مقدمة:
يتميز القرن الأفريقي عن بقية القارة، وربما العالم، بكثافة الأزمات الطبيعية، وتواتر الأحداث السياسية العنيفة بشكل استثنائي، واستدامة الصراع، الذي شهدته وتشهده المنطقة، على كل من المستويات، سواء بين دولة ومكوانتها الداخلية، أو بينها وأخريات داخل الحدود الإقليمية، والذي لم يهدأ منذ إنهاء الاستعمار إلى يومنا هذا. الأمر الذي يؤشر على أن هذه الدول نشأت نتاج تطورات تاريخية خارجة عن سيطرتها، ولم تستطع بعد امتلاك الإرادة السياسية للبناء الوطني، على أساس من التعددية المتضامنة، أو الهوية الواحدة الضامنة للاستقرار. فقد شهدت دول القرن الأفريقي العديد من الحروب الأهلية والنزاعات الداخلية، وعانت كثيراً من اشتباك جيوش خارجية في صراعاتها الداخلية، كما حدث في الصومال وجنوب السودان، وتدخلات عمليات السلام فيهما، التي يهيمن عليها الغرب، والتي عملت وتعمل على إعادة ترتيب وإعادة بناء نمط الدولة الإقليمية، وتوظيف النخب المفضلة إليها في السلطة. وكل هذا يميز القرن الأفريقي عن بقية أفريقيا، خاصة وأنه شهد ظهور دولتين جديدتين مستقلتين بحكم القانون؛ إريتريا وجنوب السودان، وواحدة أخرى بحكم الواقع؛ هي أرض الصومال، والعديد من المناطق الخاضعة لسيطرة حركات التمرد المسلح، وغيرها من المناطق الواسعة، التي تخضع اسمياً فقط لسيطرة الحكومات المركزية. كما أن اندلاع الحرب الأهلية بين الحكومة الإثيوبية وحكومة إقليم التيغراي في نوفمبر 2020، التي شاركت فيها أيضاً قوات من إريتريا ودول أخرى، لا يتحدث فقط عن عدم الاستقرار السياسي المتأصل في المنطقة، ولكنه يُشير بجلاء إلى أن عملية تشكيل الدولة لم تكتمل بعد.
من هنا، والآن، تبدو درجة التقلبات في القرن الأفريقي أعلى من أي وقت مضى، بما في ذلك كل ما جرى في السنوات الأخيرة، إذ ظهرت قضايا معقدة جديدة؛ مثل سد النهضة، الذي تخشاه مصر والسودان، والمطالبات المتصاعدة بالانفصال في إثيوبيا. ومع ذلك، هناك حاجة ملحة لتحديد ما إذا كانت هناك بالفعل صحة للمخاوف من اندلاع حريق إقليمي شامل، وما إذا كانت خطوط الصدع الكامنة وراء التصاعد الحالي للعنف في إثيوبيا تمر بالفعل عبر منطقة القرن الأفريقي بأكملها. كان الاتجاه السائد منذ أوائل العقد الأول من القرن الحالي هو أن تؤدي حركات التمرد والتدخلات العسكرية إلى إشعال حروب شبه إقليمية شرسة؛ كما كان مع دارفور وتشاد، وكما هو الحال بين إقليم التيغراي وإريتريا، وما جرى من حرب بالوكالة بين إثيوبيا وإريتريا في الصومال، بدلاً من الحروب الكبيرة متعددة الجوانب في الثمانينيات والتسعينيات. لكن الملاحظ أن عودة إريتريا إلى المسرح الإقليمي، بعد عقود من العزلة، قد أدت إلى إثارة الكثير من أحاديث المؤامرات والتكهنات، مع بعض الروايات، التي تسلط الضوء على الدور المحوري لأسمرا في صراع إقليمي محتمل. علاوة على ذلك، تبع اضطراب جنوب السودان في عام 2013 درجة من الدعم الإقليمي؛ وإن كان مقدراً ومحسوباً بطبيعته، للحكومة المحاصرة، والتي شكلت أساس التقارب في نهاية المطاف بين السودان وأوغندا، بعد عقود من التوترات.
إن الحرب في التيغراي، والتمرد العنيف في أوروميا، وبني شنقول-قمز، وأغادين، ومنطقة العفر، وغيرها؛ أو الثمان جبهات، التي تحدث عنها رئيس الوزراء الإثيوبي الدكتور أبي أحمد علي، يُضاف إليها التوترات على الحدود السودانية – الإثيوبية، ومعضلة سد النهضة، هي قضايا مثيرة للقلق للغاية لأسباب متنوعة، ليس أقلها أن الجهات الفاعلة الرئيسة لم تظهر نفس الدرجة من التردد عندما يتعلق الأمر بتصعيد هذه الأحداث. ففي الوقت الحالي، تبدو صراعات منفصلة، ومن السابق لأوانه التعامل معها على أنها بوادر حرب إقليمية في طور التكوين. غير أنه إذا تصاعدت هذه الصراعات، أو اندمجت، فإن هذا من شأنه أن يحمل مخاطر على كبيرة على الدول المشاركة، التي ستكافح لوحدها لمواصلة العمليات العسكرية الطويلة دون مساعدة خارجية. وستواجه إثيوبيا خاصة خيارات صعبة في توزيع قواتها بين الجبهات الثمانية، وفقاً لإشارة أبي أحمد، وسط انتشار انعدام الأمن في غالب أقاليمها، وقد يضطر جميع المتحاربين إلى التعامل مع خيارات جديدة، من غير المرجح أن تكون مريحة؛ مثل، وقف برامج التنمية في اقتصاديات ضعيفة أصلاً، وزيادة الانفاق الأمني، وربما السماح للجهات العسكرية بنشر القوة عبر الحدود، وحروب الوكالة، مما يؤدي إلى مزيد من التوتر. وقد تتقوض الجهود المبذولة لاحتواء عدم الاستقرار، والتوقف مجدداً عن البناء، وإعادة البناء، وترميم الهويات الوطنية، خاصة داخل دول المنطقة، التي لا تظهر نفس الدرجة من الاهتمام بالاستقرار الإقليمي.
في المنهج:
يُوصف القرن الأفريقي، منذ عقود، بسمعة لا يُحسد عليها باعتباره من بين أكثر المناطق في أفريقيا عنفاً وعدم استقرار سياسي، تدل عليه حالات التشظي والانقسام المتفشية. وذلك بسبب ميل السياسات المحلية والإقليمية إلى مضاعفة آثار الفوضى الداخلية، ومساعدة التمرد في الجوار نتيجة للخلافات المريرة حول ترسيم الحدود السياسية بعد إنهاء الاستعمار، إلى جانب ما يتصف به القرن الأفريقي من كثافة التدخل الخارجي من جانب القوى الإقليمية والدولية، الذي عطل بناء الدولة وتشكيل الهوية الوطنية. لذا، يسعى هذا المقال إلى فحص تحديات بناء الدولة، والمساهمة في النقاش العام حول بناء الأمة وتشكيل الهوية الوطنية في دول القرن الأفريقي. ويناقش، بشكل خاص، مواضعات الجغرافيا وإشكاليات الديمغرافيا في التأثير على استقرار هياكل الدولة؛ في إثيوبيا، وإرتيريا، والسودان، وجنوب السودان، والصومال، وأرض الصومال، وجيبوتي. فيما تبقى الحجة المركزية للمقال هي أن هيكلة الدولة، وصياغة المجتمع، وبناء الهوية الوطنية في جغرافية وديمغرافية ما بعد الاستعمار، والكيانات السياسية، التي توسعت، ثم انقسمت وانكمشت، تتطلب إعادة توجيه جذرية. الأمر الذي يجعلنا نفترض أن اتباع نفس إيديولوجيات بناء الدولة، وإعادة بناء الهوية الوطنية، التي أدت إلى انهيار الدولة وانقسامها، ليس خياراً مستداماً في القرن الأفريقي. فقد توسعت إثيوبيا تاريخياً، واستوعبت مملكة عدوى وهرر، وإقليم أوغادين الصومالي، وسلطنة جيما الأورومية، وبني شنقول- قومز السودانية، وغامبيلا، وسيداما، وإريتريا، وغيرها من المناطق في الجنوب والشمال والشرق والغرب. ورغم أن إثيوبيا ظلت حالة مختلفة عن أوضاع جيرانها في الشرق والغرب؛ الصومال والسودان، حتى بعد استقلال إريتريا عنها عام 1991، أي أنها توسعت باحتلالها السكاني للكنز الأخضر “الفشقة” السودانية عام 1996، وتوغلت فيها عسكرياً عام 1997. ونازعت الصومال على أرضه في حرب مفتوحة لتحتل إقليم أوغادين عام 1977. وبعد انهيار الدولة الصومالية في عام 1991، أعلنت أرض الصومال استقلالها، لكنها لم تحصل بعد على اعتراف دولي بسيادتها، عكس جنوب السودان، الذي كان بعضاً من السودان وانفصل، بعد استفتاء شعبي في يناير 2011، واعترف به المجتمع الدولي على الفور. وقد كانت إريتريا ذات يوم تحت ولاية إثيوبيا واستقلت، ويحترم العالم وضعية جيبوتي، كدولة صغيرة غير قابلة للانقسام، ولا أحسب أنها ترغب في الانضمام إلى غيرها، بعد أن رسخت استقرارها، وصار لها وزن بحنكة دبلوماسيتها، التي كسبت ود جيرانها، وتجنبت غدر بعضهم، بل استطاعت جمع أكثر من عشر قاعدة عسكرية أجنبية في أرضها.
