الانسحاب المروّع:
تتواضع المعرفة الإنسانية على أن التاريخ يربك التوقعات، خاصة تلك التي يتم إجراؤها في أعقاب الأحداث الكبرى مباشرة، ولأمريكا سجلها الخاص من “المفاجآت”؛ السارة وغير السارة، في تاريخ صراعاتها العالمية. فمن كان يفكر أنه بعد بيرل هاربر، في عام 1941، وهيروشيما وناغزاكي، عام 1945، ستُصبح اليابان حليف أمريكا الأقر؟ ومن كان يصدق أنه بعد انسحاب الولايات المتحدة من سايغون، عام 1975، ستلجأ إليها فيتنام، بعد ذلك بسنوات، للحصول على دعم أمريكي ضد الصين العدوانية المحتملة؟ من كان يتوقع أن تبدو نتائج التدخل الأمريكي في العراق أفضل نسبياً مما كانت عليه في أفغانستان؟ إن أمريكا تعلم أن طالبان، عام 2021، ليست مثل طالبان في التسعينيات. وتعرف أن طالبان الآن بارعة في دمج أدوات القوة العسكرية وغير العسكرية لتحقيق أهدافها السياسية. لهذا فاوضتها في الدوحة، واتفقت معها على الانسحاب، من دون تحديد كيف سيبدو هذا الانسحاب، أو هكذا نعتقد بسبب الكارثة، التي رافقته. إذ اعتمدت الكثير من الأسئلة المستفسرة سابقاً على كيفية تعامل الولايات المتحدة مع التداعيات المباشرة لانسحابها: كيف تعتني بالأفغان، الذين خرجت منهم، ولأولئك المعرضين للخطر إذا لم تفعل ذلك؟ وكيف تتعامل الولايات المتحدة مع طالبان؟ وما إذا كانت طالبان تعزز سيطرتها على أفغانستان؟ وكيف تتعامل الولايات المتحدة مع تهديد الإرهاب الدولي، الذي قد يتجذر مرة أخرى في أفغانستان؟
يقول منطق الحكمة إن التاريخ سيحكم بهزيمة الولايات المتحدة الأمريكية، ليس بتبنيها لقرار الانسحاب، ولكن بالطريقة المروعة، التي تم بها تخطيطه وإبلاغه وتنفيذه، مرتين. أولاهما، أن واشنطن ارتكبت أخطاء كارثية من خلال “إرباك” كل من الجداول الزمنية لجهود الإخلاء. والثانية، عدم توسيع محيط مطار حامد كرزاي الدولي في كابول للحصول على مزيد من الحماية من الهجمات والسماح بمزيد من نقاط الوصول إلى المطار. وقد نتج عن مجموع هذا التقديرات الخاطئة، والعديد من الأمور الأخرى، مقتل أفراد الخدمة الأمريكية، وإنشاء نقاط تفتيش فعالة لطالبان، وعدم القدرة على استعادة الأشخاص الأمريكيين في جميع أنحاء كابول وبقية أفغانستان، وكارثة إنسانية شهدها العالم كله على أبواب مطار كابول. علاوة على ذلك، تتقوض مصداقية الدولة عندما تضطر، بهذه الطريقة، إلى التخلي عن المصالح الأساسية في الخارج؛ مثل فيتنام في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، التي تبدو معها أفغانستان مصلحة أمريكية ثانوية. ولكن، ثبت بما يدع مجالاً للشك أن “عصر البراءة ولى”، وأن أمريكا إذا ظلت تعتقد أن تحالفها الغربي يمكنه كسب القلوب والعقول بالقوة العسكرية ومليارات الدولارات، فهم مخطئون. وذات الخطأ يمكن أن يوصف به أي اعتقاد يذهب بالظن أن قيادة أمريكية جديدة ستعني مزيداً من المشاركة في الشؤون العالمية. وستكون واشنطن مخطئة أيضاً أذا اعتقدت أن أفغانستان هي أزمة بعيدة وليس لها عواقب على أمريكا أوروبا معاً. فالإرهاب، وتجارة المخدرات، والنزوح الجماعي المحتمل للأفغان، كلها تحديات تواجه الغرب والعالم، إذا لم تستقر الأوضاع في أفغانستان.
