اجتماعالتنويريسلايدر

قوَّة الأفكار:الدبلوماسيَّة العامَّة والحرب على الإرهاب

حُكم الضرورة:

أصبحت “قوة الأفكار”، وضرورة استدعائها للفعل المُوجِب في الحرب ضد الإرهاب؛ ضمن جهود الدبلوماسية العامة، مسألة لا تقبل التأجيل. وتتضح هذه الضرورة، أكثر من أي وقت مضى، في عالم سريع التغير، تتنازعه الولاءات والتحالفات والاصطفافات السياسية، وتصطرع قراراته بالتحيزات في مسرح العمليات. وتعزز من أهمية الدبلوماسية العامة النقاشات الجارية حول “حرب الأفكار”، ومحاولات معالجة انحرافات عقائد جماعات الإرهاب، وملاحقة تداعياتها. ومثلما كانت إبان الحرب الباردة، وصراع الأيديولوجيات المحتدم بين الشرق والغرب، فإن الضرورة تقتضي الاستعانة بها الآن، أي الدبلوماسية العامة، والتمكين لوسائلها، كآليات إسناد مهمة في المعركة المحتدمة ضد الإرهاب. فالسياسات، التي ظلت مُتَّبَعَة في الحرب على الإرهاب، تبدو في حالة متقلبة للغاية، تترجمها التحيزات والاستثناءات في طريقة إدارتها، ومحاولات القفز فوق الحقائق الموضوعية، والتعميم بأن الإسلام الدين والعقيدة هو المصدر، بل هو الخطر، الذي يجب أن يُقتَلَع أثره بقوة السلاح. وتَعَمُّد الترويج لهذا الإدعاء على نطاق أوسع مما تقف عليه حال الحقيقة، وكأننا دخلنا عصراً موعداً من صِراع الحضارات.

إن هناك شعوراً متعاظماً بتغيير عميق يجتاح العالم، لكن هذا الإحساس بالعالم المتغير يمكن أن يكون مربكاً بقدر ما هو مبهج. فقد أظهرت الأحداث الأخيرة؛ بما فيها جائحة الفيروس التاجي “كورونا”، أن الحياة السياسية لا تتبع نصاً مقدَّساً، أو مُعَدَّاً مسبقاً، وأن الأزمات تؤدي عادة إلى نتائج غير متوقعة، وأن الأفكار ليست شيئاً مرحلياً يتم استدعاؤها لإعطائها تفويضاً ثم إعادتها إلى صندوقها. لهذا، فإن قوة الأفكار، والقدرة على مناقشتها، والتحاور حول الاتجاهات المتغيرة فيها، هو ترياق أساس، وبديل منطقي وعقلاني لموقف الركض العسكري للرد على كل شيء بالقوة الصلبة، طالما أن هناك وسائل اقناع ناعمة يمكن استخدامها. فالرد المكافئ على الهجمات الإرهابية يمكن أن يكون لازماً، لردع التفكير في غيرها، غير أن تدخل الدبلوماسية العامة هو وحده، الذي سيؤدي إلى معالجاتها والتخفيف من مأساتها المروعة. على سبيل المثال، لا تزال مسألة الإرهاب، التي تفتح تحديات أساسية أمام السياسيين، ماثلة في المسرح العالمي، ولكن، ما هي العواقب الأوسع للقرارات، التي يتخذها السياسيون بشأنها الآن؟ فيما يتعلق بالعمل الدبلوماسي والتعاون، وأكثر من ذلك بكثير، للحياة السياسية في مناطق الأزمات.

لقد تسببت الحرب على الإرهاب في نقاش هائل حول مجموعة واسعة من القضايا، مثل مستقبل الدبلوماسية العالمية، والهجرة، وطبيعة الخارجية اليوم، والعلاقات الدولية. وبينما افترضنا أن الصراعات الأيديولوجية ستتوقف مع نهاية “الحرب الباردة”، وانتصار الليبرالية السياسية والرأسمالية، ومع زوال الاتحاد السوفيتي والشيوعية، إلا أن شيئاً من ذلك لم يحدث. ومع ذلك، فإن ما يسمى بـ”الحرب على الإرهاب” قد أدى، أكثر من أي وقت مضى، إلى إعادة هذه الصراعات، ومعها مصطلح “الدبلوماسية العامة” مرة أخرى إلى رادار الوعي كأداة لكسب” قلوب وعقول” الناس؛ في السعي وراء السيطرة السياسية ومنافسات القوة الجيو-ستراتيجية. وفي غضون ذلك، فإن الاعتداء على المجتمعات المستقرة من الإرهابيين المحليين، بما في ذلك التفجيرات، أصبح يثير أسئلة غير مريحة حول كل شيء من القيم الدينية والاجتماعية إلى سياسات الهوية، ومن مراقبة الفضاء الإلكتروني إلى القيود على حرية التعبير. ومعلوم أن مثل هذا الجو يخلق شكوكاً وأزمات جديدة في جميع المجتمعات، ويطرح أسئلة على المفكرين والفلاسفة والتربويين، وكذلك السياسيين والأكاديميين وقادة الرأي من المثقفين.

