

لكن يظل ان الفضل في الكشف عن طبيعة المشكل المنطقي الذي يتضمنه الدليل الاستقرائي؛ يعود الى الفيلسوف الانجليزي ديفيد هيوم “1711ـ1776” المعروف بنقده للمعرفة ورده على النزعة العقلية. فهو في مواقفه النقدية أثار مشاكل جديدة كان لها الاثر البالغ على نضج التفكير الفلسفي لدى الذين خلفوه؛ سواء من التجريبيين كالوضعية المنطقية او من العقليين كالفيلسوف عمانوئيل كانت الذي اعلن قوله صراحة: “انني لاعترف صادقاً ان ما استذكرته من تعليم ديفيد هيوم كان هو على وجه التحديد العامل الذي أحدث ـ منذ اعوام كثيرة ـ اول هزة ايقظتني من سبات جمودي الاعتقادي، ووجّه أبحاثي في مجال الفلسفة التأملية وجهة جديدة”[60]لذا كان كتابه الموسوم “نقد العقل المجرد” يهدف الى انقاذ المعرفة البشرية من خطر الانتقادات التي أحدثها هيوم. وعلى العموم ان ظهور هيوم والرد عليه من قبل كانت ثم مجيء الوضعية المنطقية التي نقدت ما قبلها؛ كل ذلك قد ادى الى بلورة المشاكل الاساسية المتعلقة بالدليل الاستقرائي.

فما من أحد يشك في ان هيوم هو اول من وجد في الاستقراء مشكلة منطقية هذه المشكلة التي تتحدد بمسألة وجود المبرر المنطقي للتعميم؛ اعتماداً على فهم السببية بشكل خاص. لذلك كانت هناك مواقف مختلفة اتجاه الدليل الاستقرائي؛ بعضها ينفي المشكلة من الاساس، وبعض آخر يرى أنها ثابتة لا تزول، كما توجد هناك مواقف أخرى لا تصل الى هذين الحدين المتطرفين، وتبتغي سبلاً متباينة من الوسط.

ديفيد هيوم يرد الترابط بين القضايا والاقتران المطرد بينها ليس للضرورة السببية بل للعادة الذهنية. فإذا ارتبطت (أ) و(ب) ليس لأنَّ هناك ضرورة سببية تلزم من وجود (أ) وجود (ب)، بل لأن الذهن اعتاد أن يرى التعاقب المتكرر بين (أ) و(ب)؛ فيستنتج من ذلك السببية بينهما، ويستنتج أنه في المستقبل سيتكرر هذا الارتباط. وبهذا يرد ديفيد هيوم المعرفة البشرية إلى السيكولوجية البشرية؛ وبالتالي هو ينفي عنها صفتها العقلية. يرى بوبر في هذا الجواب أن ديفيد هيوم تحول من العقلانية إلى التشكيك، كما أنَّ الفيلسوف برتراند رسل يرى في جواب ديفيد هيوم مثالًا للفلسفة المفلسة في القرن الثامن عشر.[61]

  • الفلسفة المعاصرة:

الوضعية المنطقية:

وبحسب الوضعية المنطقية أنه لا يمكن استخلاص الدليل الاستقرائي من القضايا التحليلية؛ باعتبارها لا تخبر بشيء جديد، طالما انها تستند إلى مبدأ عدم التناقض الذي يصف الواقع دون أن يضيف لنا معرفة جديدة. فحينما نقول ان (أ) هي (أ) لا نضيف معرفة إلى الموضوع، إذ المحمول هنا يمثل عين الموضوع تماماً، وهذا هو علة كونه يتصف بالضرورة واليقين.بهذا المنطق اعتبرت الوضعية أن القضايا التحليلية لا يمكنها أبداً أن تبرر لنا طبيعة الدليل الإستقرائي المتصف بأن نتائجه اعظم من مقدماته، وهو علة كونه يقبل التكذيب والتخطئة. فقد يأتي يوم نرى فيه الحديد لا يتمدد بالحرارة فنكتشف خطأ التعميم الذي بنيناه من غير تناقض. لهذا فإن الوضعية حذرة من استخدام التعميمات واليقينات، فهي لا تتحدث عن مطلق أفراد القضية الإستقرائية، بل تكتفي ان ترى فيها فئة تقيم عليها حدود الترجيح والإحتمال دون ان تمنحها درجة التعميم واليقين.

 لقد رفضت الوضعية المنطقية كل ما له صلة بالتعميم واليقين ضمن العملية الاستقرائية. ومن مفكري هذه المدرسة من رفض الحديث حتى عن الصيغ الاحتمالية للتعميم الاستقرائي، معتبراً ذلك بلا معنى. فالتعميم إما أن يعبر عن حقيقة أو كذب، لكنه لا يخضع لاعتبارات الدرجة الإحتمالية. فمثلاً  إن كارناب يعد احتمال التعميم الاستقرائي صفراً، فلا أمل يرجى من تأييد التعميمات والفروض الكلية، بل عنده إن التعامل يكون عالقاً بالنماذج الخاصة، شبيهاً بقاعدة ستيوارت مل التي تقر الاستنتاج من الخاصيات إلى الخاصيات. وبنظر الأستاذ باركر أنه في العلم النظري قد تكون الفروض الكلية أكثر ضرورة للتوظيف والاستخدام من تلك الخاصيات، رغم انه لا يوجد شيء يمكن أن يعمل على تأييد الفرض الكلي. [62]

