1
الوَعْي غَير مَحصور في القِيَم الوجودية والعلاقات الاجتماعية، لأنَّ الوَعْي مفهوم شامل لجميع مَنَاحي الحياة،وهو الطريق الرئيسي الذي يسير فيه الإنسانُ من أجل معرفة ذاته في مُجتمعه في ظل التغيرات المعرفية، ومعرفةِ مُجتمعه الواقع تحت الضغوطات الحياتية. وهذه المعرفة المُزْدَوَجَة تُمَثِّل منهجًا فكريًّا يَكشف الروابطَ السَّبَبِيَّة بين السلوك الظاهري للإنسان، والدوافعِ الحقيقية الباطنية. وكُل منهج فكري يستمد شرعيته من قُدرته على تكوينِ منظومة الأسباب والمُسبِّبات بشكل منطقي مُتَسَلْسِل، وترتيبِ الأولويَّات الخاضعة لثنائية العِلَّة ( القاعدة الاجتماعية ) والمَعلول ( البناء العقلاني )، وتفسيرِ الطابع اللغوي الرمزي للعلاقات الاجتماعية، ونقلِ الأفكار مِن هُلامِيَّةِ المعنى إلى الشُّعور بالمَعنى، لإيجاد معنى جديد للأشياء، يُحوِّل التَّداعيات المعرفية إلى تصوُّرات مُتجانسة، ويَعتبر الحُلْمَ الإنساني سُلوكًا اجتماعيًّا للخَلاص الجماعي، ولَيس وسيلةً للهرب مِن المأزق الاجتماعي.
2
المعنى الجديد للأشياء هو إعادة اكتشاف خصائص الأشياء في سِياقها الوجودي ووظيفتها الاجتماعية، وليس تجريد الأشياء مِن دَلالتها المنطقية، وتفريغ الأشكال من مُحتواها الرمزي. وإذا كانت الغريزةُ هي الجُزءَ الأساسي في السلوك الوراثي، فإنَّ المعنى هو الجُزء الأساسي في الوجود الاجتماعي. لذلك ينبغي التعامل معَ المعنى كغريزة وجودية ذات طبيعة رمزية، تستطيع توليدَ الظواهر الثقافية الحاملةِ لآلِيَّات السُّلطة المعرفية، والحاضنةِ لحقائق المُجتمع المُتجسِّدة في ماهِيَّة الذات ومَفهوم الآخَر. وبذلك يُصبح المعنى طريقًا وطريقةً، طريقًا إلى التفاعل الرمزي الاجتماعي، وطريقةً لِفَهْمِ طبيعته، وإدراك أبعاده، وتوظيف خصائصه معنويًّا وماديًّا.
3
الطبيعةُ الرمزية في اللغة والمجتمع تَكشف الرَّغبات المَكبوتة، والأحلام الموؤدة، والتجارب المُجْهَضَة، وهذا الكَشْف يَهدف إلى صِياغةِ العلاقات الاجتماعية، وتنظيمِ إفرازات الواقع المُعاش، وإسقاطِ المعنى على الرمز، ومنعِ المعنى مِن الذَّوَبَان في خِطَابِ الهَيمنة الثقافة، وآلِيَّاتِ السَّيطرة التي تُنتجها الكِيانات الأبوية. وبعبارة أُخرى، إنَّ مُهمة اللغةِ والمُجتمعِ هي تَحْميل المعنى على الرمز، وحماية المعنى والرمزِ مِن السُّقوط، لأن الرمز ( الحامل ) هو الرافعة للمعنى ( المحمول )، وإذا سقطت هذه الرافعةُ سينهار المعنى والرمز معًا. وبما أنَّ لِكُل إنسان تفسيرًا خاصًّا للعَالَم الذي يعيش فيه، وتحليلًا ذاتيًّا لعناصر البيئة المُحيطة به، فلا بُدَّ أن يُصبح الواقعُ كِتَابًا مَفتوحًا على جميع الاحتمالات والقراءات والتأويلات، ضِمن عملية اجتماعية ديناميكية تتفاعل مع الذات سُلوكًا وحاضرًا، وتتفاعل مع الذكريات وَعْيًا وتاريخًا. والإنسانُ لا يَملِك إلا اللحظة الآنِيَّة التي يعيش فيها، وهذه اللحظة الآنِيَّة ( الحاضر ) في صَيرورة زمنية ومنظومة تاريخية تراكمية، لأنَّ الإنسان يعيش في الحاضر مَحصورًا ضِمن حُدود اجتماعية جاهزة، ومُحَاصَرًا بتأثيرات العقل الجَمْعي والنَّمَط الاستهلاكي. وكُلَّمَا تَقَدَّمَ الإنسانُ إلى المُستقبل صَارَ الحاضرُ ماضيًا. وهذه العملية تضع الإنسانَ أمام تَحَدِّيات خطيرة. التَّحَدِّي الأوَّل هو فقدان الإنسان للسَّيطرة على الحاضر المُعَاش، لأنَّ أجزاءه تنتقل إلى الماضي باستمرار. واللحظةُ التي يعيشها الإنسانُ مِثْل عُود الثِّقَاب، اشتعال لِمَرَّة واحدة فقط، ثُمَّ الانطفاء الأبدي. وهذا يعني أنَّ الإنسان في سِباق معَ الزمن، وعَلَيه أن يستثمر كُلَّ لحظة، ويَستغل الضَّوْءَ من أجل الذهاب إلى أبعد مدى مُمكن، لأنَّ الانطفاء قادمٌ لا مَحَالة، والصَّيرورة الزمنية _ في واقع الأمر _ هي عملية انتقال كَينونة التاريخ من الضَّوء إلى الانطفاء. التَّحَدِّي الثاني هو عدم امتلاك الإنسان للتفاصيل في رحلته إلى المُستقبل المجهول، وبالتالي سيتعرَّض لكثير مِن التَّحَوُّلات الصادمة، والمُفاجآت غَير المَحسوبة. وعُنصر المُفاجأة شديد التعقيد والخُطورة، ويَصعُب التعامل معه في ظِل الضغوطات مِن كُل الاتجاهات، وعلى الإنسان أن يَمتلك حُسن التخطيط وسُرعة البديهة، ويتعامل مع الأمر الواقع بهدوء لمنع انهيار المعنى الاجتماعي، لأن الارتباك هو غرق الإنسان في الأوهام، وانهيار معنى حياته. والتَّحَدِّي الثالث هو تَحَرُّك الإنسان تحت الضغط ضِمن دائرة حياتية مُغلَقة، وعليه أن يُوسِّع هذه الدائرة قَدْرَ المُستطاع، كي يَنتزع مساحةً للحركة والمُنَاوَرَة، ويَمتلك قرارَه الشخصي، فهو في معركة فكرية للانتصار على نَفْسِه، والحُصولِ على وُجوده، لَيس كغنيمة، وإنَّما كرؤية للخلاص.
_______
* إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.