وفي هذا السياق، يُشير هذا المقال إلى أن بنية الدولة في القرن الأفريقي تمثل حالة فريدة من عدم الاستقرار، ما يستوجب على مراكز القوى الحية فيها أن تجتهد دائماً في محاولة إعادة ترتيبها، في كل مرة يحدث فيها اضطراب، أو إنقسام؛ إما ببنائها من الألف إلى الياء، كما حدث في أرض الصومال، أو بإعادة بنائها، كما في حالة إريتريا، أومحاولة ترميم الهوية الوطنية فيها بعد الانفصال، كما هو حادث في جنوب السودان. فبينما استطاعت إريتريا تحقيق الربط بين الجغرافيا والديمغرافيا في زمن وجيز، ما عدا نزاع إقليم بادمي مع إثيوبيا، وما نشب من نزاع بحري مع اليمن على جزر حنيش، أو بعض المناوشات الحدودية مع جيبوتي. إلا أن أمر إعادة ترتيب المجتمع أرض الصومال وجنوب السودان تطلب تحولاً كاملاً لمؤسسات الدولة حتى تستجيب لاحتياجات الناس ومصالحهم، خاصة وأن السعي وراء الانفصال كان ناتجاً عن ادعاء الحرمان؛ كحقيقة، أو تصور. لذلك، فإن سكان هاتين الدولتين الناشئتين ينتظرون تلبية توقعاتهم، التي تشمل القضايا المتعلقة بالهوية والأمن والاستقرار والازدهر الاقتصادي. في حين تلتقي رغبات النخب السياسية مع تصوروها لفترة ما بعد المرحلة الانتقالية لبناء الدولة، وإعادة بناء المجتمع والهويات الوطنية بطريقة تعكس الأوضاع المستجدة. إن الأمر الذي يوحد حالات الانقسام في دول القرن الأفريقي هو أنه، على الرغم من تنوعها الشديد، تنطوي على نزاع مستمر، وأن قادتها شرعوا في إعادة تهيئة أنفسهم بطريقة تستجيب للوقائع، التي تتكشف عبر مسيرة البناء وإعادة البناء. ففي السودان والصومال، يتوجب أن تعالج إعادة تشكيل بقايا الدولة الواقع والمطالب الجديدة، وهذا يحدد نطاق وعمق الجهد المطلوب لبناء ما تبقى من الدولة، وعمليات إعادة ترميم المجتمع. كما أنه يحدد معالم ومعايير مشاريع إعادة تشكيل الهوية الوطنية وإعادة بناء الأمة. وبالتالي، فإن تحقيق الاستقرار هو الشرط الأساس، وما يصاحب ذلك من بناء هو النتيجة المتوقعة.
بناء الدولة:
إن تجاوز حالة الصراع المزمن، التي حددت وهددت وجود كل دول القرن الأفريقي، والتواضع على مطلوبات مرحلة ما بعد الصراع، إلى الوضع المحلي والإقليمي السلمي والمنسجم، هو المهمة، التي تنتظر كل المجتمعات والحكومات في المنطقة. إذ لا بد أن ينصب التركيز الرئيس على العمل من أجل ترك الحياة الصراعية، التي ميزت دول ما بعد الاستعمار إلى حد كبير، وبدء حياة بناء جديدة تُعِمِّر ما بعد الانفصال وما بعد الانتقال على أساس والعدل والمساواة والاعتراف بالتنوع ومبادئ التعايش، تحقيقاً للسلام والوئام والتنمية. تُظهر دراسات بناء الدولة وإعادة إعمارها أن هناك صلة مباشرة بين طبيعة الدولة والصراع المشتعل، والنظر المنهجي إلى معالجتها، يتبنى نهجاً متعدد التخصصات ومختلطاً. وهذا يتطلب أن يدرس القائمون على الأمر بدقة طبيعة وأساليب بناء الدولة وإعادة بناء المجتمع. لذلك، هم في حاجة إلى تقييم طرائق تميز الأدبيات العامة حول هذا الموضوع، من أجل الاقتراب من نموذج مناسب لبناء الدولة، وإعادة الإعمار، الذي يجلب السلام والاستقرار والتنمية بعد الانفصال وانهيار الدولة. وبشكل عام، هناك ثلاثة نماذج مميزة لبناء جُرِّبَتْ بأقدار متفاوتة في كل دول الأفريقي؛ اتحادية فيدرالية، ومركزية وحدوية، ولامركزية مختلطة من الحديث والتقليدي. بالإضافة إلى ذلك، تمثل هذه الحالات تصورين نَظَرِيين يتقاسمان التعريف بين بناء الدولة وإعادة الإعمار في الممارسة العملية، ومع ذلك، قد يبدو التمييز غير واضح. ففي حين أن بناء الدولة يتعلق ببناء هياكل جديدة، فإن إعادة البناء يُشير إلى إعادة ترتيب الدولة بعد الانقسام، أو انهيار الدولة الأم.
إن بلدان القرن الأفريقي لا تواجه تحديات بناء الدولة وإعادة إعمار الدولة فحسب، بل يتعين عليها أيضاً إعادة تشكيل هوياتها الوطنية، خاصة بعد جراحات الانفصال وعمليات الانتقال. ورغم مرور عقد على الانفصال إلا أن إعادة تشكيل الهوية في كل من السودان وجنوب السودان ما زالت تحتاج إلى أن يتم توجيهها إلى نظام جديد، وتتطلب نهجاً جديداً. إذ لم يؤد انفصال جنوب السودان إلى خلق مجتمعات متجانسة في السودان، أو جنوب السودان، ولا يزال كلاهما مجتمعين متعددي الأعراق والديانات واللغات، ويحتاجان إلى إعادة تشكيل هوياتهما الوطنية وفقاً لهذه الحقائق الجديدة. وفي حالة الصومال، تمثل التحدي في إحياء الهوية الوطنية في فترة ما بعد الفترة الانتقالية عندما حاول البلد تكوين الوحدات المختلفة، التي ستشكل الدولة الفيدرالية. رغم أنه يُنظر إلى الصومال على نطاق واسع على أنها دولة متجانسة إثنياً ولغوياً ودينياً ومذهبياً. ومع ذلك، فقد مرت بعملية مدمرة للغاية عكست الطبيعة المتنازع عليها للهوية الوطنية في هذا البلد المعذب بصراعاته وأطماع جيرانه. أما فيما يتعلق بأرض الصومال، كحالة مستجدة، فإن القلق ناشئ من كيف ينبغي إعادة تشكيل الهوية الوطنية في مقابل بقية الصومال. ورغم أن استقلال إريتريا عن إثيوبيا كان حالة خاصة، وطلاق بائن بين دولتين لم يسعهما السكن المشترك في أديس أبابا، بعد قرابة الأربعين عاماً من قرار الأمم المتحدة في العام 1954، إلا أن أحداث حرب التيغراي الأخيرة، والمشاركة النشطة لإريتريا فيها، أعادت إلى الأذهان سؤال الهوية الوطنية؛ ليس فقط لإريتريا، وإنما لغيرها من شعوب الهضبة، التي تتململ الآن مما ظلت تدعيه من مظالم الهيمنة الثقافية والسياسية والاقتصادية الأمهرية عليهم. وبغض النظر عن أي شك في هذه التقديرات والإدعاءات، فإنه هذا يوضح أن مسألة الهوية الوطنية كقضية سياسية، متجاوزة للتجانس العرقي والصرامة الثقافية.