كارل بوبر:

كان تمييز بوبر بين الاستنباط والاستقراء مناظرًا للتمييز بين المذهب العقلي والمذهب التجريبي، فالأخير كان قائمًا على الاستقراء، وتحديدًا الاستقراء الناقص، فالتجريب ما هو في حقيقته سوى وسيلة لإضافة ملاحظات يتم التعميم منها استقرائيًا للخروج باستنتاج سليم. ولأن الاستنباط باعتباره منهج استدلال عقلي أكثر موضوعية، وأكثر توافقية وانضباطًا مع قواعد المنطق، وقدرتنا على التحقق منه أكبر بكثير من المتاحة في حال الاستقراء، فكارل بوبر يرى الاستنباط منهج الاستدلال العقلي المقبول الوحيد!، وهاجم الاستقراء كطريقة كلية بل وكعمليات صغيرة أثناء الاستدلال. كما أن بوبر يرفض الخبرة كمصدر لصدق الاستقراء لكون البرهنة عليه لا بد أن تقوم على استدلالات استقرائية!

ومفهوم نمو المعرفة هو من أهم المفاهيم التي تشيع في فلسفة بوبر العلمية، بل هو أساسها؛ فبوبر لا يقتنع بالمنهج الاستقرائي الذي يوصلنا وفقًا لملاحظاتنا إلى نظرية واحدة، من المفترض أنها تحدد ماهية المعرفة بشكل كامل، وتعطي تفسيرًا كاملًا، لن يكون قابلًا للنمو. في رأيي أن هجوم بوبر على الاستقراء كان غريبًا. صحيح أن نتائج الاستدلال الاستنباطي تكون يقينية لأنها استنتاج من مقدمات أكبر منها، وأن الاستقراء تظل نتائجه مشكوك فيها لأنه رد صحة وصدق القضية الكلية إلى قضايا مفردة، لكن لا يمكن أن يكون الاستنباط متفردًا بالقبول المنطقي، فما بالنا بالقبول العلمي. لكن بوبر، الذي هاجم الاستقراء لم يستطع أن يستغني عنه، وكثيرًا ما نُقِد لاستخدامه عمليات استقرائية رغم ادّعائه أنها ليست كذلك. سنذكر أمثلة عليها في حينها.

ولم يركز بوبر فيما يخص الاستقراء سوى على إثبات فشله كمنهج ومبدأ، ثم كمعيار للتمييز بين النظريات العلمية. وقدّم منهجه في الكشف العلمي للرد على مشكلة الاستقراء.

وكما يرفض بوبر المنهج الاستقرائي على أساس منطقي، فهو يرفضه على أساس سيكولوجي!، فعند بوبر “ما يصدق في المنطق يصدق في علم النفس”؛ فنحن نبحث عن إطرادات لنفرضها على العالم، لأجل أن يوافق توقعاتنا. والحقيقة أن تلك الأفكار الأخيرة عن الإطرادات أو الاعتقاد بتوقعات معينة إن لم تكن استقراءً، فماذا عساها تكون؟!

لكن بوبر يدّعي أن الميل والتوقع للإطراد في الطبيعة هو اعتقاد براجماتي، إلى حد ما فطري، يرتبط بالاختيار ‏بين البدائل، وليس ناشئًا عن تكرار؛ فنظرًا لرفضه الاستقراء الذي يقود إلى نظرية واحدة، فإن منهجه قائم على الاختيار بين بدائل؛ حيث يفترض نظريات متكافئة أمامه يبحث في صحة كل منها، وصولًا لاستنتاج صحة أفضلها، والتي تبقى مع ذلك قابلة للمزيد من الفحص مع توفر بدائل أخرى.

وتتوفر تلك البدائل من خلال حدس العلماء؛ فعلى العالم أن يحْدِس (يفترض) أكثر من حَدْس، وهو تخمين ذكي لحل المشكلة، ثم باستخدام المنهجية العلمية الموضوعية يختار أفضلها؛ وبذا ينمو العلم بهذه الإضافة.

والصدق عند بوبر دائمًا مشكوك فيه، ودائمًا مؤقت. ينتظر ظهور النظرية البديلة أو الحل البديل.

في المقابل، يمكن القول إن بوبر لم يحترم الأساليب الأمبريقية كأساس لتقرير صحة نظرية أو مقارنة أفضلية عدد من النظريات أو الفرضيات المتكافئة كما كان يراها لأجل الوصول إلى نظرية أصدق وأشمل وأعمّ. وإن كان يرى أنه يمكن استخدام الأساليب الأمبريقية أحيانًا.

ويمكن تلخيص فكرته الأساسية في أنه دون خطوات استقرائية يمكن أن ينمو العلم، وذلك عن طريق وضع فرضيات، ثم اختبارها بأن نستنتج استنباطيًا ما يترتب على كل فرض، ومستعينين بالملاحظة أو التجربة نقارن تلك الاستنتاجات بالواقع، ‏فيتعزز الفرض، أو يتم ‏تكذيبه. ‏فيمكن الاختيار بين النظريات المتكافئة المطروحة وصولًا للنظرية الصحيحة.

