ابن خلدون والمشاركة التربويَّة
رغم المسار التاريخي الطويل الذي مرَّت فيه التربية، وتبعًا للمراحل التي قطعتها في مسارها التاريخي، والأشواط والتحوّلات التي مرَّت فيها، فقد انتهى بها المطاف في الأخير لأن تستقر علمًا مخصوصًا بذاته، ومستقلا بموضوعه، يحمل مناهجه ويتميَّز بمفاهيمه، ويختصّ بمعجمه ولغته الخاصَّة به….[1].
لكن يبدو أنّ أكبر منعطف عرفته التربية في تاريخها، هو ما تحقَّق للتربية في المرحلة الإسلاميَّة من تحوّل في جهة الاهتمام والاشتغال والعناية، بحيث تصدَّرت التربية موقع الصدارة من حيث الاهتمام والعناية والمتابعة من لدن علماء الإسلام، لأنَّ القناعة المبدأيَّة التي ترسَّخت وحضرت في وعي علماء الإسلام، أنّ المدخل في التغيير هو الإنسان، وأنَّ الإنسان هو أساس التغيير والبناء، وبعبارة مختصرة أنَّ أمر التربية هو كل شيء، وعليه يبنى كل شيء.
التربية عند ابن خلدون
لا أحد يشكّ في الجهد العلمي الكبير الذي بذله ابن خلدون في تطوير التفكر التربوي في الإسلام، فلقد قدَّمت الباحثة والخبيرة الكنديَّة في علوم التربية وفي مهن التربية والتعليم MENSIA, Mongia Arfa دراسة حول ابن خلدون، وهي دراسة واسعة وشاسعة، عرفت فيها بالتراث التربوي الخلدوني، واختصرت فقراتها وجمعت عناصرها ومحاورها في بحثها المنشور على صفحات المجلة الدوليَّة لعلوم التربية “Revue internationale d’éducation Sèvres“العدد: 79.السنة2018 : décembre:.وجاء بحثها بهذا العنوان: Ibn Khaldun, une théorie de l’éducation en avance sur son temps
وممَّا قرَّرته الباحثة في هذا السياق أنَّ أفكار ابن خلدون التربويَّة سبقت زمنه وتخطَّت عصره، ولا أدل على ذلك من قولها الصريح والواضح :
“Les idées d’Ibn Khaldûn, en avance sur leur temps“
ومن الإشارات التربويَّة الأخرى التي جاءت في هذه الدراسة القيِّمة، أنَّ ابن خلدون يرى أنَّ قيمة العلوم تتحدَّد فيما تسديه وتقدّمه من قيمة أو من منفعة للإنسان، فلا قيمة لأي علم لا يسدي للإنسان أيَّة منفعة في عاجلته وآجلته، وهذه الإشارة قريبة ممَّا يطلق عليه اليوم مصطلح العلوم الإجرائيَّة التطبيقيَّة الخامَّة للإنسان. [2]
وهذه العلوم الفاقدة للمنفعة يسمّيها ابن خلدون بالعلوم الوضيعة، أي العلوم غير النافعة للإنسان سواء في آجلته أو في عاجلته، فهو مثلا يرى عدم الحاجة في عصره إلى علم الكلام بقوله “ينبغي أن يعلم أن هذا العلم الذي هو علم الكلام، غير ضروري لهذا العهد على طالب العلم، إذ الملحدة، والمبتدعة قد انقرضوا، والأئمة من أهل السنة كفونا شانهم فيما كتبوا…[3]“.
ومن إشارات هذه الباحثة اعترافها واعتبارها بأنَّ كتاب المقدمة لابن خلدون يعدّ نصًّا تربويًّا نفيسا بامتياز، حمل اجتهادات وأفكار وآراء ابن خلدون في التربية والتعليم والعلوم، فهي حاملة لإشارات واجتهادات وأفكار تربويَّة رائدة، بالإمكان اليوم استثمارها في القضايا التربويَّة والتعليميَّة الجديدة [4].
وعلى العموم نقول إنَّ المشاركة التربويَّة لابن خلدون تعدَّ صفحة تاريخيَّة مشرقة، وتبقى هذه الصفحة خالدة وحاضرة في تاريخ ومسار التربية الإسلاميَّة.
تقويم
بحضور الممارسات التربويَّة في التراث التربوي الإسلامي تأليفا وتصنيفا وكتابة ومتابعة، فإن النقاش بين الباحثين ما زال مستمرا، وأحيانا حادًّا ومفتوحًا حول القيمة العلميَّة للتراث التربوي الإسلامي في استجابته للمستجدّات التي تطرحها التربية المعاصرة وعلومها، وهو النقاش الذي اتَّجه إلى المحور المتعلِّق بالقدرات المعرفيَّة والإمكانيات العلميَّة لهذا التراث التربوي حتى يستجيب للتحوّلات التي تعرفها المنظومة التعليميَّة في جميع أنحاء العالم.
_________
[1] -ما هي علوم التربية تأليف جماعي إصدار: سلسلة التكوين التربوي-العدد:-1- السنة 2000.
[2] ابن خلدون في الخطابات العربيَّة المعاصرة دراسة تصنيفيَّة وتحليليَّة” للدكتور عبد العظيم, صالح. مجلة العلوم الاجتماعيَّة. المجلد 34 العدد 3: .الكويت: جامعة الكويت. ص 41-13.
[3] المقدمة لابن خلدون: 467″
[4] – مقدمة ابن خلدون بتحقيق علي عبد الوافي السنة:1979 : ط3، السنة:1979:ج1: ص :.326–325
__________
*محمد بنعمر.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.