الفلسفة والدين عند الفارابي

image_pdf

مقدمة:

لعله من نافلة القول الحديث عن الوشائج التي تربط  بين الفلسفة والدين عبر التاريخ والعصور، فذلك أصبح من البديهيات التي يمكن القول معها بأنه لا وجود للفلسفة بدون دين، ولا وجود للدين بدون فلسفة.وهذا القول لا ينطبق على الإسلام وحده، بل يسري على جميع الأديان، ولعل اهتمام الفارابي بالدين من خلال أعماله الفلسفية المختلفة خير دليل على اهتمام الفلاسفة المسلمين وانشغالهم بالدين ومعالجتهم لقضاياه المتنوعة.[1]

فالفارابي حسب محسن مهدي، هو أول فيلسوف طور فلسفة للملة تعتمد في أساسها على التراث الفلسفي الأفلاطوني والأرسطي بشكل عام، وعلى الفلسفة الأفلاطونية بصورة خاصة[2].لقد سبق للفارابي أن تناول الدين في كتبه المتعددة وخاصة في كتاب “الحروف”، لكنه أبى إلا أن يخصص كتابا بعينه لفحص هذه المسألة هو كتاب الملة، “وكتاب الملة” قد يكون لاحق التأليف لكتاب الحروف، بقرينة عدم ذكره في كتاب الحروف وذكر غيره من كتب الفارابي في المنطق[3].

الفلسفة عند الفارابي:

قبل أن يحدد الفارابي مفهوم الفلسفة والمقصود منها، أشار إلى أن اسم “الفلسفة يوناني وهو دخيل في العربية وهو على مذهب لسانهم (اليونان) فيلاسوفيا، ومعناه محبة الحكمة، وهو في لسانهم مركب من “فيلا” و”صوفيا” وفيلا: محبة وسوفيا: الحكمة، والفيلسوف مشتق من الفلسفة وهو على مذهب لسانهم “فيلوسوفوس”.[4]

والملاحظ أن الفارابي قد تتبع انتقال الفلسفة من أمة إلى أخرى، إلى أن وصلت إلى العرب المسلمين جاهزة مكتملة، على حد تعبيره. فقد كان هذا  العلم  ” في القديم في الكلدانيين  وهم أهل العراق ثم صار إلى أهل مصر ثم انتقل إلى اليونانيين ولم يزل إلى أن انتقل إلى السريانيين ثم إلى العرب، وكانت عبارة عن جميع ما يحتوي عليه ذلك  العلم باللسان اليوناني ثم صارت باللسان السرياني ثم باللسان العربي ؛[5] حيث ترجمت المؤلفات الفلسفية واعتنى بها  كل العناية، بتأسيس بيت الحكمة في عهد المأمون. وهكذا لم تكن الفلسفة في نظر المعلم الثاني تراثا يونانيا فقط، وإنما هي تراث إنساني، لم تختص به أمة دون أخرى أو   شعب دون آخر بل تضع  كل أمة بصماتها وطابعها الخاص عليه، الأمر الذي يزيدها ثراء وتنوعا[6].كما أشار معلمنا الثاني إلى أن مجالات الفلسفة واسعة ومواضيعها كثيرة ” حتى أنه لا يوجد شيء من موجودات العالم إلا  وللفلسفة فيه مدخل وعليه غرض ومنه علم بمقدار الطاقة الإنسانية .[7]

وحد الفلسفة وماهيتها ” أنها العلم بالموجودات بما هي موجودة [8] فهي ” علم ” لأنها معرفة يقينية، تقف على  علة الشيء وهي ” علم الموجودات “، في عمومها لا في تفاصيلها, لأن العلم بالتفاصيل يرجع إلى العلوم الجزئية وهي إنما  تفحص عن الجسم بالإجمال.  فتشمل في حكمها كل جسم وكل حي. والفلسفة هي العلم الوحيد الذي يقدم لدارسه  صورة شاملة للكون وهي تتمكن من ذلك لاتصالها بالعلوم  الأخرى وتشملها، سواء كانت إلهية وإما طبيعية وإما منطقية وإما رياضية أو سياسية وصناعة الفلسفة هي المستنبطة لهذه والمخرجة لها”[9].ولما كانت العلوم منقسمة إلى عملية ونظرية، اشتملت الفلسفة  بدورها على هذين، القسمين أي الفلسفة النظرية والفلسفة المدنية “[10]: القسم الأول تحصل به معرفة الموجودات  التي يفعلها الإنسان وهي الفلسفة النظرية والقسم الثاني تحصل به معرفة الأشياء التي للإنسان فعلها كما يمكن  أن تحصل القوة على فعل الجميل منها وتسمى بالفلسفة العملية أو المدنية، والفلسفة النظرية بدورها ثلاثة  أقسام من العلوم : علم التعاليم والعلم الطبيعي وعلم ما بعد الطبيعة.