لهذا، فإن الأدبيات المتعلقة بالهوية الوطنية، تعترف، وفقاً لـ”ريدي بريكيتيب”، محرر كتاب:”بناء الدولة وإعادة بناء الهوية الوطنية في القرن الأفريقي”، بطبيعتها متعددة الطبقات، وتلعب عدد من المفاهيم دورها في بناء الدولة، إعادة بناء الدولة وإعادة تشكيل الهوية الوطنية، ويجري استخدامها للإشارة إلى عمليات تحليلية متميزة، ولكنها مترابطة. ويقول بريكيتيب ربما يكون المفهوم المدني مقابل الإثني للهوية نقطة انطلاق جيدة، افتراضاً على أن الهوية العرقية قد تخدم على مستوى المجتمع المحلي والثقافي، في حين أن النخبة المدنية قد تخدم على المستوى الوطني، وتوفر هوية وطنية سياسية فوق عرقية. ويشير، باختصار، إلى أن إعادة بناء الدولة بعد الانفصال تتطلب معالجة قضية الهوية بشكل مناسب. ومثلما كان على الصومال وأرض الصومال وإثيوبيا وإريتريا هيكلة مؤسسات والدولة والمجتمع، وإعادة تشكيل هويتاتهم الوطنية لاستيعاب واقع ما بعد بعد الانقسام والاستقلال، توجب على السودان وجنوب السودان تحديد وإعادة تشكيل هوياتهما الوطنية بعد الانفصال بينهما. وينبع الأساس المنطقي لهذا التوصيف من حقيقة أن حالات هذه الدول تُظْهِر العديد من الاختلافات في التكوين التاريخي والجغرافي والاجتماعي والثقافي والسياسي.
ولأغراض الإيضاح، هناك ثلاثة أنواع مفاهيمية أساسية تلوح في الأفق في الخطاب الأكاديمي حول بناء الدولة الحديثة تتمثل في إضفاء الطابع المؤسسي، والبيروقراطية، وإلباس الطابع الديمقراطي للدولة. وتُعتبر هذه المفاهيم الثلاثة المقياس المستخدم لتقييم حالة التماسك في الدول الحديثة. ويُصر المنظرون على القول إن الدولة الحديثة يجب أن تتمتع بهذه الميزات جزئياً، أو كلياً. بينما يُشير بناء الدولة، في بعض أجزاء القرن الأفريقي، إلى بناء هياكلها من البداية، كحالة أرض الصومال وإريتريا وجنوب السودان. وتُفهم عبارة إعادة بناء الدولة على أنها عملية إعادة ترتيب دولة قائمة بعد الانقسام، أو الانهيار، مثل الصومال وإثيوبيا والسودان. ويمكن القول أيضاً أن هذا التمييز يعتمد على تقليدي تكوين الدولة وبناء الدولة، حيث يتعلق الأول بالتقدم العفوي والمطوّل والتطوري، بينما يتعلق الثاني بالبناء المخطط الهادف والمتعمد. ولذات غرض التوضيح، يُنظر إلى إعادة تشكيل الهوية الوطنية على أنها محاولة لإعادة ضبط هذه الهوية، وإعادة ترميمها، وإعادة وضعها في أعقاب الانقسام، أو انهيار الدولة، أو في فترة ما بعد الانتقال. ومن ثم، فإن بناء الدولة ينطبق على أرض الصومال وجنوب السودان، وإعادة بناء الدولة يعود إلى دولتي الصومال والسودان المتعثرين، بينما تعالج إعادة بناء الهوية الوطنية التحدي المتمثل في إعادة ترميم هذه الهوية الوطنية في العملية الشاملة لبناء الدولة وتشكيلها. وتجدر الإشارة أيضاً إلى أنه بينما يشير بناء الدولة وإعادة إعمارها إلى إنشاء مؤسسات سياسية وطنية، فإن بناء الهوية الوطنية يدل على الشعور والمشاعر والوعي والإدراك والانتماء والقواسم المشتركة، التي تولد الإرادة للعيش معاً. بعبارة أخرى، بينما تشير “الدولة” إلى التنظيم السياسي، فإن هوية “الأمة” تشير إلى الوعي والمشاعر.