إن كارثة الولايات المتحدة في أفغانستان، تؤثر على العالم بِرُمَّتِه، وتجر إلى عقابيلها الأقربين والأبعدين، لأنه ثبت أن أمريكا قد تَضِنُّ على إشراك الآخرين في المصالح، لكنها دائماً حريصةٌ على إشراكهم في تقاسم تبعات الكوارث؛ من فيتنام والعراق إلى أفغانستان. لذا، لا يظنن أحد أن واشنطن ستتجرع الهزيمة والانسحاب، ولن يثيها الانكسار عن الزعم بأنها القوة العظمى الأوحد. وهذا ما عين ما تُطمئن به مؤسسة مُهمة وعميقة الأثر مثل “مجلس الأطلنتي”، الذي يُعَدُّ أحد الموجهين الفاعلين للسياسة الخارجية الأمريكية؛ على الأقل في مستوى الطرح الفكري النظري. ففي إطار مراجعته للانسحاب من أفغانستان، وما بعده، في يوم الاثنين 30 أغسطس 2021، قال عدد من الخبراء بالمجلس إنه مهما كانت [الهزيمة] مذهلة، لا تغير بشكل أساسي ميزان القوى في العالم، وشددوا على أن المعايير، التي تجعل من الولايات المتحدة القوة البارزة في العالم لم تتغير. وبالمقابل، لا تتمتع الدولة، التي مزقتها الحرب [أفغانستان] إلا بأهمية إستراتيجية طفيفة، وستصبح مصدر قلق للقوى المجاورة إيران وروسيا والصين وباكستان والهند. غير أن الكثير مصادر قوة الولايات المتحدة سيعتمد على الدروس، التي تعلمتها هذه المرة من حرب أفغانستان. وكان يُفترض أن تكون أول هذه الدروس الجيدة هي الواقعية “العملياتية”، ومتى يتم استخدام القوة العسكرية ومتى لا يتم ذلك، ومتى يجب المتابعة بوجود طويل الأجل، ومتى لا يتم ذلك، والأهم من كل ذلك هو استراتيجية الخروج؛ ما يمكن، وما لا يمكن، تحقيقه في موقف معين؟ ولكن حتى الدروس الحكيمة تبدو أسهل في التعبير عنها من تطبيقها، إذ ذهبت القيادة الأمريكية إلى أفغانستان لأسباب وجيهة، وبقيت فيها لأسباب تبدو صحيحة في ذلك الوقت، فهي، في رأي الكثيرين، وإن فشلت مرات عديدة، فقد أنتجت الكثير من الخير.
باكستان في الواجهة:
لا يبدأ حديث صحيح عن أفغانستان، أو ينتهي، إلا بتناول لعلاقتها، التي لا تنفصم بباكستان. لذا، تابعت باهتمام الحديث الرصين والصريح، الذي أدلى به رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان، مساء الجمعة 17 سبتمبر 2021، لبرنامج “صناع الأخبار-News Makers”، بقناة “روسيا اليوم-RT”، والذي قال فيه إن حركة “طالبان” الأفغانية قد تغيرت “استناداً إلى التصريحات الصادرة عنها”. وقد لاحظت بأن السيد خان، رغم استخدامه المتقن للغة الدبلوماسية، وثنائه على ما يمكن أن يحدث من تفاهم بين السعودية وإيران، الذي وصفه بأنه “يصب في مصلحتنا”، لاحظت أنه اعترته حالة من الغضب في ثلاث مواضع مست عصب السياسة الخارجية الباكستانية. أولاها، موقفه من الحكومة الأفغانية السابقة، التي قال إنها اتهمت باكستان بدعم الحركة “للتستر على فسادها”، واصفاً ادعاءها بأنه “لا أساس له”. وثانيها، الحالة الفوضوية، التي أدارت بها واشنطن الانسحاب من أفغانستان المقرر والمتوقع، رغم أنه دافع بشدة عن الرئيس الأمريكي جو بايدن، قائلاً إن الحملة عليه “ليست منصفة”. والثالثة، التي لم يستطع إخفاء غضبه فيها، هي الانتقادات “الجائرة”، والتي وجهها أغضاء في الكونغرس الأمريكي ضد بلاده، واتهامها بأن داعم لـ”طالبان”، وكأنها المساهم الرئيس في هزيمة حكومتهم المصنوعة في كابول. وأشار رئيس الوزراء الباكستاني، غير مرة، إلى أنه “ليس متأكداً إن كان لدى واشنطن سياسة متسقة بشأن أفغانستان”، مؤكداً أنه في حال عدم استقرار أفغانستان “فإن تبعات ذلك وخيمة ومنها مشكلة اللاجئين والإرهاب”، ومضيفاً بأن بلاده تحملت وتتحمل تبعات الغزو السوفيتي والأمريكي، وكل السياسات الخاطئة أثناء وجودهما هناك، ومذكراً العالم بأن باكستان خسرت أكثر من ثمانين ألف شهيد في الحرب العالمية ضد الإرهاب.
لقد استعدت؛ بالاستماع لحديث رئيس الوزراء عمران خان، صدى نقاشات وحوارات كثيرة في “جامعة الدفاع الوطني”، في إسلام أباد، وذلك أثناء مشاركاتي، كأمين عام لمنتدى الفكر العربي، في مؤتمرات الجامعة السنوية، التي تحشد لها خبراء ومختصين في المجالات الفكرية والدبلوماسية والاستراتيجية من كل أنحاء العالم. فما من متحدث باكستاني؛ اعتلى المنبر، أو وقف للتعليق، أو تصدر النقاش والحوار في الاستراحات والأنس، الذي يتخلل فترة الوجبات، إلا وعَدَّدَ تضحيات بلاده في الحرب العالمية على الإرهاب، وما تعانيه من استمرار الصراع في أفغانستان. ولا شك أن باكستان قد أرهقتها سنوات أزمات أفغانستان؛ من جهاد كانت مدفوعة إليه بموجبات عقيدة أهلها إبان الاحتلال الشيوعي لجارتها أفغانستان، أو تعاون استدعته روابطها وجماع مصالحها مع الغازي الأمريكي في العقدين الآخيرين. ويبدو ذلك جلياً في مظاهر المحاذير الأمنية، وما يرافقها من حواجز عسكرية ومتاريس شُرَطِيَّة في كل الطرقات الفسيحة، التي تميز. وما خرجنا من أسوار الجامعة مسافة إلا وكُنَّا في حماية مُدججة؛ يحدث ذلك ونحن نزور متحف القائد التاريخي محمد علي جناج، أو حتى عندما تأخذنا الحاجة إلى التسوق، أو الفرجة السياحية.
وبالعود إلى حديث عمران، وما يؤشر عليه من معطيات لفهم العملية السياسية في مستقبل أفغانستان، نجده شديد الحرص على تذكير حكام طالبان الجدد بضرورة الشمول في تمثيل قطاعات وطوائف المجتمع الأفغاني المختلفة. وتكراره اللافت لدعوة كابول لتوسيع قاعدة الحكم، فيها استيعاب للحقائق الإقليمية المحيطة بأفغانستان، والتداخلات الإثنية والمذهبية مع الجوار، لافتاً إلى أن “الحكومة الأفغانية يجب أن تكون شاملة وتوحد جميع الأطياف في البلاد”. وفي الوقت ذاته، جاء حديثه كنَفْيٍ مُبَطَّن لما يمكن أن تتهم به حكومته من محاباة لـ”طالبان”، التي تتكون في غالبها الأعظم، إن لم تكن جميعها، من البشتون، الذين يمثلون نصف سكان أفغانستان، وتمتد أطرافهم عميقاً داخل باكستان المجاورة. ووضح هذا النفي أكثر في قوله إن بلاده “تعمل مع كل جيران أفغانستان، وتدرس شروطاً على الحكومة في كابل تنفيذها لنعترف بها”، مُفْصِحَاً عن اتصالات أجراها، وأخرى يزمع القيام بها، تحقيقاً لهذا الهدف. ورغم أنه لم يتناول الهند بإسمها إلا أن لهجته القاسية ضد حكومة أشرف غني السابقة، وفسادها، الذي قاد لإنهيارها، فيه تلميحات وإدانات لداعميها من غير الولايات المتحدة الأمريكية، والذين كانت تقف إلى جانبهم وتدعمهم حكومة نيودلهي، وكثيراً ما استعدتهم على إسلام أباد.
عُسر الهزيمة:
إن سؤالاً افتراضياً يطرح نفسه، وربما يكون قد طرأ على ذهن الكثيرين من المراقبين وهم يتابعون ما حدث من فوضى الإنسحاب الأمريكي من كابول، وقد يستفسرون بهذا السؤال: هل تقبل واشنطن ما فُهِمَ على أنه هزيمة مدوية، بعد عشرين سنة من الغزو وصناعة الحكومات الهشة؟ ربما تكون الإجابة ميسورة بالاطلاع على حيثيات ومعطيات هزيمة الاتحاد السوفيتي، في نهاية الثمانينات، وما تلاها من ردم الهوة بين الشرق والغرب، وأفول إكراهات الحرب الباردة. فالتاريخ الحديث يُذَكِّرنا بتفاصيل أحداث تلك الفترة “المبهجة” لأمريكا المنتصرة على القوى العظمى الأخرى في عرصات أفغانستان. ففي عام 1989، بدا انتصار الجانب الأمريكي في الحرب الباردة كاملاً، وكانت أفغانستان هي “القشة”، التي قصمت ظهر البعير. لكن واشنطن، التي قادت “الجهاد” في أفغانستان، رأت أيضاً أن حقبة جديدة من “الحرب” قد بدأت كنتيجة للحرب الأفغانية في الثمانينيات، وهي “عصر الجهاد العالمي”، الذي سبق أن رعته ودربته وسلحته، وأقنعت غيرها بدعمه وتبنيه، لصد المَد الشيوعي. إذ إنه في العقد الأخير من القرن العشرين، غيَّر حدثان العالم: انهيار الاتحاد السوفيتي، وصعود الإسلام ما بات يُعرف بالإسلام السياسي، الذي اصطكت في توصيفه أقلام كثيرة. وهذا ما حاول الكاتب الأمريكي “جورج “كريل”” فحصه في كتابه الموسوم: “حرب تشارلي ويلسون”، الذي صدر عام 2003، وجرى تحويله إلى فيلم عام 2007، مُتتبعاً سيرة عضو الكونغرس الأمريكي، الذي اسمه عنواناً للكتاب؛ تشارلي ويلسون. فقد بحث “كريل” عن الدروس، التي يمكن تعلمها من العمليات الاستخباراتية، التي قادها ويلسون لدعم ذلك “الجهاد” في أفغانستان، وما يمكن أن يفيد منها للمستقبل. وقدم “كريل” بعض الملاحظات حول ما حدث بعد ذلك، وما هو على الأرجح، الذي يمكن أن يأتي بعد ذلك في أفغانستان، من دون أن يضع تصوراً محدداً يُقَرِّبنا إلى ما حدث في أغسطس من هذا العام 2021.
لقد أمضى “كريل” ما يقرب من عشر سنوات في البحث حتى يتسنى له كتابة رواية أصلية لأكبر وأغلى حرب سرية في التاريخ؛ تمثلت في تسليح المقاومة الأفغانية ضد الاحتلال السوفيتي، ذلك الجهد، و”الجهاد” الكبير، الذي قاده “تشارلي ويلسون”، والذي كان، في أوائل الثمانينيات، مجرد عضو مغمور في الكونغرس الأمريكي من ولاية تكساس، تلاحقه غير قليل من الشبهات. وتقول سيرته إنه ظل على الدوام في مهام ثانوية، باستثناء حقيقة أنه قد أتيحت له الفرصة ليصبح عضواً في لجنتين رئيسيتين للسياسة الخارجية والعمليات السرية. ومع ذلك، وبتحفيز من داعمه ومؤيده المحافظ، “جوان هيرينج”، عَرِفَ ويلسون عن المحنة، التي يعاني منها الشعب الأفغاني تحت الاحتلال السوفيتي الوحشي. وبمساعدة عميل وكالة المخابرات المركزية المنشق، “جوستاف (غوست) أفراكوتوس”، قرر ويلسون تكريس جهوده السياسية لتزويد المجاهدين الأفغان بكل أنواع الدعم، بما في ذلك الأسلحة، لهزيمة الاتحاد السوفيتي ووقف المد الشيوعي. وبدأ مهمة نقل الفكرة من الغرف السرية في مقر وكالة المخابرات المركزية، في لانقلي فيرجينيا، إلى المواجهات المباشرة، في ممر خيبر بأفغانستان، الأمر الذي حَوَّلَ جهوده إلى فصلٍ من التاريخ الأمريكي، الذي وُصِفَ بـ”حرب تشارلي ويلسون”، والذي يُعَدُّ واحداً من أكثر الفصول شمولاً وحيوية لعمليات وكالة المخابرات المركزية، التي تمت كتابتها على الإطلاق، بل هي الفصل المفقود في الجغرافيا السياسية العالمية.
ورغم النجاح الهائل لجهوده السياسية و”العملياتية”، إلا أن “ويلسون” تعلم في النهاية أنه في حين يمكن تحقيق النصر العسكري في ساحات القتال بتفوق التخطيط الاستراتيجي، إلا أن هناك عواقب وأثماناً أخرى لتلك المعركة، التي يتم تجاهلها، مما يسبب حزناً عميقاً لجميع من شاركوا فيها. ومن شاركوا في معركة هزيمة السوفييت، إلى جانب الولايات المتحدة، ممن أتى الكتاب على ذكرهم كانوا كُثْر؛ دول ومنظمات، وقادة وأفراد، عرب وأعاجم. ويسجل التاريخ أنه، في فبراير 1989، أرسل رئيس مكتب وكالة المخابرات المركزية في إسلام أباد رسالة مقتضبة إلى المقر الرئيس، في لانقلي بفرجينيا، كتب فيها: “لقد فزنا”، وعُدَّت اختصاراً أقل من القيمة الحقيقية لأنجح عملية استخبارات سرية في التاريخ الأمريكي. إذ يروي “بروس ريدل”، المحارب المخضرم في وكالة المخابرات المركزية ومجلس الأمن القومي، قصة الحرب الأمريكية السرية في أفغانستان وهزيمة الجيش الأحمر السوفيتي الأربعين في الحرب، التي أثبتت أنها المعركة الأخيرة في الحرب الباردة. وقد سعى للإجابة على سؤال واحد بسيط: لماذا نجحت هذه العملية الاستخباراتية ببراعة؟ أو وفقاً لتساؤله وتفاؤله؛ “ما الذي ربحناه”. ويتضح من الرواية أن لدى “ريدل” وجهة نظر لا يستطيع الآخرون تقديمها، لأنه “البطل”، الذي كان محتجزاً في مركز عمليات وكالة المخابرات المركزية عندما غزا الاتحاد السوفيتي أفغانستان عشية عيد الميلاد من عام 1979. فقد فاجأ الغزو مجتمع الاستخبارات، غير أن الرد، الذي بادر به الرئيس “جيمي كارتر”، وسَرَّعَهُ “رونالد ريغان” من بَعْدِه، أثبت براعة مؤسسة الاستخبارات. ففي تلك الحرب، لم يقاتل أي أمريكي في ساحة المعركة، ولم ترسل وكالة المخابرات المركزية ضباطاً إلى أفغانستان للقتال، أو حتى للتدريب.
ذاكرة الحرب:
إن ما تقدم من حديث عن كتاب “حرب تشارلي ويلسون”، لم يكن عَرْضَاً له، أي الكتاب، وليس فقط لارتباطه بتاريخ عمليات أمريكا الاستخبارية والعسكرية في أفغانستان، ومقارنة انتصاراتها وهزائمها هناك، وإنما لأن هذا الكتاب فَصَّلَ قُدرتها على حشد غيرها لأهدافها، واستخدام عقائد تعبئة الآخر “الجهاد” في حروبها، ثم الانقلاب على هذا الآخر وعقيدته الجهادية عندما يخرج الأمر عن السيطر. ولنا فيما أعقب نجاح الحملة “الجهادية” العالمية ضد الاتحاد السوفيتي، وإخراجه من أفغانستان، أكثر من دليل، إذ انقلبت أمريكا على حفاء الأمس، في حربها الكونية على الإرهاب. ونعود إلى القول إنه قد كُتبت العديد من الكتب حول إخفاقات الاستخبارات؛ من بيرل هاربور إلى 11 سبتمبر 2001، رغم أنه لم تصدر الكثير منها عن كيف ولماذا أخفقت، أو نجحت العمليات الاستخباراتية، ولا شك أن الجواب معقد، لأنه ينطوي على نقاط ضعف وأخطاء الآخرين؛ من الأصدقاء والأعداء، فضلاً عن طرائق التقدير ونقاط القوة والضعف في الولايات المتحدة ذاتها، إلا أن كتاب “كريل”، هو توثيق لأسطورة النجاح الأكبر في تاريخ الخروب الأمريكية. ومثلما قدم رجل المخابرات “ريدل” من وصف لطبيعة العمليات، استكشف الشخصيات المتعددة، التي أثيرت في الحرب؛ من الشيوعيين الأفغان والروس إلى المجاهدين الأفغان والعرب والباكستانيين، ثم هناك الأمريكيون.
إن كتاب “حرب تشارلي ويلسون” يعود إلى الحضور مجدداً في الذاكرة الأمريكية، بل دخل الكونغرس، وصار له صيت وصوت أفضل من صوت وصيت صاحبه، الذي كُتبَ عنه. ومثلما قاد “ويلسون” الحملة الاستخبارية لدعم “المجاهدين”، دعا النائب الجمهوري “مايك والتز”، من فلوريدا، إلى نيتهم في القيام “بإخراج مسرحية من كتاب قواعد اللعبة الخاص بتشارلي ويلسون”. وقال “سنقود هذا ونخرجه من الكونغرس إذا رفض البيت الأبيض والإدارة” الأمريكية. والمؤكد هنا أن “والتز” يشير إلى عضو الكونغرس السابق عن تكساس “ويلسون”، الذي لعب دوراً أساسياً، كما أسلفنا، في تمويل برنامج سري لوكالة المخابرات المركزية لتزويد المجاهدين الأفغان، الذين حاربوا القوات السوفيتية خلال الحرب السوفيتية الأفغانية 1979 إلى 1989. وقال “والتز” إنه تحدث بالفعل مع قادة مناهضين لطالبان، وأنه يبحث عن طرق لمنح الإدارة الأمريكية السلطة القانونية لدعم المقاومة الناشئة ضد طالبان، حتى لو كان الرئيس الأمريكي جو بايدن يسعى لغسل يديه من حرب 20 عاماً. وربما ينوي بهذا تقديم مشرع يدفع بايدن لدعم المقاومة، التي ظهر ضعفها، ضد طالبان المنتصرة. وتؤكد الأخبار أن بعض المشرعين قد حولوا مكاتبهم إلى مراكز عمليات مصغرة للمساعدة في حمل الأمريكيين والحلفاء الأفغان، إبان الأيام الأولى للإجلاء، على تسيير رحلات جوية إلى جيوب مجموعات المقاومة المناهضة لطالبان، التي تضم فلول قوات الأمن الوطني الأفغانية، وتنظيمها مستقبلاً كطرق إمداد وشريان حياة للمعارضة.
ورغم أنه ما يزال من غير الواضح ما إذا كانت هذه الجهود ستكتسب زخماً في الكونغرس، أو في أي مكان آخر في واشنطن، لكن جهود “والتز”، وغيره، تعكس بداية نقاشٍ حول ما ينبغي أن تنطوي على استراتيجية الولايات المتحدة في أفغانستان، بعد الانهيار السريع لحكومة “أشرف غني” وصعود طالبان إلى السيطرة على معظم أنحاء البلاد للمرة الأولى منذ 20 عاماً. وربما شجع هذه الجهود المقاومة المحدودة، التي اندلعت ضد طالبان في شمال شرق أفغانستان، حيث قاد أحمد مسعود، نجل زعيم التحالف الشمالي، بعض الوحدات من الجيش الأفغاني السابق في بنجشير، ولكنها سرعان ما أُحْمِدت، ودخل الطرفان في مفاوضات. إن تقديم الدعم لهذه المقاومة الضعيفة؛ سواء أكان سياسياً أم مالياً أم عسكرياً، لن يؤدي إلا إلى إثارة المزيد من العنف في البلاد. فقد اعترف “والتز” بقوله إنه “ليس لدينا قواعد … والآن لدينا طالبان مسلحين أفضل بكثير”، فهم يجلسون على كنز من المعدات الأمريكية، وأضاف: “صدقوني، الوضع قاتم، لكن لدينا رأس الجسر هذا”, الذي يمكن أن يعبروا به إلى هدفهم. وذلك رغم تأكيدات وزارة الدفاع “البنتاغون” أن الأموال، التي سبق تخصيصها في الميزانية لتمويل الجيش الأفغاني قد عُطِلَت الآن. لذا، فإن المدافعون عن مقاومة طالبان يواجهون إدارة منهكة من الحرب، والشعب ليس متحمس لإنفاق المزيد من الأموال الأمريكية في أفغانستان، خاصة وأن أية معارضة مستقبلية ستواجه حركة طالبان أقوى من أي وقت مضى.
لهذا، قال خمسة من مساعدي الكونغرس لمجلة “فورين بوليسي” الأمريكية، إنه من السابق لأوانه معرفة ما إذا كانت هناك شهية كافية في الكونغرس فيما يتعلق بالدعم الواسع النطاق للمقاومة المناهضة لطالبان. لكن هذا قد يتغير مع توتر واشنطن فيما إذا كان حكام طالبان الجدد في أفغانستان سيوفون بوعودهم “بأنهم خففوا العلاقات مع الجماعات الإرهابية العابرة للحدود”. هذا في وقت يَصِرُّ فيه مسؤولون أميركيون سابقون ومشرعون على التشكيك في أن طالبان ستقطع علاقاتها مع القاعدة، أو الجماعات المتشددة الأخرى. تكثر علامات التحذير. ويزيد من هذه الشكوك التقارير، التي كان آخرها تقرير غير سري صادر عن مجتمع الاستخبارات الأمريكية في أبريل الماضي، يُحذر من أن القاعدة “تواصل التخطيط لهجمات إرهابية ضد الأشخاص والمصالح الأمريكية، بما في ذلك في الولايات المتحدة.” وأكد تقرير للأمم المتحدة إلى مجلس الأمن في مايو من عام 2020؛ بعد أربعة أشهر فقط من توقيع الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب على اتفاقية مع طالبان لسحب القوات الأمريكية، أن طالبان تشاورت بانتظام مع القاعدة خلال المفاوضات مع الولايات المتحدة وعرضت تضمن أنها ستحترم روابطهما التاريخية”. لكن، مع كل جهود المشرعين الداعية لدعم المقاومة ضد طالبان، وتحذيرات التقارير، بدأ الضجر من الحرب واضحاً في أوساط حكومة جو بايدن، وظهر بجلاء أكثر حتى في الجهود اليائسة لإجلاء المواطنين الأمريكيين والشركاء الأفغان من كابول.
وزن الخيارات:
ختاماً، نعود إلى ما بدأنا به، ونسأل مع توماس والدمان، من جامعة ماكواري بسيدني أستراليا، وروري كورماك، من جامعة نوتنغهام في المملكة المتحدة، مجدداً: هل تستحق” حرب تشارلي ويلسون” تكملة؟ وقد تثنينا حقيقة أن الوقت مبكر لإعتساف إجابة مُحِقَّة، غير أنه بقدر ما يمكن التأكد من التقارير الإخبارية المتفرقة، فإن المقاومة المقترحة في أفغانستان تظل معلقة بخيط رفيع من الأمل، والأمل لغة ما لا يُدْرك، مع أن أفغانستان علمتنا أن المستحيلات قليلة. فقد تُسهم طالبان في خلق ودعم معارضيها بأخطائها، وسوء الخدمات، أكثر مما تستطيعه المخابرات الأمريكية هذه المرة، التي جربت النصر والهزيمة في ذات المسرح الأفغاني. فطالبان باغتت الجميع هذه المرة، ولم تنتظر قرار دعم معارضيها من عدمه، وإنما تحركت بسرعة وأعلنت النصر في بنجشير، بعد احتلالها عاصمة الإقليم، مُذَكِرَة للعالم أن القوات السوفيتية سبق لها أن احتلت أيضاً أجزاء من بنجشير عدة مرات خلال الثمانينيات، ومع ذلك لم تستطع الحفاظ على وجودها. والآن، على الرغم من أن احتمالات المقاومة تبدو قاتمة، فقد يكون من السابق لأوانه إعلان نهاية “المباراة”، الاستثناء فيه أن يكون هادئاً ومستقراً وخالياً من الصراع. ويُقدر أنه حتى لو فقدت حركة “المقاومة” سيطرتها الإقليمية على جزء كبير من بنجشير بسرعة خاطفة، غالباً ما ستستمر كمعارضة نشطة لطالبان، خاصة إذا حافظت الأخيرة على نهجها المتشدد، وعزلت غيرها عن المشاركة، التي دعا إليها رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان. والظن عندي أن خان يعلم يقيناً أن طالبان ليست جماعة موحدة، وقد اكتسحت السلطة على أساس خليط من الصفقات مع القادة المحليين، وأوائل المؤشرات تُنْبِؤنا بأنها سوف تكافح لتوفير حكم مستقر، أو فعال، يتراضى عليه جميع سكان البلاد.
إن أكبر ما أبتليت به أفغانستان في تاريخها هو التدخلات الخارجية؛ من جوارها والأبعدين، وإن لم تُحْسِن طالبان هذه إدارة علاقاتها الخارجية بتوازن وحكمة فلن تكون بمنجاة مما حاق بها سابقاً. والمقدمات، التي نقرأ فيها سلوك الشهرين الماضيين، لا تبشر بخير كبير، ليس مع صقور الكونغرس الأمريكي، الذين يستعجلون الانقضاض عليها قبل أن ترتب بيتها الداخلي، ولكن من جوارها، الذي تناقضت رسائلها إليه. فقد أخطأت حركة طالبان بالفعل مع أقرب المقربين إليها ما جعل باكستان تتردد في الاعتراف بها، بل تضع شروطاً، وتُشرك فيها الجيران، لهذا الاعتراف. وهناك بوادر توتر مع إيران، وتشعر الصين أن طالبات تتخطاها، وروسيا تترقب بقلق، في وقت تتربص بها الهند، التي كانت الداعم الرئيس لحكومة أشرف غني الهاربة. وفي مناخ كهذا يمكن للمعارضة أن تنهض، وللمقاومة أن تشتد، مما يمثل إغراء للعمل السري الأمريكي، أو غيره، الذي يمكنه من الناحية النظرية، استغلال كل هذه الديناميكيات الداخلية والخارجية لتقسيم النظام وتشويه سمعته وحشد المعادين له. إذ إن تعزيز روح “القدرة على الفعل” سيكون بمثابة مسيرة لا هوادة فيها للأحداث، خاصة وأن هناك ضغط واضح من بعض السياسيين الأمريكيين لفعل شيء حيال انتصار طالبان، حتى لو كان هناك القليل من الحماس المحلي للتدخل العسكري. رغم أن سجل واشنطن يشير إلى أنه عند التفكير في العمليات السرية، غالباً ما تتصرف الاستخبارات لأنها تستطيع، وليس لأنها يجب أن تفعل ذلك؛ بغض النظر عن التحفظ السياسي، أو الآفاق المجهولة لصناعة تمرد ناجح، لأن هناك دائماً رغبة في خوض الحرب الأخيرة مرة أخرى.
____________
*الدكتور الصادق الفقيه: دبلوماسي سوداني، الأمين العام السابق لمنتدى الفكر العربي، الأردن.
الإثنين 20 سبتمبر 2021
صقاريا، تركيا
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.