أما الفلسفة المدنية فقسمان: قسم تحصل منه الأفعال الجميلة والأخلاق الحميدة وتصير به الأشياء الجميلة ” قنية لها وهذه تسمى الصناعة الخلقية، والثاني يشمل على تحصيلها لهم وحفظها عليهم وهذه تسمى الفلسفة السياسية، فهذه مجمل  صناعة الفلسفة [11] .

يقول الفارابي :« الملة هي آراء وأفعال مقدرة مقيدة بشرائط يرسمها للجمع رئيسهم الأول، يلتمس أن ينال باستعمالهم لها غرضا له فيهم أو بهم محددا، والجمع ربما كان عشيرة وربما كان مدينة أو صقعا، وربما كان أمة عظيمة، وربما كانت أمما كثيرة، والرئيس الأول إن كان فاضلا وكانت رئاسته فاضلة في الحقيقة، فإنه إنما يلتمس بما يرسم من ذلك أن ينال هو وكل من تحت رئاسته السعادة القصوى التي هي في الحقيقة سعادة، وتكون تلك الملة فاضلة»[12].

من خلال هذا التحديد، يمكن أن نستنتج مقومات الملة وهي أولا: الآراء والأفعال.وثانيا: واضع الملة. وثالثا: الفئة المستهدفة من الملة. ورابعا: غاية الملة.

في ما يتعلق بمقومات الملة فالفارابي يعتبر الملة جملة أراء وأفعال.

أ_ الآراء المقدرة والأفعال المقدرة

يقسم الفارابي الآراء إلى قسمين: القسم الأول يشتمل على أمور نظرية   وهي: « ما يوصف الله تعالى به ، ثم ما يوصف به الروحانيون  ومراتبهم في أنفسهم ومنازلهم من الله تعالى،  وما فعل كل واحد منهم .ثم كون العالم وما يوصف به العالم وأجزاؤه ومراتب أجزائه، وكيف نسبة كل واحد منها إلى الله تعالى والى الروحانيين.  ثم كون الإنسان وحصول النفس فيه والعقل ومرتبته من العالم، ومنزلته من الله والروحانيين. ثم أن توصف النبوة ما هي والوحي كيف هو وكيف يكون ثم يوصف به الموت والحياة »[13].

يمكن أن نقول بان هذه الآراء مجموعة من الآراء والتصورات التي يحتاجها الإنسان؛ لمعرفتها حول حقيقة الله( الذات والصفات ) والملائكة( الروحانيون بتعبير الفارابي صفاتهم وأفعالهم) والكون( خلق الكون ) والإنسان(خلق الإنسان) ومكانة الإنسان في هذا الكون ومصيره( الشقاء أو السعادة).

أما القسم الثاني: فيعالج الأشياء الإرادية العملية، أي ما يصدر عن الإرادة الإنسانية خيرا أو شرا ،  حيث يقول :«والضرب الثاني ما يوصف به الأنبياء والملوك الأفاضل والرؤساء الأبرار وأئمة الهدى والحق ،الذين توالوا في الزمن السالف   وتتألف من قصص الأخيار والأشرار في الماضي والحاضر، ومصير نفوسهم ومصير نفوس أتباعهم».[14]

فما نستفيد منه في هذا القسم أن هذه القصص التي تتحدث عن سير الأخيار[15] والأشرار، المقصود منها العبرة التي نحصل عليها من تأمل ما تنطوي عليه هذه الأخبار من أحداث ،والاستفادة من تجارب الماضي السلبية أو الايجابية  في تنظيم شؤون الناس الحالية حتى لا تتكرر الأخطاء[16] .