ترميم الهوية:
يبدو أن بلدان القرن الأفريقي تتبع استراتيجية فرض حالة التجانس، في إنكار متعمد لتعددية وتنوع مجتمعاتها، فيما يتعلق ببناء الهوية الوطنية. وفي تقديرنا أن استراتيجية التجانس لبناء الأمة هذه ما هي إلا تكرار لنماذج ما بعد الاستعمار الفاشلة، التي ولدت صراعات مزمنة، وعمقت أزمة الدولة، وقادت لحالات الانقسام والانفصال في المقام الأول، كما وردت الإشارة إليه، في حال السودان، وجنوب السودان، والصومال، وإثيوبيا، وإريتريا. في حين أن الفهم الصحيح لإعادة بناء الهوية الوطنية يفترض دفع، أو تعزيز، الاستراتيجيات المزدوجة المترابطة المستوعبة للتعدد والتنوع، واستيعاب المكونات المجتمعية المختلفة. ويُقاس نجاح إعادة بناء الهوية الوطنية بتحقيق التوازن، الذي ينتج من الإدارة الحكيمة لهذا التعدد والتنوع، التي تتعلق بوضع الأسس الصحيحة لهوية وطنية شاملة. ويحتاج ترسيخ البناء الناجح للهوية الوطنية إلى الاحتفاء بطبقات الهويات المتنوعة واحترامها، لأن مأزق مشروع بناء الأمة في دول القرن الأفريقي ما بعد الاستعمار، أو ما بعد التوسع الإمبراطوري في الحالة الإثيوبية، هو إهماله للطبقات المتعددة للهوية ومحاولته بنائها، أي الأمة، حول سردية هوية واحدة مهيمنة. ومن ذلك، محاولات فرض مركزية الثقافة واللغة الأمهرية على كل شعوب إثيوبيا، ومأسسة اللغة العربية في السودان، وتقديم العشائرية الجهوية في الصومال، وإعلاء سمات الهضبة المسيحية على السهل الإسلامي في إريتريا، وحاولات التأكيد على تفوق الدينكا العرقي والعددي في جنوب السودان، من دون الإلتفات لأهمية توازن الطبقات المتعددة للهوية الوطنية.
إن الخيارات، التي واجهها قادة دول القرن الأفريقي لا يحسدون عليها، إذ تراوحت بين حالات الانقسام والانفصال واحتمالات التفكك، وفشلوا في بناء دولة متكاملة في جغرافيتها، ومتماسكة في ديمغرافيتها من خلال بناء هوية وطنية في مجتمعات متعددة الأعراق، واللغات، والأديان، تم تجميعها بالقوة من خلال المكائد الاستعمارية. كما لم يكن للكيانات العرقية المتنوعة، التي تم ربطها معاً خبرة سابقة في العيش معاً، أو رغبة في الاستمرار تحت علم واحد، لم يُتفق على ألوانه، أو دلالات معانيه. الأمر الذي أظهرته حدة الصراعات والأزمات، وأكدته حركات التمرد المطلبية والانفصالية، فظل الكثيرون من السكان إماء غرباء تماماً، وفي بعض الحالات كانوا أعداء صريحين لأنظمة الحكم، التي تهيمن على مقاديرهم. وبدلاً من أن تكون اللغة أداة اتصال، والثقافة نمط حياة، فقد اكتسبتا قيمة سلبية، تُرجمت بدورها إلى تفوق ودونية في العلاقات اللغوية والثقافية، حتى أن البعض اضطر إلى التخلي عن لغات بلادهم، واعتماد لغة وثقافة أجنبية بديلة تُشعره بالتحرر من عبء الآخر المُساكِن. وأدى عدم قدرة النخب الحاكمة؛ المتمركزة داخل الخيار الأعلى للهويات الوطنية المفروضة، على إدارة التنوع إلى إغراق بلاد القرن الأفريقي في أزمات هوية. ورغم أن عناصر تشكيل الهوية في الصومال تختلف اختلافاً كبيراً عن تلك الموجودة في دول المنطقة، باعتبارها أنها تمثل حقاً دولة أمة كلاسيكية، إلا أن الهوية الوطنية، كبنية سياسية، لم تخضع لعملية تسييس صارمة تتجاوز الانتماءات فيها الهياكل العشائرية الجهوية، التي لم تتح لها الفرصة أبداً للتطور إلى هياكل وطنية.
لهذا، أظهر بناء الدولة في فترة ما بعد الاستعمار، وبناء هوية الأمة في القرن الأفريقي أوجه قصور عميقة، مما أدى إلى نشوء نزاعات ما تزال محتدمة، وحروب أهلية قادت لانهيار دولة وانقسامات في غيرها. وبالتالي، يمكن القول إن المخالفات، التي عانت منها البلدان في فترة ما بعد الاستعمار كانت، في المقام الأول، نتيجة لفشل المشروع الوطني، بتكرار النموذج الاستعماري لبناء الدولة وبناء الأمة، الذي استند إلى المركزية، والتسلسل الهرمي، والنهج الوحدوي القسري، المتمحور حول نخبة المناطق الحضرية، فأصبحت الدولة ملكاً لعدد قليل من أصحاب الامتيازات. والمخالفة الأخرى هي أن هذا المشروع الوطني ظل نخبوياً من أعلى إلى أسفل ولم تشارك الغالبية العظمى فيه. وحرم هذا النقص في المشاركة الشعبية مشروع بناء الدولة من الشرعية المجتمعية، وركز نموذج بناء هوية الأمة على فرض التجانس والسيطرة الثقافية والتهميش، كما كفل أن تقوم الأمة على ثقافة وهوية واحدة. وقد أدت محاولات الهيمنة الثقافية وفرض هوية مجموعة واحدة على العديد من المجموعات إلى ظهور قوى طرد من الهامش تتحدى المركز، وتعمل على تقويضه بوسائل العنف.
الطريق إلى الأمام:
إن هناك إجماع متزايد يُدرك أن فشل بناء الدولة وبناء هوية الأمة ينبع، كما أسلفنا، من الأصل الوجودي والمعرفي للنموذج الاستعماري المستخدم. بالإضافة إلى ذلك، فإن عدم التوافق بين الدولة والهوية، وفشل الدولة في عكس هوية الأمة، يشكل مصدراً للصراع والأزمات، الذي أدى لاستقلال إريتريا، وانهيار الدولة في الصومال، وانفصال جنوب السودان، والتداعي الماثل لإثيوبيا، الذي يشهده العالم الآن. وهذا يستدعي إعادة النظر في التصورات الأساسية والنظريات المُعَرِّفَة للنماذج القائمة. وذلك لتجنب تكرار أخطاء دولة ما بعد الاستعمار، التي ساهمت في الحلقة المفرغة للصراع وانعدام الأمن والفقر والتخلف، الذي يربك المنطقة. وربما تحتاج دول ما بعد الانفصال، وما بعد الانتقال، إلى صياغة استراتيجيات وأدوات بديلة؛ مثل، تجنب النماذج الفاشلة لبناء الدولة والهوية الوطنية، والتعرف على التنوع اللغوي والديني والعرقي واحترامه والاحتفاء به لخلق أمة متماسكة ومتناغمة، وتعزيز التمثيل المتساوي والحقيقي للمجموعات المتساكنة، وتعزيز لامركزية الإدارة، وانتقال السلطة لضمان تقاسم حقيقي للثروة، والعمل بنشاط على تعزيز تمكين الأطراف المهمشة، وخلق التوازن بين المركز والمحيط، ومعالجة الانقسامات المؤسسية والهيكلية.
إن المصدر الأهم، الذي يضفي مزيد من شرعية المجتمع على الدولة هو قدرة الأخيرة على تقديم الخدمات والوظائف الأساسية؛ مثل، الصحة والتعليم، والتوزيع العادل للثروة، وخلق تكافؤ الفرص لجميع المواطنين، وضمان الحقوق الإنسانية والسياسية والاقتصادية والمدنية كجزء من المسؤولية الأساسية للدولة. كما أن الدولة مطالبة بضمان وحدة أراضيها وحمايتها من التهديد الخارجي، وبالتالي تحقيق الأمن والاستقرار والتنمية. وهذا يرتبط بمسألتين يجب أخذهما في الاعتبار؛ وهما الانتقال من حركة التحرير إلى الحكم المدني، وتغيير ثقافة التحرير السياسية. بالإضافة إلى المؤسسات والهياكل الحديثة، حتى تتخذ عملية بناء الدولة شكلاً ومضموناً مختلفين؛ يتعلق أحدها بدور المؤسسات والسلطات والآليات والممارسات الرسمية، ويؤكد الثاني أهمية المؤسسات التقليدية في بناء الهوية، وبالتالي إضفاء شرعية أوسع على الدولة.
________
*الدكتور الصادق الفقيه: دبلوماسي سوداني، الأمين العام السابق لمنتدى الفكر العربي، الأردن.
السبت، 15 مايو 2021
القاهرة، جمهورية مصر العربية
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.