المعنى والمبنى:

إن المشكلة الأساسية، التي تواجهنا في الدبلوماسية العامة، هي كيفية التعامل مع التصورات المشوهة، والتي يتبناها كل طرف عن الآخر، وأن كل واحد مِنَّا يرى العالم من خلال عدسته الخاصة. وحتماً، فإن هذا يعني أن الناس المختلفين يلجأون إلى تفسير الحدث نفسه بشكل مختلف، الأمر الذي يعني أنه في كثير من الحالات، يكون التصور هو حقيقة الواقع. وهذا أيضاً مدخل لاختلاف كبير يمزق المجتمعات، ولا يمكن لغير السياسيين أن يعيشوا مع ذلك، وبالتالي لن يكون لديهم خيار آخر يساومون عليه. لأن ما يمكن أن يخلق مشاكل أكثر صعوبة وتعقيداً هو تعدي التصورات خط الفرد إلى الجماعة، وتبدأ في تشكيل مسلمات مشوهة تقود إلى العنف، وتدفع إلى الإرهاب. وأعني بهذا الحالات، التي يكون فيها التصور لدى شخص معين يعتسف مطابقة الحقيقة الواقعة؛ ومعتنق هذا التصور ليس لديه بديل، مما يجعله يقدم عرضاً غير صحيح عن هذا الواقع؛ وهذا الشخص يعتقد جازماً أن تصوره هو الصحيح. الأمر الذي يتطلب مراجعته بالمنطق، ومقارعته بالحجة، وإقناعه بالدليل والبرهان، وإثنائه عن التصرف بمقتضى تصوراته المشوهة بالحكمة والموعظة الحسنة، وغير قليل من الدبلوماسية.

لقد أشرنا إلى أن مصطلح الدبلوماسية العامة يمكن إرجاعه إلى حقبة “الحرب الباردة”، التي اشتد خلالها أوار الصراع الأيديولوجي، والحرب النفسية، والتنافس بين الشرق والغرب، والاشتراكية مقابل الرأسمالية، وتسابق الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة على الهيمنة العالمية. وكيف أظهرت الجهود المضنية، التي بذلها كلا المعسكرين السياسيين، لإثبات تفوق قضيتهما للجمهور في بلدان بعضهما البعض، وفي أماكن أخرى من العالم، إمكانات الاتصال والدبلوماسية العامة في التأثير على الرأي العام. لذلك، يمكن وصف الدبلوماسية العامة على أفضل وجه بأنها الأنشطة، التي تقوم بها الحكومات للتأثير على المواقف العامة، وتعزيز المصالح الوطنية لبلد ما، وللتواصل مع الجماهير في المجتمعات الدولية الفاعلة. ويمكن تصورها كطريقة دبلوماسية تمارس شكلاً من أشكال الدعاية من خلال خطاب سياسي أنيق. لأننا عندما اخترنا الدبلوماسية العامة، في مقالنا هذا، أردنا أن نقترح أنها؛ مثلما تستخدم المعرفة، بعض الأحيان، كسلاح ضد الجهل، يمكن مواجهة الإرهابيين بها، ووضعهم في خانة انتهاك حقوق الإنسان، وخرق المبادئ الأخلاقية للمجتمعات. ومثلما أصبح هذا الهدف جزءاً لا يتجزأ من تخطيط وتنفيذ السياسة الخارجية للعديد من البلدان، فإنه يمكن بلوغ غاياته بإعلام الجماهير بأخطار التطرف، وإشراكها في التوعية، ومنع التأثير عليها بالتصورات المشوهة للإرهابيين. وقبل هذا، وبعده، لا بد من وضع الأساس الفكري القوي لهذا النهج من “الدبلوماسية”، قبل اتخاذ أية خطوة أخرى، في “معركة” الدفاع عن المثل العليا لمجتمعاتنا، التي نؤمن بصحتها وعدالتها، والتي قدمت الكثير من الترياق المعنوي لتأمين وجودنا المادي، ومجابهة مصاعب عالمنا غير الكامل، وتخفيف أزماتنا الإنسانية.