الأفعال المقدرة:

فتنقسم حسب الفارابي إلى قسمين: القسم الأول:  أفعال يعظم بها الله:حيث على الدين أن يبين «الأفعال والأقاويل التي يعظم الله بها ويمجد ».  والروحانيون حيث يجب على الدين أن يبين الأقوال والأفعال «التي يعظم بها الروحانيون والملائكة».  والانبياء  والملوك الافاضل حيث يجب تعظيم وتمجيد « الأنبياء والملوك الأفاضل والرؤساء الأبرار وأئمة الهدى»[17] وتقبيح أفعال :« الملوك الأراذل والرؤساء الفجار وأئمة الضلال»[18].

أما أفعال القسم الثاني:  الأفعال التي تشمل أفعال فردية وهي تشمل « ما ينبغي أن يعمله الإنسان بنفسه ».

أي الأفعال التي يتعامل فيها مع نفسه، كتنمية ملكاته أو اكتسابه الفضائل.وأفعال اجتماعية تشمل « ما ينبغي أن يعامل به غيره ».

ما يلاحظ على الأفعال المقدرة، أن الفارابي لم يولها سوى اهتمام قليل.مقارنة بالآراء وهذا ما نتفق فيه مع الباحث محسن مهدي فالآراء المقدرة أولاها اهتمام كبير ومفصل وربما يبرر هذه الأمر تسمية كتابه أراء أهل المدينة الفاضلة.

ثانيا: واضع الملة

الرئيس الأول للدين هو الشخص الذي يقدر الآراء والأفعال التي تنطوي عليها دين ما في أول أمره.يقسم الفارابي الرئاسة الأولى في الملل إلى أربعة أنواع: أحدها الرئاسة فيه فاضلة، والثلاثة الأخرى فيها غير فاضلة.

1_  الرئاسة المؤيدة بالوحي الإلهي: فيها يكون الرئيس الأول فاضلا ,ويكون هدفه أن « يلتمس بما يرسم من ذلك أن ينال هو وكل من تحت رئاسته السعادة القصوى التي هي  في الحقيقة سعادة »[19]. وهو« الرئيس الأول الفاضل إنما تكون مهنته ملكية مقرونة بوحي من الله إليه ، وإنما يقدر الأفعال والآراء التي في الملة الفاضلة بالوحي««»[20].هنا يستحضر الفارابي النبي محمد ص  بسنته القولية والفعلية .

الرئاسة المعتمدة على تقدير الرئيس دون الوحي , وهي رئاسة غير فاضلة قسمها الفارابي إلى ثلاثة أقسام:

أ _ الرئاسة الجاهلية : حيث يكون هدف الرئيس أن « يلتمس بما يرسمه من ذلك أن ينال هو بهم خيرا ،إما الخير الضروري الذي هو الصحة والسلامة ،وإما يسار وإما لذة وإما كرامة وجلالة وإما غلبة ويفوز هو بذلك الخير ويسعد به دونهم، ويجعل من تحت رئاسته آلات يستعملهم في أن يصل بهم إلى غرضه ويستديمه».[21]

ب الرئاسة الضالة وهي تلك التي فيها: أن« يظن هو بنفسه الفضيلة والحكمة ويظن به ،ويعتقد فيه ذلك من تحت رئاسته من غير أن يكون كذلك ،كأن الذي يلتمس بذلك أن ينال هو ومن تحت رئاسته شيئا يظن به السعادة القصوى من غير أن تكون لها حقيقة.»[22]

فهذه الرئاسة واقعة في الضلال، بعيدة عن الصواب ونيل السعادة الحقيقية.  وهي تحسب هي وأتباعها على الفضيلة والصواب [23].

ج رئاسة تمويه

حيث « يتعمد ذلك ومن تحت رئاسته لا يشعرون بذلك ، فان أهل رئاسته يعتقدون فيه ويظنون به الفضيلة والحكمة ، ويكون ملتمسه بما يرسمه أما في الظاهر ، فان ينال هو وهم السعادة القصوى وأما في الباطن فان ينال بهم احد الخيرات الجاهلية .»[24]

فهذه الرئاسة تختلف عن الرئاسة الضالة والجاهلية،  حيث إن الرئيس الأول فيها يقوم عمدا بخداع الناس والتمويه عليهم بقصد ؛ فأتباعه يظنون أنهم سيحصلون  على  السعادة القصوى، لكن في الحقيقة فهو يستغلهم لتحقيق مآربه الشخصية والدنيوية  من مال أو لذة أو جاه.

أتباع الدين

قد ورد هذا التعبير في التعريف الذي قدمه فيلسوفنا في لفظة الجمع, وحدد فيه أنواع هذا الجمع الذي يتوجه إليه الرئيس الأول لدين ما. فيقول الفارابي :« الجمع إما أن يكون عشيرة،أو مدينة أو تكون صقعا،  أو أمة عظيمة وربما كان أمما كثيرة ».[25]

التوفيق بين الدين والفلسفة عند الفلاسفة المسلمين

ليس هناك شك في أن مسألة التوفيق بين الدين والعقل،  قد شغلت الفكر الإنساني منذ أقدم عصوره،  وليست محاولات فيلون (30 ق.م، 50 م) في التوفيق بين الفلسفة اليونانية وحقائق التوراة، ومحاولة رجال الفلسفة المسيحية في القرون الوسطى، وكذلك جهود الفلاسفة المسلمين في هذا المجال ـ ليست هذه المحاولات، إلا دليلا أن الفكر الديني في اليهودية المسيحية والإسلام لم يجد مفرا من مقابلة الحقائق الدينية بالحقائق الفلسفية ثم محاولة إزالة ما قد ينشأ بينهما من تعارض أو تناقض[26].

أما محاولة التوفيق في الفلسفة الإسلامية, فإن بواكيرها الأولى قد ظهرت لدى أول الفلاسفة المسلمين وهو الكندي  الذي يعتبر أن الدين لا يختلف عن الفلسفة، ففي سياق رده على الفقهاء أو من يسميهم “أهل الغربة عن الحق” يرى أن كل من عاند الفلسفة وسماها كفرا شخص عار من الدين[27]: “لأن في علم الأشياء بحقائقها (الفلسفة) علم الربوبية وعلم الوحدانية وعلم الفضيلة وجملة علم كل نافع والسبيل إليه والبعد عن كل ضار والاحتراس منه”. معبرا أن طلب هذا العلم واقتناءه هو الذي أتت به الرسل الصادقة فموضوع كل من الدين والفلسفة هو نفسه. “لأن الرسل الصادقة صلوات الله عليها إنما أتت بربوبية الله وحده وبلزوم الفضائل المرتضاة عنه”[28].

أما  ابن رشد الذي خصص لذلك كتابا مهما” فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال”، فقد بين  في أكثر من مناسبة أن الشريعة تدعو إلى الاشتغال بالفلسفة: “فإذا كانت الشريعة حقا وداعية إلى النظر المؤدي إلى معرفة الحق, بأنا معشر المسلمين نعلم على القطع أنه لا يؤدي النظرالبرهاني  إلى مخالفة ما ورد به الشرع، فإن الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له”[29].

الفلسفة والدين عند الفارابي  : الاتفاق في الغاية والاختلاف في الوسيلة

هناك أوجه اختلاف وتشابه بين الفلسفة والدين حسب الفارابي : حيث نجد أن الفلسفة والدين يبحثان نفس المبادئ القصوى أي الله عزوجل , وتنشدان نفس الغاية ألا وهي السعادة.  لكن يختلفان في الأسلوب والمنهج: فإذا كانت الفلسفة تعتمد على النظر ألبرهاني, فان الملة تعتمد على الأسلوب البياني الخطابي.فالملة تقدم نظرة تخييلية تقوم على أساس الرأي لا العقل, بينما تقدم الفلسفة نفس القضايا لكن على نحو برهاني يقيني قائم على الحجة العقلية لا الخيالية [30]

واستكمالا للمشوار الذي بدأه الكندي من قبل, افترض الفارابي أن الاتفاق بين الدين والفلسفة حاصل في النتائج والغايات فقط, لا في الوسائل والأدوات.فما دام أن إقرار الربوبية ووحدانية الله , وكذا الأخلاق الفاضلة هي كلها أهداف للدين , كما هي غايات للفلسفة فانه لاخلاف بين العقل والإيمان. [31]

حيث يقول الفارابي:” الملة محاكية للفلسفة وهما يشتملان على موضوعات بأعيانها , وكلتاهما تعطيان المبادئ القصوى للموجودات وتعطيان الغاية القصوى التي لأجلها كون الإنسان   وكل ما تعطيه الفلسفة متصورا فان الملة تعطيه متخيلا “[32]

 وكذلك يقول الفارابي : “فمتى  حصل ذلك أي علمت تلم المبادئ النظرية بان تخيلت بمثالاتها التي تحاكيها وحصل التصديق بما خيل منها عن الطرق الاقناعية والتخيلية , كان المشتمل على تلك المعلومات ملة ثم إذا أخذت تلك المعلومات نفسها واستعمل فيها الطرق الاقناعية سميت الفلسفة الذائعة المشهورة البرانية. [33]

الأسبقية الزمنية والمنطقية للفلسفة على الدين

أسبقية زمنية: كتاب الحروف

تناول الفارابي الصلة بين الفلسفة والدين بصورة دقيقة وعميقة في كتاب الحروف على مستوى الفقرات 147, 148, 149, 150, 151, 152 من الفصل الرابع والعشرين:

الفقرة 147:  طرح فيها الفارابي شروط صحة الملة وأسباب فسادها.

الفقرة 148: قدم من خلالها سبل انتقال الملة من امة إلى أخرى ,قبل أن تحصل الفلسفة لديهم وقبل أن يحصل الجدل والسفسطائية.

الفقرة 149: بين فيها أسباب التضاد بين الملة والفلسفة والتعاند بين أهل الفلسفة وأهل الملة.

الفقرة 150: قدم فيها نتائج تبعية الملة لفلسفة فاسدة.

الفقرة 151: ابرز فيها مظاهر خطورة نقل الجدل والسفسطائية لأمة لها ملة مستقرة.

الفقرة 152: عرض من خلالها مختلف المواقف من الفلسفة ومن تعاطيها حسب نظر أهل الأمة.[34]

فيما يخص الأسبقية  النظرية للفلسفة على الملة ,فحص الحالة التي تحدث فيها الملة بعد الفلسفة ” فإذا كانت الملة تابعة للفلسفة التي كملت بعد أن تميزت الصنائع القياسية كلها بعضها عن بعض على الجهة والترتيب الذي اقتضينا ,كانت ملة صحيحة في غاية الجودة “[35]  .حالة الإسلام الذي تنيره الفلسفة.

بعد ذلك ينتقل إلى فحص حالة الملة التي تنجم عن فلسفة لم تبلغ مرحلة الطريقة البرهانية وليست بمأمن عن الخطأ حيث قول :”

« حالة إذا كانت الفلسفة لم تصر بعد برهانية يقينية في غاية الجودة ,بل كانت بعد تصحح آراؤها بالخطبية أو الجدلية أو السفسطائية لم يمتنع أن تقع فيها كلها أو في جلها وفي أكثرها أراء كلها كاذبة لم يشعر بها, وكانت فلسفة مظنونة أو مموهة فإذا أنشأت ملة ما بعد ذلك تابعة لتلك الفلسفة وقعت فيها أراء كاذبة كثيرة .”[36] حالة الفرس مثلا .

يميز الفارابي بين نشأتين للملة:  نشأة قبل الفلسفة اليقينية ونشأة بعد الفلسفة اليقينية . فالملة التي نشأت قبل الفلسفة اليقينية تتأ طر بالمباحث السفسطائية والجدلية و الخطبية فتكون ممتلئة بالآراء الكاذبة  ولنتذكر هنا الديانات المذكورة في أشعار هوميروس الممتلئة بالأساطير. أما النشأة الثانية التي تكون للملة بعد قيام الفلسفة اليقينية فتكون الملة حقيقية وربما أهم من الفلسفة .[37]

من خلال هذا يمكن القول: بان فساد ملة ما من صحتها بمقتضى علاقتها بالفلسفة. فإذا كانت فلسفة كاملة نتج عنها ملة صحيحة ,وإذا كانت فلسفة مظنونة أو مموهة نتج عنها ملة فاسدة.الملة الصحيحة تأتي بعد أن تكتمل الفلسفة وهذه حالة الإسلام.

أسبقية منطقية للفلسفة على الملة : كتاب الملة

ليس اليقين العقلي الذي جعل الفارابي معيارا للتمييز بين ملة ضالة وملة فاضلة, والذي نسبه إلى الإنسان باطلا ق إلا اليقين الفلسفي.فالملة التي يستطيع العقل(البداهة أو البرهان) قبول مضامينها المعرفية ( الآراء) ولا تعليل قصدها الأخلاقي (السعادة )هي ملة فاسدة.  والملة التي يقدر العقل على التأسيس النظري لها والعملي لها هي ملة فاضلة. فالفلسفة هي إذن أساس الملة والضامنة لمعقوليتها.  لذلك اعتبر أن الملة الفاضلة للملة.سفة وجزءا منها [38] .فالبرهان هو الصورة الحق حتى للملة.

حيث يقول الفارابي :”إن الملة تلتئم من جزأين من تحديد أراء وتقدير أفعال  .فالآراء المقدرة التي في الملة الفاضلة: إما حق وإما مثال الحق. والعملية في الملة هي التي كلياتها الفلسفة العملية, وذلك أن التي في الملة من العملية هي تلك الكليات مقدرة بشرائط قيدت بها …. فإذن الشرائع الفاضلة كلها تحت الكليات في الفلسفة العملية, والآراء النظرية التي في الملة براهينها في الفلسفة النظرية وتؤخذ في الملة بلا براهين.. فإذن الفلسفة هي التي تعطي براهين ما تحتوي عليه الملة الفاضلة “.[39]

الصراع بين أهل الفلسفة وأهل الملة

لقد دفع هذا الاشتغال الدؤوب بقضية التوفيق , إذ فيلسوفنا الفارابي إلى تأكيد تكاملية العقل والإيمان,نظرا وعملا حتى انه توقف مليا عند أسباب الكره والخصومة التي تنشب بين أنصارهما فعزاها إلى سوء فهم الطرفين معا لحقيقة تكامل الفلسفة والملة . إذ الفلسفة في الحقيقة لا تناقض الملة بل تكملها وتشرطها نظريا وعمليا.[40] لكن كيف يمكن تفهيم أهل الملة أن ما في ملتهم إنما هو مثالات لما في الفلسفة ؟  إن الطرق الشعرية والخطبية والجدلية لا تجدي هنا لان المسالة المطروحة ليست معاندة أو إقناع بل هي مسالة تفهيم مسالة ترتيب العلاقة بين الدين والفلسفة تريبا برهانيا . لكن هذا الحل البرهاني لا يأتي من التحليل التكويني التاريخي بل إنما يعطيه التحليل الابستيمولوجي لطبيعة المعرفة الفلسفية وطبيعة المعرفة الدينية.لابد إذن من البحث عن المبدأ المعرفي الذي يؤسس كل من الدين والفلسفة . ولما كان مصدر المعرفة الفلسفية هو العقل ومصدر المعرفة الدينية هو الوحي فيجب البحث عن مبدآ العلاقة بين العقل والوحي: اعني النظر في المصدر الذي ياخد منه كل من الفيلسوف والنبي , فإذا ثبت أن ما يأخذه النبي هو مثالات لما يأخذه الفيلسوف, فقد تم البرهان الابستيمولوجي على أن ما في الملة هو فعلا مثالات لما في الفلسفة.[41]

يبدو أن موقف الفارابي بين الكندي( تسليم العنان لسطوة الملة ظنا منه أن المثالات التي تشتمل عليها تلك الملة هي الحق  ) والرازي( معاندة أهل الملة طلبا لسلامة أهل الفلسفة ) . الفارابي يخالف الأول اذ ينبغي حسب الفارابي على الفيلسوف  معاندة أهل الملة في ظنهم أن  الملة   معاندة للفلسفة   لا معاندة الملة نفسها  وبالتالي تقويم أذهان أهل الملة لا تجريح الملة ذاتها. لكنه يخالف كذلك الموقف الثاني إذ يعتبر أن ما في الملة ليس إلا مثالات لما في الفلسفة .[42]

خاتمة :

حظيت فكرة التوفيق بين الدين والفلسفة بمكانة مركزية  لدى الفلاسفة المسلمين, حيث آمنوا بوحدة الحق في الشريعة والفلسفة, وهو ما جعل من التوافق بين الدين والفلسفة أبرز خصائص الفلسفة العربية الإسلامية ؛إذ لا تباين في رأيهم بين العقل والإيمان، فجدوا في هذا السبيل ليوفقوا ليس بين الدين والفلسفة, فحسب بل وبين أجزاء هذه الفلسفة وأساطينها ومدارسها خدمة للهدف الديني[43].كما أن أهم ما يميز التراث الفلسفي الإسلامي ,هو محاولته استيعاب الدين والتفكير الديني بعقلنته وتقديم تفسير عقلاني للدين. فبدلا من الصدام مع الدين والذي تخرج منه الفلسفة خاسرة دوما, حاول فلاسفة الإسلام استيعاب الدين بضمه إلى رؤية فلسفية أكثر شمولا للكون والألوهية ولموقع الإنسان في الكون وعلاقة الإله بالعالم والإنسان.[44]


[1] – محمد ايت حمو، الدين والسياسة في فلسفة الفارابي،  دار التنوير 2011ص: 27.

[2]  محسن مهدي ,الفارابي وتأسيس الفلسفة السياسية في الإسلام, ترجمة وداد الحاج, دار الفارابي, بيروت   ص 19

[3] – أحمد علمي حمدان، الكلام كجنس  دراسة لذاتيات الكلام من زوايا ومباحث متعددة ،منشورات ما بعد الحداثة، ط1، 2007، ص 10.

[4] – ابن أبي أ صيبعة ، عيون الأنباء في طبقة الأطباء، ج3، دار الثقافة بيروت، 1979، ص 224.

[5] –  تحصيل ص 88

[6] – تونسية بجاوي ,النزعة التوفيقية في فلسفة الفارابي ,رسالة ماجستير ,كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية جامعة الجزائر 2004-2003 ص : .31

[7] – أبو نصر الفارابي , الجمع بين رأي الحكيمين ,تحقيق وتقديم البيرنصري ,نادر المطبعة الكاثوليكية,  بيروت 1960ص 80

[8] –   المصدر نفسه، ص: 80

[9] – أبو نصر الفارابي، التنبيه على سبيل السعادة ،ضمن مجموعة رسائل الفارابي الفلسفية، حيدر أياد دائرة المعارف 1315هـ، ص 19-20.

[10] –  المصدر نفسه،  ص 19-20

[11] – المصدر نفسه، ص 19-20                         

[12]  أبو نصر الفارابي ، الملة ونصوص أخرى ، تحقيق محسن مهدي ، دار المشرق ، بيروت ، 1968 ، ص 43

[13]  المصدر السابق ، ص 44-45

[14]   المصدر السابق، ص 45

[15]   يذكر الفارابي حديث أفلاطون عن الشعر والخبر المشهور المتداول بين الناس في مدح بعض واضعي النواميس .تلخيص نواميس أفلاطون ص 37

[16]  عزمي طه احمد , الدين والاديولوجيا ص 24

[17]  المصدر السابق، ص 46

[18]  المصدر السابق، ص 46

[19]  الملة  ،ص 43

[20]  المصدر السابق، ص 44

[21]  المصدر السابق، ص 43

[22]  المصدر السابق، ص 44

[23]  عزمي طه احمد . الدين والاديولوجيا ,دار المسار ,الاردن  ص 31

[24]  الملة ، ص 44

[25]   المصدر السابق، ص 43

[26] –  م ن، ص 49.

[27]   منجي لسود , اسلام الفلاسفة ,ص 79

[28]  الكندي  رسائل الكندي الفلسفية  ج1ص 105

[29] – ابن رشد ،فصل المقال في ما  بين الحكمة والشريعة من اتصال ،تقديم وضبط وتعليق سميح دغيم، دار الفكر اللبناني 1999 ص 42 .

[30]   ايت حمو  الدين والسياسة عند الفارابي ص 69

[31]   ابراهي العاتي ,الإنسان في فلسفة الفارابي ,دار النبوغ بيروت 1998 ص 54

[32]  تحصيل السعادة ص 90

[33]   ن م ص 89-90

[34]  الحروف ص 153-156

[35]  الحروف ص 155

[36]  الحروف ص 153-154

[37]  ايت حمو  م س   ص 79

[38]   سالم العيادي, سياسة الحقيقة في فلسفة الفارابي ص 143

[39]  الملة ص 46-47

[40]  الحسين اخدوش, تأسيس معقولية الايمان في فلسفة الفارابي المدنية, ضمن الايمان في الفلسفة والتصوف الاسلامييين ,منشورات مؤمنون بلا حدود  ص 66

[41]  عابد الجابري, بنية العقل العربي, مركز دراسات الوحدة العربية ,ط9 ص 425

[42]  صالح مصباح , الملة عند الفارابي ضمن ندوة  حول الفارابي, تونس ص 199

[43] – حيدربامات ، مجالي الإسلام، القاهرة، دار إحياء  الكتب العربية د. ط 1956، ص 209.

[44]  اشرف منصور ,العقل والوحي, دار رؤية ,القاهرة2014, ص 20
____________
*نورالدين علوش/  المغرب.

جديدنا