ونلاحظ هنا أن الاستنباط عند كارل بوبر ينطلق من مقدمات غير مؤكدة، على عكس ‏الاستنباط الديكارتي؛ فمقدماته الاستنباطية هي فروض حَدْسية تخمينية مؤقتة وقابلة للتغير.‏[63]

  • خطوات ومكونات النهج الاستقرائي:

– الملاحظة:

تختلف نظرة الرجل الذي لا علاقة له بالعلم، أي الرجل العادي في حياته اليومية عن رجل العلم، صاحب النظرة النقدية الفاحصة للظواهر قصد كشف عما هو جديد فيها)…(ليصبح جزءا مُمكنا لنسقه المعرفي، فأيُّ دراسة علمية لابدّ أن ترتبط بالملاحظة غير العادية[64]، أي أنَّ الملاحظة نستعين فيها بالأدوات والأجهزة والأساليب التي تتَّفِقُ مع طبيعة الظاهرة.

– الفَرَض:

هو نقطة البداية اللازمة لكل استدلال تجريبيإذ يقعُ في منتصف الطريق بين المعطيات الحسّية والقوانين النظرية[65]، فهو لا يأتي اعتباطا، بل ينجُمُ أساسا من ذلك النشاط الذي يُمارسه الباحث ملاحظة وتجريبا، لكن يظلُّ خارج الحقائق حتى تُثبِت صحّته، ويتحوَّل إلى قانون.

– التجربة*:

هي المحكُّ الأساسي لاختيار القوانين والنظريات العلمية، والعنصر المهمُّ الذي يجمع بين الملاحظة الأوّلية والفروض، ويتجلّى فيما يذهب إليه الباحث إلى أخذ العيِّنات وإجراء التجارب عليها، إذ يُمكن بها أن نصل بعد التعديل في تركيب الظاهرة إلى شيء جديد، مثلما نستطيع أن نستخلص معدن الرصاص من صهر الحديد والنُّحاس.

– القوانين:

يعتبر القانون هو النتيجة الأخيرة التي يتوصَّل إليها الباحث طيلة مشواره العلمي، فمُحتوى العلم في شكله النَّاضج ليس إلاَّ مجموعة من القضايا التي يتمُّ التأكُّد منها، وهي مترابطة مع بعضها البعض تشكِّل نسَقا يبدو في ضوءه قواعد معيَّنة[66].

  • طبيعة المنهج الاستقرائي:

يعتبر المنهج الاستقرائي من المناهج المشتركة بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية. وإن كان في الغالب يوظف في مجال دراسة العلوم الطبيعية. ويعتمد منهج الاستقراء العلمي في مجال دراسة العلوم الطبيعية على “الملاحظة العلمية”في مجال الطبيعة والانتقال من ملاحظة قضايا جزئية تشير إلى ما نلاحظه إلى نتائج كلية تتضمن وقائع أو ظواهر أخرى سوف تحدث في المستقبل ولم تلاحظ بعد، وهذا يعني أن مقدماته تمثل الجزئيات التي تم استقراءها في الواقع عن طريق الملاحظة والتجربة. أما نتيجته فتعبر عن القانون العام الذي تندرج تحته الجزئيات التي شاهدناها، بحيث يمكن القول أننا نصل إلى تعميم ما جاءت به النتيجة من خلال الاستدلال الاستقرائي ولكنه لا يمثل ما شاهدناه فحسب، وإنما يعبر أيضا عن الوقائع التي سترد علينا في المستقبل[67]

  • أهمية المنهج الاستقرائي:

من المفكرين والمهتمين بأمور تطوير نوعية عيش الإنسان من وجد أن الاعتماد على مناهج كالاستنباط لا يكفي، ومن المحتمل جدا أن يؤدي إلى أخطاء كثيرة ومتكررة تهلك الإنسان وتحيل جهوده إلى عبث بلا طائل. إنهم يتساءلون: ماذا يمكن أن تكون نتائج سياسة معينة إذا بنيت على افتراض أساسي خاطئ؟ فمثلا، عن ماذا يمكن أن تتمخض سياسة إقامة علاقات اجتماعية بناء على افتراض قائل بأن على المرء أن يتجنب إقامة علاقات اجتماعية مع الذين لا تعجبه أشكالهم لأن الوجوه دليل القلوب؟ هذا افتراض لا يحتوي على حقيقة، وربما له علاقات بتجارب شخصية بحتة ولا يمكن تعميمها. من لا يتمتع بوفرة من الوسامة في نظر شخص ما، قد يبدو وسيما في نظر شخص آخر؛ ومن لا يبدو من ناحية الشكل لطيفا قد يثبت التعامل معه عكس ذلك. وإلى غير ذلك. [68] رأى هؤلاء أن قراءة الواقع وتتبع التفاصيل ورصد المتغيرات وجمع المعلومات عبارة عن أسلوب أفضل للتوصل إلى تعميمات حول قضايا معينة أو ظواهر أو علاقات عددية أو جدلية. رأى هؤلاء أن الحقيقة المطلقة فيما يتعلق ببيئة الإنسان التي هي محلية وغير محلية لا يمكن اختزالها في افتراض معين يعبر عن وجهة نظر، ولا يمكن لأي شخص أن يدعي بأنه يملك الحقيقة المطلقة  قد يكون الشخص ذكيا وقادرا على الملاحظة والتحليل، وقد يكون صاحب رأي وتدبر وتأمل عميق، لكن هذا لا يؤهله أبدا لأن يدعي امتلاك الحقيقة المطلقة. من المقبول أن يتبنى المرء حقائق إيمانية مطلقة لها علاقة بما فوق الطبيعة، لكن ذلك غير مقبول فيما يتعلق بالطبيعة والتي هي في متناول قدرة الإنسان على البحث والتدقيق.

وعليه، وجد هؤلاء المفكرون والمهتمون بالتطوير أن البحث في الخاص والتفاصيل من أجل الوصول إلى تعميمات يمكن أن تعبر عن حقائق غير مطلقة هو الأسلوب الأمثل في اتخاذ القرارات وترتيب العلاقات. هذا هو المنهج الاستقرائي الذي يبتعد عن الافتراضات المسبقة، ويفتح المجال لجمع المعلومات الصغيرة والكبيرة ويخضعها للتصنيف والتدقيق والتحليل من أجل الوصول إلى نتائج، أو إلى العام (Welsh, p. 68). إنه منهج يبدأ من حيث ينتهي المنهج الاستنباطي، أي من الخاص إلى العام. فإذا أردنا أن نحكم على المستوى العلمي لجامعة معينة، فإننا لا نقول بأن هذه الجامعة قد بناها فلان وبالتالي هي عظيمة، وإنما نجمع المعلومات ونتقصى حول الأبحاث العلمية التي تنشرها الجامعة، وعدد الأبحاث التي يجريها مدرسوها، والمختبرات الموجودة والأموال المرصودة لدعم البحاثة، والكتب المؤلفة، الخ. بناء على ذلك يمكن للباحث أن يستنتج حول المستوى العلمي للجامعة، وأن يقول فيما إذا كانت الجامعة تشجع البحث العلمي أم لا[69]. ينبثق عن المنهج الاستقرائي مناهج كثيرة فرعية منها منهج دراسة الحالة، والمسح، وتحليل المضمون، والإحصائي، والرياضي، والتاريخي، الخ (Dane, part one). كل هذه المناهج تتناول الموضوع استقرائيا ولا تترك المجال للتمنيات والآراء الشخصية للتدخل في جمع المعلومات أو في التحليل أو الاستنتاج. إنها تقوم على مبدأ الموضوعية وفصل الذات عن موضوع البحث، وهي تعتبر أن كل عمل بحثي يقوم على المزاج الشخصي غير علمي ولا يؤخذ به.

بالإضافة إلى الموضوعية، يتطلب المنهج الاستقرائي وضوحا في موضوع البحث وتحديدا له زمنيا ومكانيا، وتعريفا للمفاهيم التي سيتم استخدامها، وشرحا للمنهج المتبع في الدراسة. وهو يعرّف قضية البحث بدقة، ويشرح أهميتها وأسباب تناولها والفائدة المترتبة على ذلك. وفوق ذلك، نتائج المنهج الاستقرائي قابلة للفحص والتحقق من قبل الباحث نفسه ومن قبل بحاثة آخرين لأنه يعتني بقضايا مادية ملموسة بصورة مباشرة أو غير مباشرة. بإمكان بحاثة آخرون أن يتناولوا موضوع البحث بطريقة جديدة أو منهج جديد، أو أن يكرروا ذات المنهج ليتأكدوا أن النتائج تتقاطع بصورة واضحة مع نتائج البحث الذي سبق. فإذا قلنا إن عادات الناس في الزواج في بلد معين تتطلب مراسيم معينة ونأتي على تفصيلها، فإنه بإمكان أي باحث آخر أن يذهب إلى ذلك البلد ليتأكد من صحة الأقوال. هذا على عكس المنهج الاستنباطي الذي يستحيل التحقق من نتائجه. فإذا قال شخص بأن الإنسان خيّر بالطبيعة، فإنه لا يمكن لأي باحث أن يتحقق من هذا الأمر، علما أن المستنبط الأول لم يقم بأبحاث علمية لتأكيد نتائجه.[70]

  • عيوب ونواقص المنهج الاستقرائي:
  • إن الاستقراء لا يمكن استخدامه مع معظم موضوعات البحث العلمي، التي يجب ان يستخدم فيها منهج علمي آخر.
  • من ميزات الاستقراء في البحث العلمي أنه يعتمد على الملاحظات والتفكير والتحليل، وبالتالي فهو يحتاج الى وقت أكبر  من حالات استخدام مناهج أخرى، وهذا الأمر قد يكون سلبيا للباحث العلمي أو الطالب الذي لا يملك وقت كبير لتقديم دراسته.
  • إن الاعتماد على الاستقراء بالعملية التعليمية، يجعل منها عملية ميكانيكية لدرجة مبالغ بها، مما يقلل من أهمية وقيمة هذا المنهج العلمي.
  • مشكلة مشروعية تبرير  الاستقراء:

ما هي مشكلة الاستقراء؟

المشكلة الاستقرائية هي سؤال بين الفلاسفة وغيرهم من المهتمين بالسلوك البشري الذين يريدون معرفة ما إذا كان الاستدلال الاستقرائي، حجر الزاوية في المنطق البشري، يولد بالفعل معلومات مفيدة وذات مغزى. تناول عدد من الفلاسفة المشهورين، بما في ذلك كارل بوبر وديفيد هيوم، هذا الموضوع، ولا يزال موضوعًا مثيرًا للاهتمام والمناقشة. غالبًا ما يكون الاستدلال الاستقرائي معيبًا، ولذلك يجادل بعض الفلاسفة بأنه ليس مصدرًا موثوقًا للمعلومات

أثناء الاستدلال الاستقرائي، يتم استخدام سلسلة من الملاحظات لاستخلاص نتيجة بناءً على الخبرة. تكمن مشكلة هذا المنطق في أنه لمجرد أن مجموعة من التجارب تدعم استنتاجًا منطقيًا، فهذا لا يعني أنه لا يوجد شيء ما يناقض هذا الاستنتاج. ومن أشهر الأمثلة على ذلك مثال البجعة السوداء. يرى الشخص سلسلة من البجعات البيضاء ويستنتج بناءً على هذه المعلومات أن جميع البجع أبيض، حيث يجب أن يكون البياض حالة جوهرية من البجع. عندما يرى ذلك الشخص بجعة سوداء، فإنه يدحض هذا الاستنتاج ويوضح مشكلة الاستقراء.

يُجبر البشر باستمرار على اتخاذ قرارات منطقية بناءً على التفكير الاستقرائي، وفي بعض الأحيان تكون هذه القرارات غير موثوقة. في التمويل والاستثمار، على سبيل المثال، يعتمد المستثمرون على خبرتهم في السوق لوضع افتراضات حول تطورات السوق. عندما تكون غير صحيحة، يمكن أن تؤدي إلى خسارة مالية. بعد الحقيقة، فهموا أن النتيجة التي توصلوا إليها كانت خاطئة، لكن لم يكن لديهم أي وسيلة للتنبؤ بها عندما كان السوق لا يزال يتصرف بطريقة تتوافق مع توقعاتهم السابقة.

يمكن أن تلعب مشكلة الاستقراء دورًا رئيسيًا في فهم الاحتمالية وكيفية اتخاذ الناس للقرارات. في الحالة التي تستند فيها الاستنتاجات إلى سلسلة من الملاحظات الإيجابية دون أي تناقضات تتعارض معها، يمكن التعبير عن الاستنتاجات بدقة أكبر من حيث الاحتمالية، بدلاً من الإحصائيات. على سبيل المثال، إذا لم يسقط الفارس من فوق حصان مطلقًا وكان يستعد لتجربة جبل جديد، فقد يقول إنه من غير المحتمل أن يتم إلقاؤه، بناءً على تجاربه السابقة، لكن لا ينبغي له ذلك.استبعد هذا الاحتمال تمامًا.

بفضل مشكلة الاستقراء، يمكن للناس اتخاذ قرارات بناءً على معلومات محدودة، مما قد يؤدي بهم إلى اتخاذ خيارات سيئة. يعتبر كل حدث يعزز الاستنتاج دليلاً إضافيًا يدعم الاستنتاج، بدلاً من نقطة بيانات أخرى يجب مراعاتها. هذا يمكن أن يخلق إحساسًا زائفًا بالثقة. يمكن أن تلعب مشكلة الاستقراء أيضًا دورًا في الأخطاء المنطقية مثل الاعتقاد بأن الارتباط الملحوظ هو دليل على العلاقة السببية.

يعتمد الرجال، وخاصة العلماء، باستمرار على التفكير الاستقرائي. عندما نتنبأ بالمستقبل أو عن أشياء فإننا نعتمد على الاستدلال الاستقرائي.

كان الفيلسوف الاسكتلندي ديفيد هيوم (1711-1776) أحد كبار المفكرين الذين أظهروا عدم موثوقية الاستقراء، والذي اعتبره رهانًا غير حكيم، وحتى لا يمكن الدفاع عنه. وفقًا لهيوم، لا يمتلك الاستقراء أساسًا منطقيًا ولكن نفسيًا (الشعور بالعادة). العلم، لأنه ينطلق عن طريق الاستقراء، لا يمكنه أن يجلب اليقين المطلق لما يدرسه، وبالتالي يتم إعادته إلى مجال الإيمان (الإيمان بمصداقية الاستقراء). “كل المعرفة تنحرف إلى احتمالية. قال هيوم بالتأكيد، من المحتمل جدًا أن تشرق الشمس غدًا، كما يقول هيوم، لكن ليس من المستحيل ألا تشرق. حتى الآن كان يستيقظ كل يوم، لذلك نخلص إلى نتيجة مفادها أنه سوف يستيقظ غدًا، لكن هذا تفكير استقرائي، لذلك لا يعتمد على المنطق بل على العادة فقط. لا شيء يخبرنا أن المستقبل سوف يشبه الماضي، وبالتالي ليس من المستحيل منطقيًا ولا ماديًا التفكير في أن الشمس لن تشرق غدًا، حتى لو بدا لنا هذا التأكيد غير قابل للتصديق. سيقول برتراند راسل أن الاستدلال الاستقرائي هو المنطق الذي تستخدمه الدجاجة عندما تربط يد المزارع بالحبوب التي تغذيها، حتى اليوم الذي تلوي فيه هذه اليد رقبتها.”العقل ليس هو دليل الحياة، ولكن العادة وحدها هي التي تحدد العقل، في جميع الظروف، وتسمح لنا بافتراض أن المستقبل سيتوافق مع الماضي. (هيوم).

سوف نرى كل صباح في المستقبل باستمرار. وبالتالي فإننا نصوغ الفرضية القائلة بأن نفس الانتظام يمتد إلى كل الطبيعة، بما في ذلك في المستقبل.

وبالتالي، للإعلان عن موثوقية الاستقراء، سيكون من الضروري إثبات صحة الافتراض القائل بأن الطبيعة موحدة. هل من الممكن ؟ يعطي هيوم احتمالين لمحاولة تبرير أن الطبيعة موحدة: بطريقة منطقية وبطريقة تجريبية.

لكن الاستقراء للأسف ليس حقيقة منطقية. لا يوجد تناقض منطقي في التفكير أنه إذا كانت الطبيعة موحدة حتى الآن، فقد تصبح فوضوية بين عشية وضحاها، مساحة تحدث فيها الأحداث بشكل عشوائي وغير متوقع.

هل يمكننا بعد ذلك إثبات توحيد الطبيعة تجريبيًا؟ في الواقع، هناك طريقة واحدة فقط للقيام بذلك: مراقبة الطبيعة كلها مباشرة ومعرفة ما إذا كانت موحدة أم لا. من الواضح أنه مستحيل. بادئ ذي بدء، لأن جزءًا صغيرًا فقط من الكون يمكن ملاحظته. ما الذي يخبرنا أن نفس القوانين المطبقة هنا تنطبق أيضًا على كل ركن غير معروف من الكون؟ أخيرًا، المستقبل بالتأكيد لا يمكن ملاحظته، ولا شيء يثبت لنا أن قوانين الطبيعة غير قابلة للتغيير: “الافتراض بأن المستقبل يشبه الماضي لا يعتمد على أي حجة ولكنه ينبع تمامًا من العادة. (هيوم)

هل يمكننا بعد ذلك التأكيد على أنه إذا كانت الطبيعة موحدة في المجال المرئي وحتى الآن، فلا يوجد سبب للاعتقاد بأنها ليست في كل مكان وفي المستقبل؟ هذا يرقى إلى مناشدة الاستقراء لتبرير الاستقراء. هذا تفكير دائري لا يمكن أن يبرر أي شيء على الإطلاق

هل يمكن إثبات موثوقية الاستقراء من خلال خصوبته؟

الاعتراض الثاني الذي يعارضه المرء لهيوم هو أن الاستقراء أثبت نفسه. من خلال الاعتماد على الاستدلال الاستقرائي، حقق العلماء أشياء غير عادية، لم يكن من الممكن تصورها حتى وقت قصير: بناء أجهزة كمبيوتر متطورة للغاية، وإرسال الرجال إلى القمر، والتلاعب جينيًا بالكائنات الحية، وما إلى ذلك.

لكن هذا مرة أخرى هو المنطق الاستقرائي. نحن نفترض أن الاستدلال الاستقرائي كان يعمل دائمًا جيدًا في الماضي، ولذا فإنه سيفعل ذلك بالضرورة في المستقبل. نعود إلى فخ الاستدارة: مناشدة الاستقراء لتبرير الاستقراء

بينما كنا نظن أننا على يقين من المعرفة العلمية وقادرون على استخلاص استنتاجات حول المستقبل، يوضح هيوم أن العلم في الواقع يعتمد فقط على الاعتقاد، في مصداقية الاستدلال الاستقرائي. حتى في أفضل المعارف الراسخة، فإن جزء الإيمان غير قابل للاختزال. إذا تبنينا موقفًا جذريًا، فيمكننا الذهاب إلى أبعد من ذلك لتأكيد أن تنبؤات علمائنا ليست أكثر عقلانية من تنبؤات المجانين. لقد دفعت مشكلة الاستقراء بعض العلماء للبحث عن طرق أخرى لإثبات الحقيقة.

الخاتمة:

نستنتج في الأخير:

  • أن المنهج الاستقرائي يقوم على التعميم، والانتقال من حالة جزئية إلى حالة كلية، حيث ينطوي الاستقراء على الكشف عن العلاقات القائمة بين الحالات الجزئية المأخوذة أو المدركة، وربطها بقوانين تنظم هذه العلاقة وتعددها مستقبلاً.
  • أن المنهج الاستقرائي من أهم وأبرز المناهج في البحث العلمي.
     ومن المناهج التي ساهمت في مساعدة الباحثين على الحصول على معلومات جديدة حول الظاهرة التي يدرسونها.
  • مشكلة الاستقراء هي التساؤل الفلسفي حول ما إذا كان التفكير الاستقرائي يؤدي إلى معرفة مثلما هي مفهومة بالمعنى الفلسفي الكلاسيكي.
  • مشكلة الاستقراء الفلسفية بقيت حاضرة من دون حلّ، وحتى أولئك الذين استعاضوا عن الاستقراء بالاستنباط كأساس للمنهج العلمي لم يفلحوا في التخلّص من مشكلة الاستقراء بشكل أو بآخر لا عجب – إذًا – أن يشير الفيلسوف البريطاني شارلي بورد إلى الاستقراء بوصفه مجد العلم وفضيحة الفلسفة.

[1] الرفاعي، أحمد: مناهج البحث العلمي  تطبيقات ادارية واقتصادية، دار اليازوري العلمية، عمان.ص85.

[2] وحوش، عمار والذنيبات، محمد محمودمناهج البحث العلمي وطرق إعداد البحوث، دار اليازوري، عمان.ص211

[3] وحوش، عمار والذنيبات، محمد محمودمناهج البحث العلمي وطرق إعداد البحوث، دار اليازوري، عمان.ص211

[4] خديجة زتيلي: https://www.facebook.com/adlisclub05/photos/a

[5] كيف تحرر المنهج العلمي من منطق أرسطو: https://elmahatta.com/%D9%83%D9%8A%D9%81-

[6] مختار رسائل جابر بن حيان، تصحيح كراوس، مكتبة الخانجي، 1354هـ، ص419ــ421.

* – كلمة يونانية تعني القاعدة أو المرسوم أو القاعدة المتعلقة بإيمان أو تنظيم ديني، وتعني أيضا مجموعة الكُتب المعتبرة مستوحاة من الإله، سلمان قطاية، كتاب القانون لابن سينا مجلة الفكالمجلد 7، العدد2، وزارة الإعلام، الكويت، 1972، ص191.

[7] – محمد فتحي،  الشنيطي أُسُس المنطق والمنهج العلمي، مرجع سابق، ص130.

[8] – حسين علي،  التفكير العلمي عند ابن سينا، دار قباء للطباعة والنشر، القاهرة، مصر، د(ط)، 2003، ص ص36-37.

[9] – في اللغة تعني تمييز الأشياء بعضها عن بعض، وصف الشيء أي مُيّز بعضه البعض، وتصنيف الشيء جَعلُه أصنافا،ابن منظور، لسان العرب المحيط، ج4، دار المتوسطيةلنشر والتوزيع،تونس، ط1،2005،ص2511.

لا تكاد تختلف المفاهيم الاصطلاحية لمصطلح التصنيف في دلالتها العامة عن الدلالة اللغوية المشار إليها سابقا، لأنّه يخرج عن كونه يُفيد ترتيب العلوم أو المجموعات، ولذلك يُعدُّ من أبرز الوسائل المنهجية، تُشكِّل الطائفة أو الصنفة أو المجموعة، أرنست ماير، هذا هو علم البيولوجيا، تح: عفيفي محمود، العدد277، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 2002، ص142.

[10] – ابن سينا،  القانون في الطب، تح: إدوارد قش، مؤسسة عز الدين للطباعة، بيروت،دط،1993لبنان، ص3.

[11] – توفيق الطويل، في تراثنا العربي الإسلامي، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة، الكويت، د(ط)، 1985، ص ص139-140.

[12] – حسين علي التفكير العلمي عند ابن سينا، مرجع سابق، ص ص63-64.

[13] – المرجع نفسه، ص66.

[14] – لخضر مذبوح،  دراسات في الفلسفة الإسلامية، دار المعرفة للنشر والتوزيع، الجزائر، ط1، 2011، ص157.

[15] – محمد فتحي الشنيطي، أُسس المنطق والمنهج العلمي، مرجع سابق، ص192.

[16] – مدني صالح، ابن طفيل – قضايا ومواقف، منشورات وزارة الثقافة والإعلام، العراق، د(ط)، 1980، ص66.

[17] – المرجع نفسه، ص66.

[18] – ابن طفيل، حي بن يقضان، تح: ليون جوتيه، بيروت، لبنان، د(ط،ت)، ص38.

[19] https://www.diwanalarab.com/%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%86%D9%87%D8%AC-%D8%A7%D9%84%D8%A7%

[20] – المرجع نفسه، ص33.

[21] – المرجع نفسه، ص75.

[22] – عبد القادر بشته،الإبستيمولوجيا، دار الطليعة، بيروت، لبنان،ط1، 1990، ص ص61-62.

[23] – محمد غلاب، المذاهب الفلسفية العُظمى في العصور الحديثة، دار الحياة، القاهرة، مصر، د(ط،ت)، ص50.

[24] – برتراند راسل،تاريخ الفلسفة الغربية، مرجع سابق، ص89.

[25] – محمد عابد الجابري، مدخل إلى فلسفة العلوم، مرجع سابق، ص237.

[26] – ريشنباخ هانز، نشأة فلسفة علمية، تر: فؤاد زكريا، المؤسسة العربية للدراسات، بيروت، لبنان، ط1، 1979، ص83.

[27] – ريشنباخ هانز، نشأة فلسفة علمية،المرجع نفسه، ص84.

[28] – عبد الغفار مكاوي،لما الفلسفة؟، منشأة المعارف، الإسكندرية، مصر، د(ط،ت)، ص52.

* – فيلسوف إنجليزي وضعي مُتأثر بـ ‘لوك’، أكثر من ‘كونت’ و’هيوم’، ومنطقه ومذهبه الخلقي النفعي، واقتصاده السياسي قامت جميعها على أسس وضعية وتجريبية، من أهم آثاره: المنطق الاستقرائي والاستنتاجي، النفعية…إلخ.

[29] – فهمي زيدان، الاستقراء والمنهج العلمي، مرجع سابق، ص101.

[30] – الدسوقي عاصم، البحث في التاريخ، دار الجيل، بيروت، لبنان، ط1، 1991، ص25.

[31] – توفيق الطويل، جون ستيوارت مل، دار المعارف، مصر، د(ط،ت)، ص141.

[32] – سالم يفوت،  فلسفة العلم المعاصرة ومفهومها للواقع، مرجع سابق، ص38.