ما المطلوب:

إن هناك عوامل كثيرة تؤثر على الطريقة، التي ننظر بها إلى العالم، والناس الذين فيه، عندما نفكر في استخدام “قوة الأفكار”، لحراسة مصالحنا، أو الدفاع عنها، ضد العدو الخارجي، أو الإرهاب الداخلي، بما في ذلك خلفياتنا الثقافية المختلفة، وتجارب الحياة، والقيم الشخصية، وكل ما نعتقد أنه يميزنا عن الآخرين. وينبغي أن تكون المؤسسات المدنية، التي ننشئها، أن تؤثر طرائقها على جميع التفاعلات والعلاقات مع الآخرين، كما تفعل شخصياتنا، وأن تعتمد في ذلك على مهاراتنا الاجتماعية، وأساليبنا، ونهجنا في التعامل مع المشاكل والأزمات. أما في المجال السياسي، خصوصاً الفاعلين الدبلوماسيين، فإنهم بحاجة إلى أن يتعلموا المعارف، التي تمكنهم من فهم واقعهم، وإدارة تصورات الآخرين عنهم. وهذه بالقطع ليست مهمة صعبة، كما قد يتصور البعض، إذ إنها لا تتطلب قدراً كبيراً من الإمكانيات، غير القدرة على التفكير والدافع، والوعي الذاتي، وإتقان مهارات الممارسة. وينسحب هذا على مؤسساتنا العسكرية والأمنية، التي طالما كانت لديها القدرات “الصلبة” لمواجهة التحديات، فإنها ستجد، مع ذلك، أنه من الأسهل عليها التواصل مع الناس عبر الوسائل “الناعمة”، ومدهم بما يحتاجون إلى معرفته، ومن ثم تحفيزهم للتعاون، وقيادتهم في معركة التصدي المجتمعي الكلي للإرهاب.

ملاحظات خاتمة:

يلزمنا الصدق أن نقول إن “قوة الأفكار” تحتاج إلى معرفة شاملة بالأسباب الجذرية للإرهاب، التي لم يتم عمل ما يكفي لدراستها، بل يتحاشاها الغرب ويدين من يؤشر عليها، والتي تكمن، في كثير من الأحيان، في اختلالات القوة العالمية، وسوء استخدامها، والترويج لصراع الحضارات، وفرية نهاية التاريخ. فالتاريخ، بالتأكيد، لم ينته بعد، ولن ينتهي إلا بنهاية الحياة البشرية على الأرض. ومع ذلك، فإن حرب الغرب على الإرهاب، التي كثيراً ما يتم تصويرها وكأنها مقدمة لصراع الحضارات، لكنها في الحقيقة مشروطة بالمصالح الجيوسياسية لدوله، ونادراً ما تقدم تقييماً موضوعياً للانتهاكات، التي تُرتكب بإسم هذه الحرب، أو تطرح مقترحات بناءة حول كيفية معالجة ما يترتب عنها، أو مراجعة مظالم الماضي، والتي كانت سبباً في اتساع رقعة هذا الإرهاب. غير أنه من المهم أن تقوم الدول الإسلامية بمراجعة الأداء السياسي والاقتصادي والاجتماعي بفعالية على الصعيد الوطني، والسعي إلى تحسين التنسيق على المستوى الإقليمي؛ من خلال الحوار، وتبادل الخبرات، والمساعدة الفنية والتقنية، ومن بعد، حث المجتمع الدولي، والغرب خاصة، على التعاون، بدلاً من الاتهام والتشهير، الذي يُمارس الآن ضد مجتمعاتنا ومعتقداتها. ولكل ذلك، يجب أن يسترشد صانعو القرار؛ السياسي والعسكري والأمني، بمبدأ العمل الإيجابي الجماعي في تيسير مناخ عام، يفضي إلى الاستقرار والتفاهم والتضامن الإنساني. وقد يكون من المصلحة الاستراتيجية المتصورة للحكومات الإسلامية أن تظل فاعلة في المجتمع الدولي؛ شرقاً وغرباً، خدمة للعلاقات السياسية والاقتصادية بين الدول. ولكن عندما تكون المصالح الاستراتيجية على المحك، فيجب أن تتحدث هذه الحكومات بقوة لفضح انتهاكات وكلاء الاستعمار الحديث من الجماعات الإرهابية، من خلال أساليب وتقنيات العلاقات العامة المختلفة لتوعية الجمهور وحفز طاقاته. فالدبلوماسية العامة، عندما تُستخدم بشكل موحد وبقوة الأفكار، لديها القدرة على النهوض بهذه التوعية ومواجهة الإرهاب.
_____

* دبلوماسي سوداني، والأمين العام السابق لمنتدى الفكر العربي

الثلاثاء 6 أكتوبر 2020

القاهرة، جمهورية مصر العربية.


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة