لا يزال من الصعب قياس الذكاء ويقترب من المستحيل العلمي رسم حدوده وتأطيره بدقة. ومع ذلك، يعتقد الكثير من العامة بشكل بديهي أن الأشخاص ذوي الأدمغة الأكبر هم أكثر ذكاءً. في الواقع هناك ارتباط معتدل بين حجم دماغ الإنسان والعديد من مقاييس الذكاء: كلما كان دماغ الشخص أكبر، كان أداؤه أفضل، في المتوسط، في اختبارات الذكاء. لكن هذا الارتباط متواضع فقط، وهناك العديد من العوامل الأخرى التي يجب مراعاتها.
أحجية الأدمغة الضامرة لولدان بني البشر
مقارنة بالعديد من الأنواع الحيوانية الأخرى، يولد البشر بأدمغة صغيرة إلى حد ما، تاركين الرضع عزل إلى حد كبير وغير قادرين على البقاء دون الكثير من الرعاية والاهتمام على الأقل في السنة الأولى. والسؤال الملح في هذا السياق: ألن يكون أكثر منطقية، من منظور الاصطفاء الطبيعي، إذا ولدنا بأدمغة أكثر تطوراً، مما يجعلنا على الأقل قادرين على إطعام أنفسنا، وتجنب الحاجة القاهرة لوجود من يرعانا صغاراً وهو ما قد يعزز فرصنا في البقاء على قيد الحياة لفترة كافية تضمن احتمال قدرتنا على إنجاب ذرية من بعدنا بدل الاندثار جوعاً إن لم نجد من يرعانا في طفولتنا المبكرة.
لشرح هذا اللغز، يشير الكثير من الباحثين إلى معضلة الولادة، وهي المشكلة التي يفترض أن المشي منتصباً خلقها. كان هناك فكرة سائدة منذ فترة طويلة وهي أنه خلال تطورنا، كان هناك ضغط انتقائي لحوض أصغر، لمساعدتنا على المشي في وضع مستقيم، والذي كان في ذلك الوقت على خلاف مع الضغط الانتقائي لإيواء دماغ أكبر عند الأطفال حديثي الولادة، الذين يجب أن تمر رؤوسهم من خلاله حوض المرأة. كلما كان الحوض أصغر، كلما كانت قدرتنا على المشي أفضل، وكانت فتحة خروج رأس الطفل أصغر.
تُستخدم هذه المعضلة لشرح سبب ولادة الأطفال من البشر غير مكتملي التطور إلى حد كبير. ويهدف هذا التفسير أيضاً إلى إخبارنا عن سبب تضاعف حجم الدماغ ثلاث مرات في السنة الأولى، ولماذا تحتوي جمجمة المولود الجديد على بقع ناعمة وتشققات، مما يمكنها من التثني والانضغاط عبر قناة الولادة الصغيرة دون الإضرار بالدماغ المغلف بداخلها، وهو ما يبقي الطفل عرضة للإصابة برضوض دماغية خطيرة حتى تنغلق الجمجمة وتتصلب. وبالمقارنة مع الرئيسيات الأخرى، فإن أطفالنا يولدون بالفعل قبل الأوان إذ يعتمد أطفال الرئيسيات الآخرين على والديهم لفترة محدودة من الوقت بعد الولادة، أقل بكثير من أمد الرعاية الذي يحتاجه بنو البشر.
والكشوفات البحثية الحديثة تشير إلى أنه لا يوجد دليل على أن الحوض الأكبر عند النساء سيتداخل مع المشي أو أي من الفعاليات الأخرى التي نستخدم الحوض من أجلها. لذلك، إذا كان الأمر يتعلق حقاً بأدمغة أكبر، ستتسع فقط عظام الحوض لدى الأمهات بعد اصطفائهن طبيعياً على مئات الأجيال ليصبحن كذلك. لكن قصة نمو الدماغ تبدو أكثر تعقيداً من ذلك بكثير. بدلاً من أطروحة الحوض الضيق الذي يناسب المشي المنتصب والتي يبدو أنها غير صالحة لتقديم تفسير شامل عن تلك الأحجية، هناك أدلة متزايدة على أن وقت الحمل لدى بني محدود بكمية الطعام التي يمكن للأم توفيرها لنفسها وطفلها، وبمرور 40 أسبوعاً، يتم الوصول إلى هذا الحد. إنها ببساطة لا تستطيع الحصول على ما يكفي من الطاقة من الطعام لتغذية طفلها المتنامي وتغذية نفسها.
قياس الذكاء
ضع في اعتبارك فكرة وجود نوع من الذكاء العام القابل للقياس. إن معرفة ماهيته وما إذا كان يمكن تطويره أو تحسينه وكيف يمكن تطويره هو سؤال سرمدي يحاول علماء الأعصاب الإجابة عليه منذ عقود.
عامل الذكاء العام هو ما أمضى العديد من علماء الأعصاب حياتهم المهنية بأكملها في البحث عنه. الفكرة هي أن هناك عامل مشترك يرتبط بالأداء في مجموعة واسعة من اختبارات القدرات المعرفية: إذا كان شخص ما جيداً جداً في الرياضيات، فمن المحتمل أيضاً أن يقوم بعمل جيد في اختبارات الذكاء الأخرى، مثل المفردات واستيعاب القراءة. وهناك قدر لا بأس به من الأدلة التي تدعم هذه الفكرة.
تُظهر معظم الدراسات أن عامل الذكاء العام مسؤول عن حوالي 40-50٪ من التباين بين موضوعات في اختبارات الذكاء. ويبدو أن العامل العام يورث بنسبة مرتفعة. وهو عامل يمكن أن يتنبأ بدقة مناسبة إلى حد ما بمدى جودة أداء الطفل في المدرسة وإلى أي مدى سيصل في حياته المهنية. وهو يرتبط بالحجم الكلي للدماغ، وإن كان بشكل معتدل. ويرتبط الطول أيضاً بالعامل العام، لذلك قد يكون الأشخاص الأطول أذكى، في المتوسط، بالنظر إلى أدمغتهم الأكبر. ولكن هذا يعني أن جزءاً كبيراً من التباين في قدرات الذكاء بين بني البشر لا علاقة له بحجم دماغك بنسبة لا تقل عن 50%.
يمكن تقسيم عامل الذكاء العام إلى نوعين: الذكاء السائل والذكاء المتبلور. يمكنك التفكير فيهم على أنهم الفرق بين التفكير السريع والحكمة. يبلغ الذكاء السائل ذروته في العشرينات من العمر، بينما يظل الذكاء المتبلور ثابتاً أو يزداد باطراد طوال فترة البلوغ، اعتماداً على كيفية استخدامك لعقلك.
ولكن على الرغم من الأدلة على وجود العامل العام، سواء كان سائلاً أو متبلوراً، ليس كل علماء الأعصاب سعداء بفكرة وجود قدرة أساسية واحدة. ربما يكون التحدي الأكثر شهرة بالنسبة للعامل العام هو نظرية الذكاءات المتعددة لهوارد جاردنر، والتي تأخذ في الاعتبار المهارات الشخصية، مثل الكياسة الاجتماعية، التي قد لا يتم ضمها في اختبارات الذكاء التقليدية. وفي نظريته، يقترح جاردنر أنه لا يوجد عامل واحد، ولكن الذكاء يأتي في العديد من الأشكال، بما في ذلك الذكاء الموسيقي، والبصري المكاني، واللغوي الشفهي، والمنطقي الرياضي، والحركي الجسدي، وما إلى ذلك. لقد انتشرت نظرية جاردنر بسرعة، ولكن على الرغم من الجاذبية البديهية للفكرة، فإن الأدلة البحثية التي تدعم نظريته لا زالت في طور التكون.
عقل أينشتاين
لحسن الحظ بالنسبة للعلم والبحث العلمي، فقد تم حفظ دماغ ألبرت أينشتاين لتحليله بعد الوفاة. على الأقل في 4 أقسام مختلفة من دماغه، وعلى الأقل بالمقارنة مع مجموعة معينة من البشر الاعتياديين، نسبة الخلايا العصبية (التي يُعتقد عموماً أنها محتوى الدماغ) إلى الخلايا الدبقية (التي تزود الخلايا العصبية بالضرورات الأساسية للحياة وتتأكد من قدرتها على التركيز على إطلاق إشارة أم لا) تم العثور عليها أقل في دماغ أينشتاين مقارنة بنظرائه من البشر الاعتياديين.
ومع ذلك، كان هذا الاختلاف في النسبة مهماً فقط في قسم واحد من أقسام الدماغ الأربعة التي تمت دراستها. وهناك ورقة بحثية تُستخدم فيها نسبة الخلايا العصبية/الدبقية المنخفضة في المنطقة الجدارية اليسرى لتفسير عسر القراءة المزعوم لأينشتاين.
علاوة على ذلك، يُظهر البحث في قسم من قشرة الفص الجبهي لأينشتاين، المسؤول عن الإدراك المعقد، أن القشرة الدماغية كانت أرق من تلك الموجودة في مجموعة البشر الاعتياديين، ولكن الخلايا العصبية في قشرة الفص الجبهي لأينشتاين كانت مكتظة بشكل أكبر. في العديد من الدراسات، يعتبر سمك القشرة أمراً جيداً، ويمكن أن تسبب الشيخوخة والأمراض التنكسية العصبية ترقق القشرة.
ربما أعطت الخلايا العصبية المكتظة بكثافة أينشتاين ميزة عقلية إضافية، وربما الخلايا العصبية القريبة من بعضها يمكن أن تتواصل بشكل أسرع وأكثر كفاءة مع بعضها البعض. ومع ذلك، تبين أيضاً أن الأشخاص المصابين بمض الفصام لديهم خلايا عصبية أكثر كثافة وتقارباً في قشرة الفص الجبهي.
تكوين مناطق الدماغ
إذا لم يكن الحجم الإجمالي للدماغ هو مفتاح القدرات الذكائية الفائقة، فربما يكون هو تكوين مناطق معينة من الدماغ خاصة تلك التي تعتبر مهمة لأنواع التفكير التي تقيسها اختبارات معدل الذكاء. وهناك الكثير من الدراسات التي وجدت ارتباطات بين جوانب مختلفة من بنى التشريح العصبي وأداء اختبار الذكاء عند البشر.
بشكل عام، يمكن تقسيم هذه الدراسات إلى نوعين: تلك التي تقيس الاختلافات في المادة الرمادية (وتترجم تقريباً إلى عدد الخلايا العصبية) وتلك التي تبحث عن الاختلافات في المادة البيضاء، أو الروابط بين الخلايا العصبية.
ترتبط المادة الرمادية في الفص الأمامي بالذكاء، كما تم قياسه بواسطة اختبارات معدل الذكاء، على الأقل. على سبيل المثال، يُعتقد أن مهام الإدراك المكاني والمهام اللفظية تعتمد بشكل كبير على عامل الذكاء العام، ويبدو أنها تعتمد على مجموعة من المناطق في مقدمة الدماغ. وعلى ما يبدو، كلما زادت المادة الرمادية الموجودة في هذه المناطق، كان الأداء أفضل في هذه المهام المعينة.
وهناك أدلة من المرضى الذين يعانون من تلف في الدماغ أو تدهور المادة الرمادية في القشرة الأمامية يوضح مدى أهمية هذه المنطقة عندما يتعلق الأمر بالتصرف بذكاء. وكمثال على ذلك نشير إلى ميل المرضى الذين يعانون من تلف المنطقة إلى إظهار أداء أسوأ في اختبارات الذكاء واتخاذ قرارات سيئة في الحياة اليومية.
وتمثل المادة البيضاء الروابط بين الخلايا العصبية. قد يكون مقدار المادة البيضاء لديك مؤشراً على مدى جودة وسرعة تواصل الخلايا العصبية مع بعضها البعض. الفكرة الأساسية لمفهوم كفاءة المادة البيضاء هي أن الشخص الذي لديه المزيد من المادة البيضاء، في الواقع، يفكر بسرعة أكبر من شخص يعاني من ضعف الاتصال. ثم تترجم سرعة التفكير الأسرع إلى ذكاء أكبر.
في الواقع، يمكننا أن نجد ارتباطات بين كمية المادة البيضاء التي يمتلكها الشخص وكيف يؤدي في اختبارات الذكاء. يربط الجسم الثفني، وهو أكبر جزء من المادة البيضاء في الدماغ التي تربط نصفي الكرة الأيمن والأيسر. ويرتبط الجسم الثفني الأكبر بالأداء الأفضل في مجموعة من الاختبارات المعرفية، على الرغم من أنه لم تُظهر جميع مقاييس حجم الجسم الثفني تأثيرات ذات دلالة إحصائية.
يأخذ بعض علماء الأعصاب هذه الأدلة المختلطة على أنها توحي بفكرة أن المادة الرمادية قد تكون أكثر أهمية عندما يتعلق الأمر بتحديد الأساس العصبي للذكاء.
أدمغة البشر المميزة في مملكة الحيوان
ابتكرت عالمة أعصاب برازيلية طريقة لحساب خلايا الدماغ، والتي وضحت بأن الأدمغة الأكبر لا تعني بالضرورة المزيد من الخلايا العصبية. يمتلك دماغ الإنسان المتوسط حوالي 86 مليار خلية عصبية و85 مليار خلية غير عصبية. أظهر عمل تلك العالمة أن التباين في القدرات الأدائية بين الأنواع الحيوانية يرتبط بكثافة الخلايا العصبية في أدمغتها بشكل كبير ولا يرتبط بقوة بحجم الدماغ.
أبناء عمومتنا من الرئيسيات، القردة العليا، لديهم أدمغة أصغر مما قد يتوقع من حجم أجسامهم لأن الخلايا العصبية باهظة الثمن من منظور كلفة الطاقة المطلوبة لتشغيلها. ولا تستطيع الغوريلا ولا الشمبانزي ببساطة الحصول على ما يكفي من الطاقة من طعامهم لتشغيل خلايا دماغية أكثر مما لديهم، وهو ما قد يفسر أيضاً صغر حجم أدمغتهم مقارنة ببني البشر، الذين قد يكون اكتشافهم لكيفية استخدام النار منذ حوالي مليون ونصف سنة في حقبة الإنسان المنتصب، هو الذي مكنهم من تأمين الوارد الطاقي الأكبر الذي أدى لاصطفاء البشر ذوي الخلايا الدماغية الأكثر طبيعياً على مر الأجيال منتجاً نموذج الإنسان المعاصر وذكاءه الفريد.
________
*تعريب فريق دار الأكاديمية للطباعة والنشر والتوزيع لملخص محاضرة قدمها الطبيب مصعب قاسم عزاوي باللغة الإنجليزية في مركز دار الأكاديمية الثقافي في لندن.
* مصعب قاسم عزاوي.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.