[33] – توفيق الطويل، المرجع نفسه، ص102.

[34] – فتحي الشنيطي، أسس المنطق والمنهج العلمي، مرجع سابق، ص119.

[35] – J. S. M, Système de logique déductive et inductive, Trad, Le peisse, Tom1, Librairie Gomer Baillière, Paris, 1880, P128.

[36] – لخضر مذبوح،دراسات في الفلسفة الإسلامية، مرجع سابق، ص31.

[37] – J. S. M, Système de logique déductive et inductive, Opcit, P166.

[38] – أرسطو، النفس، تر: أحمد فؤاد الأهوني، دار إحياء الكتب العربية،القاهرة،مصر،ط3، 1983، ص28.

[39] – لخضر مذبوح، دراسات في الفلسفة الإسلامية، مرجع سابق، ص31.

[40] – ابن باجة،في الصورة الأولى والمادة الأولى ضمن رسائل فلسفية لأبي بكر بن باجة، تح: جمال الدين العروي، دار الثقافة،بيروت،لبنان،د(ط)،1982، ص104. 

[41] – يوسف كرم،  تاريخ الفلسفة الحديثة، مرجع سابق، ص50.

* – يرى بعض المؤرّخين أنّ الطريقة الزائدة هي طريقة البواقي مثل ‘سوزان ستيبنج’، ويرى البعض الآخر طريقة الاختلاف والاتفاق معا مثل المنطقي ‘جوزيف’.

[42] – بيتر مدّور، الاستقراء والحدس في البحث العلمي، تر: محمد شيّا، بيروت، لبنان،ط1، 1991، ص09.

[43] – مذكرة لنيل شهادة ماجستير، مساهل فاطمة، عوائق تطوّر العلم-بيكون نموذجا-،  مرجع سابق، ص95.

[44] – محمود يعقوبي، مسالك العلّة وقواعد الاستقراء، مرجع سابق، ص150.

[45] – محمود يعقوبي، المرجع نفسه، ص150.

[46] – مذكرة لنيل شهادة ماجستير، مساهل فاطمة، عوائق تطوّر العلم-بيكون نموذجا-،  مرجع سابق، ص96.

[47] – J. S. M, Système de logique déductive et inductive, Tom 1, P369.

[48] – توفيق الطويل،جون ستيوارت مل، مرجع سابق، ص114.

[49] – J. S. M, Système de logique déductive et inductive, Opcit, P369.

[50] مذكرة لنيل شهادة ماجستير، مساهل فاطمة، عوائق تطوّر العلم-بيكون نموذجا-، مرجع سابق، ص96.

[51] – محمد فتحي الشنيطي، أُسس المنطق والمنهج العلمي، مرجع سابق، ص145.

[52] – محمد فتحي الشنيطي، أُسس المنطق والمنهج العلمي، مرجع سابق، ص145.

[53] – J. S. M, Système de logique déductive et inductive, Opcit, P429.

[54] – Ibid, P430.

[55] – محمود يعقوبي، مسالك العلّة وقواعد الاستقراء، مرجع سابق، ص161.

[56] – J. S. M, Système de logique déductive et inductive, Opcit, P442.

[57] – محمود يعقوبي،  مسالك العلّة وقواعد الاستقراء، مرجع سابق، ص161.

[58] – محمود يعقوبي،  مسالك العلّة وقواعد الاستقراء المرجع نفسه، ص169.

[59] – محمد فتحي الشنيطي، أُسس المنطق والمنهج العلمي، مرجع سابق، ص147.

[60] محمود، زكي نجيب: دافيد هيوم، دار المعارف، 1958م، ص13.

[61] مقال الدكتور جاسم:نظرية المعرفة عند كارل بوبر https://fajernet.net/article.php?id=4445&cid=10

[62] الوضعية المنطقية والحل التبريري للإستقراء: https://fahmaldin.net/index.php?id=2140

[63] مقال الدكتورة منى زيتون:فلسفة العلم عند كارل بوبر  http://ns1.almothaqaf.com/a/b12-1/932872

[64] – محمد علي ماهر عبد القادر م، فلسفة العلوم، دار المعرفة الجامعية، القاهرة، مصر، د(ط)، 2003، ص48.

[65] – جميل عزيز/ ماجدة مرسي، النظرية العلمية في الفكر المعاصر، المكتب العلمي للنشر والتوزيع، الإسكندرية، مصر، د(ط)، 2001، ص186.

* – عند ‘كلود بارنارد’ هي ملاحظة مستشارة يُقصد بها التحقُّق من صدق فكرة ما، وهبة مراد، مرجع سابق، ص46.

[66] – جميل عزيز ماجدة مرسي النظرية العلمية في الفكر المعاصر، مرجع سابق، ص ص 188-189.

[67]  محمد عبد العزيز العرفج Ml https://qawaneen.blogspot.com/2020/05/blog-post_3.htm

[68] قاسم، عبد الستار: المنهج الاستقرائي في القرآن الكريم، نابلس، فلسطين.ص 07

[69] قاسم، عبد الستار: المنهج الاستقرائي في القرآن الكريم، نابلس، فلسطين.ص 07

[70] قاسم، عبد الستار: المنهج الاستقرائي في القرآن الكريم، نابلس، فلسطين.ص08


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد