(رؤية نقدية)
هناك اتفاق بين علماء الابستمولوجيا، أن الفكر الإنساني يتأثر بأحداث السياق الاجتماعي وتفاعلاته لمجتمع ما، وعلى الرغم من أن للفكر هامشاً من الاستقلال النسبي عن الواقع الذي أنتجه يتجسد في تقدمه على الواقع الاجتماعي أو تخلفه عنه، إلا أنه في نهاية الأمر محكوم عليه بعوامل موضوعية تجعله أحياناً أكثر توضيحاً للواقع من أجل تجاوزه، وأحياناً أخرى أكثر تزييفاً للواقع من أجل الحفاظ عليه. وفي هذا المقال سنتحدث عن نشأة علم الاجتماع في المجتمعات العربية والإسلامية في مرحلتي الاستعمار الأجنبي، وما بعد الاستقلال الوطني.
1- مرحلة الاستعمار الأجنبي:
لعب الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، الذي ولد فيه علم الاجتماع في البلدان العربية والإسلامية دوراً أساسياً في توجه أهدافه وأسلوب دراسته للواقع وصياغة هويته الأكاديمية. حيث كان الواقع الذي ولد فيه علم الاجتماع في البلدان العربية والإسلامية هو واقع الاستعمار الأجنبي، الذي سعى إلى تقسيمها إلى مناطق نفوذ ودويلات سياسية استعمارية.
فضلاً عن سعيه الدؤوب إلى تحريك الصراعات وتعميق الانقسامات داخل كل دولة، مستغلاً في ذلك طبيعة أطرها الاجتماعية البنائية وتكويناتها الطائفية والأثنية والقبلية. وما يهمنا في ذلك أن الواقع الذي أنتج العلم والفكر السوسيولوجي في تلك البلدان اتسم بطابع الاستغلال والانتهازية وتغليب المصالح الفئوية الضيقة على حساب السود الأعظم للشعوب حتى في ظل مرحلة ما بعد الاستعمار.
كما استطاعت القوى الاستعمارية وتحالفاتها أن توظف البحوث والدراسات السوسيولوجية والانثروبولوجية لخدمة وتكريس مصالحها، حيث أوكلت تلك المهام للانثروبولوجيين المنضوين تحت سلطتها لدراسة ثقافات الشعوب وكل ما يتعلق بذلك وفق رؤى إيديولوجية بامتياز بذلك أصبح البحث الاجتماعي في خدمة القوى الاستعمارية بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ العلوم الاجتماعية في تلك الفترة.
بل حتى الإداريون الذين كانوا يرسلون لإدارة المستعمرات كانوا يقومون بعض البحوث الاجتماعية ويجمعون معلومات دقيقة عن كل جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية والدينية في مستعمراتهم، مستخدمين في ذلك مناهج وطرق بحثيه معروفة مثل المسح الاجتماعي، والمقابلة، والملاحظة بالمشاركة، والرصد الدقيق للبيئة، والتنبؤ بمواقف الأمطار والحصاد والآفات الزراعية، وأسعار المحاصيل وغير ذلك. بل لقد أصبحت سياسة راسخة للاستعمار البريطاني والفرنسي ألا يرسل إداري للمستعمرات إلا بعد أن ينال تدريباً وتأهيلاً في العلوم الاجتماعية مثل علم الاجتماع وعلم الانثروبولوجيا، وعلم اجتماع اللغوي، إلى غير ذلك من العلوم ذات الصلة والنتيجة أن هؤلاء الباحثين والإداريين قد أرسوا تقاليد بحثية كانت لها آثارها الهامة على مستقبل البحوث الاجتماعية حتى بعد مرحلة التحرر السياسي لتلك الدول، فأصبحت تلك المعلومات والدراسات مرجعاً أساسياً لا يستطيع باحث تجاهلها، بل وفي كثير من الجامعات والمعاهد شكلت تلك الدراسات والبحوث أهم مكونات المناهج التعليمية التي تدرس فيها، فأصبحت بمثابة ” نماذج إرشادية ” صبغت علم الاجتماع بصبغتها.
ومعنى ذلك أن الاستعمار استطاع خلال تلك الفترة تصمم وإخراج الكثير من الأطر التعليم والثقافية في معظم البلدان التي استعمرها من خلال بعض المؤسسات الأكاديمية والتربوية التي أوجدها في شكلها النظامي والحديث.
2- مرحلة ما بعد الاستقلال:
يمكننا القول إن علم الاجتماع المعاصر نشأ مع ولادة الدولة الوطنية في البلدان العربية والإسلامية وذلك بعد معركة طويلة خاضتها ضد الاستعمار الأجنبي- بتعدد أشكاله- طوال القرن التاسع عشر حتى نهاية النصف الأول من القرن العشرين. في هذا السياق انتقل الخطاب عن الواقع العربي والإسلامي من الخطاب النهضوي الذي نشأ أساساً في القرن التاسع عشر مع الرواد الأوائل للنهضة العربية والإسلامية إلى خطاب العلوم الاجتماعية الذي ستتبناه الدولة الوطنية. فمن أسباب تخلف الأمة الإسلامية بشكل عام، أنها على قطيعة بتاريخها وأمجادها وبطولاتها وعظماءها وتراثها الثقافي والعلمي الذي يمتد لعدة قرون.
ومن هذا المنطلق يمكن أن نقول إن البلدان العربية والإسلامية لم تهتم بهذه العلوم على أنها علوم ناقدة ومحللة للمسألة الاجتماعية، وبالتالي يتم على قاعدتها تبني المشروع الاجتماعي الذي سوف ينطلق من الواقع لكي يتأسس عليه نظرة علمية، بل كان المشروع هو عملية إسقاط نماذج اجتماعية أجنبية على الواقع العربي والإسلامي يأتي علم الاجتماع لكي يبرر هذا الإسقاط.
والدليل على ذلك أن الدولة كانت في حاجة إلى إيديولوجية تحدد ذاتها أكثر من علم يحلل ذاتها انطلاقاً من ذاتية المجتمع الذي تأسست عليه. لقد كان علم الاجتماع يدرس المجتمع كما أريد له أن يكون وليس كما ينبغي، فأصبح يدرس ظواهر افتراضية مفروضة عليه وليست عينية تعكس تطور المجتمع في حد ذاته. إنها محنة هذه العلوم التي انطلقت منذ البداية لخدمة خيارات سياسية مسبقة. وبالتالي لا يمكن فهم أزمتها بمعزل عن المتغيرات التي نشأت فيها.
بذلك نجد أن نشأة علم الاجتماع في البلدان العربية والإسلامية عرفت نوع من علاقة القطعية والوصل في الوقت نفسه. فعلاقة القطيعة تتمثل مع الفكر النهضوي الإسلامي الذي كان عليه أن يستأنف إشكاليته لكي يحولها إلى انشغال علمي تعيد طرحه العلوم الاجتماعية وعلم الاجتماع أساساً وبالتالي يحصل التطور المنطقي في الفكر الذي عبر من خلاله عصر النهضة عن إشكاليته التي لم تكن بدرجة كبيرة من العلمية.
وعلاقة الوصل مع الفكر الغربي الذي كان سائداً سواء من خلال النظريات التي أريد لها أن تكون أدوات لتحليل الواقع العربي والإسلامي لم تكن وليدة هذا الواقع، مع استمرار تأثير السوسيولوجية الاستعمارية التي كانت تدرس الواقع العربي والإسلامي من منظور يخدم غاياتها ومصالحها الدنيئة. فمن المسلم به إن لكل مجتمع خصوصياته السياسية، والاقتصادية، والثقافية والاجتماعية، ولا يمكن فهم أي واقع اجتماعي إلا من خلال تصور شامل وعميق لهذا الواقع، وهذا ما ينطبق على الواقع الاجتماعي العربي والإسلامي الذي هو بحاجة إلى إنتاج قوالب نظرية تتيح للباحث السوسيولوجي العربي والإسلامي معرفة المشاكل المجتمعية وإيجاد الحلول لها. ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن نسقط نظرية نابعة من واقع اجتماعي يختلف في الخصوصية الثقافية والسياسية والاجتماعية فضلاً عن الاختلاف في مراحل تطور هذا المجتمع، وهذا ما انتهجه الباحثون العرب والإسلاميون حيث اكتفوا بنقل التراث النظري الغربي وحاولوا به فهم واقعهم الاجتماعي والسياسي والثقافي.
فعلى سبيل المثال، عندما يدرس الطالب الغربي علم الاجتماع فإنه بكل تأكيد يُعْنَى بالظواهر ذات العلاقة بالتاريخ والمجتمع في كل أشكالها وصورها التي تخص ذاته الجماعية، فيستقي نتاجه الفكري من الأدبيات الفلسفية والفكرية التي نتجت عن عصري النهضة والتنوير الأوروبي بصفة عامة، فالفرنسي والإيطالي والإنجليزي والألماني… يشعر كل واحد منهم أنه ينخرط في الإشكال المعرفية التي أنتجتها مجتمعاتهم في خضم عصر النهضة الذي شاركت فيه كل هذه الثقافات بحكم وحدة الإشكال التاريخية والمعرفية وحتى الدينية. وبالتالي نجد أن علم الاجتماع، الذي تبلور في القرن التاسع عشر- الذي يعتبر استجابة وإجابة لهذه الإشكالات – قد عبر عن الهم التاريخي لهذه المجتمعات في تجاوز أزمتها الثورية والدفع بالأوضاع تحت تأثير فكرة التقدم إلى الأمام.
بالمقابل لهذا الوضع نجد أن الطالب العربي والإسلامي عموماً في مجال العلوم الاجتماعية هو منفصلاً عن الفكر الذي أنتجه عصر النهضة العربية والإسلامية، حيث لا يجد هذا الطالب في أدبيات علم الاجتماع على غرار الفكر الغربي ما يمكن أن نسميه بسؤال النهضة في تكوينه الأكاديمي. إنه الاستلاب الفكري وغربة هذه العلوم ليس بحكم نظرياتها التي قد نستفيد منها إذا وعينا رهانات نهضتنا وثقافتنا، ولكن من حيث غربة المشتغل بهذه العلوم عن أفكار النهضة العربية والإسلامية على عكس ما حاصل في العالم الغربي.
والدليل أن الرواد الأوائل لعلم الاجتماع في البلدان العربية والإسلامية صبوا كل اهتمامهم حول ترجمة أعمال رواد علم الاجتماع الغربي وحاولوا إبراز أهمية وقيمة هذا العلم وضرورة تدريسه لطلاب المعاهد والجامعات في العربية والإسلامية آنذاك. دون التفكير في محاولة جادة لوضع علم اجتماعي عربي إسلامي يبرز خصوصية تلك المجتمعات، ولم يكتفي هؤلاء الرواد بترجمة الفكر الاجتماعي الغربي، بل تأثروا أيضاً بالاتجاهات الفكرية السائدة آنذاك كالماركسية والوضعية.
– خلاصة القول:
من خلال ما تقدم نستنتج أن الدراسات السوسيولوجية الأكاديمية المنجزة في العالم العربي والإسلامي تعبّر عن جزر متناثرة ومشتتة لا وصل بينها أو جسر يربط بعضها البعض، كما أنها تنعدم فيها العلاقة التكاملية والتواصلية، فكل مفكر أو عالم اجتماع يسبح لوحده منقطع عن غيره يدور حول نفسه. كما أن الدراسات الجادة لا تنخرط في عملية جماعية تشكل حقلاً معرفياً يؤدي إلى تراكم معرفي قد تنبثق عنه بناء نظرية سوسيولوجية عربية إسلامية تمثل ثمرة هذا الجهد المتكامل في شكل جماعي كمحاولة جادة للخروج بعلم اجتماع عربي إسلامي يضاهي نظيره الغربي. أما عقد الندوات والمؤتمرات واللقاءات والأصوات المتعالية من داخلها لا تصنع علماً ولا توقظ ضميراً.
ومن الجدير بالذكر أن الفترة التي نالت بها تلك البلدان استقلالها عن الاستعمار الغربي البغيض تبلغ أكثر من خمسين سنة، حيث تعتبر فترة زمنية كافية لكي تخوض فيها تلك البلدان تجربتها في صياغة علم اجتماع عربي إسلامي، فإذا كان اللوم على الرواد الأوائل الذين لم تكن لديهم أي محاولات لإنتاج نظرية عربية ذات طابع إسلامي، بالإضافة إلى تأثرهم بالفلسفات الوضعية والتوجهات الماركسية التي تتنافى مع خصائصنا الدينية والاجتماعية والثقافية، فإن اللوم الآن مُلقى على جميع المشتغلين بالبحوث والدراسات السوسيولوجية لتقصيرهم في صياغة نظرية اجتماعية نابعة من صميم الواقع الاجتماعي والثقافي لتلك البلدان. لكن السؤال الذي يطرح نفسه علينا كيف لعلم ولد وترعرع في بيئة غربية بحتة، لها ثقافتها وعاداتها وطرق عيشها وحتى مشاكلها الخاصة أن يطبق بحذافيره على مجتمعاتنا العربية والإسلامية دون تمحيص وتدقيق ؟ أليس هذا من الإجحاف بحق أنفسنا ؟
___________
*د. حسام الدين فياض/ الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة/ قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.